غريق يتسلّى في أرجوحة – مقتطفات

14 يوليو، 2021 | غريق يتسلّى في أرجوحة | 0 تعليقات

(1)

لقد تعبت…
كان عليَّ أن أطرد أمي من البيت، أو أن أهرب بجلدي، وهذا ما فعلته في ذلك المساء البعيد.
قررت بعد شهرين أو أكثر من محاصرتها لي، وزعيقها أنصاف الليالي: “فيصصصل الله يفصل رقيبتك” أن أهرب ليلاً، في الظلام الحالك، فاخترت إحدى الليالي الأولى من شهر رجب، كان القمر فيها هلالاً، بل خيطاً ناحلاً، كشعرة في أحد حاجبي أمي الطويلين. كانت ليلة شديدة السواد، حينما سحبتُ حقيبتي السوداء، وواربت باب السور الخارجي، حتى لا أحدث صوتاً، وقد مضيت كما لو كنت سأعود بعد قليل.
كنت قبل ساعات من منتصف تلك الليلة، قد مررت بمكتب عقاري، بشارع العليا، وسألته عن أي شقة صغيرة للإيجار، نظيفة ورخيصة، فصحبني السمسار المصري إلى شقة في عمارة على شارع العليا، أمام مجمع الموسى، دخلتها على عجل، وقلت له أثناء نزولنا في المصعد: اتفقنا، المهم أنها نظيفة، وصغيرة!
دفعت له قيمة الإيجار لستة أشهر، وتسلَّمت منه مفتاحها، دون أن أعرف أيَّ سرٍّ يخبئه ذلك المفتاح الحديدي اللعين!

(2)

ولدتُ في يوم غبار ترابي عاصف، كان الوقت في نيسان من عام ١٩٧٣م، وحين كبرت عرفت أن ولادتي كانت في شهر إبريل، شهر الأكاذيب، فداهمتني خلال فترات لاحقة من حياتي أحاسيس غريبة ومزعجة، كأن أشعر أنني كذبة، وأنني لم أولد أصلاً، ولم أعش بتاتاً، وأن خبراتي تلك لشخص آخر غيري، ولم يكن آخرها يقيني بأن الموتى هم الذين يجوبون الشوارع، بينما الأحياء هم أهل المقابر النائمين بسلام تحت أسرتهم.
منهوبٌ أنا في هذا البلد – هكذا أفكّر – كل ما حولي ينهب بعضي، حتى لم يتبقَ مني شيءٌ، زوجتي التي رشّت بعض سعادة وهمية قصيرة ثم مضت، أبي الذي رحل بحلم الثروة، فلم يصبح تاجراً، واكتفى بوظيفته بوزارة المالية، فخرج من هذه الدنيا بمنزل مسلَّح في الملزّ، قرب شارع صيته، بناه في السبعينيات الميلادية، حيث ولدت هناك، حلم أن يصبح ثريَّاً، حين اشترك مع زميل عمل في تجارة استيراد الأحذية، دخل معه بعشرين ألفاً، لكنه بعد أشهر، ومع إلحاح أمي، استعاد رأس ماله من شريكه، كي نسافر بها إلى مصر، فأشرك هذا الزميل شقيقه، الذي دفع لأبي نقوده ليبعثرها على النيل، ولم تمضِ سنوات حتى توالت سلاسل متاجر الأحذية الشهيرة في الرياض، فتقاعد زميله مبكراً، بينما مضى أبي يفتتح صباحه البارد بوضع الميزانيات العمومية للدوائر الحكومية كل عام، بمبالغ مليونية، لم يخرج منها إلا بمرتب التقاعد، وعمارة متهالكة في شارع السبالة، تورَّطتُ بها، مع مستأجر جشع وصاحب محل أوان منزلية، له لحية مشذَّبة على طريقة “سكسوكه”، وهو يستغل طيبتي وسذاجتي، فيماطل مراراً في دفع إيجار سنوات متراكمة، حتى اختفى ذات ليل.
الحكومة التي وضعتني على رصيف البطالة ثم غادرت، والحلم الذي نهبته مني، بعدما مدّت تجاهي لسانها الأفعواني الطويل، حتى صوتي لم يعد لي، آخر مرة سمعته منذ شهور، حتى أنني أشك بأنني أخذت صوتي معي منذ عام، بصحبة جنازة أمي، ودفنته معها. كل صباح حين أغسل وجهي أمام المرآة، أمد لساني لأتأكد أنه في مكانه، وأن أحداً لم يسرقه في الظلام، كم كانت أمي تعاتبني في أوقات الصمت التي تتلبسني، وهي تقول: آمنا بالله، هو لسانك عظم!
في السيارة أتوقف في محطة البنزين، ومن خلف الزجاج الموصد أفرد أصابع يدي الخمسة تجاه العامل، مختصراً الإجابة عن تساؤله عن أي نوع من الوقود يملأ به سيارتي، فئة ٩١ أم ٩٥؟ مما يجعله يفهم فوراً، ثم يفرد يديه كمن يفتح ستارة مسرح، أو كقائد فرقة موسيقية، مستفسراً هل يملأه كاملاً؟ فأهز رأسي موافقاً. وفي محل التموينات قرب البيت، أجمع المواد والمأكولات التي أحتاج إليها داخل سلة، ثم يحسبها الباكستاني عبدالحي بالآلة الحاسبة، ويخبرني بالمبلغ المطلوب، فأمد يدي بخمسين ريالاً، ثم أتسلَّم الباقي والكيس وأمضي دون أن أتفوه بكلمة واحدة.
متى أتكلم إذن، وقد تيبست حبالي الصوتية إلى حد بعيد؟ لقد ابتسمت ذاك المساء البعيد، حينما سألني المحاسب الشاب في بنده، إن كنت أرغب في التبرع بنصف ريال متبقٍ؟ فقلت: نعم! أخيراً نطقت وقلت: نعم، ربما لم يتنبه المحاسب الشاب إلى أن هذه الـ “نعم” قد جاءت عتيقة، من عصور ضاربة في اللغة، من رجل فطري بدائي، رجل كهف أخذ عملته القديمة، بعد أن نام مئات السنين، وذهب إلى المدينة الغريبة. صحيح أن الشاب تلفَّت ذات اليمين وذات الشمال حينما سمع “نعم”، وكأنما شكَّ في مصدرها، أو ربما توهَّمتُ ذلك، لكنني متأكد أنه دارى ارتباكه، وابتسم في وجهي!
كلما فكرت أنني منهوب، مقطَّع، متشظٍّ، تذكرت صورة الشبان الثلاثة، الذين ربطوا الكلب في الصدام الخلفي لسيارتهم البيك أب، فقاد أحدهم السيارة بسرعة وتهوّر، حتى تقطعت أعضاؤه، عضوًا عضوًا، وأمطر دمه، ثم جحظت عيناه! كنت كلما استعدت هذا المشهد المأساوي، تحسَّست رأسي، وأنا أشعر بالتشظي عاماً إثر عام، كما هذا الكلب المسكين!
كانت عينا الكلب البلدي تشبهني كثيراً، وأنا لا أملك سوى بصري، أنظر فاغراً، دهشاً بما حولي، كالكلب الذي ينظر إلى مؤخرة السيارة قبل أن يلفظ أنفاسه، وهو لا يعرف لماذا يُعذَّب؟ كذلك أنا حين أحدق في مؤخرة هذه البلاد، وهي تجرُّني بسرعة جنونية، دون أن أعرف كيف أحرر عنقي من قيدها، وأتركها تسير بجنون كسيارة البيك أب، لتمضيَ وحدها من دوني، لا أعرف ماذا تريد؟ ولا ماذا أريد؟ وأنا أعجز عن كتابة فيلم قصير يعبِّر عن الخوف، الألم، الحزن، الوحدة، أو عن الموت مثلاً.
حضرت ناهد في حياتي، ثم غابت، فكانت آخر الشظايا، كانت هي عيني الكلب قبل أن تجحظا في لحظة النظرة الأخيرة، آخر كائن حي نظرت إليه كانت هي، بكل ملامحها الجميلة، وضحكها العذب، وبراءتها الفطرية، كانت نظيفة وطاهرة في زمن قذر وملوَّث، لكنها أرعبتني وقد انسحبت بهدوء، لأنني ملوَّث، وكاذب، وخائن، هكذا قالت لي، وكأنني الخائن الوحيد في هذا العالم!

(3)

أحب الكذب، أحبه كثيراً، ولا أستطيع تخيُّل العالم بدونه، حتماً سيكون سخيفاً وغبياً وكئيباً، فلكي أشعر بسعادة صغيرة أضع سيناريواً بديعاً لأكذوبة جديدة، أمرّرها على أمي، أبي، أختي نورة، أو حتى أصدقائي الواثقين، ولا أتسبب بمضايقتهم فيما بعد، بأن تكون أكذوبتي تلك غير محكمة، فيكتشفوها، وينتابهم الغضب، وأتعرض أنا للعتاب، وسحب الثقة مني. أكاذيبي المدهشة لا تكشفها ملامحي، كالحمقى من حولي، بل أدلقها باحتراف لتنساب كالماء، حتى أصدقها قبل أن يصدقها الآخرون، وهذا هو الاحتراف المتقن في الكذب، فكم تعلَّقت منذ طفولتي بممثلي السينما، إذ تأسرني قدراتهم المدهشة على التمثيل، ونسج الأكاذيب.
حاولت مراراً أن أتذكَّر متى بدأت الكذب في الطفولة؟ ما أول كذبة لففتها حول عنق أمي؟ لكنني للأسف لم أتذكَّر، سوى أكاذيبي الصغيرة، كأن أجيبها بأنني كنت نائماً، بينما أنا أتابع فيلماً جديداً، أخبرها بأنني ذهبت إلى المسجد، في حين كنت أتجوَّل في شارع الستين، أقول لها بأنني زرت قبر أبي، مع أنني مع أصدقائي في المقهى بعد صلاة الجمعة، هذه الكذبة الأخيرة كررتها ما يقارب سبعة أعوام، أنادم الأصدقاء وهي تظنني في مقبرة النسيم أبكي على قبر أبي.
لقد بكيته كثيراً بعد رحيله، واستعدت رفقته الجميلة في الليالي الأخيرة، حينما نُوّم لأشهرٍ في مستشفى الشميسي، قضاها مضطجعاً على ظهره، الذي تقشَّر وتيبَّس لكثرة النوم على قفاه، أتذكَّر قبل وفاته بيوم، لم يكن يكفُّ عن مغازلة الممرضات، كنت قد سألته جادَّاً عمَّ يتمنى؟! أردت أن أفعل شيئاً يسعده:

– تقدر تحقق لي رغبتي؟
ظننته سيطلب أكلاً معيناً، أو شيئاً مشابهاً، وحين هززت رأسي موافقاً، صدمني وقد ابتسم بسخرية:

من كثر النوم على ظهري، ودّي لو تدفنوني وأنا واقف!
ضحكتُ، وضحك بقوة، ضحكنا معاً ليلتها حتى دمعت أعيننا.
فكرت مراراً في عبارته تلك، وصمته فجأة بعد ضحك طويل، حين مسح دمع عينيه، وهو يأمرني بأن أجيبه، قل يا فيصل لو كل من عاش حياته منبطحاً دفناه واقفاً، لاحتجنا مقابر جديدة، تُحفر القبور فيها بشكل عمودي، حتى يضمن الموتى وقوفهم ولو بعد حيواتهم الكئيبة.
ظللت أتخيَّل أبي، واقفاً في قبره، كمن يتهيأ لسباق المسافات الطويلة، وهو يهمُّ بالهرب من قبره، ويعيش في الرياض باسم جديد، وهوية جديدة، أتخيله في شارع العليا يتلصَّص عليَّ وأنا أسير وحيداً.
بعد رحيله، لم أكن مقتنعاً بأن أزوره في مقبرة النسيم، كنتُ جازماً بأنه يسير بيننا، يتنفس الهواء ذاته، ويلاحقني في شارع الثلاثين، حتى أمي كانت تشاركني الحالة ذاتها، لكنها حينما أدخل غرفتها، وهي تنصت إلى سورة الكهف، تعانقني وتمسك رأسي بيديها بطريقة طفولية، وتسألني: “شفت أبوك؟” حتى بتُّ أخجل من كذبي عليها، واضطررت إلى زيارته أسبوعياً، بعد كل صلاة جمعة، إلى أن توقفت تماماً بعد تلك الحادثة الأليمة التي أثارت رعبي وهلعي.
في قيظ 1998م، كنت خارجاً من صلاة الجمعة، متجهاً شرقاً نحو مقبرة النسيم، لم يكن هناك داخل المقبرة سوى سيارة أو اثنتين، فقد كان معظم أهل الرياض مسافرين خلال الصيف، كانت الحرارة عالية جداً، وكالعادة، لكي أتعرف على قبر أبي، أعدُّ القبور، من جهة الجدار الشمالي، حتى أصل إلى القبر العشرين، ثم أعد من جهة الجدار الشرقي للمقبرة، حتى أبلغ القبر الثامن، فأجلس القرفصاء عند ناصبة القبر، أقرأ بصمت، وأدعو، وأبكي، وأتذكَّر، حتى يصفو رأسي من الهمّ. لكنني ذلك اليوم، الذي لم يكن فيه جنائز تُدفن، كنت أرى السيارتين واقفتين، لا أحد فيهما، ولا حتى في المقبرة، ظننت أن أصحابهما داخل غرفة حارس المقبرة، وما أن جلست كعادتي أدعو لأبي، حتى لاحظت شيئاً أسود يتحرك في أحد القبور المفتوحة الجاهزة لاستقبال جنازة جديدة، في البدء قلت لنفسي هي وسوسة الشيطان، أو الشمس الحارقة فوق رأسي، أو تهيأ لي ذلك، ولكنني سمعت نهنهة بكاء خافت، ثم لاحظت السواد يتحرك، يعلو ثم يخبو، صرت أبسمل، وأتلفت للخلف، دون أن أرى أثراً لأحد، وما هي إلا برهة، حتى فاض رأس أشعث، وتبعه آخر، وثالث، من القبور المفتوحة، لا أتذكّر بعد ذلك شيئاً، سوى ركضي وصراخي، كنت أركض بجنون، وقد تعثرتُ بطوب مرمي على حواف القبور المفتوحة، فسقط نعلي وأنا أركض، وكذلك غترتي، بينما هم يصرخون خلفي، لم أفهم ما يقولون آنذاك، بل حتى أصواتهم شعرت أنها عارية، آتية من أقفاص تصفر فيها الريح، خرج الحارس من الغرفة راكضاً، يتبعه رجلان، وما أن اقتربت منه، حتى ارتميت بين يديه، كنت أرتجف، بينما استقبلني أحد الرجلين، وهو يبسمل، وينفث عليَّ، ويمسح رأسي حتى هدأت.
حملوني إلى غرفة الحارس، غسلوا وجهي، وأسقوني، ثم فوجئت بأحد الموتى الذين هربت منهم، يدخل علينا ضاحكاً، وهو يحمل نعلي وغترتي، بينما نهره الرجل الذي نفث عليَّ، وهو يقول له، هذا أمر لا يُضحك، ليتك تعرف مهابة الموت من هذا الموقف!
كان هؤلاء الثلاثة طلاباً مستجدين في جماعة التوعية الإسلامية، جاء بهم المشرف لمعايشة الموت والوحدة، والبقاء داخل قبر مفتوح، كي يتأملوا الوحشة، ويستعيدوا أخطاءهم في الحياة الدنيا، ويعيشوا لحظة انتظار أسئلة الملكين، وعذاب القبر، كي يزداد إيمانهم. اقترح عليَّ المشرف أن ألتحق بهم في تجربة الموت، بعدما دعا لأبي أن يغفر الله له، ويرزقه صلاحي بالدعوة إليه. تسلَّمت نعلي، ووضعت غترتي فوق رأسي، وأدرت محرك سيارتي الصغيرة، ولم أدخل المقبرة بعد ذلك قط.
نسيت هذا الأمر تماماً، واستعدته في حياتي مرتين فقط، مرة عند رحيل أمي، واضطراري إلى دخول المقبرة، بمساعدة أبناء خالي، وقد حضروا كي يشاركوا في عزاء عمتهم، والمرة الثانية عندما تعبت من طيف أمي في بيتنا القديم، وهي تحوم ليلاً تلتقط كرات الخياطة في المنزل، وأكياس النايلون الفارغة، أو تصوِّت لي: فيصصل، فأهبُّ من نومي، وأنا ألهث فزعاً، باحثاً عن مصدر الصوت، فاقترح عليَّ صديقي الطبيب النفسي أن أغيّر المكان، كنت أظنه يقصد السفر، أو الهجرة، لكنه صحَّح لي ذلك، بأن أغيّر المنزل فحسب، فاستأجرت تلك الشقة في شارع العليا، ولم أكتشف أنها تطل على مقبرة، إلا في اليوم التالي. طبعاً لم أتوقع أن تطل على نهر، أو بحر، في مدينة صحراوية كالرياض، لكن على الأقل أن تطل على شارع، أو أرض شهباء فارغة، أو حتى مليئة بالنفايات.

(4)

أتنحنح أحياناً، وأنطق بكلمة ما، لأتأكد أنني ما نسيت الكلام.
صمت شقتي الصغيرة المطلَّة بشكل مائل على شارع العليا، يجعلني أتدرَّب على الكلام مع نفسي، أتسلَّى بذلك كثيراً، أضحك وأنا أفتح الثلاجة، فيضيء النور داخلها، وأخاطب الأشياء بطريقة الندِّ إلى الندِّ: تعال هنا يا ولد! فأجذب علبة جبنة مرسوم عليها ولد، وألتقط حلاوة الطحينية، وأغمز لضحكة (جوليا روبرتس) المعلقة على باب (الفريزر) العلوي، فتسيل بلؤم، على عكس (كيت ونسلت) التي تشيح بوجهها عنّي، كلما اقتربت منها عند زرّ ضوء المطبخ، لصق الباب.
أشعل الموقد بينما أدندن بأغنية خالد الشيخ (ضيَّعوك)، فتخنقني العبرة، حتى تطفر دمعة مخاتلة من عيني، وأنا أتذكَّر أختيَّ المتزوجتين، وأمي التي رحلت منذ عام، وحسرتها على طلاق زوجتي، دون أن تستمتع بحفيد من صلبي، كم كافحت طويلاً لأغتال هذا الحنين، منذ أن انتقلت من دور علوي قرب شارع الثلاثين العليا، إلى هذه الشقة الموحشة.
منذ أن أقمت في هذه الشقة قبل شهرين لم أسمع جرس بابها، حتى أنني في منتصف ليلة ما، خرجت وضغطت زر الجرس لأتأكد أنه يعمل فعلاً، كان صوته يشبه شقشقة عصافير، لكنني سمعتها بشكل آخر، ربما نعيق غربان، أو غرغرة غريق قبيل موته، أو شيء من هذا القبيل. لا أعرف لماذا ازدادت حساسيتي تجاه الأصوات إلى هذا الحد؟ كأن أخلع بطارية ساعة الحائط كي أوقف التكتكة المملة!
أذكر أنني دخلتها لأول مرة بصحبة السمسار المصري في مكتب العقار، كان الوقت ليلاً، فأضاء لي المصابيح وهو يثرثر بأنها شقة “سوبر ديلوكس” وموقعها متميز، وأذكر أنني شاغبته ليلتها: ليه، بتطل ع النيل مثلاً؟ من عيوبي أنني استمتع بالكلام الطويل الممل كلما قابلت أحداً، وكأنني أنتقم من صمتي الطويل. وحين فتحنا الزجاج المفضي إلى الشرفة انصرف بصري إلى أضواء النيون في عمارة فندق نوفوتيل المقابل، ثم عدت دون أن أتفحص المكان المجاور في الأسفل.
في الصباح الأول صحوت متثاقلاً، وفتحت الستارة الزرقاء، ثم سحبت الزجاج، وخرجت إلى شرفتي في الطابق الثاني من العمارة، أطللت نحو الشارع في الأسفل، حيث سيارة الشركة الوطنية للتوزيع تقف محمَّلة بصحف اليوم، ثم رفعت بصري نحو الحوش المجاور، تفحَّصته، كان ثمة قبور قليلة متفرقة، ودهشت كثيراً، هل هي حقاً قبور؟ هل هو حوش مؤجر مقبرة؟ وهل الموتى مثلنا، يستأجرون قبورهم أيضاً؟ هل صاحب الحوش قرر أن يقبر فيه أهله وذويه؟ هل هي مقبرة حقاً؟ ولكن كيف يمكن لمقبرة صغيرة جداً أن تكون هنا في شارع العليا، الشارع الذي تنتشر على جانبيه محلات الأزياء والموضة؟ يا للغرابة فعلاً!
كنت مصدوماً، ولم أتوقع يوماً أن أعيش بجوار مقبرة، ليس سهلاً أن أفتح النافذة، أو أطلّ من البلكونة على موتى، كيف لم أتنبَّه لذلك. خرجتُ إلى الشارع ومررت بحذاء الحوش المجاور، وقرأت لافتة بنّية (مقبرة العليا)؛ الغريب أنني أسكن في هذه المنطقة منذ سنوات، وأمرُّ من هذا الشارع مراراً، دون أن ألمح هذه اللوحة البنّية، ولم أعرف أن ثمة مقبرة صغيرة كهذه تغفو هنا، فالمقابر التي نعرفها جميعاً هي مقبرة العود، ومقبرة أم الحمام، ومقبرة النسيم، ومقبرة منفوحة، ومساحاتها الضخمة، وأسوارها الطويلة العالية، المكتوب عليها دعاء المرور بها، على خلاف هذه المقبرة السرّية، ذات السور القصير، ومن غير دعاء للموتى، لماذا إذن تنبت هذه المقبرة بخجل، في شارع تجاري، ووسط منطقة تجارية مكتظة بالسكان، ثم ما هذه المقبرة التي لا تتسع لأكثر من عشرين جنازة؟ ومن هؤلاء المدفونون؟

رجل تتعقبه الغربان: ملخص الرواية

رجل تتعقبه الغربان: ملخص الرواية

يظهر خيط السرد بطريقة جديدة، لا تبدأ بالحاضر، وحظر التجول في مدينة الرياض، أو أربعينات القرن الماضي، ورصد المدينة المحصَّنة بأسوارها الطينية فحسب، وإنما القفز بالزمن في مغامرة مختلفة نحو المستقبل، من خلال منظار روسي...

أكمل القراءة

تلك اليد المحتالة – مختارات

تلك اليد المحتالة – مختارات

لبس ما ظنه الرجل الجالس أمام النافذة حمامة بيضاء بأربعة مناقير وعُرف… كان قفازًا منفوخًا ليد هاربة من وباء، دفعها الهواء بخفَّة. هكذا اكتشف الرجل الوحيد في عزلته. طائرات كلما انفتح باب السوبرماركت الكهربائي عن...

أكمل القراءة

في مديح القاهرة

في مديح القاهرة

ذاكرة الدهشة الأولىقبل ثلاثين عاما تقريبًا، تحديدًا في يناير من العام ١٩٩٢ زرت القاهرة لأول مرة في حياتي وأنا في منتصف العشرينات. جئت لوحدي لأكتشف معرض القاهرة الدولي للكتاب في مقره القديم بشارع صلاح سالم. لا أعرف...

أكمل القراءة

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *