رجل تتعقبه الغربان: ملخص الرواية

يظهر خيط السرد بطريقة جديدة، لا تبدأ بالحاضر، وحظر التجول في مدينة الرياض، أو أربعينات القرن الماضي، ورصد المدينة المحصَّنة بأسوارها الطينية فحسب، وإنما القفز بالزمن في مغامرة مختلفة نحو المستقبل، من خلال منظار روسي بعدستين حمراوين، وشخصية (سليمان الزارع) القلقة التي تفرض على نفسها عزلة اختيارية، هربًا من ترقُّب الغربان الطائشة في الطرقات، وحفاظًا على ذاكرة يقظة سجَّلت حياة عائلة نجدية طاردتها الحروب والأوبئة.
في رواية “رجلٌ تتعقَّبه الغربان” يظهر الرمز والإيحاء في سرد مقتضب ولاهث، باستخدام عدسة سينمائية خاطفة، تشير دون أن تكشف، وتقول من غير كلمات، لتعبِّر عن عزلة الإنسان ووحدته، وصراعه المستمر أمام الموت والوباء، من خلال ثلاثة أجيال، وأماكن مختلفة، يتلقفها السرد بخفَّة وتنقُّل ذكي ومدروس.
وتغامر هذه الرواية كثيرًا نحو أنسنة الأشياء والكائنات، ليس بما يكشف اغتراب الإنسان، وإنما بتبادل الأدوار بين الأشياء والبشر، بين الإنسان والحجر، بين الطفل والحشرات، حتى لا يعود السرد مستقيمًا، وإنما دائرة تتكرر، دون أن تبدأ أو تنتهي الحكاية.

تلك اليد المحتالة – مختارات

لبس

ما ظنه الرجل الجالس أمام النافذة حمامة بيضاء بأربعة مناقير وعُرف… كان قفازًا منفوخًا ليد هاربة من وباء، دفعها الهواء بخفَّة. هكذا اكتشف الرجل الوحيد في عزلته.

طائرات

كلما انفتح باب السوبرماركت الكهربائي عن متجوِّل خرج للرصيف، يرمي بقفازين بلاستيكيين، فيطيران بشغب نحو شمس العصر الكئيبة، ويركض خلفهما طفلٌ لاهٍ كما لو كان يعدو خلف طائرة ورقية.

الحرب خدعة

الرجل المحتجز في غرفة معزولة في السطح، الرجل الذي لم يعد يميِّز طعم القهوة من الشوكولا، الرجل الذي يلتهم أقراصًا لم تسكِّن صداعًا نصفيًّا ثقيلًا، هذا الرجل الوحيد اكتشف أنه ليس وحيدًا، فلم يستطع أن يفرض السلام في معركة شرسة بين وجهه ويده، تلك اليد المحتالة التي تهمس وهي تهرول بالوباء نحو الأنف الأعزل: الحرب خدعة!

كلاب متوحشة

الشوارع أغمضت، فلا أحد يوقظها. المقاهي انطفأت على حكاياتها القديمة، والبيوت أضاءت بناسها الخائفين. السيارات في الظلال صارت فِراشًا وثيرًا للقطط الضالة، والكلاب الجائعة تعوي، فتضجُّ المدينة، كأنها تبكي ناسها.

سبتمبر ٢٠٢٠

ذات ليلة صامتة في خريف الوباء، ركض الأطفال هاربين من الفناء، نحو صالة البيت، ثم إلى القبو حيث قادتهم الخادمة وهم يلهثون هلعًا.
أزيز طائرة تعبر.

مسدس

حين تجرأ على عزلته، ولعن الوباء، خرج متلفتًا في الشارع مثل لص، وركب سيارته الصغيرة مدجَّجًا بالكمامة والقفازين، كمن يدخل حربًا حاسمة.
نزل إلى السوبرماركت، ووقف في الطابور الطويل، لم يكن يرتدي بيجامة السجن، لكنه حين وصل أول الطابور، قرب الباب الكهربائي، وقف أمام رجل مكمَّم وقد صوَّب نحو جبهته ترمومتر الحرارة، وضغط الزناد، فحبس أنفاسه، كأنما رصاصة تخترق رأسه، كأنما سيسقط مضرجًا بدمه.

الحلم

صرخ الشاب من على صخرة: أنا أحلم، لأنني لستُ حجرًا.
همست الصخرة: أنا أحلم أيضًا أن تأتي الريح تنحت أطرافي.

جدّ

كلما استيقظ وجلًا، متلفِّتًا حوله، تكاد حبَّات العرق تتعثَّر في حاجبيه الأبيضين الكثَّين، ينهض متثاقلًا نحو خزانة عتيقة، ليخرج مسدسًا بجراب متيبِّس بدم قديم، وقبل أن يصوِّبه نحو حلمه المتكرر، يتذكَّر أنه بلا رصاص!

وقت

الأشجار نامت، والنخل العالي، والحمام في الأفاريز، بائع شاي الجمر، الطفل وهو يلعب، العجوز في غرفة العناية المركزة، الجندي في وردية ليل، وحارس المقبرة الشاب نام أيضًا، كل شيء نام ما عدا عقرب الثواني على الجدران يصدر صوتًا لاهثًا كل ثانية.

جدار

كلما شاهد الطفل ستارة الغرفة تحمس لأن ينهض ويجذبها، مأخوذًا برسوم الأراجيح والأطفال والحدائق والشوارع والمدينة على قماشها، لكنه يتردد دائمًا وهو يتخيل أن يزيحها فجأةً فتظهر غابةٌ خلف زجاج النافذة.
هكذا قرر يومًا أن يغامر ويسحب القماش بجسارة، دون أن يخشى سقوط المدينة من خيوط القماش، ودون أن تقفز الغابة إلى غرفته..
هكذا جذب الستارة فجأة، فلم تسقط المدينة، ولم يجد الغابة، بل وجد جدارًا خرسانيًا صلدًا.

كلاب

كلما وضع رأسه لينام، يتعالى النباح، فينهض ويجذب الستارة، لا أحد خلف زجاج النافذة سوى طريق معتم، وأعمدة إنارة حزينة، وراية منهكة ترفرف فوق سور الليل الطويل.
من أين يأتي النباح إذن؟ يسأل.
يفتش البيت الصغير، الممر، الصالة، المطبخ، لا شيء.
من أين يأتي النباح اللعين؟ ينفعل.
يقترب من باب غرفة طفلته النائمة بعمق، يرهف، حيث يعلو الصوت، يفتح الباب ببطء وحذر، يتعالى النباح أكثر وأكثر.. يسد أذنيه مرعوبا، ويبحث عنها، يقترب من طاولة الكتابة، حيث بضعة أوراق مرسوم عليها بقلم الرصاص قطيع كلاب ترفع أذيالها، وتنبح بإصرار، التقط الأوراق ومضى بهدوء خارج الغرفة، ثم الصالة، فالممر، وباب البيت، حاذفًا الأوراق بقوة في الخارج، فركضت الكلاب بجنون وهي تنبح!

عجوز

يمشي بجسد مقوَّس.
لم ينحنِ لأنه قضى مئة عام يدبُّ على هذه الأرض العتيقة، وإنما لأنه لم يجد شيئًا في الأفق، فراح يفتش عنه تحت قدميه.

الذكريات

المرأة التي تفتش قمامةَ منزلٍ مهجور، لا تجدُ شيئًا، حتى التقطتها سيارة مكافحة التسوّل، وحين سألها المحقق الشاب: عمَّ تفتشين يا خالة؟
قالت: عن أشيائي!
أي أشياء في قمامة منزل مهجور؟
أجابت: الذكريات.

قطان أسودان

في الليل تنام “الرياض” على صمت طويل، البيوت الواطئة تخفي رؤوسها كالنعام وتغفو، أما ناطحتا السحاب فهما تقفان مثل هرَّين شرسين يتأهبان لنزال يشعل هدوء المدينة النائمة في سكون.

الرياض

في الصيف، يخرجون إلى الأسواق المغلقة، يتنفسون هواءً باردًا. يلهو أطفالهم في ألعاب السوق، ويجلس الأب في مقهى فرنسي يطل على الطريق العام، ذلك الطريق الذي تغيَّر اسمه مرارًا.
أما الأم فتطوف مع المتجولات بين محال الملابس والأحذية وأدوات التجميل، وتقف معهن أمام واجهات المحال بخشوع، يحدقن بملابس المانيكانات المحشورات داخل الزجاج المضاء.
عند منتصف الليل، تخرج الأم، ويخرج الأب والأطفال، والمتجولون كلهم يخرجون عائدين إلى بيوتهم الهادئة.
بعد منتصف الليل بقليل، تخمد أضواء السوق المغلق من الداخل، فتخرج المانيكانات حذرةً من حبسها الزجاجي، تتجول في الممرات، باحثة عن رؤوسها المقطوعة.

المشي على أربع

فقدنا الضوء في المدينة، ظلام دامس رمى ملاءته فوقها. في البيت لم أعد أرى يدي في الحلك، فلا أحد يشعل الضوء. صرتُ أمشي على أربع بحثاً عن نظارتي ومفاتيحي وثيابي! اكتشفت في الأيام التالية أن أهل المدينة كلهم باتوا يمشون على أربع، مثلي.


• من مجموعة “تلك اليد المحتالة” /دار خطوط وظلال في عمَّان/ الأردن

في مديح القاهرة

ذاكرة الدهشة الأولى

قبل ثلاثين عاما تقريبًا، تحديدًا في يناير من العام ١٩٩٢ زرت القاهرة لأول مرة في حياتي وأنا في منتصف العشرينات. جئت لوحدي لأكتشف معرض القاهرة الدولي للكتاب في مقره القديم بشارع صلاح سالم. لا أعرف هذه المدينة، ولم أسأل أحدًا، ولم أبحث عن تفاصيلها قبل قدومي. كل ما أعرفه أن معرض الكتاب في يناير، وأنني متشرد معرفة، ومتلهف، وشغوف. جئتُ كنسر يرصد طريدته (الكتاب) ولا يرى سواه. لم أحجز سكنًا وإنما حملت مبلغًا نقديًّا بسيطًا، وشيكين سياحيين. احتار سائق التاكسي بي، واقترح عليّ السكن في العجوزة، حين وصلت لم تعجبني الشقة، وذهبنا إلى شارع جامعة الدول العربية، لأقيم في شارع عمر طوسون بالمهندسين، في شقة صغيرة وقديمة قريبة من ميدان سفنكس.

حين وضعت حقيبتي ونزلت، سرت في الشارع حتى الميدان، سرت مأخوذًا بالمشهد البصري النابض حولي، شعرت لأول وهلة أنني لم أعد يوسف، وأنني تسللت فعلاً إلى فيلم مصري من إخراج عاطف الطيب، النساء، الصبية، الدراجات، البوليس، الضجيج، النكات الطائشة… حين وقفت وسط الميدان، احترت بين أحمد عرابي وجامعة الدول العربية، جلست على مصطبة حجرية تحت الأشجار الضخمة، محاولًا أن أخدع عاطف الطيب، فأهرب فجأة من دور الكومبارس الذي ورطني فيه، وأعود إلى كوني مجرد مشاهد أفلام عابر.
لم أكن آنذاك أعرف أحدًا في القاهرة سوى إبراهيم أصلان من خلال رسائل متفرقة، وإرسال مجموعتي القصصية الأولى (ظهيرة لا مشاة لها) عام ١٩٨٩ على عنوانه البريدي في إمبابة. تلك المجموعة الصغيرة التي بسببها استدعيت آنذاك من قبل وزارة الإعلام، بناء على تقرير ديني أخلاقي رفعه أحد المشايخ مطالبًا بسحبها من الأسواق. وقتها قررت ألا أنشر مستقبلًا أي كتاب في الداخل، لذلك كانت وجهتي في كتابي الثاني هي القاهرة.
في إحدى الجلسات رأيت الناقدة فريدة النقاش تتحدث عن الأدب الملتزم، والأدب الاشتراكي، وفي نهاية الجلسة تقدمتُ نحوها بخجل معرِّفًا بنفسي، فرحبت بي بحفاوة كبيرة، وقد تذكرت الملف الخاص بالأدب السعودي الذي نشرته مجلة (أدب ونقد) التي ترأس تحريرها، وكتبت افتتاحية ذلك العدد عن الأدب السعودي بكلمة احتفالية أكثر من كونها نقدية، وأشارت فيها إلى قصتي القصيرة المنشورة ضمن الملف كنموذج سردي حداثي يعبر عن التفاوت الطبقي الاجتماعي.
في صباحات يناير الباردة، في قاهرة التسعينات، كنت أنتظر أمام بوابات المعرض قبل أن أتوه في ممراته حتى الغروب، أنبش في الكراتين مثل قط أليف، أشم الورق والحبر والعناوين، أتفقد دور النشر. لا أرى أحدًا ولا يراني أحد، أمشي ببطء، مشية قصاص أثر، يختبر الرمل والخطى، خطى من سبقوه في الكتابة والإبداع، حتى عثرت على دار نشر جديدة ولافتة، تزين أغلفتها إبداعات الفنان الكبير محيي الدين اللباد، اسمها شرقيات. وجدت ثلاثة أعمال افتتاحية أو أربعة، لنجوم الأدب المصري وهم صنع الله إبراهيم، وعبدالحكيم قاسم، وإبراهيم أصلان، وأدوار الخراط… قلت لنفسي هنا سأكون، يجب أن تكون مجموعتي القصصية الجديدة في هذه الدار المميزة، لكن كيف سأصل للناشر؟ ومن سيقدمني له؟ في شقتي الصغيرة فتحت أحد إصداراتها الأنيقة، وسجلت العنوان على ورقة صغيرة: 5 شارع محمد صدقي باب اللوق.
وقفت أمام باب العمارة وسألت، ثم صعدت لشقة بديعة، تضاهي جمال إصدارات الدار، شقة ذات سقفٍ عالٍ، وفي منتهى الأناقة والفخامة، على الطراز الأوروبي القديم، مزدانة برفوف كتب عالية، وطاولة مكتب بالفخامة الكلاسيكية نفسها، يجلس خلفها رجل مبتسم وبشوش، بلحية مشذبة بعناية، رحب بي: تفضل. كان اللقاء الأول بصاحب الدار، النبيل حسني سليمان، الذي عاد من السويد بعد سنوات من الغربة، كي يصنع حلمه في النشر في وطنه مصر، والذي أرسلت له بعد أشهر مخطوطة مجموعتي الثانية (رجفة أثوابهم البيض) التي ضمَّت عناوين قصصية رئيسة، تحت كل عنوان بضعة قصص، من هذه العناوين (قصص الوحشة) التي تضم أربع قصص قصيرة عن القاهرة، طلب الناشر استبعاد قصتين منهما، فوافقت. لم أسأله لِمَ يجب استبعاد هاتين القصتين، لكنني ربما استشعرتُ وقتها الأسباب وتقبلتها وإن لم يفصح عنها مباشرة.
هكذا رفرفت (رجفة أثوابهم البيض) في سماء النيل، القاهرة ١٩٩٣، لتأخذ رحلتي في الكتابة منعطفًا جديدًا وجادًّا، لأنني وقتها غامرت بأن وضعت عملي المتواضع بكل جرأة وحماقة في رفِّ كتب يضم أهم قامات الستينات في النقد، والسرد القصصي والروائي.

المدينة مسرحًا تجريبيًّا واجتماعيًّا

القاهرة ساحرة، لا تفك طلاسمها زيارة واحدة، ولا اثنتان أو حتى عشر، أتخيلها امرأة دلو كما يصف مختصو الأبراج، غامضة، تبدو للغريب مدينة مكشوفة وواضحة ولا تخبئ شيئًا، تكشف عن نيلها ومنائرها وأنوارها، لكنها تخفي جمالاً لا يدركه المرء إلا مع النظر والإحساس والتأمل. مع الوقت والزيارات تظهر كنوزها وأسرارها.
هي تختلف عن سائر المدن، فشوارعها وميادينها ولافتاتها وناسها الطيبين يصعقونك بالسخرية من كل شيء، حتى من أنفسهم، عليك ألا تأخذ الأمور بجدية في القاهرة، فقط افتح صدرك للنيل الغامض وللضحكات، كي تسمو وتعلو أكثر.
هكذا بدأت أكتشف القاهرة على عدة مستويات، الأمكنة، الناس، السلوك، المشي، حتى المشي الاحترافي بين العربات يحتاج تدريب خاص في القاهرة، لأن الماشي وقتها يصل إلى مرتبة فهم تفكير السائقين المغامرين، ويتنبأ به قبل أن يحدث. كذلك على المستويات والاهتمامات الثقافية المختلفة، فلم تستمر علاقتي بالقاهرة علافة قراءة وكتابة ونشر في مجال السرد والقصة فحسب، وإنما سأكتشف جمالها المسرحي والروائي والتشكيلي خلال ثلاثين عامًا من الشغف والاكتشاف، هكذا كانت زيارتي التالية في التسعينات، ليست لمعرض القاهرة للكتاب الدولي، وإنما لمهرجان القاهرة للمسرح التجريبي، حيث أعلى مراتب التجريب والجنون في الكتابة المسرحية، والأداء، والتمثيل والإخراج.
جئت ضمن وفد مسرحية الهيار للكاتب المسرحي الكبير محمد العثيم، وإخراج أبو بكر خالد الشلقامي، وتمثيل راشد الشمراني وعلي إبراهيم وصالح الزير وحسن السبع وآخرون. كانت القاهرة تستضيف المؤتمر الدولي للسكان والتنمية عام ١٩٩٤، فلم تجد جمعية الثقافة والفنون سكنًا مناسبًا للوفد، وأقمنا الليلة الأولى في عوامة على النيل، كل شخصين من أعضاء الوفد في غرفة صغيرة جدًا، بسريرين متقابلين، ونافذة زجاجية دائرية على النيل. كنت أخرج لبهو صغير في مدخل العوامة، لأجد أحدهم مخمورًا ويبكي، كان يبكي طول الليل، كنت أحاول أن أفهم سبب بكائه، لكن لسانه الثقيل يجعلني لا أفهم شيئًا مما يقوله. كانت ليلة أولى مرهقة جعلتني أفكِّر بالعودة، لولا أن انتقلنا في اليوم التالي إلى فندق فيروجيبت المهندسين، فشعرت بالراحة والهدوء، وبدأت أحضر المسرحيات.
دهشتي كانت كبيرة وأنا أرى رجلاً بملابس رثَّة، ولحية كثَّة وشعواء، وهو يخبط خشبة المسرح بقدمين ثقيلتين مقيدتين، لم يكن فيهما قيد، لكنني شعرت أن يجرُّ شيئًا بصعوبة. كان يزعق في صالة قديمة مفتوحة النوافذ، ومن النوافذ يأتي الضوء مدروسًا. مساقط الضوء من خلال النوافذ أضفت جوًّا حلُميًّا، كأننا لسنا في مسرح، بل في حياة أخرى. كان الرجل العجوز يسير ويصيح، وهو يمشي بين الحضور، لا أتذكر إن كان يحمل حمامة بيضاء. كل ما أتذكره أنني ظللت مذهولاً ليومين. كان هذا الرجل العجيب هو المخرج البحريني الكبير عبدالله السعداوي.
وما أثار دهشتي فيما بعد، أن مقاعد القاعة كلها كانت مشغولة، غالبيتها من الشباب المصري رغم أن المسرحية تجريبية، وعميقة، وهو ما جعلني أفكر بعبارة “الجمهور عاوز كده” إزاء فشل المسرح اليوم وسطحيته. استمتعت بعروض مسرحية تجريبية عربية وأجنبية، حتى امتلأت حواسي إلى درجة أن اعتذرت من زملاء الوفد بمشاركتهم حضور مسرحية الزعيم للفنان الكبير عادل إمام.
هكذا أمسكت القاهرة بيدي، لتهمس لي بأن الكتابة التجريبية سواء في المسرح أو القصة أو الرواية، هي مغامرة جميلة، فجاءت مغامرة الكتابة في عملين لاحقين، مجموعة نصوص (لا بدَّ أن أحدًا حرَّك الكراسة) ثم روايتي الأولى (لغط موتى) ففيهما جرَّبت النص المتأرجح بين القص والشعر، وكذلك نمط الميتا رواية، لتبقى القاهرة كل مرة تهبني طاقة أجمل، وتجريب أعمق في الكتابة.

صنع الله صانع الرفض والدهشة

في مطلع الألفية أحل ضيفًا على القاهرة، ومشاركًا في ملتقى القاهرة الثاني للإبداع الروائي، بترشيح من صديقي الروائي جمال الغيطاني، الذي ربطتني به صداقة جميلة منذ كتابته المنعطف (التجليات)، كنت كتبت شهادة أدبية حول موضوع الملتقى (الرواية والمدينة)، وفي فندق بيراميزا في الدقي أقمت مع مبدعين ومبدعات من مختلف الدول العربية، بل أن القاهرة منذ تلك الدورة أصبحت القاهرة بيتًا دافئًا وحميمًا لكثير من الروائيين العرب.
حين دخلت دار الأوبرا لأول مرة في الصباح التالي شعرت بدفء غامر وطاقة مذهلة، كانت قاعة المسرح الصغير لإطلاق الافتتاح، بحضور وزير الثقافة الفنان فاروق حسني، وأمين عام المجلس الأعلى للثقافة الدكتور جابر عصفور، ومن ثم الجلسة الافتتاحية حول الملتقى الذي عاد بعد انقطاع عشر سنوات تقريبًا، والذي أسس عقب نيل الروائي الكبير نجيب محفوظ لجائزة نوبل عام ١٩٨٨. في الجلسات اللاحقة التي ستنظم في قاعات مبنى المجلس الأعلى للثقافة، سأتنقل بشغف بين الندوات والشهادات وورش العمل التي تٌعقد في وقت واحد، في غرف طوابق المبنى الثلاثة. سأنصت طويلاً وأتحدث قليلاً، سيضم المقهى أسفل المبنى معظم الروائيين والروائيات، في نقاشات وحوارات جانبية، مما جعل أثرها كبيرًا على تجربتي وقراءاتي في البدايات.
هذه المرة كانت القاهرة مختلفة تمامًا. المشي من الشارع المحاذي لفندق بيراميزا حتى الكشك الصغير، ثم انعطف يسارًا من شارع ديجول، حتى ميدان الجلاء، وأجتازه متأملاً النيل من فوق كوبري التحرير، نحو بوابة دار الأوبرا، لأكشف أول مبنى على يساري، مبنى المركز القومي للترجمة، ذلك المشروع الهائل الذي أنجزه الدكتور جابر عصفور. كنت أمشي ببطء وأناة، أمشي وأتأمل الشوارع والناس والشجر العالي والنيل والمراكب والعصافير، هذه المرة كانت القاهرة جميلة أكثر مما سبق، مما جعلني أدرك أن استيعاب الجمال أمر معقَّد، يصعب استيعابه من أول وهلة، وقد يحتاج المرء إلى عدد من المرات ليقبض عليه، هكذا كانت القاهرة كلما زرتها أكثر تعلَّقت بها، وتآلفت معها، وأخلصت لها، وصادقتها، بل وقعت في غرامها.
ستلفت انتباهي صِغَر قاعات المجلس، وأفكِّر، صحيح أنها تستوعب ثلاثين إلى أربعين شخصًا، لكنها ممتلئة على الدوام، ومستغلَّة باستمرار في مناسبة إثر مناسبة، باختصار قاعات صغيرة فيها روح أهم من قاعات ضخمة وفارهة لكنها ميتة. هكذا كنت أفكِّر.
ليس ذلك فحسب، وإنما تلك الحميمية التي كانت تحفل بها تلك القاعات، سواء القاعات العادية أو القاعة المستديرة التي تنعقد فيها ورش العمل حول الرواية والمدينة. نقاش ساخن وحميم وعميق، اختلافات في وجهات النظر، واستكمال هذه الحوارات في الممرات، وفي المصاعد، وأيضًا في المقهى أسفل مبنى المجلس الأعلى للثقافة.
في نهاية ملتقى الرواية عُقد حفل الختام في القاعة الكبرى بحضور وزير الثقافة الفنان فاروق حسني، وجمع غفير من المشاركين والمثقفين والمهتمين يتجاوز خمسمائة، حيث كانت الدورة تحمل اسم إدوارد سعيد، وترددت الأحاديث الجانبية بأن الجائزة هذه الدورة ستخصص الروائي مصري، بعد أن منحت جائرة الدورة الأولى للروائي عبدالرحمن منيف. في الحفل شاهدت الروائي المصري صنع الله إبراهيم لأول مرة، وأنا الذي قرأته منذ (تلك الرائحة) وحتى (أمريكانلي)، مرورًا بأعماله العظيمة: نجمة أغسطس، اللجنة، بيروت بيروت، ذات، شرف، ووردة. لمحته يهبط الدرجات نحيلاً بنظارتيه السميكتين، وشعره المنكوش، وشاربه الممتزج بالبياض، ثم جلس في الصف الأول بالقاعة. اكتمل الحضور بوصول الوزير فاروق حسني، ثم بدأ الحفل بكلمة لأمين المجلس الناقد جابر عصفور، وهو يصف فارس هذه الدورة الذي عرفناه جميعًا قبل الإفصاح عنه. نهض صنع الله مصحوبًا بالتصفيق ووقف أمام المنبر، ثم أخرج من جيبه الداخلي للجاكيت ورقة كان قد أعدها. ثم ألقى كلمة مؤثرة عما يحدث من تردي في كل مناحي الحياة، فلم يعد لدينا مسرح أو سينما أو بحث علمي أو تعليم – كما يصف -، لدينا فقط مهرجانات وصندوق أكاذيب. لم تعد لدينا صناعة أو زراعة أو صحة أو عدل…إلخ. ثم أشار إلى أنه “على بعد خطوات من هنا يقيم السفير الإسرائيلي في طمأنينة، وعلى بعد خطوات أخرى يحتل السفير الأمريكي حيًّا بأكمله، بينما ينتشر جنوده في كل ركن من أركان الوطن الذى كان عربيًّا”. وأخيرًا – كما هو معروف – اعتذر عن استلام الجائزة، محدثًا رفضه لها دويًّا وعاصفة من التصفيق والضجيج واللغط. ثم هبط من خشبة المسرح صاعدًا الدرج محفوفًا بالصفير والصراخ العالي. بجواري شابان، أحدهما يسأل الآخر عن قيمة الجائزة، فيخبره الآخر: مئة ألف جنية. يصرخ الآخر: يا خبر أبيض. ده عبيط.
ولعل أجمل ما تعلمته في هذا المشهد، موقفان متناقضان كل منهما يحمل رؤيته وتبريره، موقف المعارضة الذي أطلقه صنع الله تلك الليلة، وموقف الحكومة الذي مثله وزير الثقافة حينما وقف على المسرح، وأوضح أن من حق الكاتب قبول أو رفض الجائزة، وهي الحرية الحقيقية التي تكفلها له الحكومة والوزارة بأن يعود إلى منزله سالمًا وحرًّا، فالأول استغل وقفته أمام الصحافة العربية والعالمية ليمرِّر رسالته، والثاني استثمر الموقف أيضًا ليثبت الحرية التي يتمتع بها الكاتب.

مدينة قلبها كبير

كلما استعدت رحلتي الأولي مطلع التسعينات، تذكرت صوت محمد منير الذي يشبه النحيب، الذي ينساب في ممرات محل عمر أفندي الكبير، حيث أتجول بحثًا عن إبريق وكوب، وسكَّر وشاي، كي أؤثث تلك الشقة الصغيرة في شارع عمر طوسون. لا أعرف أي حنين يلتهم قلبي كلما سمعت أغنية لمحمد منير في أي وقت ومكان. وربما أتفهم ذلك الحنين الذي بثَّه لي الشاعر والروائي العراقي فاضل العزاوي ذات ظهيرة ونحن نعبر معًا ميدان التحرير في يونيو ٢٠٠٧ من خلال استرجاعه ذاكرة سبعينات القاهرة.
في منتصف يونيو كانت الجامعة الأمريكية قد أصدرت عددًا من الروايات لكتاب مصريين وعرب، ومنها روايتي (فخاخ الرائحة) التي صدرت بعنوان (wolves of the Crescent Moon) ورواية فاضل العزاوي (آخر الملائكة) بعنوان (The Last of the Angels)، وبعثت دعوة لنا لحضور معرض الكتاب السنوي الذي تقيمه الجامعة، وعلى هامشه حفل توقيع على الأعمال المترجمة الجديدة، منها أيضًا روايتين للروائي الراحل يوسف أبو رية، والروائية هالة البدري، إضافة إلى كتاب للناقدة العراقية فريال غزول. أقمنا في فندق شيبرد المطل على النيل، والمحاذي لفندق انتركونتننتال سمير أميس. خرجنا ذات ظهيرة مشيًا باتجاه مقر قسم النشر في الجامعة في شارع محمد محمود، ونحن نتقدم نحو ميدان التحرير، أمسك بيدي فاضل، وقال لي، لو أصف لك هذا الميدان في السبعينات لن تصدق! ثم وصف لي العربات والدكاكين والناس، أناقة الموظفين الذاهبين إلى أعمالهم ببدل رسمية وربطات عنق، وأناقة النساء بفساتين راقية وزاهية، إذ من النادر جدًا أن ترى امرأة محجبة في الشارع. وصفه لحالة القاهرة القديمة وملامحها، شوارعها وحفلاتها الغنائية، جعلني أتوق شغفًا لتلك الفترة، وأتمنى لو عشتها فعلاً، رغم أنني شاهدتها في أفلام حسن الإمام وحسين كمال وهنري بركات وغيرهم، في أفلام مثل: أريد حلا، خلي بالك من زوزو، أفواه وأرانب، امبراطورية ميم، لا عزاء للسيدات، وملامح الفنانات فاتن حمامة، وسعاد حسني، ونادية لطفي، ونجلاء فتحي، وميرفت أمين، وغيرهن. والفنانين محمود ياسين، وحسين فهمي ونور الشريف وغيرهم. رغم كل الزخم الذي عشته في صباي مع هذه الأفلام، إلا أن القاهرة في عيني شاعر وروائي من خارجها كفاضل العزاوي ترك فيَّ حسرة أنني لم أكن شابًا وقتذاك، وابن عائلة ثريِّة، كما هي العائلات السعودية الثرية في السبعينات التي اكتشف أطفالها روح القاهرة وثقافتها، وجمال بيروت أيضًا.
بالطريقة ذاتها التي كشف لي فيها فاضل العزاوي قاهرة السبعينات بوصفه لها كما لو كانت أمامه في اللحظة ذاتها، قادني ذات عصر صديقي الراحل يوسف أبو رية إلى دهاليز وسط البلد. كنت كلما زرت القاهرة اتصل بيوسف – وهو الذي عاش بيننا سنوات في الرياض، مدرِّسًا ومرافقًا لزوجته الطبيبة – فيسأل عن موقعي، وأخبره أنني في وسط البلد. حين يقترب ويتصل بي لأحدد مكاني، أخبره أنني انتظره في جروبي، فيطلق ضحكته العالية الثخينة: “جروبي أيه وبتاع أيه؟ ده مكان الحبِّيبه” ثم يأخذني: “تعال وشوف القاهرة، وسيبك من مكان العيال ده”. نسير معًا في أزقة وسط البلد، ويروي لي سيرة الأماكن والأزقة والشبابيك: “بص هناك يا يوسف، في البلكونة دي كانت سعاد حسني تستنى حليم” وهكذا يعيدني بفطرته السردية ومخيلته الشاسعة إلى حكايات الستينات وأوائل السبعينات وجمالها.
في حفل التوقيع، بمعرض كتاب الجامعة الأمريكية كنت التقيت لأول مرة بمدير النشر بالجامعة الراحل مارك لينز، ومساعده نيل هيوسن، وكبير المحررين تشيب روزيتي، واكتشفت أن القاهرة ليست بيتي لوحدي، كونها أول عاصمة احتضنت أول كتاب صدر لي خارج وطني، وكذلك دعتني إلى أول ملتقى دولي مهم، وامتلكت حقوق ترجمة أول رواية لي، وإنما كانت تفعل ذلك مع غيري من الأدباء والمثقفين العرب، حيث فتحت لهم القاهرة أبوابها ونوافذها وقلبها الزاخر بالحب، حتى أصبحت المكان الحميم الذي يجمعنا من كل أنحاء البلدان العربية.

الحكي الذي لا ينتهي

أجمل ما في هذه المدينة الغامضة والمكشوفة معًا، الخالدة والمتجددة، أن كل رحلة تجعلني كأنني أزورها لأول مرة، فالرحلة التي كرَّست شارع جامعة الدول العربية والمقاهي فيه، والمهندسين، تختلف عن رحلة دار الأوبرا، ووسط البلد، ميدان طلعت حرب ومكتبة مدبولي، ومكتبة الشروق، وجروبي والجريون وريش وغيرها من ملامح وسط البلد الجميلة، والتي أصبحت أجمل بترميماتها الأخيرة، بما تحمله من طابع ونكهة المباني الأوروبية العتيقة. وهي تختلف عن رحلة مراكب النيل وليل الحسين والفيشاوي وخان الخليلي.
كل جزء من القاهرة هو لوحة ساحرة ومتحركة لفنان عظيم، مما يجعل الإحاطة بكل تفاصيل مدينة كالقاهرة هو أمر بالغ التعقيد.
لم تكن المشاركة السنوية لملتقى القاهرة للرواية العربية تتوقف عند مبنى المجلس الأعلى للثقافة وقاعاته ولوحاته ومقهاه ومكتبته، ولا عند الأوبرا ومسرح الهناجر والمقاهي الخارجية ومتحف الفن المعاصر وعيرها، وإنما كنا نكمل أمسياتنا في الحسين، حيث المقاهي المنتشرة أمام ساحة الجامع، كنا مجموعات أصدقاء متآلفة، والحديث الليلي الذي يطول تقطعه الضحكات، ونداءات الباعة هنا وهناك. كنا رؤوف مسعد وعبده خال وإيمان يونس حميدان ومحمد البنكي وهدى العطاس وآخرون. تجمعنا أحلامنا وهمومنا في الكتابة والقراءة والأدب والسياسة وحال عالمنا العربي.
قد تكون القاهرة كمدينة تختلف عن غيرها، فغالبًا لا يشعر المرء فيها بالوحدة، إذ حينما يسبر في أنحائها لا يمشي فوق طبقات من الحضارات المتراكمة تحت سطحها فحسب، وإنما يمشي على طبقات هائلة من الحكايات التي لا تنتهي، في كل مكان يسمع الحكايات والعبارات والصيحات، في الشوارع والمقاهي والدكاكين والمقابر وداخل سيارات الأجرة، ولعل كتاب خالد الحسيني اللافت (تاكسي… حواديت المشاوير) الذي صدر عام ٢٠٠٧ يختزل روح القاهرة، خفَّتها وعمقها معًا، ضحكها وعبوسها، مرحها ومآسيها، ليلها ونهارها، هي مدينة يراها المرء وفق بصيرته، لكنها لا بدَّ أن تترك فيه أثرًا ما، وتوقظ ذاكرة ما، وتترك شغفًا إلى أماكنها الحميمة.
هي الدنيا، حيث يقول الأصدقاء المصريون لمن يزور القاهرة: “يا أهلا وسهلا، نورت الدنيا”، هذه العبارة وإن كانت تعبير عن الاحتفاء الحميم والمعتاد عند المصريين، إلا أنها جعلتني أتخيَّل أنهم بدلا من قول: نورت القاهرة، يقولون: نورت الدنيا. ربما هي الدنيا لأنها فعلاً تضم كل شيء، ولأنها كل أخذنا منها نطلب المزيد، هي المعطاءة بسخاء، حيث تفرد قلبها ونيلها نهارًا وليلاً، إلى درجة أن نشعر معها أيهما أجمل؟ صباحاتها الناعمة، أم ظهيرتها الكادحة، أم عصرها المسترخي على نيلها، أم ليلها الساهر بصخب وقهقهة ليس لها آخر. هل جميلة في كل حالاتها.

أكثر من سلالم – مقتطفات

(١)
قبلاته تشبه طيراً يلتقط الحبَّ

أخيرًا فعلتِها يا رشّو يا بنت سعيد! همستُ لنفسي، وأنا أعضُّ شفتي السفلى بقلق.
في الممر الطويل المؤدي إلى كابينة الطائرة بوينغ 777 كنت أمشي بخطوات سريعة إلى الأمام. لم ألتفت أبداً نحو أبي، الذي استطاع الدخول معي إلى مدخل الممر، بعدما أقنع الأمن أنه سيطمئن على جلوسي عند رقم البوابة الصحيح، فوافقوا لأنهم يعتبرونني كائنًا فاقد الأهلية، وطوال جلوسه معي قبيل الرحلة، كان يحيطني بنصائحه، بألا أصاحب من هب ودب، وألا أثق بأي أحد، ولا أذهب إلى أماكن لا أعرفها، وأن يقتصر خروجي على الأشياء الضرورية، كانت أمي صالحة، وأختي زهرة، وأخويَّ سعد وحسن في الصالة العلوية بالمطار، يقفون خلف الزجاج، كلما ألتفت نحوهم، وجدتهم يلوّحون بأيديهم، تبلَّل وجهي، وقد أحسست بدمع أمي، وخجلت من نفسي لأنني أبكيتها، وأحزنتها على فراقي.
تفحَّص الموظف بطاقة صعود الطائرة وجواز سفري، وتأكد من تأشيرة الدخول إلى الأراضي الأمريكية، قال وهو يناولني الجواز وبطاقة الصعود: بالسلامة. هرولت وعلى ظهري حقيبتي، لم ألتفت خلفي، ولا حتى لمرة واحدة، خشية أن يصرخ بي أبي كما في المسلسلات الخليجية: “رشا ارجعي، غيَّرت رأيي، لن تسافري إلى أمريكا!” لكنه لم يفعل بالطبع، ولم أتوقف إلا حينما رميت جسدي المنهك، المفكك تماماً بعد محاولة الانتحار الفاشلة التي أقدمت عليها قبل تسعة أيام، جلستُ بجوار الشباك، وجلس بجانبي رجل أربعيني، لم يلتفت نحوي، ولم يكلف نفسه بإلقاء التحية، ولم يبتسم أيضاً، كل ما فعله لحظة أن أقلعت الطائرة، أن أرجع مسند مقعده للخلف، ودخل في نوبة نوم مخيفة، كان يشخر مثل حوت، وكلما تعالى شخيره فزّ فجأة، كمن يدفع موتاً مباغتاً.
بينما المضيفة تقرأ التعليمات، تنبَّهت إلى أنني لم أقفل هاتفي المحمول، كانت أمي تنشج بحزن: “بغيت اسمع حسّك قبل تقفلين جوالك” هدَّأتها، ومازحتها قليلاً وأنا أخنق عبرة تتسلل، ووعدتها بألا تشعر بفقدي، سأتصل بها كل دقيقة، وأترك هاتفي المحمول مفتوحًا حتى في الليل، فتنهدتْ بحزن، ودعتْ لي قبل أن أقفل الخط، وأربط حزام المقعد.
حينما أقلعت الطائرة، لم أنظر من النافذة نحو الرياض وهي تختفي ببطء، ولم أندم أو أبكِ، كنت أمتلك قوة وشجاعة، بل وسعادة كبيرة أن أصبحت داخل هذا الصندوق السحري الذي سيلقي بي في أرض الأحلام، نيويورك التي لا تنام، نيويورك كيفن في فيلم (هوم ألون ٢)، بلازا هوتيل، سنترال بارك، تايم سكوير، تمثال الحرية، برودواي، مانهاتن، بروكلين… يا الله! كنت كل لحظة حينما ينتهي فيلم أشاهده في شاشة المقعد أمامي، ألتفتُ نحو الرجل الأربعيني الغارق في نومته العميقة، أودُّ لو ألكزه، كيف تنام وأنت في الطريق إلى المدينة التي لا تنام؟
شعرت بحرجٍ شديد حينما امتلأت مثانتي، كيف أوقظ هذا النائم كجنازة، لأمرَّ بينه وبين مسند المقعد المقابل، صحيح أن جسدي صغير وضئيل، لكن طاولة جاري كانت مفتوحة أمامه، وعليها هاتفه المحمول، وقد أقفل تماماً فرصة العبور إلى الممر، كنت أفكّر، ماذا لو نبهته قائلة: لو سمحت! ولم يستيقظ، أي حرج لي، وأنا واقفة، بينما ركاب المقعد الخلفي يتطفلون عليَّ، ماذا لو اضطررت إلى أن أمسَّ كتفه برفق كي يستيقظ، وكيف لي أن ألمس جسد رجل غريب، وماذا لو عدتُ بعد الحمام، لأجده دخل في الغيبوبة مجدَّدًا؟ مما يضطرني إلى إيقاظه مرة أخرى، يا الله ما هذا الحرج؟
تحمَّلتُ كثيراً حتى كدت أبكي لفرط امتلاء مثانتي، فجأةً قررت أن أفعلها، وأرفع هاتفه المحمول بهدوء من على طاولة المقعد، ثم أرفع الطاولة وأقفلها بهدوء، وأحاول التسلل بخفة كقطَّة أليفة، لكنني مجرد أن وضعت يدي على هاتفه المحمول، حتى تحرَّك وتململ، ثم تنبَّه في اللحظة التي قلت فيها: المعذرة؛ خشيت أن يظن أنني سأسرقه. لكنه ابتسم خجلاً، وأخذ هاتفه وأقفل الطاولة، وانعطف بجذعه يساراً تجاه الممر، دون أن ينهض، يا للحماقة، ألا يعرف التعامل مع فتاة؟ خرجتُ إلى الحمام، وحين عدت قلقة أن يكون نام ثانية، وجدته واقفاً في الممر يقوم بعمليات إحماء، كمن سيدخل في مارثون طويل، أو كمن يستعد لجولة ثانية من نوم أكثر عمقاً.
عدت إلى مقعدي، وتنقلت بين أفلام الرحلة المتاحة، معظمها أفلام قديمة، اخترت فيلم (Are we there yet)، وأطلقت بصري من النافذة حيث السحب البيضاء، وهذا السديم الذي أخذني عنوةً إلى طفولتي البعيدة، حينما كان أبي يحبني كثيراً، وكذلك أمي، وهما لا يرفضان لي طلبًا، كنت في المراهقة أتمنى أن يقول لي أحد: لا، لكن ذلك لا يحدث، عشت طفولة مثالية، أو بالأحرى طفولة مدللة، كل الألعاب الجديدة من ديزني لاند، تصلني قبل الآخرين، كنت محسودة كثيراً من قبل قريناتي من الأقارب، والصديقات، لكن الأمر بدأ يتغير شيئاً فشيئاً، منذ أن ساءت العلاقة بين أبي وأمي بعد زواجه من فتيحة، وتحوله إلى شخص آخر، يبحث عن أي سبب، ولو كان تافهاً، كي يثور ضدي، لا أعرف لِمَ كان يفعل ذلك، هل بسبب حدة أمي وانفعالها المستمر ضده؟ أم بسبب تأثير زوجته الثانية فتيحة؟ لم يعد أبي يضع القمر في يدي، ولم تعد الشمس تتسلل إلى غرفتي بخجل، كان يدخل ويفتعل أي شيء للشجار، مجرَّد الشجار، كأن أجهِّز الغداء بدلاً من الخادمة، أو يجبرني على الذهاب لبيت عمتي، فتحولت إلى شخصية مختلفة، عنيدة، أرفض كل شيء يطلبه، حين يأمرني بفعل شيء، أفعل عكسه تماماً، أصبحت فتاة نزقة، كنت ألفت انتباهه وتقصيره معي، صار يتهم أمي بأنها تحرضني على الرفض والتمرد، بينما لو كنت مكانها لخلعته منذ سنوات طويلة، فأنا لا أحب الرجل المتسلط والمستبد، الذي يعتقد أن دوره في إلقاء الأوامر، وليس المشاركة في حياة طبيعية.
أتذكر أول مرة صفعني كيف بكيت لساعات، لم أكن أبكي ألماً، لكنني شعرت بالمهانة والحزن، لأن من فعل بي ذلك هو أبي الذي طالما أغدق عليَّ حبه وعطفه وحنانه. بعد ذلك صرت لا أكترث له، وازداد عنادي حتى أصبحت قادرة على أن أجعل العالم كله يقف على قدم واحدة، أفعل ما يغضبه قصداً، وأختبئ في غرفتي بعد أن أرتدي ملابس ثقيلة تحت قميصي، وأغلق باب غرفتي جيداً، لكنه يعود ويجلدني بالعقال، وبالحزام أيضاً، حتى اعتدت الأمر، فلا أبكي أبداً، أتركه يفعل ما يريد، ثم أدخل الحمام، وأتحمم تحت ماء ساخن، وأغير ملابسي، ثم أخرج لأمي دون دمعة واحدة، بعد أن يكون قد غادر البيت.
كنت شقيَّة وشرسة، أفعل ما أريد، فلا يمضي شهر دون أن أوقع تعهُّدًا بعدم تكرار خطأ ارتكبته في المدرسة، إما أن ألبس بشكل مخالف للنظام، أو أثير الفوضى في الصف، مما يوقعني في فخ توقيع تعهد، أو عقوبة الفصل ليوم أو يومين أحياناً، وهذا ما يغضب أبي مني كثيراً، لكن أمي خلاف ذلك، فقد كانت سعيدة وفخورة بي، كأنها تعوٍّض ضعفها بقوتي! كأن لا شيء يعنيها سوى تحقيق درجات عالية، وهذا ما أفعله، فرغم الشغب والعبث والفوضى والتمرد، كنت أنجح بتفوق، وأنافس على الترتيب الأول، وربما هذا ما قادني، وفيما يشبه الورطة، إلى كلية الطب بجامعة الملك سعود، رغم كل الحماقات التي ارتكبتها أثناء المقابلة الشخصية، فما زلت أتذكر كل التفاصيل حينما جلست أمام دكتورة تسألني عن سبب رغبتي في الالتحاق بهذه الكلية، كيف وضعتُ ساقاً فوق أخرى، وتحدثتُ بلا مبالاة، لا أتذكر إن كنتُ ألوك علكاً في فمي، لكنني لا أنسى استفزازي لها مراراً، كي تطردني، غير أنها لم تفعل.
دخلت غرفة المقابلات الشخصية، كنَّ ثلاث سيدات، في الوسط أربعينية ترتدي بلوزة صفراء بلون الليمون، بنظارتين طبيتين فوق أنفها، كنت أمشي بطريقة مستهترة حين دلفت، وألقيت السلام، فأشارت لي بالجلوس:

  • هلا رشا، قولي لي، ليه تبغي تدرسي طب؟
    • لأن معدلي عالي، وأبغى أصير دكتورة، وأهلي يبغوا أصير دكتورة.
  • طيب ليه تبغي تصيري دكتورة؟
    • لأن ما فيه وظائف للبنات في السعودية، إلا معلمة، أو طبيبة، أو موظفة بنك، وأنا أكره البنوك والمال والاقتصاد، ولا عندي صبر أكون معلمة!
  • كيف ما عندك صبر؟ طيب اللي ما عنده صبر كيف يتحمل كلية طب؟
    • أقصد لو استفزتني الطالبات في المدرسة، يمكن اضطر إلى ضربهن!
  • طيب وإذا جاء لك مريض واستفزك، تضربينه بعد؟
    • لا طبعاً، أطرده فوراً من العيادة!
  • يا بنتي الطب عمل إنساني، يحتاج التضحية والصبر!
    • يمكن، بس في السعودية، صعب نضحي في عالم ذكوري!
    تنهَّدت الدكتورة بعمق، كأنها تتساءل، ما هذه الحمقاء؟ صمتت لوهلة، ثم سألتني:
  • طيب يا رشا، كيف تقضين أوقات فراغك؟
    • إنترنت… أقرأ أحياناً… أطالع التلفزيون… زيارات وطلعات سوق…
  • ماذا تقرأين؟
    • غالباً روايات.
    ثم فجأة سألتني عن لون الجدار خلفي، فضحكت، وأنا أتساءل هل هذا سؤال، وقلت إنه أبيض أو حليبي، فرفعت حاجبيها وهي تستغرب سخريتي، قائلة بأنه قد يكون للسؤال معنى، فابتسمت وأنا أقول ممكن، إلا أن يكون له معنى في الطب.
  • طيب رشا، لو فيه مرض معدي، أو مدينة فيها حرب، هل أنت مستعدة للمغامرة بحياتك لإنقاذ الناس؟
    • يعتمد على المحرم، إذا عنده استعداد يغامر معي، تعرفين ما أقدر أسافر من غير محرم!
  • شكلك مجبرة على حضور المقابلة، والتقديم على كلية الطب!

قالت ذلك، وتمنت لي الهداية والتوفيق، خرجتُ وأنا على ثقة بأنني لن أقبل في الطب، بعد هذه الجرأة، أو الوقاحة في بعض الإجابات، لكن المفاجأة الكبرى أن تم قبولي، رغم أنني أخبرت أمي أنهم لن يقبلوني إطلاقاً، فقد فشلت في إقناعهم، لكن يبدو أن استفزازي لهم، ووقاحتي أيضاً، كانت مثيرة وجاذبة!
كنت أفكر حينما دخلت كلية الطب بجامعة الملك سعود، أن أتخصَّص في طب العيون، بعدما عشت طفولتي المبكرة مع جدتي العمياء، حيث لم يسعفها الطب في علاج الماء الأزرق، الذي كان أمراً سهلاً إلى حد بعيد، لكنني الآن، وقد صعدت هذه الطائرة الضخمة صوب الحلم الأمريكي، غيَّرت رأيي، وفكَّرت بطب الأسنان، كي أضمن للنساء في بلادي أسناناً قويّة وحادّة وصلبة، لينتقمن عند الحاجة ممن يمعن في إيذائهن، لم أكن متأكدة من ذلك قبل أن أصل إلى لوس أنجلس، وأوفق بالدراسة في جامعة عريقة، جامعة جنوب كاليفورنيا، وتروق لي الجامعة، ومكتباتها، وكلياتها، وفنونها، وكلية الأسنان فيها، والأصدقاء الذين صاروا أهلي وقبيلتي!
كل شيء كان مختلفاً، الطبيعة والفضاء والهواء والغيم والبشر والعالم، حتى النظرات والابتسامات مختلفة، يبتسم لي زملائي في المحاضرات، ومن لا أعرفه في الممرات، فأبتسم بدوري، وينتهي الأمر، يبادر بعضهم صباحاً: صباح الخير رشا، فأرد التحية، وينتهي الأمر أيضاً، قد يناقشني أحدهم في المقهى المقابل للكلية، وكذلك ينتهي الأمر، بينما حين ضبطت عبدالإله متلبِّسًا وهو يقيسني بنظراته، في مادة العملي، بمستشفى الملك خالد الجامعي، تصاعد هرمون الأدرينالين، وارتبكت، وأضعت الدكتور والشرح، وما أن ابتسم لي في الأسبوع التالي، حتى شعرت بنمل يصعد فوق أذنيَّ، وصدغي، كما لو أنه يدعوني للخروج معه، صحيح أنني كنت جريئة، وأحب المزاح والتعليق، ما جعل معظم زملائي الطلاب لا يجدون حرجاً في الحديث معي، على خلاف زميلاتي اللاتي ينتقدن مزاحي وبساطتي معهم، مع أنني أضع مسافة احترام معهم، باستثناء عبدالإله الذي غامر، وكنت أشعر به قبل ذلك، وتبعني في الممر، بعد نهاية درس العملي، طالباً رقم هاتفي المحمول، فاعتذرت منه بلطف. مضى بهدوء، وظننت أنه انهزم، لكنه فاجأني في اليوم التالي بشريحة هاتف جديدة، وبطاقات شحن، ناولني إياها، طالبًا أن أحادثه من خلالها، بما أنني متحفِّظة على رقمي الخاص، ووطئت هذا العالم الشائك، فتحدثت بالمحمول، ولأول مرة مع شاب، فكل اتصالاتي وعلاقاتي منذ الطفولة، وحتى الجامعة مع صديقاتي البنات!
كان عبدالإله شاباً وسيماً، طويلاً، ملامحه حادة ودقيقة، وبشرته مغسولة بحقول الحنطة، شاربه خفيف للغاية، ولا يكف عن المزاح واللهو، كنت في البدء استغرب كيف لمن لديه مثل عبثه وجنونه أن يلتحق بكلية صعبة وصارمة كالطب، تحتاج إلى عمل دؤوب، وصبر واجتهاد؟ منذ اللحظة الأولى انسقت خلف سخريته ومزاحه، لم أتصوَّر أنه يتلاعب بي، بل اعتبرت عبثه المراهق جنوناً يجذبني، بل يأسرني، قبل أن يرديني برصاصته الأخيرة.
ورغم أن ظهر كفيه كانا خاليين من الشعر تقريباً، إلا أن أصابعه الطويلة النحيلة، حين تتخلل أصابعي، وتلتف حول كفيَّ، تدخلني في لذَّة مدوّخة، يا الله كم كانت قبلاته تشبه طيراً بارعاً يلتقط حبات القمح من تربة البيدر، في البدء كنت أتسلَّى. أشاغب. أكتشف. أختبر كل شيء، نظرته الساهمة، ملمس كفِّه، طعم القبلة حين يتململ النمل داخل شفتيَّ، كنت أجرِّب لكنني فيما بعد أحببته بجنون، وكنت أظن أنه يبادلني ذلك، ولن يتخلى عني يوماً، ولا عن حبه المقدَّس، كما كان يسميه!

(٣٧)
أعود إلى نقصي!

في مايو ٢٠١٠ كانت ضحكات الخريجات والخريجين تملأ المكان، وهم يتبادلون التهاني والقبلات، ويلتقطون صورًا تذكارية، كنت أتنقل بينهم كفراشة بجناحين رماديين. في الحفل حضر الجميع، حضرت أمي الجميلة وهي تبتسم طوال الوقت، وأشعر بها فخورة بي.
وحضر أبي ببذلة رمادية أنيقة.
حضر صديقي المخلص هشام.
حضر جمال.
حضر زياد، سحر، عائشة.
حضرت سارا أيضًا.
حضر الذين أحبهم، والذين أكرههم، حضروا كلهم، وغاب هو.
لم أتوقع أن يحضر، لكنني حزنت أكثر حينما قدَّمت لي سارا عقدًا من الإكسسوار المطلي بذهب أبيض، وبداخله بطاقة صغيرة مكتوب عليها: “مبروك تخرجك رشا”
سارا وسعود

التقطتُ صورًا تذكارية مع الجميع، صورتي مع سارا لم أزل احتفظ بها في جوالي القديم سوني أريكسون، كانت ترتدي فستانًا أزرق، ويظهر النمش في صدرها، تقف ضاحكة وعلى كتفيها العلم السعودي، تمامًا كما حملته أمها أثناء مباراة في الثمانينات؛ تعتزُّ كثيرًا بوطنها الذي تخلَّى عنها، بل الذي لم يعترف بها، ولم يفتح لها أبوابه، هي تحب وطني أكثر مما أحبه، تشعر بالانتماء أكثر منِّي، هي تعشق الانغلاق وأنا أحلم بالحرية، وربما تحلم بواقع لم تعشه بعد، ولا تدرك قسوته أبدًا، ولو عرفت لتخلت عن هذا الحلم الكئيب، وربما وجدت في سعود بعض حلمها بالوطن، لم تذق الوطن لكنها ذاقت سعود وتخيلت وطنها في شخصه.
لم أسألها وقت ذاك عنه أبدًا، ولا عن مستقبلهما، أو أتأكد من معلومة قالها لي ماهر، زميلي الفلسطيني، الذي كان على علاقة بسعود، بأن سعود لم يقدم طلبا للحصول على البطاقة الأمريكية الخضراء، وإنما قدم أوراق زوجته إلى السفارة السعودية، كي تصحبه بعد تخرجه، كنتُ أتساءل في داخلي، وهل سيتخرج، وأنا التي أعرفه جيدًا؟.
كلما تأملتُ صورتي معها، وهي تلتصق بي بابتسامة بلهاء، وكأن شيئًا لم يحدث. ابتسم بحزن، وأنا أستعيد كيف استقبلتها كالآخرين، دون أن أحقد عليها، بل كنت متماسكة، وأنا أخبئ غضبي جيدًا، ولا أعاتبها، لكنني بالطبع لم أبتهج لرؤيتها، ولم نعد صديقتين.
أنا لا ألومها، لكنني ألومه كثيرًا، صحيح هي مذنبة لكنها لا تعنيني هي أو غيرها، فالمحب حين يكون مستعدًا لأن يهجر محبوبته، لا يهم مع من يهجرها، ولا لأجل ماذا، المهم أن حبيبته أصبحت في نظره لا شيء، بالضبط لا شيء، كنت أشعر أنني لا شيء، لا أحد، هو لا يراني مطلقًا، ولا يسمعني أبدًا، تجاهلني تمامًا كما لو لم يكن يعرفني من قبل، لدرجة أنني صرت أشك أن في الأمر شيء آخر، كأنني ضربته على رأسه في الملهى، كأنني لكمته وهشَّمت أسنانه أمام الملأ، كأنني ارتكبت جريمة، كل ما فعلته أن وقفت مشدوهة، ثم خرجت ودفعته بعيدًا عني حينما أصرَّ أن يمسك بي، هل استكثر أن أنفعل مثلاً، هل تعوَّد أن أذعن له، وأطيعه دائمًا، وأنفذ رغباته بلا تردد، هل كانت علاقتي به كما حللت الدكتورة كارين، واعتبرت طريقتي خاطئة في التعامل مع الرجل عمومًا. لا أعرف.
عادت أمي وأبي إلى الرياض بعد أسبوع من الحفل، وبقيت أنهي بعض الإجراءات، أنهي علاقتي بهذه المدينة التي أعشقها حد البكاء، بقيت شهرًا لا أنساه ما حييت، أسهر حتى الصباح، وأطوف فيها مثل ناقة فقدت جنينها، لم أترك محلا إلا اقتحمته، ولا مطعما إلا تلمست طاولاته كعمياء، ولا شارعا إلا متِّرته بجنون، ولا شجرة إلا تمسَّحت بها، كنت أطوف ليلاً وأبكي، لا أعرف لماذا، بالأمس القريب كنت أبكي سعود، واليوم أبكي المدينة كلها، أبكي كل شيء فيها، بل أبكي أمريكا العظيمة كلها، يا الله، كم أحببت هذه البلاد، أحببت ترابها الحر، وكلما تعبت من التجوال والبكاء، ذهبت إلى هشام الذي تحمَّل حزني، كأنما كانت مهنته الوحيدة مواساتي، كنت أبكي بين يديه، فيضمني ويسألني:
“لماذا تبكين؟”.
“هشام لا أود أن أعود، أنت لا تعرف السعودية؟” وأضفت:
“ستذهب أنت للبحرين، وتعيش الحرية، أنا سأتكوم في عباءة هناك”.
“لكنك ستزورينني في البحرين؟” أعرف أنه يواسيني.
“لا أعلم يا هشام إن كنت أستطيع أم لا؟”.
خلال ذلك الشهر بعت أثاث شقتي، بعت سيارتي، وحريتي أيضًا بعتها عندما صعدت الطائرة، كنت كمعتقل يُقاد إلى منفى، أمشي في المطار بتثاقل عجيب، وأسمع السلاسل في قدميَّ وأنا أسحبهما بصعوبة. صحيح أن أمريكا قدمت لي خنجر سعود، لكنني على استعداد أن أتلقى مئات الطعنات مقابل أن أبقى في أرض الأحلام، أرض النخيل العالي، والهواء الحُر.
قبل يومين من سفري، ذهبت إلى مقهى بلاك دوق، وتذكرت الجلسة المطلة على الشارع، حينما جلست وكتبت إلى سعود رسالة موافقة أن أمنحه فرصة، فتحت الرسالة من جوالي، وقرأت ما كتبته له: سأعطيك فرصة أتمنى تكون قدَّها، ولو ناوي تجرحني يوم أرجوك أنا ماني ناقصة جروح، لا تحبني إذا تفكر في يوم تتركني”، تسللت دمعة من عيني، وتنهَّدت بقوة، وأنا أهمس لنفسي: “رشا كوني قويَّة، ولا تأخذي الناس وكلامهم على محمل الجد دائمًا”. نهضت نحو طاولة الاستقبال، وطلبت أن تكون قهوتي “تيك أوي”، خرجت وهواء مايو يملأ رئتي، اتجهت للحديقة القريبة، كانت ثمَّة مقاعد حجرية جميلة، لم أجلس على أحدها، بل جلست على الزرع الناعم، وجلست أمسِّده بيدي، كما لو كنت أمسد شعر مدينتي الجميلة لوس أنجلوس، بالقرب مني جرت حشرة راكضة، فرفعتها فوق كفِّي وجلست أسلِّيها، مرَّت بجواري امرأة سبعينية يقودها كلب صغير، ونظرت نحوي وهي تبتسم، يا ربي، أليس من حقي أن أحيا ما تبقى من حياتي هنا، أليست سبعينية مبتسمة في وجهي أكثر جدوى من عجوز تلحق بي في السوق كي تجرَّ طرحتي وهي تصيح بي: “غطِّي شعرك”؟.
مررت على معظم الحدائق في المدينة، جريفيث بارك، واتلس بارك، هارولد بارك، وجلست على الأرجوحة ذاتها، التي دفعني فيها نحو السماء، وقد تصالحنا بعد حكاية شمسه، تذكرتُ حين أخبرني بمحادثته مع أمه، وزواجنا، وأحلامنا الكاذبة. تأرجحت دمعةٌ مالحة، نشجتُ لوهلة، ثم تنحنحتُ بصلابة، وصرتُ أتزحلق مرارًا، أصعد وأهبط مثل طفلة مجنونة. جلست إلى الطاولات الخشبية العتيقة، تناولت الوجبات فيها، كنت هائمة على وجهي، أتأمل السياح، وأطارد الطيور والفراشات، كنت أليس في بلاد العجائب، وأدرك أنني بحاجة إلى أن أشحن بصري جيدًا، قبل بلادي الشاحبة، حيث الحدائق النادرة الشهباء، التي يجتمع فيها الباكستانيون والبنغال.
في المطار ودَّعني هشام، احتضنني، وعانقته بقوة، كنت أريد أن أتسلل داخل ملابسه، ولا أغادر. عانقت جارتي وصديقتي جولي وصافحت زوجها جيمس، واحتضنت بناتها الجميلات الثلاث، كانت الصغيرة إيفا تبكي بحرارة، ولم تقبل أن تفك ذراعيها الصغيرتين عن عنقي، كأنها تعرف أنني أغادر للمرة الأخيرة، كنت أمشي وأنا ألتفت للخلف وألوِّح بيدي، خلافًا لمغادرتي بلادي أول مرة، حين لم ألتفت نحو أبي، لئلا يغيِّر رأيه في سفري.
حينما تحرَّكت الطائرة نسيت أن أربط حزام المقعد، نبهتني المضيفة وهي تمرُّ بجواري، أحسست أنني أريد أن أهرب في اللحظة الأخيرة، وأقول لهم: كنت أمزح، لن أغادر هذه الأرض الجميلة. نظرت من النافذة حيث الأرض التي فتحت ذراعيها لي، لم تشك في سلوكي، لم تحاصرني، لم تفرض وصايتها عليَّ، لم يُرسل ناسُها أعينهم كي تقيسني من رأسي حتى أخمص قدميَّ، لم يسألوني عن ولي أمري، ولا محرمي، كنت إنسانًا كاملاً، وها أنا ذا أعود تاركة اكتمالي، أعود إلى نقصي، نقص عقل ودين، أعود جاهلة رغم شهادتي، وأحتاج من يصادق على تصرفاتي بدمغة وبصمة وتوقيع، أي عالم غير عادل هذا؟
بعد أن قفزنا فوق الغيم، ولم أعد أرى مدينتي الجميلة، بدأت أفكِّر لو كنت شابًا، لأمكنني الهجرة ببساطة، وربما الزواج من أمريكية كسعود، لن ينتقدني أحد، فأنا أحمل عيبي في جيبي، كما يقولون، لكنني للأسف امرأة، لو فعلتها ورفضت العودة، فسأصبح حديث الإعلام والصحافة في بلدي، وقد تتم إعادتي مخفورة وبالقوة، لأنه ستنسج حولي قصص كاذبة، ويوصف سلوكي بالعاهرة، و… و… إلخ.
أرجعتُ مسند الكرسي للخلف، وطلبتُ من المضيفة لحافًا، تغطَّيت، بعدما غرست سماعتي الأذنين، وتصفحت أسماء الأغاني العربية في جوالي، ثم تصفحت الأغاني الأجنبية، حتى توقفت عند أغنية we belong together، همزت التشغيل، وبدأت الكلمات تعيد لي المشاهد كلها، حينما كنَّا معًا، كأنما الكلمات على لساني، كأنما ماريا أنا، وأنا ماريا كاري:
أجلس هنا وحيدة
لأنني لم أعرفك
لأنني لم أعرف نفسي
ولكنني اعتقدت أنني عرفت كل شيء
لم أشعر أبدًا
بالشعور الذي أشعر به الآن
الآن أنا لا أستطيع سماع صوتك
أو أن ألمسك، وأقبِّل شفتيك
سحبتُ طرف اللحاف الصوفي الخفيف، وغطيت به وجهي، كي أواري الدمع في عيني. الحزنُ مرٌ، والبكاءُ مالح، والغيم تحتي لم يعد ندفًا، بل أصبح معدنًا. لم تعد الموسيقى تغسل الروح، بل تخز القلب.
لا أعرف كم بقيت أعيد الأغنية، عشر، عشرين مرة، لكنني دخلت في ظلمة أو إغفاءة قصيرة، رأيتني أركض بشعري المنكوش في حقل مليء بالضفادع، كانت تنطُّ حولي، وأنا أتحاشاها في قفزات متلاحقة، كأنني فتي الأدغال ماوكلي. تنبهتُ فجأةً مذعورة ومتقزِّزة، ثم تأملت الركاب من حولي، وعدت أختبئ من جديد.

غريق يتسلّى في أرجوحة – مقتطفات

(1)

لقد تعبت…
كان عليَّ أن أطرد أمي من البيت، أو أن أهرب بجلدي، وهذا ما فعلته في ذلك المساء البعيد.
قررت بعد شهرين أو أكثر من محاصرتها لي، وزعيقها أنصاف الليالي: “فيصصصل الله يفصل رقيبتك” أن أهرب ليلاً، في الظلام الحالك، فاخترت إحدى الليالي الأولى من شهر رجب، كان القمر فيها هلالاً، بل خيطاً ناحلاً، كشعرة في أحد حاجبي أمي الطويلين. كانت ليلة شديدة السواد، حينما سحبتُ حقيبتي السوداء، وواربت باب السور الخارجي، حتى لا أحدث صوتاً، وقد مضيت كما لو كنت سأعود بعد قليل.
كنت قبل ساعات من منتصف تلك الليلة، قد مررت بمكتب عقاري، بشارع العليا، وسألته عن أي شقة صغيرة للإيجار، نظيفة ورخيصة، فصحبني السمسار المصري إلى شقة في عمارة على شارع العليا، أمام مجمع الموسى، دخلتها على عجل، وقلت له أثناء نزولنا في المصعد: اتفقنا، المهم أنها نظيفة، وصغيرة!
دفعت له قيمة الإيجار لستة أشهر، وتسلَّمت منه مفتاحها، دون أن أعرف أيَّ سرٍّ يخبئه ذلك المفتاح الحديدي اللعين!

(2)

ولدتُ في يوم غبار ترابي عاصف، كان الوقت في نيسان من عام ١٩٧٣م، وحين كبرت عرفت أن ولادتي كانت في شهر إبريل، شهر الأكاذيب، فداهمتني خلال فترات لاحقة من حياتي أحاسيس غريبة ومزعجة، كأن أشعر أنني كذبة، وأنني لم أولد أصلاً، ولم أعش بتاتاً، وأن خبراتي تلك لشخص آخر غيري، ولم يكن آخرها يقيني بأن الموتى هم الذين يجوبون الشوارع، بينما الأحياء هم أهل المقابر النائمين بسلام تحت أسرتهم.
منهوبٌ أنا في هذا البلد – هكذا أفكّر – كل ما حولي ينهب بعضي، حتى لم يتبقَ مني شيءٌ، زوجتي التي رشّت بعض سعادة وهمية قصيرة ثم مضت، أبي الذي رحل بحلم الثروة، فلم يصبح تاجراً، واكتفى بوظيفته بوزارة المالية، فخرج من هذه الدنيا بمنزل مسلَّح في الملزّ، قرب شارع صيته، بناه في السبعينيات الميلادية، حيث ولدت هناك، حلم أن يصبح ثريَّاً، حين اشترك مع زميل عمل في تجارة استيراد الأحذية، دخل معه بعشرين ألفاً، لكنه بعد أشهر، ومع إلحاح أمي، استعاد رأس ماله من شريكه، كي نسافر بها إلى مصر، فأشرك هذا الزميل شقيقه، الذي دفع لأبي نقوده ليبعثرها على النيل، ولم تمضِ سنوات حتى توالت سلاسل متاجر الأحذية الشهيرة في الرياض، فتقاعد زميله مبكراً، بينما مضى أبي يفتتح صباحه البارد بوضع الميزانيات العمومية للدوائر الحكومية كل عام، بمبالغ مليونية، لم يخرج منها إلا بمرتب التقاعد، وعمارة متهالكة في شارع السبالة، تورَّطتُ بها، مع مستأجر جشع وصاحب محل أوان منزلية، له لحية مشذَّبة على طريقة “سكسوكه”، وهو يستغل طيبتي وسذاجتي، فيماطل مراراً في دفع إيجار سنوات متراكمة، حتى اختفى ذات ليل.
الحكومة التي وضعتني على رصيف البطالة ثم غادرت، والحلم الذي نهبته مني، بعدما مدّت تجاهي لسانها الأفعواني الطويل، حتى صوتي لم يعد لي، آخر مرة سمعته منذ شهور، حتى أنني أشك بأنني أخذت صوتي معي منذ عام، بصحبة جنازة أمي، ودفنته معها. كل صباح حين أغسل وجهي أمام المرآة، أمد لساني لأتأكد أنه في مكانه، وأن أحداً لم يسرقه في الظلام، كم كانت أمي تعاتبني في أوقات الصمت التي تتلبسني، وهي تقول: آمنا بالله، هو لسانك عظم!
في السيارة أتوقف في محطة البنزين، ومن خلف الزجاج الموصد أفرد أصابع يدي الخمسة تجاه العامل، مختصراً الإجابة عن تساؤله عن أي نوع من الوقود يملأ به سيارتي، فئة ٩١ أم ٩٥؟ مما يجعله يفهم فوراً، ثم يفرد يديه كمن يفتح ستارة مسرح، أو كقائد فرقة موسيقية، مستفسراً هل يملأه كاملاً؟ فأهز رأسي موافقاً. وفي محل التموينات قرب البيت، أجمع المواد والمأكولات التي أحتاج إليها داخل سلة، ثم يحسبها الباكستاني عبدالحي بالآلة الحاسبة، ويخبرني بالمبلغ المطلوب، فأمد يدي بخمسين ريالاً، ثم أتسلَّم الباقي والكيس وأمضي دون أن أتفوه بكلمة واحدة.
متى أتكلم إذن، وقد تيبست حبالي الصوتية إلى حد بعيد؟ لقد ابتسمت ذاك المساء البعيد، حينما سألني المحاسب الشاب في بنده، إن كنت أرغب في التبرع بنصف ريال متبقٍ؟ فقلت: نعم! أخيراً نطقت وقلت: نعم، ربما لم يتنبه المحاسب الشاب إلى أن هذه الـ “نعم” قد جاءت عتيقة، من عصور ضاربة في اللغة، من رجل فطري بدائي، رجل كهف أخذ عملته القديمة، بعد أن نام مئات السنين، وذهب إلى المدينة الغريبة. صحيح أن الشاب تلفَّت ذات اليمين وذات الشمال حينما سمع “نعم”، وكأنما شكَّ في مصدرها، أو ربما توهَّمتُ ذلك، لكنني متأكد أنه دارى ارتباكه، وابتسم في وجهي!
كلما فكرت أنني منهوب، مقطَّع، متشظٍّ، تذكرت صورة الشبان الثلاثة، الذين ربطوا الكلب في الصدام الخلفي لسيارتهم البيك أب، فقاد أحدهم السيارة بسرعة وتهوّر، حتى تقطعت أعضاؤه، عضوًا عضوًا، وأمطر دمه، ثم جحظت عيناه! كنت كلما استعدت هذا المشهد المأساوي، تحسَّست رأسي، وأنا أشعر بالتشظي عاماً إثر عام، كما هذا الكلب المسكين!
كانت عينا الكلب البلدي تشبهني كثيراً، وأنا لا أملك سوى بصري، أنظر فاغراً، دهشاً بما حولي، كالكلب الذي ينظر إلى مؤخرة السيارة قبل أن يلفظ أنفاسه، وهو لا يعرف لماذا يُعذَّب؟ كذلك أنا حين أحدق في مؤخرة هذه البلاد، وهي تجرُّني بسرعة جنونية، دون أن أعرف كيف أحرر عنقي من قيدها، وأتركها تسير بجنون كسيارة البيك أب، لتمضيَ وحدها من دوني، لا أعرف ماذا تريد؟ ولا ماذا أريد؟ وأنا أعجز عن كتابة فيلم قصير يعبِّر عن الخوف، الألم، الحزن، الوحدة، أو عن الموت مثلاً.
حضرت ناهد في حياتي، ثم غابت، فكانت آخر الشظايا، كانت هي عيني الكلب قبل أن تجحظا في لحظة النظرة الأخيرة، آخر كائن حي نظرت إليه كانت هي، بكل ملامحها الجميلة، وضحكها العذب، وبراءتها الفطرية، كانت نظيفة وطاهرة في زمن قذر وملوَّث، لكنها أرعبتني وقد انسحبت بهدوء، لأنني ملوَّث، وكاذب، وخائن، هكذا قالت لي، وكأنني الخائن الوحيد في هذا العالم!

(3)

أحب الكذب، أحبه كثيراً، ولا أستطيع تخيُّل العالم بدونه، حتماً سيكون سخيفاً وغبياً وكئيباً، فلكي أشعر بسعادة صغيرة أضع سيناريواً بديعاً لأكذوبة جديدة، أمرّرها على أمي، أبي، أختي نورة، أو حتى أصدقائي الواثقين، ولا أتسبب بمضايقتهم فيما بعد، بأن تكون أكذوبتي تلك غير محكمة، فيكتشفوها، وينتابهم الغضب، وأتعرض أنا للعتاب، وسحب الثقة مني. أكاذيبي المدهشة لا تكشفها ملامحي، كالحمقى من حولي، بل أدلقها باحتراف لتنساب كالماء، حتى أصدقها قبل أن يصدقها الآخرون، وهذا هو الاحتراف المتقن في الكذب، فكم تعلَّقت منذ طفولتي بممثلي السينما، إذ تأسرني قدراتهم المدهشة على التمثيل، ونسج الأكاذيب.
حاولت مراراً أن أتذكَّر متى بدأت الكذب في الطفولة؟ ما أول كذبة لففتها حول عنق أمي؟ لكنني للأسف لم أتذكَّر، سوى أكاذيبي الصغيرة، كأن أجيبها بأنني كنت نائماً، بينما أنا أتابع فيلماً جديداً، أخبرها بأنني ذهبت إلى المسجد، في حين كنت أتجوَّل في شارع الستين، أقول لها بأنني زرت قبر أبي، مع أنني مع أصدقائي في المقهى بعد صلاة الجمعة، هذه الكذبة الأخيرة كررتها ما يقارب سبعة أعوام، أنادم الأصدقاء وهي تظنني في مقبرة النسيم أبكي على قبر أبي.
لقد بكيته كثيراً بعد رحيله، واستعدت رفقته الجميلة في الليالي الأخيرة، حينما نُوّم لأشهرٍ في مستشفى الشميسي، قضاها مضطجعاً على ظهره، الذي تقشَّر وتيبَّس لكثرة النوم على قفاه، أتذكَّر قبل وفاته بيوم، لم يكن يكفُّ عن مغازلة الممرضات، كنت قد سألته جادَّاً عمَّ يتمنى؟! أردت أن أفعل شيئاً يسعده:

– تقدر تحقق لي رغبتي؟
ظننته سيطلب أكلاً معيناً، أو شيئاً مشابهاً، وحين هززت رأسي موافقاً، صدمني وقد ابتسم بسخرية:

من كثر النوم على ظهري، ودّي لو تدفنوني وأنا واقف!
ضحكتُ، وضحك بقوة، ضحكنا معاً ليلتها حتى دمعت أعيننا.
فكرت مراراً في عبارته تلك، وصمته فجأة بعد ضحك طويل، حين مسح دمع عينيه، وهو يأمرني بأن أجيبه، قل يا فيصل لو كل من عاش حياته منبطحاً دفناه واقفاً، لاحتجنا مقابر جديدة، تُحفر القبور فيها بشكل عمودي، حتى يضمن الموتى وقوفهم ولو بعد حيواتهم الكئيبة.
ظللت أتخيَّل أبي، واقفاً في قبره، كمن يتهيأ لسباق المسافات الطويلة، وهو يهمُّ بالهرب من قبره، ويعيش في الرياض باسم جديد، وهوية جديدة، أتخيله في شارع العليا يتلصَّص عليَّ وأنا أسير وحيداً.
بعد رحيله، لم أكن مقتنعاً بأن أزوره في مقبرة النسيم، كنتُ جازماً بأنه يسير بيننا، يتنفس الهواء ذاته، ويلاحقني في شارع الثلاثين، حتى أمي كانت تشاركني الحالة ذاتها، لكنها حينما أدخل غرفتها، وهي تنصت إلى سورة الكهف، تعانقني وتمسك رأسي بيديها بطريقة طفولية، وتسألني: “شفت أبوك؟” حتى بتُّ أخجل من كذبي عليها، واضطررت إلى زيارته أسبوعياً، بعد كل صلاة جمعة، إلى أن توقفت تماماً بعد تلك الحادثة الأليمة التي أثارت رعبي وهلعي.
في قيظ 1998م، كنت خارجاً من صلاة الجمعة، متجهاً شرقاً نحو مقبرة النسيم، لم يكن هناك داخل المقبرة سوى سيارة أو اثنتين، فقد كان معظم أهل الرياض مسافرين خلال الصيف، كانت الحرارة عالية جداً، وكالعادة، لكي أتعرف على قبر أبي، أعدُّ القبور، من جهة الجدار الشمالي، حتى أصل إلى القبر العشرين، ثم أعد من جهة الجدار الشرقي للمقبرة، حتى أبلغ القبر الثامن، فأجلس القرفصاء عند ناصبة القبر، أقرأ بصمت، وأدعو، وأبكي، وأتذكَّر، حتى يصفو رأسي من الهمّ. لكنني ذلك اليوم، الذي لم يكن فيه جنائز تُدفن، كنت أرى السيارتين واقفتين، لا أحد فيهما، ولا حتى في المقبرة، ظننت أن أصحابهما داخل غرفة حارس المقبرة، وما أن جلست كعادتي أدعو لأبي، حتى لاحظت شيئاً أسود يتحرك في أحد القبور المفتوحة الجاهزة لاستقبال جنازة جديدة، في البدء قلت لنفسي هي وسوسة الشيطان، أو الشمس الحارقة فوق رأسي، أو تهيأ لي ذلك، ولكنني سمعت نهنهة بكاء خافت، ثم لاحظت السواد يتحرك، يعلو ثم يخبو، صرت أبسمل، وأتلفت للخلف، دون أن أرى أثراً لأحد، وما هي إلا برهة، حتى فاض رأس أشعث، وتبعه آخر، وثالث، من القبور المفتوحة، لا أتذكّر بعد ذلك شيئاً، سوى ركضي وصراخي، كنت أركض بجنون، وقد تعثرتُ بطوب مرمي على حواف القبور المفتوحة، فسقط نعلي وأنا أركض، وكذلك غترتي، بينما هم يصرخون خلفي، لم أفهم ما يقولون آنذاك، بل حتى أصواتهم شعرت أنها عارية، آتية من أقفاص تصفر فيها الريح، خرج الحارس من الغرفة راكضاً، يتبعه رجلان، وما أن اقتربت منه، حتى ارتميت بين يديه، كنت أرتجف، بينما استقبلني أحد الرجلين، وهو يبسمل، وينفث عليَّ، ويمسح رأسي حتى هدأت.
حملوني إلى غرفة الحارس، غسلوا وجهي، وأسقوني، ثم فوجئت بأحد الموتى الذين هربت منهم، يدخل علينا ضاحكاً، وهو يحمل نعلي وغترتي، بينما نهره الرجل الذي نفث عليَّ، وهو يقول له، هذا أمر لا يُضحك، ليتك تعرف مهابة الموت من هذا الموقف!
كان هؤلاء الثلاثة طلاباً مستجدين في جماعة التوعية الإسلامية، جاء بهم المشرف لمعايشة الموت والوحدة، والبقاء داخل قبر مفتوح، كي يتأملوا الوحشة، ويستعيدوا أخطاءهم في الحياة الدنيا، ويعيشوا لحظة انتظار أسئلة الملكين، وعذاب القبر، كي يزداد إيمانهم. اقترح عليَّ المشرف أن ألتحق بهم في تجربة الموت، بعدما دعا لأبي أن يغفر الله له، ويرزقه صلاحي بالدعوة إليه. تسلَّمت نعلي، ووضعت غترتي فوق رأسي، وأدرت محرك سيارتي الصغيرة، ولم أدخل المقبرة بعد ذلك قط.
نسيت هذا الأمر تماماً، واستعدته في حياتي مرتين فقط، مرة عند رحيل أمي، واضطراري إلى دخول المقبرة، بمساعدة أبناء خالي، وقد حضروا كي يشاركوا في عزاء عمتهم، والمرة الثانية عندما تعبت من طيف أمي في بيتنا القديم، وهي تحوم ليلاً تلتقط كرات الخياطة في المنزل، وأكياس النايلون الفارغة، أو تصوِّت لي: فيصصل، فأهبُّ من نومي، وأنا ألهث فزعاً، باحثاً عن مصدر الصوت، فاقترح عليَّ صديقي الطبيب النفسي أن أغيّر المكان، كنت أظنه يقصد السفر، أو الهجرة، لكنه صحَّح لي ذلك، بأن أغيّر المنزل فحسب، فاستأجرت تلك الشقة في شارع العليا، ولم أكتشف أنها تطل على مقبرة، إلا في اليوم التالي. طبعاً لم أتوقع أن تطل على نهر، أو بحر، في مدينة صحراوية كالرياض، لكن على الأقل أن تطل على شارع، أو أرض شهباء فارغة، أو حتى مليئة بالنفايات.

(4)

أتنحنح أحياناً، وأنطق بكلمة ما، لأتأكد أنني ما نسيت الكلام.
صمت شقتي الصغيرة المطلَّة بشكل مائل على شارع العليا، يجعلني أتدرَّب على الكلام مع نفسي، أتسلَّى بذلك كثيراً، أضحك وأنا أفتح الثلاجة، فيضيء النور داخلها، وأخاطب الأشياء بطريقة الندِّ إلى الندِّ: تعال هنا يا ولد! فأجذب علبة جبنة مرسوم عليها ولد، وألتقط حلاوة الطحينية، وأغمز لضحكة (جوليا روبرتس) المعلقة على باب (الفريزر) العلوي، فتسيل بلؤم، على عكس (كيت ونسلت) التي تشيح بوجهها عنّي، كلما اقتربت منها عند زرّ ضوء المطبخ، لصق الباب.
أشعل الموقد بينما أدندن بأغنية خالد الشيخ (ضيَّعوك)، فتخنقني العبرة، حتى تطفر دمعة مخاتلة من عيني، وأنا أتذكَّر أختيَّ المتزوجتين، وأمي التي رحلت منذ عام، وحسرتها على طلاق زوجتي، دون أن تستمتع بحفيد من صلبي، كم كافحت طويلاً لأغتال هذا الحنين، منذ أن انتقلت من دور علوي قرب شارع الثلاثين العليا، إلى هذه الشقة الموحشة.
منذ أن أقمت في هذه الشقة قبل شهرين لم أسمع جرس بابها، حتى أنني في منتصف ليلة ما، خرجت وضغطت زر الجرس لأتأكد أنه يعمل فعلاً، كان صوته يشبه شقشقة عصافير، لكنني سمعتها بشكل آخر، ربما نعيق غربان، أو غرغرة غريق قبيل موته، أو شيء من هذا القبيل. لا أعرف لماذا ازدادت حساسيتي تجاه الأصوات إلى هذا الحد؟ كأن أخلع بطارية ساعة الحائط كي أوقف التكتكة المملة!
أذكر أنني دخلتها لأول مرة بصحبة السمسار المصري في مكتب العقار، كان الوقت ليلاً، فأضاء لي المصابيح وهو يثرثر بأنها شقة “سوبر ديلوكس” وموقعها متميز، وأذكر أنني شاغبته ليلتها: ليه، بتطل ع النيل مثلاً؟ من عيوبي أنني استمتع بالكلام الطويل الممل كلما قابلت أحداً، وكأنني أنتقم من صمتي الطويل. وحين فتحنا الزجاج المفضي إلى الشرفة انصرف بصري إلى أضواء النيون في عمارة فندق نوفوتيل المقابل، ثم عدت دون أن أتفحص المكان المجاور في الأسفل.
في الصباح الأول صحوت متثاقلاً، وفتحت الستارة الزرقاء، ثم سحبت الزجاج، وخرجت إلى شرفتي في الطابق الثاني من العمارة، أطللت نحو الشارع في الأسفل، حيث سيارة الشركة الوطنية للتوزيع تقف محمَّلة بصحف اليوم، ثم رفعت بصري نحو الحوش المجاور، تفحَّصته، كان ثمة قبور قليلة متفرقة، ودهشت كثيراً، هل هي حقاً قبور؟ هل هو حوش مؤجر مقبرة؟ وهل الموتى مثلنا، يستأجرون قبورهم أيضاً؟ هل صاحب الحوش قرر أن يقبر فيه أهله وذويه؟ هل هي مقبرة حقاً؟ ولكن كيف يمكن لمقبرة صغيرة جداً أن تكون هنا في شارع العليا، الشارع الذي تنتشر على جانبيه محلات الأزياء والموضة؟ يا للغرابة فعلاً!
كنت مصدوماً، ولم أتوقع يوماً أن أعيش بجوار مقبرة، ليس سهلاً أن أفتح النافذة، أو أطلّ من البلكونة على موتى، كيف لم أتنبَّه لذلك. خرجتُ إلى الشارع ومررت بحذاء الحوش المجاور، وقرأت لافتة بنّية (مقبرة العليا)؛ الغريب أنني أسكن في هذه المنطقة منذ سنوات، وأمرُّ من هذا الشارع مراراً، دون أن ألمح هذه اللوحة البنّية، ولم أعرف أن ثمة مقبرة صغيرة كهذه تغفو هنا، فالمقابر التي نعرفها جميعاً هي مقبرة العود، ومقبرة أم الحمام، ومقبرة النسيم، ومقبرة منفوحة، ومساحاتها الضخمة، وأسوارها الطويلة العالية، المكتوب عليها دعاء المرور بها، على خلاف هذه المقبرة السرّية، ذات السور القصير، ومن غير دعاء للموتى، لماذا إذن تنبت هذه المقبرة بخجل، في شارع تجاري، ووسط منطقة تجارية مكتظة بالسكان، ثم ما هذه المقبرة التي لا تتسع لأكثر من عشرين جنازة؟ ومن هؤلاء المدفونون؟

رحلة الفتى النجدي – مقتطفات

الفصل الأول: الحلم العجيب

الحكايات تتكرر على مرِّ الزمان، يموت أبطالها، ويذهبون في النسيان، لكن الحكاية تبقى حيَّة لا تموت، ترويها الجدات اللطيفات لأطفالهن قبيل النوم، وقد تتنقَّل في بيوت الشعر في الصحراء خلال ليالي الخريف الباردة، أو في مجالس الرجال في البيوت الطينية، ثم يأتي من يدوِّن الحكاية على ورق أبيض، أو أصفر كامد، أو حتى على رقٍّ جلديٍّ قديم، فتطوف بين الأيدي والقلوب، كما انتقل رقّ الملحمة الهندية العتيقة من عجوز النهر إلى بطل روايتنا هذه، ليعبر البحار والصحارى الموحشة، من يدري، فقد تتنقل حكايتنا هذه مثل هذا الرقّ المسحور من بلد إلى آخر، ومن بيت ثري إلى آخر، ومن متحف إلى آخر، ومن يدري، فقد تُحفظ هذه الحكاية الغريبة التي سأرويها لكم الآن، ذات يوم، في متحف ضخم، يرتاده البشر من كل أنحاء العالم، ومن يدري أيضاً، فقد تتنقل هذه الحكاية، من لغة إلى لغة أخرى، ولا تعود مجرد حكاية نجدية يهبُّ فيها الهواء النجدي المعتدل، فتتأرجح وهي تطير مع حبيبات الرمل الذهبية، لتموت قبل أن تبلغ ساحل البحر!.
هذه الحكاية ستعبر البحر والمحيط، كما عبر بطلها الفتى الصغير متاهات الصحارى، وأهوال البحار، بحثاً عمَّن يفسر له حلمه العجيب.
هذه الحكاية تخصُّ قرية صغيرة في نجد، قرية وادعة وهادئة تدعى (خبّ المنسي)، تحيط بها الرمال، حتى أصبحت مجرد نقرة صغيرة في قلب الرمال المحيطة، لم يكن يمرُّ بها طريق الحجاج، فلا تكسب شيئاً مما تكسبه القرى الأخرى من قوافل الحجاج العابرين، لكنها كانت تشتهر بالرطب القليل في نخلها العالي، ومائها العذب، وأهلها الطيبين، وفتيانها الشجعان النبلاء، ثم أصبحت، فيما بعد، تشتهر أيضاً بحكاية الفتى صالح الخرَّاز الذي لحق بحلمه، ذلك الفتى الذي فشل في أن يساعد أباه في صنع الأحذية الجلدية المزركشة بالألوان، فاكتفى والده بأن جعله يلوّن الأحذية بالأصباغ الجميلة، والتي برع فيها. كان صالح مزوحاً، يحبه جميع فتيان القرية، وقد كان يمازحهم بطريقته المحببة اللاذعة: لولا جلود أبي، ومطرقته، لكان أكثركم حفاة، يا حفاة! ثم يضحك بصخب، فيضحك الفتية الآخرون.
في الليالي المقمرة، يلعب مع أصدقائه لعبتهم المحببة، حيث يطوّح أحدهم عظماً بعيداً في الخلاء، بينما يغمض بقية الفتيان، ثم يبحثون عنه تحت ضوء القمر، وما أن يعثر عليه أحدهم حتى يلتقطه ويهرب به إلى نقطة الأمان صائحاً: عظيم لاح. بينما يلحق به الآخرون محاولين الإمساك به قبل أن يصل.
هؤلاء الفتيان، كانوا يتذكرون حكاية صالح الحزينة مع مهنة أبيه، وكرهه لها، فكما كانت عادة الصنَّاع في نجد قديماً، حرص الخرَّاز أبو صالح على تدريب ابنه الأكبر على إتقان هذه المهنة حينما بلغ الثالثة عشرة، فأخذ يصطحبه معه إلى دكانه في السوق، ويدربه على استخدام المخرز، وهو الإبرة الطويلة، التي يصنع بها الأحذية، كيف يمسك به جيداً، ويحدد النقاط المتتالية على الجلد، التي سيخترقها هذا المخرز، كي يخيط طبقات النعل، ثم كيف يصنع الشسع العلوي للحذاء. أحياناً يبين له كيف يصنع قربة الماء الجلدية، كيف يحدد حجمها، ثم يطوي الجلد، ويحدد غُرز المثقب فيه. كان صالح يغمض عينيه كلما وخز الجلد، حتى بلغ به الأمر أن أصبح يبكي كلما فعل ذلك، وحين يسأله أبوه، يجيب بأنه يحس بقشعريرة تصيب حنكيه وأسنانه، ورغم أن الأب يلمح رأسه يرتعد بغتة كلما غرز المخرز في الجلد، إلاَّ أنه كان مقتنعاً أنه سيتعلم مع مرور الوقت، في حين كان الأمر يزداد سوءاً، فأصبح صالح يتحاشى الاقتراب من السوق لئلا يلمحه أبوه، ويحاول أن يتسلل باكراً لينام قبل أن يلمحه، فيعاتبه، ولم يزد ذلك أباه إلا إصراراً على أن يرث المهنة منه.
بعد أيام من محاولات الأب أن يقوِّي قلب ابنه، وذات مغيب، بينما كان صالح يعمل وحده في الدكان، تجمَّد فجأة، ونفض الأصباغ من يده، وفرَّ هارباً يركض في الدروب الترابية، يصيح دون أن يفهمه أحد، وبعد أن قبضوا عليه، وأعادوه إلى بيت أهله، وهدأ قليلاً، أخبر أباه بأنه سمع ثغاءً داخل الدكان، ابتسم الأب وهو يمسح على رأسه، مؤكداً له أنها خيالات يراها ويسمعها، لكن صالح أقسم له مراراً بأنه سمعها بأذنه. ورغم أن الأب لم يعد يصطحبه لأيام، إلا أن صالحاً لم يتوقف عن التفكير بالثغاء الذي سمعه، فغامر ذات ليلة، بأن ذهب في جنح الظلام، كي يفتح الدكان، ويخلي سبيل الأغنام المحبوسة داخله، فقد كان يهذي بأنه سمع ثغاءها العالي: مااااا… ماااااا.
في اليوم التالي، اكتشف الأب أنه ترك باب الدكان مفتوحاً طوال الليل، فاضطر إلى أخذه إلى مطوع القرية، كي يقرأ عليه لأيام عديدة، وينفث في صدره مراراً، حتى هدأ، ونسي هذا الأمر تماماً، لكنه تجاسر ذات يوم، وقد شعر بحزن لأنه لم يعد نافعاً لأبيه، فقال له: سأساعدك يا أبي في الدكان. وبدأ يساعده في مرحلة الصباغة، حيث بدأ يتقن وضع الألوان على الجزء العلوي من الأحذية القصيمية.
كان يذهب فجراً إلى دكان الخرازة، قبل أن يذهب إلى الكتاتيب كي يتعلم القراءة والكتابة، وحينما ترتفع الشمس، وتدخل في قلب الدكان من جهة بابه الشرقي، يصل أبوه، فيذهب هو إلى مدرسته كي يتعلم القرآن والكتابة. كان يقول لأبيه، إن ذهابه إلى الدكان فجراً، يسعفه في كسب الوقت قبل الدراسة، لكنه لم يقل بأنه لا يريد أن يرى أباه، وهو يخز الجلود بمثقابه القوي، كي لا تعود إليه حالة الهلع والخوف مرة أخرى.
اكتسب الفتى صالح من أبيه محبة الناس والترحيب بهم، وإكرامهم، ومساعدتهم، خاصة الفقراء والمحتاجين، فكان مستعداً لأن يمنح فقيراً حافياً حذاءً جديداً دون مقابل، حتى أن بعض صحبته من الفتيان كانوا يهرعون معه لمساعدة الآخرين، فكانوا يساعدون الفلاحين صيفاً في جدِّ التمر من أعالي النخل، ويتحولون إلى معاونين للبنائين، وهم يخلطون الطين والعشب، عند بناء بيت جديد لأحد الأهالي، ويسافرون بمحاصيل الفلاحين من الخضار والتمر، لبيعها في قبَّة رشيد، في بريدة، حتى عندما يهجم الوباء على قريتهم الصغيرة، ويضرب الأطفال، كانوا يتحولون إلى مسعفين جاهزين.
لكن هناك ما يفوق قدرات هؤلاء الفتيان، خاصة وقت الشتاء، حينما ترعد السماء، وتنفجر بسيل هادر، وتسيل الأودية، وتداهم البيوت الطينية الضعيفة، فيسقط سقف هنا على امرأة وأطفالها، وينهار جدار هناك، رغم أنهم يركضون في الأنحاء، يرفعون بأيديهم الطين، وجذوع الأثل الساقط، وينبشون جريد النخل المغمور بالطين والسيل، بحثاً عن طفل، أو طفلة مفقودة.
كانت الحياة رتيبة، كذلك حياة صالح الخرَّاز، كانت هادئة، يقضيها في الدراسة، والعمل، واللهو مع الرفاق، حتى حدث له أمرٌ غيَّر حياته إلى الأبد، فذات ليلة صيف، وبينما كان نائماً في سطح بيتهم الطيني، والهواء النجدي اللطيف يهبُّ على وجهه النائم، رأى نفسه يطير في السماء، يطير من غير جناحين، يطير بثوبه الواسع الفضفاض، ويرى تحته الأشجار والبيوت، ويذهل لمنظر القرى، والصحراء، والبحر، والمدن الغريبة، ثم يحطُّ فجأة في بيت مهجور، ويتحول إلى جزَّار، يقف أمام ذبيحة معلَّقة في الهواء، يشق بطنها بسكين حادة، ثم يسحب بيديه أمعاءها، ويلفّها حول ذراعه، حتى انبجست أمامه المعدة المملوءة، وانفرط روثها. وبعد أن استيقظ من نومه، استعاذ بالله من الشيطان، ثم نزل متحسساً الجدار الطيني في عتمة الدرج المتآكل، وهو يسمِّي ويستعيذ، وحلَّ رباط فم القربة الجلدية المعلقة في باحة البيت، سكب ماءً في وعاء فخاري صغير، وشرب حتى ارتوى، وفكر كيف له أن يشق بطن بهيمة بسكين حادة، ويجذب أمعاءها أيضا، وهو الذي يصاب بالهلع حينما يمسك مثقب الخرازة؟.
في الصباح التالي، بعدما خرج من الدكان، ذاهباً إلى درس الكتاتيب في المسجد الطيني الصغير، روى حلمه المفزع لصديقه ناصر الدبَّاغ، وقال بأنه كاد أن يتقيأ حينما هبَّ من النوم مذعوراً، فما كان من ناصر، الذي يعرف صديقه جيداً، إلا أنه قال له: خيراً إن شاء الله. فسأله صالح: هل تعرف تفسيراً لذلك؟. أجابه: لا، لكن أعتقد أنك حلمت بسبب تفكيرك وخوفك من العمل في دكان أبيك؟. صمت صالح لوهلة، ثم تنهَّد: تعرف يا ناصر، أتمنى أن أبي لم يكن خرَّازاً، ليته كان مثل أبيك، دبَّاغاً، على الأقل تقتصر الدباغة على شراء جلود الأضاحي ووضعها في حفرة ماء وملح، ثم تجفيفها ودباغتها، أقصد ليس فيها تعذيباً. ضحك ناصر بقوة وهو يسخر منه: أنت فقط توسوس يا صالح، وهذي الوسوسة انتقلت من تفكيرك في الواقع إلى أحلامك الليلية.
رغم ذلك، لم يركّز صالح مع المعلم في الدرس، بل كان يفكر في لحظة طيرانه فوق، حتى وهو في طريق العودة، حاملاً حقيبته معه، كان يرفع رأسه نحو أسراب الطيور، ويقول كم هي محظوظة وهي ترى البيوت والأشجار والأطفال من الأعلى.
في الليلة التالية، تمدَّد على فراشه القطني، وجعل يتأمل النجوم المضيئة في سماء نجدية صافية، يحدّق في بنات نعش، يعدُّ النجمات السبع، وهن متحلقات، بينما أكبرهن تهمس لهن بحكاية سرّية لا يسمعها أحد، قال وهو يشير إليهن، كم سأكون محظوظاً لو أنني بجواركن، لأنصت معكن إلى الحكاية. تذكَّر طيرانه في حلم ليلة البارحة، فانقلب على جنبه الأيمن، وهو يشغل ذهنه بتذكّر لحظات اللعب مع الفتيان، ثم قرأ المعوذتين في سرّه، نام مرهقاً، فداهمه الحلم ذاته مرة ثانية، ورأى نفسه يطير ويطير، ويحطُّ أمام الذبيحة ذاتها، فازداد قلقه في الصباح، وبات يقضي نهاره يفكر في الحلم، حتى قرر أن يخبر أباه، فما كان من الأب إلا أن طمأنه بأنه مجرد حلم لفتى يخشى من استخدام المثقاب في عمله، لكن الفتى لم يقتنع بذلك التفسير، فسأل مطوع القرية، واستوقف الحكماء العابرين، دون أن يجد تفسيراً لحلمه.
لم يكن هناك من اهتم بحلمه ذلك، سوى صديقه ناصر، الذي اقترح عليه أن يقرأ ما يتوافر في خزانة أبيه من كتب، فأعجبه ذلك، وكفَّ عن سؤال الناس والعابرين، لينكبَّ على الكتب والأسفار القديمة، لعله يجد فيها إشارة أو دليلاً، قال لنفسه بعد ثلاث ليال: لقد صدق ناصر، سأجد في الكتب تفسير حلمي. فتح خزانة أبيه العتيقة، نبش فيها، فوجد مصحف أبيه، ومسبحته، وخاتم جدته الذهبي، وصك منزلهم الطيني الذي بناه جدّه، لم يجد شيئاً يقوده إلى تفسير الحلم، عثر على بضعة كتب قديمة، بأوراق بالية، نظر في كتاب عنوانه (تفسير الأحلام) لأبي بكر محمد بن سيرين، تصفحه قليلاً، ثم التقط كتاباً آخر، ونظر في غلافه، ماذا تعني (ألف ليلة وليلة)، كتاب عتيق جداً، تعود طباعته إلى سنة 1828م، ماذا سأجد في هذا الكتاب العتيق؟ ماذا ستفعل بي ألف ليلة، وقد أربكت حياتي ثلاث ليال فقط؟ هل سأجد أحلاماً؟ هل يمكن أن أقرأ ألف حلم وحلم في ألف ليلة وليلة، كي أجد ما يشبه حلمي العجيب؟ أم أنها مجرد قصص مسلية؟. كان الفتي يسأل نفسه مأخوذاً بعنوان الكتاب. ثم وجد نفسه ينساب مع الليالي بمتعة نادرة، حتى أنه شكر حلمه العجيب، الذي قاده إلى هذا الكتاب المسلِّي.

الفصل الثاني: الرجل ذو البشت الرمادي

في فجر الليلة الرابعة، وقبيل شروق الشمس، وبينما كان الفتى يجهز الأصباغ الملوّنة، أحس بشخص يقف خلفه، فالتفت ببطء، وإذا بمسافر غريب يلبس بشتاً صوفياً رمادياً، له لحية طويلة مصبوغة بالحناء، ويلبس حذاءً يلمع بلون الفضة، فقال له: صباح الخير! أوجس الفتى خوفاً، لكنه ردَّ تحيته، ثم ازدرد ريقه وهو يطلب منه الجلوس، كي يحضر له قهوة الصباح، فالفتى تعوّد أن يكرم ضيفه، غنياً، أو فقيراً، أو عابر سبيل.
وبينما كان الفتى يعد القهوة في زاوية الدكان، أراد أن يكسر صمت الفجر الرتيب، فسأله: لا أرى معك حذاءً معطوباً يا عمّ كي أصلحه، أم أنك تريد حذاءً جديداً؟
أجاب الغريب ذو البشت الصوفي الرمادي باختصار: لا، شكراً، لا حاجة.
ابتسم الفتى رغم وجله: لا تخجل يا عم، إن كنت لا تملك مالاً، فسأهبك حذاءً مستعملاً يساعدك على الطريق.
وبينما مدَّ الفتى له فنجان القهوة، هزَّ الغريب ذو البشت رأسه: شكراً، أنا لا أستطيع أن أشرب شيئاً.
كاد الفتى أن يسأله: لِمَ؟ لكنه كبح نفسه، وقال في تردد وقلق: هل تأمرني بشيء يا عم؟.
رفع الغريب رأسه إلى السماء، وتنهد بقوة، وقال وهو ينظر في أنحاء الدكان: أحتاج قماشاً فقط!.
شعر الفتى أن هذا الكائن الغريب ليس إنساناً، كأنه طائر أو ملاك أو ربما جني مثلاً، لكنه ليس إنساناً عادياً يأكل ويشرب، وبعد أن ابتلع ريقه أجاب: كما ترى يا عم، هذا محل أبي، وهو ليس قمَّاشاً، ولا يتاجر ببيع الأقمشة، لكنه صانع أحذية، فهل يناسبك أن تحصل على جلد مدبوغ بدلاً من القماش.
ثم استدرك وقد تذكّر قطعة قماش جديد، له ولأخيه، كانت أمه قد احتفظت بها، لتخيطها ثوبين لهما في يوم العيد: هل تستطيع أن تنتظر دقائق، كي أحضر لك قماشاً من المنزل؟.
هزَّ الرجل الغريب رأسه موافقاً.
هرول الفتى بعدما أوصى الغريب بالدكان، وحينما بلغ باب البيت، دخل بخطى حذرة، ثم فتح خزانة الملابس، وخطف القماش الأبيض، ثم هرول عائداً إلى الدكان. حينما أقبل لم يجد الرجل الغريب في وقفته التي تركه عليها، وبحث عنه داخل الدكان، فلم يجده أيضاً، واستعاذ من الشيطان، وبينما هو يجهّز الأصباغ، فوجئ بصوت الرجل: هل عدت يا بني؟. ارتعش الفتى وهو يناوله: هذا قماش ثوب العيد، لي ولأخي، خذه فأنت بحاجته الآن، ونحن سنتدبر أمرنا حينما يقترب العيد. شكره الرجل، ثم خلع فردة من حذائه الفضي اللامع، وناوله الفتى وهو يقول: هذه هدية لك، قد تشتري بثمنها ثوب عيد لك، ولأخيك.
استوقفه الفتى، وهو يمسك بالحذاء الفضي اللامع: قل لي يا عم، هل لديك معرفة في تفسير الأحلام؟
أجابه: ربما، قل ماذا رأيت؟.
قصَّ عليه الفتى حكاية الطيران فوق القرى والمدن، والذبيحة، والروث. فهزَّ الرجل الغريب رأسه وهو يقول: خيراً إن شاء الله. الطيران علو في المكانة يا ولدي، و… و… سترى خيراً كثيراً، فقط عليك أن تسافر.
سأل الفتى بقلق: أسافر إلى أين؟
أجاب الرجل الغريب وهو يهمُّ بالرحيل: سافر في أرض الله الواسعة.
تساءل الفتى: ولكن ما علاقة ذلك بحلمي؟
قال الرجل الغريب، وقد أضاءت عينه الخضراء: دعني أسألك، أنت ابن صانع الأحذية التي ينتعلها الناس والمسافرون والعابرون، لكنك لم تسافر من قبل، صحيح؟
أجاب صالح: صحيح.
قال الغريب ذو البشت الرمادي: إذن طِرْ، الطيران في حلمك هو السفر، والعلو، فلا تتوقف طويلاً كما الأشجار المغروسة في الأرض، تحرّك، وستجد تفسير حلمك هناك، في أرض الله الواسعة.
صمت صالح لوهلة، ثم هزَّ الحذاء بين يديه وتجاسر وهو يقول: إذن، فشرطي لقبول هديتك، هو أن تقبل الحذاء الذي سأمنحك إياه، لا يمكن أن أتركك تكمل سفرك حافي القدمين، فالحرارة ستحرق قدميك.
وحينما دخل الفتى صالح في عمق الدكان، كي يجلب له فردة حذاء، سمعه يقول: يا ولدي، لا تهتم لأمري، فلا أحتاج إلى الأحذية.
عاد صالح إلى واجهة الدكان، فلم يجد أحداً، تلفت في الأنحاء، دون أن يعثر على أي أثر للغريب، كأنه لم يكن هنا منذ قليل، تلفت في طرفي الشارع، ولم يلمحه، كأنه مر أمام عينيه مثل شهاب خاطف، فاستعاذ بالله من الشيطان، وعاد يخلط الأصباغ، وقد لمح فردة الحذاء الفضي، فلمسها، وحملها بين يديه، وهو يقول: والله لولا هذا الحذاء الذي ألمسه بيدي الآن، لقلت إني في حلم. ثم توقف لوهلة مستعيداً عبارة الغريب الأخيرة: كأنني سمعته يقول بأنه لا يحتاج إلى الأحذية، هل قال بأنه لا يمشي؟ كيف تحرّك إذن؟ هل طار مثلاً؟.
خرج من الدكان ونظر في السماء الصافية، ولم يلمح سوى سرب حمام يعبر، وأجنحته تبشر بالضوء، فعاد إلى ألوانه، وهو يقول لنفسه، لقد تعجّب أنني ابن صانع أحذية، ولم أطر بعد!.
كان ذهنه مشغولاً، فلم يتمكن من التركيز، التقط لوح الكتابة، وأودعه داخل حقيبته، ثم غادر الدكان سريعاً، لكنه توقف، وقد تذكَّر الحذاء، فالتقطه على عجل، ووضعه داخل الحقيبة أيضاً، ثم انطلق إلى باحة المسجد حيث يجتمع التلاميذ، التحق بهم جالساً في الصف الخلفي، وأخرج اللوح وأداة الكتابة، وقد اطمئن إلى الحذاء اللامع، كان يتصيد التفاتة صديقه ناصر، كي يغمز له بخبر مهم، لكن ناصر كان منهمكاً في مراجعة سورة النبأ، وما أن انتهى الدرس، وخرجوا إلى الدروب الضيقة، حتى انتحى بصديقه تحت أثلة ضخمة تفيض من خلف حائط طيني، وأخبره بحكاية الرجل الغريب الذي زاره، صمت ناصر لوهلة، وقد شعر بالإحباط، وهو يجزم أن حالة صديقه بدأت تسوء من جديد، فتنحنح وهو يقول: اسمع صالح، لا بدّ أن تبعد عنك الوساوس، فلا يوجد شيء غير الذي يراه الناس جميعاً، ولا يوجد شيء غير الذي يسمعه الناس جميعاً.
هزَّ صالح رأسه باستفزاز: لا يا ناصر، أنا أرى ما لا ترون، وأسمع ما لا تسمعون، وإن كنت لا تصدق حكاية الرجل الغريب الذي زارني فجر اليوم، وحكاية الحذاء الفضي، فماذا ستقول لو أريتك إياه؟
صاح ناصر مذهولاً: هل ستريني الرجل الغريب ذا البشت؟
ضحك صالح بشغب وسعادة: الظاهر أنت طلعت المجنون، وليس أنا، سأريك الحذاء الفضي، حذاء مختلف عن أحذية أبي الجلدية، لا هذا حذاء فضي يلمع.
هتف ناصر بتلهف: هيا أرني إياه، أتحداك.
فتح الحقيبة الجلدية، وأزاح اللوح، وأراه إياه دون أن يخرجه: انظر، ما رأيك بهذا الحذاء الفضي الجميل؟.
شهق ناصر، وهو يتمتم: والله أنك صادق، هذا حذاء لم أرَ مثله في حياتي.
زمَّ صالح شفتيه، ووضع يده عليهما: اسمع يا صديقي، لا من شاف، ولا من درى. انتبه تخبر أحداً بذلك.
هزَّ ناصر رأسه: أعدك.
في البيت، خبأ الفتى صالح حقيبته الجلدية، ووضعها في مكان ليس في متناول أحد، ثم صعد أول الدرج المؤدي إلى السطح، وجلس يتأمل العصافير وهي تطير وتحطُّ على باحة البيت، لتشرب من طشت الماء، الذي تغسل أمه الملابس فيه، كان يطيل النظر في أمه، التي تثني ساقها، وتدعك الملابس في الماء، ويفكّر عما إذا كانت هي الأنسب كي يفاتحها بفكرة السفر، أم ستستشيط غضباً عليه، وستدّعي أن حالة الجنون قد عادت إليه، وتجبر أباه على أخذه عاجلاً إلى المطوع، كي يقرأ عليه، وإن لزم الأمر، وأصبحت حالته غير قابله للشفاء، فليقوم بكيِّ رأسه، لعله يهدأ بعد ذلك.
قال بصوت مسموع: لا، ما ينفع أبداً. تنبَّهت إليه أمه، وحدقت نحوه بقلق: ماذا بك يا صالح؟.
صعد الدرج الطيني وهو يردد: لا، ولا شيء.
انهمك صالح في القراءة، لم يفهم تلميحات ابن سيرين في كتابه (تفسير الأحلام)، فاستلَّ كتاب (ألف ليلة وليلة)، وأكمل قراءة الليالي، التي سحرته حكاياتها العجيبة، فكان يلهث خلفها كل ليلة، حتى أنه لا ينام إلا والكتاب بين يديه، وفتيلة السراج بضوئها الخافت تتراقص بخفة أمام عينيه الصغيرتين، ولا يصحو فجراً إلا وهو مرهق، فيذهب إلى الدكان وهو يتأرجح نعساً، وفي داخله شغف لمعرفة ماذا حدث للسندباد البحري، ولأبي الحسن العماني، ولشمس النهار، وللصياد والعفريت، وللتاجر البغدادي واللص، ذلك التاجر الذي أفلس، فحلم بكنز عند جدار جامع في القاهرة، فركض خلف حلمه إلى هناك، وقابل متشرداً عند جدار الجامع، ولما أخبره عن حلمه، قال له المتشرد بأنه حلم أيضاً بكنز في بيت بغدادي، فوصف له بيت التاجر بشكل دقيق، وعاد التاجر كي يعثر على الكنز في بيته. لقد راقت له القصة التي تشبه قصته، وابتسم لنفسه وهو يفكر، هل يعقل أن يكون مصيرك يا صالح نفس مصير التاجر البغدادي، الذي حلم بكنز في القاهرة؟. ثم أضاف محبطاً: لكنني لم أحلم بكنز ولا مال، بل حلمي كان غريباً، وربما تافهاً، ولا يستحق العناء ومشقة السفر، ولم أجد متعة في تلك الليالي الثلاث التي حلمت فيها، سوى متعة الطيران، ورؤية الأرض من الأعلى، أما جزء الذبيحة، وسحب الأمعاء من جوفها، حتى يندلق الروث من المعدة أمامي، فهو يثير الغثيان حقاً. ضحك صالح وهو يردد بسخرية: حتى الحلم يختلف بين تاجر وابن صانع، فالتاجر يحلم بكنز من الذهب والمجوهرات، وابن الخرَّاز يحلم بدم وروث ورائحة نتنه! يا سبحان الله، الأحلام صارت كالأرزاق، للتجار والسلاطين أحلامهم الثمينة، وللخرازين والنجارين والطحانين أحلامهم الفقيرة. ورغم ذلك، لا يهم ما تقوله هذه الكتب، المهم هو ما قاله الرجل الغريب، لقد قال لي سافر، وستجد تفسير حلمك هناك! ولكن كيف أسافر؟ كيف أقنع أبي أن تلك هي الحقيقة التي يجب عليه أن يتفهمها؟ وكيف أقنع الناس في طريق رحلتي بحلمي، وأسأل عن تفسيره؟ أشعر أن الضحك والسخرية لن تقتصر على أبي، بل العالم كله سيضحك مني، ويعتبرني مجنوناً، فكيف لفتى عاقل أن يتجرأ على الرحيل تاركاً أمه وأباه، وأخاه وأخته، ومدرسته وقريته، وأصدقاءه، بحثا عن تفسير حلم؟.
لم يعد صالح ينام ليلاً، إلا حينما يقترب الفجر، فأصبح يستيقظ متأخراً، يسير مرهقاً، ويتأرجح دائخاً بعينين حمراوين، حتى أهمل في عمله، وفي تحصيل دروسه، فانتاب أباه القلق لهذا التحول الغريب في حياته، وبدأ يراقبه جيداً في حركاته، وسكناته، وخروجه من المنزل، وعند نومه.

ملحوظات حول النقل العام!

لم يعد مشروع إنشاء مترو الرياض، بالإضافة إلى النقل العام، مشروعاً كمالياً أو جمالياً، بل هو مشروع مهم وجوهري لإنقاذ هذه المدينة الضخمة من فوضى النقل الخاص والزحام والفوضى الراهنة، والتمدد المستمر لهذه المدينة، إضافة إلى الهجرة إلى العاصمة بحثاً عن العمل أو الدراسة، مما يجعل الكثافة السكانية تزداد بشكل متسارع ومنتظم، الأمر الذي يجعل حدودها وأطرافها تتمدد باستمرار.

(المزيد…)

الحارس الذي حمل المظلة!

ربما لم يكن الخلل في صورة أمين منطقة الرياض منشغلاً بجواله، مزداناً بمشلحه الجميل، متبوعاً بجندي حراسة يحمل مظلة تحميه من حرارة الشمس، ولا أن الصورة حملت ازدراء الناس وسخطهم في مواقع التواصل الاجتماعي، وتهكمهم أن المشهد أعاد زمن الباشوية في الدولة العثمانية، ولا التبرير لاحقاً بعفوية تصرف الحارس الذي صار حامل مظلة،

(المزيد…)

ثلاثون عاماً منهكة يا معالي الوزير!

منذ أن استلم الدكتور توفيق الربيعة حقيبة وزارة التجارة والصناعة وهو يعمل بإخلاص ملحوظ في كل ما يمكن أن يخدم المواطن، كأنما جاء أخيراً وزير تجارة يتفهم أنه لا يعمل لخدمة التاجر كالمعتاد، بل لخدمة المواطن، والوقوف بجانبه، وانتشاله مما وصل إليه من حالة إحباط، وعدم ثقة بأي وعود، حتى أنقذه الله بتقنية الإنترنت،

(المزيد…)

نحن سادس أعلى دخل في العالم..!

عند النظر إلى مواردنا الطبيعية وتنوعها في السنوات الأخيرة، والبدء في التفكير العقلاني في استغلالها بشكل أمثل، ووعي المواطنين بأنهم شركاء في التنمية بحق المواطنة، نشعر بأنه من الممكن أن يحتل دخل المواطن السعودي المرتبة السادسة في قائمة الأعلى دخلاً على مستوى العالم في عام 2050م حسب تقرير نشره مركز أبحاث فرانك نايت المتخصص في المال، والذي نشره موقع سمارت بلانت.

(المزيد…)