لبس
ما ظنه الرجل الجالس أمام النافذة حمامة بيضاء بأربعة مناقير وعُرف… كان قفازًا منفوخًا ليد هاربة من وباء، دفعها الهواء بخفَّة. هكذا اكتشف الرجل الوحيد في عزلته.
طائرات
كلما انفتح باب السوبرماركت الكهربائي عن متجوِّل خرج للرصيف، يرمي بقفازين بلاستيكيين، فيطيران بشغب نحو شمس العصر الكئيبة، ويركض خلفهما طفلٌ لاهٍ كما لو كان يعدو خلف طائرة ورقية.
الحرب خدعة
الرجل المحتجز في غرفة معزولة في السطح، الرجل الذي لم يعد يميِّز طعم القهوة من الشوكولا، الرجل الذي يلتهم أقراصًا لم تسكِّن صداعًا نصفيًّا ثقيلًا، هذا الرجل الوحيد اكتشف أنه ليس وحيدًا، فلم يستطع أن يفرض السلام في معركة شرسة بين وجهه ويده، تلك اليد المحتالة التي تهمس وهي تهرول بالوباء نحو الأنف الأعزل: الحرب خدعة!
كلاب متوحشة
الشوارع أغمضت، فلا أحد يوقظها. المقاهي انطفأت على حكاياتها القديمة، والبيوت أضاءت بناسها الخائفين. السيارات في الظلال صارت فِراشًا وثيرًا للقطط الضالة، والكلاب الجائعة تعوي، فتضجُّ المدينة، كأنها تبكي ناسها.
سبتمبر ٢٠٢٠
ذات ليلة صامتة في خريف الوباء، ركض الأطفال هاربين من الفناء، نحو صالة البيت، ثم إلى القبو حيث قادتهم الخادمة وهم يلهثون هلعًا.
أزيز طائرة تعبر.
مسدس
حين تجرأ على عزلته، ولعن الوباء، خرج متلفتًا في الشارع مثل لص، وركب سيارته الصغيرة مدجَّجًا بالكمامة والقفازين، كمن يدخل حربًا حاسمة.
نزل إلى السوبرماركت، ووقف في الطابور الطويل، لم يكن يرتدي بيجامة السجن، لكنه حين وصل أول الطابور، قرب الباب الكهربائي، وقف أمام رجل مكمَّم وقد صوَّب نحو جبهته ترمومتر الحرارة، وضغط الزناد، فحبس أنفاسه، كأنما رصاصة تخترق رأسه، كأنما سيسقط مضرجًا بدمه.
الحلم
صرخ الشاب من على صخرة: أنا أحلم، لأنني لستُ حجرًا.
همست الصخرة: أنا أحلم أيضًا أن تأتي الريح تنحت أطرافي.
جدّ
كلما استيقظ وجلًا، متلفِّتًا حوله، تكاد حبَّات العرق تتعثَّر في حاجبيه الأبيضين الكثَّين، ينهض متثاقلًا نحو خزانة عتيقة، ليخرج مسدسًا بجراب متيبِّس بدم قديم، وقبل أن يصوِّبه نحو حلمه المتكرر، يتذكَّر أنه بلا رصاص!
وقت
الأشجار نامت، والنخل العالي، والحمام في الأفاريز، بائع شاي الجمر، الطفل وهو يلعب، العجوز في غرفة العناية المركزة، الجندي في وردية ليل، وحارس المقبرة الشاب نام أيضًا، كل شيء نام ما عدا عقرب الثواني على الجدران يصدر صوتًا لاهثًا كل ثانية.
جدار
كلما شاهد الطفل ستارة الغرفة تحمس لأن ينهض ويجذبها، مأخوذًا برسوم الأراجيح والأطفال والحدائق والشوارع والمدينة على قماشها، لكنه يتردد دائمًا وهو يتخيل أن يزيحها فجأةً فتظهر غابةٌ خلف زجاج النافذة.
هكذا قرر يومًا أن يغامر ويسحب القماش بجسارة، دون أن يخشى سقوط المدينة من خيوط القماش، ودون أن تقفز الغابة إلى غرفته..
هكذا جذب الستارة فجأة، فلم تسقط المدينة، ولم يجد الغابة، بل وجد جدارًا خرسانيًا صلدًا.
كلاب
كلما وضع رأسه لينام، يتعالى النباح، فينهض ويجذب الستارة، لا أحد خلف زجاج النافذة سوى طريق معتم، وأعمدة إنارة حزينة، وراية منهكة ترفرف فوق سور الليل الطويل.
من أين يأتي النباح إذن؟ يسأل.
يفتش البيت الصغير، الممر، الصالة، المطبخ، لا شيء.
من أين يأتي النباح اللعين؟ ينفعل.
يقترب من باب غرفة طفلته النائمة بعمق، يرهف، حيث يعلو الصوت، يفتح الباب ببطء وحذر، يتعالى النباح أكثر وأكثر.. يسد أذنيه مرعوبا، ويبحث عنها، يقترب من طاولة الكتابة، حيث بضعة أوراق مرسوم عليها بقلم الرصاص قطيع كلاب ترفع أذيالها، وتنبح بإصرار، التقط الأوراق ومضى بهدوء خارج الغرفة، ثم الصالة، فالممر، وباب البيت، حاذفًا الأوراق بقوة في الخارج، فركضت الكلاب بجنون وهي تنبح!
عجوز
يمشي بجسد مقوَّس.
لم ينحنِ لأنه قضى مئة عام يدبُّ على هذه الأرض العتيقة، وإنما لأنه لم يجد شيئًا في الأفق، فراح يفتش عنه تحت قدميه.
الذكريات
المرأة التي تفتش قمامةَ منزلٍ مهجور، لا تجدُ شيئًا، حتى التقطتها سيارة مكافحة التسوّل، وحين سألها المحقق الشاب: عمَّ تفتشين يا خالة؟
قالت: عن أشيائي!
أي أشياء في قمامة منزل مهجور؟
أجابت: الذكريات.
قطان أسودان
في الليل تنام “الرياض” على صمت طويل، البيوت الواطئة تخفي رؤوسها كالنعام وتغفو، أما ناطحتا السحاب فهما تقفان مثل هرَّين شرسين يتأهبان لنزال يشعل هدوء المدينة النائمة في سكون.
الرياض
في الصيف، يخرجون إلى الأسواق المغلقة، يتنفسون هواءً باردًا. يلهو أطفالهم في ألعاب السوق، ويجلس الأب في مقهى فرنسي يطل على الطريق العام، ذلك الطريق الذي تغيَّر اسمه مرارًا.
أما الأم فتطوف مع المتجولات بين محال الملابس والأحذية وأدوات التجميل، وتقف معهن أمام واجهات المحال بخشوع، يحدقن بملابس المانيكانات المحشورات داخل الزجاج المضاء.
عند منتصف الليل، تخرج الأم، ويخرج الأب والأطفال، والمتجولون كلهم يخرجون عائدين إلى بيوتهم الهادئة.
بعد منتصف الليل بقليل، تخمد أضواء السوق المغلق من الداخل، فتخرج المانيكانات حذرةً من حبسها الزجاجي، تتجول في الممرات، باحثة عن رؤوسها المقطوعة.
المشي على أربع
فقدنا الضوء في المدينة، ظلام دامس رمى ملاءته فوقها. في البيت لم أعد أرى يدي في الحلك، فلا أحد يشعل الضوء. صرتُ أمشي على أربع بحثاً عن نظارتي ومفاتيحي وثيابي! اكتشفت في الأيام التالية أن أهل المدينة كلهم باتوا يمشون على أربع، مثلي.
0 تعليق