ذاكرة الدهشة الأولى
قبل ثلاثين عاما تقريبًا، تحديدًا في يناير من العام ١٩٩٢ زرت القاهرة لأول مرة في حياتي وأنا في منتصف العشرينات. جئت لوحدي لأكتشف معرض القاهرة الدولي للكتاب في مقره القديم بشارع صلاح سالم. لا أعرف هذه المدينة، ولم أسأل أحدًا، ولم أبحث عن تفاصيلها قبل قدومي. كل ما أعرفه أن معرض الكتاب في يناير، وأنني متشرد معرفة، ومتلهف، وشغوف. جئتُ كنسر يرصد طريدته (الكتاب) ولا يرى سواه. لم أحجز سكنًا وإنما حملت مبلغًا نقديًّا بسيطًا، وشيكين سياحيين. احتار سائق التاكسي بي، واقترح عليّ السكن في العجوزة، حين وصلت لم تعجبني الشقة، وذهبنا إلى شارع جامعة الدول العربية، لأقيم في شارع عمر طوسون بالمهندسين، في شقة صغيرة وقديمة قريبة من ميدان سفنكس.
حين وضعت حقيبتي ونزلت، سرت في الشارع حتى الميدان، سرت مأخوذًا بالمشهد البصري النابض حولي، شعرت لأول وهلة أنني لم أعد يوسف، وأنني تسللت فعلاً إلى فيلم مصري من إخراج عاطف الطيب، النساء، الصبية، الدراجات، البوليس، الضجيج، النكات الطائشة… حين وقفت وسط الميدان، احترت بين أحمد عرابي وجامعة الدول العربية، جلست على مصطبة حجرية تحت الأشجار الضخمة، محاولًا أن أخدع عاطف الطيب، فأهرب فجأة من دور الكومبارس الذي ورطني فيه، وأعود إلى كوني مجرد مشاهد أفلام عابر.
لم أكن آنذاك أعرف أحدًا في القاهرة سوى إبراهيم أصلان من خلال رسائل متفرقة، وإرسال مجموعتي القصصية الأولى (ظهيرة لا مشاة لها) عام ١٩٨٩ على عنوانه البريدي في إمبابة. تلك المجموعة الصغيرة التي بسببها استدعيت آنذاك من قبل وزارة الإعلام، بناء على تقرير ديني أخلاقي رفعه أحد المشايخ مطالبًا بسحبها من الأسواق. وقتها قررت ألا أنشر مستقبلًا أي كتاب في الداخل، لذلك كانت وجهتي في كتابي الثاني هي القاهرة.
في إحدى الجلسات رأيت الناقدة فريدة النقاش تتحدث عن الأدب الملتزم، والأدب الاشتراكي، وفي نهاية الجلسة تقدمتُ نحوها بخجل معرِّفًا بنفسي، فرحبت بي بحفاوة كبيرة، وقد تذكرت الملف الخاص بالأدب السعودي الذي نشرته مجلة (أدب ونقد) التي ترأس تحريرها، وكتبت افتتاحية ذلك العدد عن الأدب السعودي بكلمة احتفالية أكثر من كونها نقدية، وأشارت فيها إلى قصتي القصيرة المنشورة ضمن الملف كنموذج سردي حداثي يعبر عن التفاوت الطبقي الاجتماعي.
في صباحات يناير الباردة، في قاهرة التسعينات، كنت أنتظر أمام بوابات المعرض قبل أن أتوه في ممراته حتى الغروب، أنبش في الكراتين مثل قط أليف، أشم الورق والحبر والعناوين، أتفقد دور النشر. لا أرى أحدًا ولا يراني أحد، أمشي ببطء، مشية قصاص أثر، يختبر الرمل والخطى، خطى من سبقوه في الكتابة والإبداع، حتى عثرت على دار نشر جديدة ولافتة، تزين أغلفتها إبداعات الفنان الكبير محيي الدين اللباد، اسمها شرقيات. وجدت ثلاثة أعمال افتتاحية أو أربعة، لنجوم الأدب المصري وهم صنع الله إبراهيم، وعبدالحكيم قاسم، وإبراهيم أصلان، وأدوار الخراط… قلت لنفسي هنا سأكون، يجب أن تكون مجموعتي القصصية الجديدة في هذه الدار المميزة، لكن كيف سأصل للناشر؟ ومن سيقدمني له؟ في شقتي الصغيرة فتحت أحد إصداراتها الأنيقة، وسجلت العنوان على ورقة صغيرة: 5 شارع محمد صدقي باب اللوق.
وقفت أمام باب العمارة وسألت، ثم صعدت لشقة بديعة، تضاهي جمال إصدارات الدار، شقة ذات سقفٍ عالٍ، وفي منتهى الأناقة والفخامة، على الطراز الأوروبي القديم، مزدانة برفوف كتب عالية، وطاولة مكتب بالفخامة الكلاسيكية نفسها، يجلس خلفها رجل مبتسم وبشوش، بلحية مشذبة بعناية، رحب بي: تفضل. كان اللقاء الأول بصاحب الدار، النبيل حسني سليمان، الذي عاد من السويد بعد سنوات من الغربة، كي يصنع حلمه في النشر في وطنه مصر، والذي أرسلت له بعد أشهر مخطوطة مجموعتي الثانية (رجفة أثوابهم البيض) التي ضمَّت عناوين قصصية رئيسة، تحت كل عنوان بضعة قصص، من هذه العناوين (قصص الوحشة) التي تضم أربع قصص قصيرة عن القاهرة، طلب الناشر استبعاد قصتين منهما، فوافقت. لم أسأله لِمَ يجب استبعاد هاتين القصتين، لكنني ربما استشعرتُ وقتها الأسباب وتقبلتها وإن لم يفصح عنها مباشرة.
هكذا رفرفت (رجفة أثوابهم البيض) في سماء النيل، القاهرة ١٩٩٣، لتأخذ رحلتي في الكتابة منعطفًا جديدًا وجادًّا، لأنني وقتها غامرت بأن وضعت عملي المتواضع بكل جرأة وحماقة في رفِّ كتب يضم أهم قامات الستينات في النقد، والسرد القصصي والروائي.
المدينة مسرحًا تجريبيًّا واجتماعيًّا
القاهرة ساحرة، لا تفك طلاسمها زيارة واحدة، ولا اثنتان أو حتى عشر، أتخيلها امرأة دلو كما يصف مختصو الأبراج، غامضة، تبدو للغريب مدينة مكشوفة وواضحة ولا تخبئ شيئًا، تكشف عن نيلها ومنائرها وأنوارها، لكنها تخفي جمالاً لا يدركه المرء إلا مع النظر والإحساس والتأمل. مع الوقت والزيارات تظهر كنوزها وأسرارها.
هي تختلف عن سائر المدن، فشوارعها وميادينها ولافتاتها وناسها الطيبين يصعقونك بالسخرية من كل شيء، حتى من أنفسهم، عليك ألا تأخذ الأمور بجدية في القاهرة، فقط افتح صدرك للنيل الغامض وللضحكات، كي تسمو وتعلو أكثر.
هكذا بدأت أكتشف القاهرة على عدة مستويات، الأمكنة، الناس، السلوك، المشي، حتى المشي الاحترافي بين العربات يحتاج تدريب خاص في القاهرة، لأن الماشي وقتها يصل إلى مرتبة فهم تفكير السائقين المغامرين، ويتنبأ به قبل أن يحدث. كذلك على المستويات والاهتمامات الثقافية المختلفة، فلم تستمر علاقتي بالقاهرة علافة قراءة وكتابة ونشر في مجال السرد والقصة فحسب، وإنما سأكتشف جمالها المسرحي والروائي والتشكيلي خلال ثلاثين عامًا من الشغف والاكتشاف، هكذا كانت زيارتي التالية في التسعينات، ليست لمعرض القاهرة للكتاب الدولي، وإنما لمهرجان القاهرة للمسرح التجريبي، حيث أعلى مراتب التجريب والجنون في الكتابة المسرحية، والأداء، والتمثيل والإخراج.
جئت ضمن وفد مسرحية الهيار للكاتب المسرحي الكبير محمد العثيم، وإخراج أبو بكر خالد الشلقامي، وتمثيل راشد الشمراني وعلي إبراهيم وصالح الزير وحسن السبع وآخرون. كانت القاهرة تستضيف المؤتمر الدولي للسكان والتنمية عام ١٩٩٤، فلم تجد جمعية الثقافة والفنون سكنًا مناسبًا للوفد، وأقمنا الليلة الأولى في عوامة على النيل، كل شخصين من أعضاء الوفد في غرفة صغيرة جدًا، بسريرين متقابلين، ونافذة زجاجية دائرية على النيل. كنت أخرج لبهو صغير في مدخل العوامة، لأجد أحدهم مخمورًا ويبكي، كان يبكي طول الليل، كنت أحاول أن أفهم سبب بكائه، لكن لسانه الثقيل يجعلني لا أفهم شيئًا مما يقوله. كانت ليلة أولى مرهقة جعلتني أفكِّر بالعودة، لولا أن انتقلنا في اليوم التالي إلى فندق فيروجيبت المهندسين، فشعرت بالراحة والهدوء، وبدأت أحضر المسرحيات.
دهشتي كانت كبيرة وأنا أرى رجلاً بملابس رثَّة، ولحية كثَّة وشعواء، وهو يخبط خشبة المسرح بقدمين ثقيلتين مقيدتين، لم يكن فيهما قيد، لكنني شعرت أن يجرُّ شيئًا بصعوبة. كان يزعق في صالة قديمة مفتوحة النوافذ، ومن النوافذ يأتي الضوء مدروسًا. مساقط الضوء من خلال النوافذ أضفت جوًّا حلُميًّا، كأننا لسنا في مسرح، بل في حياة أخرى. كان الرجل العجوز يسير ويصيح، وهو يمشي بين الحضور، لا أتذكر إن كان يحمل حمامة بيضاء. كل ما أتذكره أنني ظللت مذهولاً ليومين. كان هذا الرجل العجيب هو المخرج البحريني الكبير عبدالله السعداوي.
وما أثار دهشتي فيما بعد، أن مقاعد القاعة كلها كانت مشغولة، غالبيتها من الشباب المصري رغم أن المسرحية تجريبية، وعميقة، وهو ما جعلني أفكر بعبارة “الجمهور عاوز كده” إزاء فشل المسرح اليوم وسطحيته. استمتعت بعروض مسرحية تجريبية عربية وأجنبية، حتى امتلأت حواسي إلى درجة أن اعتذرت من زملاء الوفد بمشاركتهم حضور مسرحية الزعيم للفنان الكبير عادل إمام.
هكذا أمسكت القاهرة بيدي، لتهمس لي بأن الكتابة التجريبية سواء في المسرح أو القصة أو الرواية، هي مغامرة جميلة، فجاءت مغامرة الكتابة في عملين لاحقين، مجموعة نصوص (لا بدَّ أن أحدًا حرَّك الكراسة) ثم روايتي الأولى (لغط موتى) ففيهما جرَّبت النص المتأرجح بين القص والشعر، وكذلك نمط الميتا رواية، لتبقى القاهرة كل مرة تهبني طاقة أجمل، وتجريب أعمق في الكتابة.
صنع الله صانع الرفض والدهشة
في مطلع الألفية أحل ضيفًا على القاهرة، ومشاركًا في ملتقى القاهرة الثاني للإبداع الروائي، بترشيح من صديقي الروائي جمال الغيطاني، الذي ربطتني به صداقة جميلة منذ كتابته المنعطف (التجليات)، كنت كتبت شهادة أدبية حول موضوع الملتقى (الرواية والمدينة)، وفي فندق بيراميزا في الدقي أقمت مع مبدعين ومبدعات من مختلف الدول العربية، بل أن القاهرة منذ تلك الدورة أصبحت القاهرة بيتًا دافئًا وحميمًا لكثير من الروائيين العرب.
حين دخلت دار الأوبرا لأول مرة في الصباح التالي شعرت بدفء غامر وطاقة مذهلة، كانت قاعة المسرح الصغير لإطلاق الافتتاح، بحضور وزير الثقافة الفنان فاروق حسني، وأمين عام المجلس الأعلى للثقافة الدكتور جابر عصفور، ومن ثم الجلسة الافتتاحية حول الملتقى الذي عاد بعد انقطاع عشر سنوات تقريبًا، والذي أسس عقب نيل الروائي الكبير نجيب محفوظ لجائزة نوبل عام ١٩٨٨. في الجلسات اللاحقة التي ستنظم في قاعات مبنى المجلس الأعلى للثقافة، سأتنقل بشغف بين الندوات والشهادات وورش العمل التي تٌعقد في وقت واحد، في غرف طوابق المبنى الثلاثة. سأنصت طويلاً وأتحدث قليلاً، سيضم المقهى أسفل المبنى معظم الروائيين والروائيات، في نقاشات وحوارات جانبية، مما جعل أثرها كبيرًا على تجربتي وقراءاتي في البدايات.
هذه المرة كانت القاهرة مختلفة تمامًا. المشي من الشارع المحاذي لفندق بيراميزا حتى الكشك الصغير، ثم انعطف يسارًا من شارع ديجول، حتى ميدان الجلاء، وأجتازه متأملاً النيل من فوق كوبري التحرير، نحو بوابة دار الأوبرا، لأكشف أول مبنى على يساري، مبنى المركز القومي للترجمة، ذلك المشروع الهائل الذي أنجزه الدكتور جابر عصفور. كنت أمشي ببطء وأناة، أمشي وأتأمل الشوارع والناس والشجر العالي والنيل والمراكب والعصافير، هذه المرة كانت القاهرة جميلة أكثر مما سبق، مما جعلني أدرك أن استيعاب الجمال أمر معقَّد، يصعب استيعابه من أول وهلة، وقد يحتاج المرء إلى عدد من المرات ليقبض عليه، هكذا كانت القاهرة كلما زرتها أكثر تعلَّقت بها، وتآلفت معها، وأخلصت لها، وصادقتها، بل وقعت في غرامها.
ستلفت انتباهي صِغَر قاعات المجلس، وأفكِّر، صحيح أنها تستوعب ثلاثين إلى أربعين شخصًا، لكنها ممتلئة على الدوام، ومستغلَّة باستمرار في مناسبة إثر مناسبة، باختصار قاعات صغيرة فيها روح أهم من قاعات ضخمة وفارهة لكنها ميتة. هكذا كنت أفكِّر.
ليس ذلك فحسب، وإنما تلك الحميمية التي كانت تحفل بها تلك القاعات، سواء القاعات العادية أو القاعة المستديرة التي تنعقد فيها ورش العمل حول الرواية والمدينة. نقاش ساخن وحميم وعميق، اختلافات في وجهات النظر، واستكمال هذه الحوارات في الممرات، وفي المصاعد، وأيضًا في المقهى أسفل مبنى المجلس الأعلى للثقافة.
في نهاية ملتقى الرواية عُقد حفل الختام في القاعة الكبرى بحضور وزير الثقافة الفنان فاروق حسني، وجمع غفير من المشاركين والمثقفين والمهتمين يتجاوز خمسمائة، حيث كانت الدورة تحمل اسم إدوارد سعيد، وترددت الأحاديث الجانبية بأن الجائزة هذه الدورة ستخصص الروائي مصري، بعد أن منحت جائرة الدورة الأولى للروائي عبدالرحمن منيف. في الحفل شاهدت الروائي المصري صنع الله إبراهيم لأول مرة، وأنا الذي قرأته منذ (تلك الرائحة) وحتى (أمريكانلي)، مرورًا بأعماله العظيمة: نجمة أغسطس، اللجنة، بيروت بيروت، ذات، شرف، ووردة. لمحته يهبط الدرجات نحيلاً بنظارتيه السميكتين، وشعره المنكوش، وشاربه الممتزج بالبياض، ثم جلس في الصف الأول بالقاعة. اكتمل الحضور بوصول الوزير فاروق حسني، ثم بدأ الحفل بكلمة لأمين المجلس الناقد جابر عصفور، وهو يصف فارس هذه الدورة الذي عرفناه جميعًا قبل الإفصاح عنه. نهض صنع الله مصحوبًا بالتصفيق ووقف أمام المنبر، ثم أخرج من جيبه الداخلي للجاكيت ورقة كان قد أعدها. ثم ألقى كلمة مؤثرة عما يحدث من تردي في كل مناحي الحياة، فلم يعد لدينا مسرح أو سينما أو بحث علمي أو تعليم – كما يصف -، لدينا فقط مهرجانات وصندوق أكاذيب. لم تعد لدينا صناعة أو زراعة أو صحة أو عدل…إلخ. ثم أشار إلى أنه “على بعد خطوات من هنا يقيم السفير الإسرائيلي في طمأنينة، وعلى بعد خطوات أخرى يحتل السفير الأمريكي حيًّا بأكمله، بينما ينتشر جنوده في كل ركن من أركان الوطن الذى كان عربيًّا”. وأخيرًا – كما هو معروف – اعتذر عن استلام الجائزة، محدثًا رفضه لها دويًّا وعاصفة من التصفيق والضجيج واللغط. ثم هبط من خشبة المسرح صاعدًا الدرج محفوفًا بالصفير والصراخ العالي. بجواري شابان، أحدهما يسأل الآخر عن قيمة الجائزة، فيخبره الآخر: مئة ألف جنية. يصرخ الآخر: يا خبر أبيض. ده عبيط.
ولعل أجمل ما تعلمته في هذا المشهد، موقفان متناقضان كل منهما يحمل رؤيته وتبريره، موقف المعارضة الذي أطلقه صنع الله تلك الليلة، وموقف الحكومة الذي مثله وزير الثقافة حينما وقف على المسرح، وأوضح أن من حق الكاتب قبول أو رفض الجائزة، وهي الحرية الحقيقية التي تكفلها له الحكومة والوزارة بأن يعود إلى منزله سالمًا وحرًّا، فالأول استغل وقفته أمام الصحافة العربية والعالمية ليمرِّر رسالته، والثاني استثمر الموقف أيضًا ليثبت الحرية التي يتمتع بها الكاتب.
مدينة قلبها كبير
كلما استعدت رحلتي الأولي مطلع التسعينات، تذكرت صوت محمد منير الذي يشبه النحيب، الذي ينساب في ممرات محل عمر أفندي الكبير، حيث أتجول بحثًا عن إبريق وكوب، وسكَّر وشاي، كي أؤثث تلك الشقة الصغيرة في شارع عمر طوسون. لا أعرف أي حنين يلتهم قلبي كلما سمعت أغنية لمحمد منير في أي وقت ومكان. وربما أتفهم ذلك الحنين الذي بثَّه لي الشاعر والروائي العراقي فاضل العزاوي ذات ظهيرة ونحن نعبر معًا ميدان التحرير في يونيو ٢٠٠٧ من خلال استرجاعه ذاكرة سبعينات القاهرة.
في منتصف يونيو كانت الجامعة الأمريكية قد أصدرت عددًا من الروايات لكتاب مصريين وعرب، ومنها روايتي (فخاخ الرائحة) التي صدرت بعنوان (wolves of the Crescent Moon) ورواية فاضل العزاوي (آخر الملائكة) بعنوان (The Last of the Angels)، وبعثت دعوة لنا لحضور معرض الكتاب السنوي الذي تقيمه الجامعة، وعلى هامشه حفل توقيع على الأعمال المترجمة الجديدة، منها أيضًا روايتين للروائي الراحل يوسف أبو رية، والروائية هالة البدري، إضافة إلى كتاب للناقدة العراقية فريال غزول. أقمنا في فندق شيبرد المطل على النيل، والمحاذي لفندق انتركونتننتال سمير أميس. خرجنا ذات ظهيرة مشيًا باتجاه مقر قسم النشر في الجامعة في شارع محمد محمود، ونحن نتقدم نحو ميدان التحرير، أمسك بيدي فاضل، وقال لي، لو أصف لك هذا الميدان في السبعينات لن تصدق! ثم وصف لي العربات والدكاكين والناس، أناقة الموظفين الذاهبين إلى أعمالهم ببدل رسمية وربطات عنق، وأناقة النساء بفساتين راقية وزاهية، إذ من النادر جدًا أن ترى امرأة محجبة في الشارع. وصفه لحالة القاهرة القديمة وملامحها، شوارعها وحفلاتها الغنائية، جعلني أتوق شغفًا لتلك الفترة، وأتمنى لو عشتها فعلاً، رغم أنني شاهدتها في أفلام حسن الإمام وحسين كمال وهنري بركات وغيرهم، في أفلام مثل: أريد حلا، خلي بالك من زوزو، أفواه وأرانب، امبراطورية ميم، لا عزاء للسيدات، وملامح الفنانات فاتن حمامة، وسعاد حسني، ونادية لطفي، ونجلاء فتحي، وميرفت أمين، وغيرهن. والفنانين محمود ياسين، وحسين فهمي ونور الشريف وغيرهم. رغم كل الزخم الذي عشته في صباي مع هذه الأفلام، إلا أن القاهرة في عيني شاعر وروائي من خارجها كفاضل العزاوي ترك فيَّ حسرة أنني لم أكن شابًا وقتذاك، وابن عائلة ثريِّة، كما هي العائلات السعودية الثرية في السبعينات التي اكتشف أطفالها روح القاهرة وثقافتها، وجمال بيروت أيضًا.
بالطريقة ذاتها التي كشف لي فيها فاضل العزاوي قاهرة السبعينات بوصفه لها كما لو كانت أمامه في اللحظة ذاتها، قادني ذات عصر صديقي الراحل يوسف أبو رية إلى دهاليز وسط البلد. كنت كلما زرت القاهرة اتصل بيوسف – وهو الذي عاش بيننا سنوات في الرياض، مدرِّسًا ومرافقًا لزوجته الطبيبة – فيسأل عن موقعي، وأخبره أنني في وسط البلد. حين يقترب ويتصل بي لأحدد مكاني، أخبره أنني انتظره في جروبي، فيطلق ضحكته العالية الثخينة: “جروبي أيه وبتاع أيه؟ ده مكان الحبِّيبه” ثم يأخذني: “تعال وشوف القاهرة، وسيبك من مكان العيال ده”. نسير معًا في أزقة وسط البلد، ويروي لي سيرة الأماكن والأزقة والشبابيك: “بص هناك يا يوسف، في البلكونة دي كانت سعاد حسني تستنى حليم” وهكذا يعيدني بفطرته السردية ومخيلته الشاسعة إلى حكايات الستينات وأوائل السبعينات وجمالها.
في حفل التوقيع، بمعرض كتاب الجامعة الأمريكية كنت التقيت لأول مرة بمدير النشر بالجامعة الراحل مارك لينز، ومساعده نيل هيوسن، وكبير المحررين تشيب روزيتي، واكتشفت أن القاهرة ليست بيتي لوحدي، كونها أول عاصمة احتضنت أول كتاب صدر لي خارج وطني، وكذلك دعتني إلى أول ملتقى دولي مهم، وامتلكت حقوق ترجمة أول رواية لي، وإنما كانت تفعل ذلك مع غيري من الأدباء والمثقفين العرب، حيث فتحت لهم القاهرة أبوابها ونوافذها وقلبها الزاخر بالحب، حتى أصبحت المكان الحميم الذي يجمعنا من كل أنحاء البلدان العربية.
الحكي الذي لا ينتهي
أجمل ما في هذه المدينة الغامضة والمكشوفة معًا، الخالدة والمتجددة، أن كل رحلة تجعلني كأنني أزورها لأول مرة، فالرحلة التي كرَّست شارع جامعة الدول العربية والمقاهي فيه، والمهندسين، تختلف عن رحلة دار الأوبرا، ووسط البلد، ميدان طلعت حرب ومكتبة مدبولي، ومكتبة الشروق، وجروبي والجريون وريش وغيرها من ملامح وسط البلد الجميلة، والتي أصبحت أجمل بترميماتها الأخيرة، بما تحمله من طابع ونكهة المباني الأوروبية العتيقة. وهي تختلف عن رحلة مراكب النيل وليل الحسين والفيشاوي وخان الخليلي.
كل جزء من القاهرة هو لوحة ساحرة ومتحركة لفنان عظيم، مما يجعل الإحاطة بكل تفاصيل مدينة كالقاهرة هو أمر بالغ التعقيد.
لم تكن المشاركة السنوية لملتقى القاهرة للرواية العربية تتوقف عند مبنى المجلس الأعلى للثقافة وقاعاته ولوحاته ومقهاه ومكتبته، ولا عند الأوبرا ومسرح الهناجر والمقاهي الخارجية ومتحف الفن المعاصر وعيرها، وإنما كنا نكمل أمسياتنا في الحسين، حيث المقاهي المنتشرة أمام ساحة الجامع، كنا مجموعات أصدقاء متآلفة، والحديث الليلي الذي يطول تقطعه الضحكات، ونداءات الباعة هنا وهناك. كنا رؤوف مسعد وعبده خال وإيمان يونس حميدان ومحمد البنكي وهدى العطاس وآخرون. تجمعنا أحلامنا وهمومنا في الكتابة والقراءة والأدب والسياسة وحال عالمنا العربي.
قد تكون القاهرة كمدينة تختلف عن غيرها، فغالبًا لا يشعر المرء فيها بالوحدة، إذ حينما يسبر في أنحائها لا يمشي فوق طبقات من الحضارات المتراكمة تحت سطحها فحسب، وإنما يمشي على طبقات هائلة من الحكايات التي لا تنتهي، في كل مكان يسمع الحكايات والعبارات والصيحات، في الشوارع والمقاهي والدكاكين والمقابر وداخل سيارات الأجرة، ولعل كتاب خالد الحسيني اللافت (تاكسي… حواديت المشاوير) الذي صدر عام ٢٠٠٧ يختزل روح القاهرة، خفَّتها وعمقها معًا، ضحكها وعبوسها، مرحها ومآسيها، ليلها ونهارها، هي مدينة يراها المرء وفق بصيرته، لكنها لا بدَّ أن تترك فيه أثرًا ما، وتوقظ ذاكرة ما، وتترك شغفًا إلى أماكنها الحميمة.
هي الدنيا، حيث يقول الأصدقاء المصريون لمن يزور القاهرة: “يا أهلا وسهلا، نورت الدنيا”، هذه العبارة وإن كانت تعبير عن الاحتفاء الحميم والمعتاد عند المصريين، إلا أنها جعلتني أتخيَّل أنهم بدلا من قول: نورت القاهرة، يقولون: نورت الدنيا. ربما هي الدنيا لأنها فعلاً تضم كل شيء، ولأنها كل أخذنا منها نطلب المزيد، هي المعطاءة بسخاء، حيث تفرد قلبها ونيلها نهارًا وليلاً، إلى درجة أن نشعر معها أيهما أجمل؟ صباحاتها الناعمة، أم ظهيرتها الكادحة، أم عصرها المسترخي على نيلها، أم ليلها الساهر بصخب وقهقهة ليس لها آخر. هل جميلة في كل حالاتها.
0 تعليق