أكثر من سلالم – مقتطفات

يوليو 14, 2021 | أكثر من سلالم | 0 تعليقات

(١)
قبلاته تشبه طيراً يلتقط الحبَّ

أخيرًا فعلتِها يا رشّو يا بنت سعيد! همستُ لنفسي، وأنا أعضُّ شفتي السفلى بقلق.
في الممر الطويل المؤدي إلى كابينة الطائرة بوينغ 777 كنت أمشي بخطوات سريعة إلى الأمام. لم ألتفت أبداً نحو أبي، الذي استطاع الدخول معي إلى مدخل الممر، بعدما أقنع الأمن أنه سيطمئن على جلوسي عند رقم البوابة الصحيح، فوافقوا لأنهم يعتبرونني كائنًا فاقد الأهلية، وطوال جلوسه معي قبيل الرحلة، كان يحيطني بنصائحه، بألا أصاحب من هب ودب، وألا أثق بأي أحد، ولا أذهب إلى أماكن لا أعرفها، وأن يقتصر خروجي على الأشياء الضرورية، كانت أمي صالحة، وأختي زهرة، وأخويَّ سعد وحسن في الصالة العلوية بالمطار، يقفون خلف الزجاج، كلما ألتفت نحوهم، وجدتهم يلوّحون بأيديهم، تبلَّل وجهي، وقد أحسست بدمع أمي، وخجلت من نفسي لأنني أبكيتها، وأحزنتها على فراقي.
تفحَّص الموظف بطاقة صعود الطائرة وجواز سفري، وتأكد من تأشيرة الدخول إلى الأراضي الأمريكية، قال وهو يناولني الجواز وبطاقة الصعود: بالسلامة. هرولت وعلى ظهري حقيبتي، لم ألتفت خلفي، ولا حتى لمرة واحدة، خشية أن يصرخ بي أبي كما في المسلسلات الخليجية: “رشا ارجعي، غيَّرت رأيي، لن تسافري إلى أمريكا!” لكنه لم يفعل بالطبع، ولم أتوقف إلا حينما رميت جسدي المنهك، المفكك تماماً بعد محاولة الانتحار الفاشلة التي أقدمت عليها قبل تسعة أيام، جلستُ بجوار الشباك، وجلس بجانبي رجل أربعيني، لم يلتفت نحوي، ولم يكلف نفسه بإلقاء التحية، ولم يبتسم أيضاً، كل ما فعله لحظة أن أقلعت الطائرة، أن أرجع مسند مقعده للخلف، ودخل في نوبة نوم مخيفة، كان يشخر مثل حوت، وكلما تعالى شخيره فزّ فجأة، كمن يدفع موتاً مباغتاً.
بينما المضيفة تقرأ التعليمات، تنبَّهت إلى أنني لم أقفل هاتفي المحمول، كانت أمي تنشج بحزن: “بغيت اسمع حسّك قبل تقفلين جوالك” هدَّأتها، ومازحتها قليلاً وأنا أخنق عبرة تتسلل، ووعدتها بألا تشعر بفقدي، سأتصل بها كل دقيقة، وأترك هاتفي المحمول مفتوحًا حتى في الليل، فتنهدتْ بحزن، ودعتْ لي قبل أن أقفل الخط، وأربط حزام المقعد.
حينما أقلعت الطائرة، لم أنظر من النافذة نحو الرياض وهي تختفي ببطء، ولم أندم أو أبكِ، كنت أمتلك قوة وشجاعة، بل وسعادة كبيرة أن أصبحت داخل هذا الصندوق السحري الذي سيلقي بي في أرض الأحلام، نيويورك التي لا تنام، نيويورك كيفن في فيلم (هوم ألون ٢)، بلازا هوتيل، سنترال بارك، تايم سكوير، تمثال الحرية، برودواي، مانهاتن، بروكلين… يا الله! كنت كل لحظة حينما ينتهي فيلم أشاهده في شاشة المقعد أمامي، ألتفتُ نحو الرجل الأربعيني الغارق في نومته العميقة، أودُّ لو ألكزه، كيف تنام وأنت في الطريق إلى المدينة التي لا تنام؟
شعرت بحرجٍ شديد حينما امتلأت مثانتي، كيف أوقظ هذا النائم كجنازة، لأمرَّ بينه وبين مسند المقعد المقابل، صحيح أن جسدي صغير وضئيل، لكن طاولة جاري كانت مفتوحة أمامه، وعليها هاتفه المحمول، وقد أقفل تماماً فرصة العبور إلى الممر، كنت أفكّر، ماذا لو نبهته قائلة: لو سمحت! ولم يستيقظ، أي حرج لي، وأنا واقفة، بينما ركاب المقعد الخلفي يتطفلون عليَّ، ماذا لو اضطررت إلى أن أمسَّ كتفه برفق كي يستيقظ، وكيف لي أن ألمس جسد رجل غريب، وماذا لو عدتُ بعد الحمام، لأجده دخل في الغيبوبة مجدَّدًا؟ مما يضطرني إلى إيقاظه مرة أخرى، يا الله ما هذا الحرج؟
تحمَّلتُ كثيراً حتى كدت أبكي لفرط امتلاء مثانتي، فجأةً قررت أن أفعلها، وأرفع هاتفه المحمول بهدوء من على طاولة المقعد، ثم أرفع الطاولة وأقفلها بهدوء، وأحاول التسلل بخفة كقطَّة أليفة، لكنني مجرد أن وضعت يدي على هاتفه المحمول، حتى تحرَّك وتململ، ثم تنبَّه في اللحظة التي قلت فيها: المعذرة؛ خشيت أن يظن أنني سأسرقه. لكنه ابتسم خجلاً، وأخذ هاتفه وأقفل الطاولة، وانعطف بجذعه يساراً تجاه الممر، دون أن ينهض، يا للحماقة، ألا يعرف التعامل مع فتاة؟ خرجتُ إلى الحمام، وحين عدت قلقة أن يكون نام ثانية، وجدته واقفاً في الممر يقوم بعمليات إحماء، كمن سيدخل في مارثون طويل، أو كمن يستعد لجولة ثانية من نوم أكثر عمقاً.
عدت إلى مقعدي، وتنقلت بين أفلام الرحلة المتاحة، معظمها أفلام قديمة، اخترت فيلم (Are we there yet)، وأطلقت بصري من النافذة حيث السحب البيضاء، وهذا السديم الذي أخذني عنوةً إلى طفولتي البعيدة، حينما كان أبي يحبني كثيراً، وكذلك أمي، وهما لا يرفضان لي طلبًا، كنت في المراهقة أتمنى أن يقول لي أحد: لا، لكن ذلك لا يحدث، عشت طفولة مثالية، أو بالأحرى طفولة مدللة، كل الألعاب الجديدة من ديزني لاند، تصلني قبل الآخرين، كنت محسودة كثيراً من قبل قريناتي من الأقارب، والصديقات، لكن الأمر بدأ يتغير شيئاً فشيئاً، منذ أن ساءت العلاقة بين أبي وأمي بعد زواجه من فتيحة، وتحوله إلى شخص آخر، يبحث عن أي سبب، ولو كان تافهاً، كي يثور ضدي، لا أعرف لِمَ كان يفعل ذلك، هل بسبب حدة أمي وانفعالها المستمر ضده؟ أم بسبب تأثير زوجته الثانية فتيحة؟ لم يعد أبي يضع القمر في يدي، ولم تعد الشمس تتسلل إلى غرفتي بخجل، كان يدخل ويفتعل أي شيء للشجار، مجرَّد الشجار، كأن أجهِّز الغداء بدلاً من الخادمة، أو يجبرني على الذهاب لبيت عمتي، فتحولت إلى شخصية مختلفة، عنيدة، أرفض كل شيء يطلبه، حين يأمرني بفعل شيء، أفعل عكسه تماماً، أصبحت فتاة نزقة، كنت ألفت انتباهه وتقصيره معي، صار يتهم أمي بأنها تحرضني على الرفض والتمرد، بينما لو كنت مكانها لخلعته منذ سنوات طويلة، فأنا لا أحب الرجل المتسلط والمستبد، الذي يعتقد أن دوره في إلقاء الأوامر، وليس المشاركة في حياة طبيعية.
أتذكر أول مرة صفعني كيف بكيت لساعات، لم أكن أبكي ألماً، لكنني شعرت بالمهانة والحزن، لأن من فعل بي ذلك هو أبي الذي طالما أغدق عليَّ حبه وعطفه وحنانه. بعد ذلك صرت لا أكترث له، وازداد عنادي حتى أصبحت قادرة على أن أجعل العالم كله يقف على قدم واحدة، أفعل ما يغضبه قصداً، وأختبئ في غرفتي بعد أن أرتدي ملابس ثقيلة تحت قميصي، وأغلق باب غرفتي جيداً، لكنه يعود ويجلدني بالعقال، وبالحزام أيضاً، حتى اعتدت الأمر، فلا أبكي أبداً، أتركه يفعل ما يريد، ثم أدخل الحمام، وأتحمم تحت ماء ساخن، وأغير ملابسي، ثم أخرج لأمي دون دمعة واحدة، بعد أن يكون قد غادر البيت.
كنت شقيَّة وشرسة، أفعل ما أريد، فلا يمضي شهر دون أن أوقع تعهُّدًا بعدم تكرار خطأ ارتكبته في المدرسة، إما أن ألبس بشكل مخالف للنظام، أو أثير الفوضى في الصف، مما يوقعني في فخ توقيع تعهد، أو عقوبة الفصل ليوم أو يومين أحياناً، وهذا ما يغضب أبي مني كثيراً، لكن أمي خلاف ذلك، فقد كانت سعيدة وفخورة بي، كأنها تعوٍّض ضعفها بقوتي! كأن لا شيء يعنيها سوى تحقيق درجات عالية، وهذا ما أفعله، فرغم الشغب والعبث والفوضى والتمرد، كنت أنجح بتفوق، وأنافس على الترتيب الأول، وربما هذا ما قادني، وفيما يشبه الورطة، إلى كلية الطب بجامعة الملك سعود، رغم كل الحماقات التي ارتكبتها أثناء المقابلة الشخصية، فما زلت أتذكر كل التفاصيل حينما جلست أمام دكتورة تسألني عن سبب رغبتي في الالتحاق بهذه الكلية، كيف وضعتُ ساقاً فوق أخرى، وتحدثتُ بلا مبالاة، لا أتذكر إن كنتُ ألوك علكاً في فمي، لكنني لا أنسى استفزازي لها مراراً، كي تطردني، غير أنها لم تفعل.
دخلت غرفة المقابلات الشخصية، كنَّ ثلاث سيدات، في الوسط أربعينية ترتدي بلوزة صفراء بلون الليمون، بنظارتين طبيتين فوق أنفها، كنت أمشي بطريقة مستهترة حين دلفت، وألقيت السلام، فأشارت لي بالجلوس:

  • هلا رشا، قولي لي، ليه تبغي تدرسي طب؟
    • لأن معدلي عالي، وأبغى أصير دكتورة، وأهلي يبغوا أصير دكتورة.
  • طيب ليه تبغي تصيري دكتورة؟
    • لأن ما فيه وظائف للبنات في السعودية، إلا معلمة، أو طبيبة، أو موظفة بنك، وأنا أكره البنوك والمال والاقتصاد، ولا عندي صبر أكون معلمة!
  • كيف ما عندك صبر؟ طيب اللي ما عنده صبر كيف يتحمل كلية طب؟
    • أقصد لو استفزتني الطالبات في المدرسة، يمكن اضطر إلى ضربهن!
  • طيب وإذا جاء لك مريض واستفزك، تضربينه بعد؟
    • لا طبعاً، أطرده فوراً من العيادة!
  • يا بنتي الطب عمل إنساني، يحتاج التضحية والصبر!
    • يمكن، بس في السعودية، صعب نضحي في عالم ذكوري!
    تنهَّدت الدكتورة بعمق، كأنها تتساءل، ما هذه الحمقاء؟ صمتت لوهلة، ثم سألتني:
  • طيب يا رشا، كيف تقضين أوقات فراغك؟
    • إنترنت… أقرأ أحياناً… أطالع التلفزيون… زيارات وطلعات سوق…
  • ماذا تقرأين؟
    • غالباً روايات.
    ثم فجأة سألتني عن لون الجدار خلفي، فضحكت، وأنا أتساءل هل هذا سؤال، وقلت إنه أبيض أو حليبي، فرفعت حاجبيها وهي تستغرب سخريتي، قائلة بأنه قد يكون للسؤال معنى، فابتسمت وأنا أقول ممكن، إلا أن يكون له معنى في الطب.
  • طيب رشا، لو فيه مرض معدي، أو مدينة فيها حرب، هل أنت مستعدة للمغامرة بحياتك لإنقاذ الناس؟
    • يعتمد على المحرم، إذا عنده استعداد يغامر معي، تعرفين ما أقدر أسافر من غير محرم!
  • شكلك مجبرة على حضور المقابلة، والتقديم على كلية الطب!

قالت ذلك، وتمنت لي الهداية والتوفيق، خرجتُ وأنا على ثقة بأنني لن أقبل في الطب، بعد هذه الجرأة، أو الوقاحة في بعض الإجابات، لكن المفاجأة الكبرى أن تم قبولي، رغم أنني أخبرت أمي أنهم لن يقبلوني إطلاقاً، فقد فشلت في إقناعهم، لكن يبدو أن استفزازي لهم، ووقاحتي أيضاً، كانت مثيرة وجاذبة!
كنت أفكر حينما دخلت كلية الطب بجامعة الملك سعود، أن أتخصَّص في طب العيون، بعدما عشت طفولتي المبكرة مع جدتي العمياء، حيث لم يسعفها الطب في علاج الماء الأزرق، الذي كان أمراً سهلاً إلى حد بعيد، لكنني الآن، وقد صعدت هذه الطائرة الضخمة صوب الحلم الأمريكي، غيَّرت رأيي، وفكَّرت بطب الأسنان، كي أضمن للنساء في بلادي أسناناً قويّة وحادّة وصلبة، لينتقمن عند الحاجة ممن يمعن في إيذائهن، لم أكن متأكدة من ذلك قبل أن أصل إلى لوس أنجلس، وأوفق بالدراسة في جامعة عريقة، جامعة جنوب كاليفورنيا، وتروق لي الجامعة، ومكتباتها، وكلياتها، وفنونها، وكلية الأسنان فيها، والأصدقاء الذين صاروا أهلي وقبيلتي!
كل شيء كان مختلفاً، الطبيعة والفضاء والهواء والغيم والبشر والعالم، حتى النظرات والابتسامات مختلفة، يبتسم لي زملائي في المحاضرات، ومن لا أعرفه في الممرات، فأبتسم بدوري، وينتهي الأمر، يبادر بعضهم صباحاً: صباح الخير رشا، فأرد التحية، وينتهي الأمر أيضاً، قد يناقشني أحدهم في المقهى المقابل للكلية، وكذلك ينتهي الأمر، بينما حين ضبطت عبدالإله متلبِّسًا وهو يقيسني بنظراته، في مادة العملي، بمستشفى الملك خالد الجامعي، تصاعد هرمون الأدرينالين، وارتبكت، وأضعت الدكتور والشرح، وما أن ابتسم لي في الأسبوع التالي، حتى شعرت بنمل يصعد فوق أذنيَّ، وصدغي، كما لو أنه يدعوني للخروج معه، صحيح أنني كنت جريئة، وأحب المزاح والتعليق، ما جعل معظم زملائي الطلاب لا يجدون حرجاً في الحديث معي، على خلاف زميلاتي اللاتي ينتقدن مزاحي وبساطتي معهم، مع أنني أضع مسافة احترام معهم، باستثناء عبدالإله الذي غامر، وكنت أشعر به قبل ذلك، وتبعني في الممر، بعد نهاية درس العملي، طالباً رقم هاتفي المحمول، فاعتذرت منه بلطف. مضى بهدوء، وظننت أنه انهزم، لكنه فاجأني في اليوم التالي بشريحة هاتف جديدة، وبطاقات شحن، ناولني إياها، طالبًا أن أحادثه من خلالها، بما أنني متحفِّظة على رقمي الخاص، ووطئت هذا العالم الشائك، فتحدثت بالمحمول، ولأول مرة مع شاب، فكل اتصالاتي وعلاقاتي منذ الطفولة، وحتى الجامعة مع صديقاتي البنات!
كان عبدالإله شاباً وسيماً، طويلاً، ملامحه حادة ودقيقة، وبشرته مغسولة بحقول الحنطة، شاربه خفيف للغاية، ولا يكف عن المزاح واللهو، كنت في البدء استغرب كيف لمن لديه مثل عبثه وجنونه أن يلتحق بكلية صعبة وصارمة كالطب، تحتاج إلى عمل دؤوب، وصبر واجتهاد؟ منذ اللحظة الأولى انسقت خلف سخريته ومزاحه، لم أتصوَّر أنه يتلاعب بي، بل اعتبرت عبثه المراهق جنوناً يجذبني، بل يأسرني، قبل أن يرديني برصاصته الأخيرة.
ورغم أن ظهر كفيه كانا خاليين من الشعر تقريباً، إلا أن أصابعه الطويلة النحيلة، حين تتخلل أصابعي، وتلتف حول كفيَّ، تدخلني في لذَّة مدوّخة، يا الله كم كانت قبلاته تشبه طيراً بارعاً يلتقط حبات القمح من تربة البيدر، في البدء كنت أتسلَّى. أشاغب. أكتشف. أختبر كل شيء، نظرته الساهمة، ملمس كفِّه، طعم القبلة حين يتململ النمل داخل شفتيَّ، كنت أجرِّب لكنني فيما بعد أحببته بجنون، وكنت أظن أنه يبادلني ذلك، ولن يتخلى عني يوماً، ولا عن حبه المقدَّس، كما كان يسميه!

(٣٧)
أعود إلى نقصي!

في مايو ٢٠١٠ كانت ضحكات الخريجات والخريجين تملأ المكان، وهم يتبادلون التهاني والقبلات، ويلتقطون صورًا تذكارية، كنت أتنقل بينهم كفراشة بجناحين رماديين. في الحفل حضر الجميع، حضرت أمي الجميلة وهي تبتسم طوال الوقت، وأشعر بها فخورة بي.
وحضر أبي ببذلة رمادية أنيقة.
حضر صديقي المخلص هشام.
حضر جمال.
حضر زياد، سحر، عائشة.
حضرت سارا أيضًا.
حضر الذين أحبهم، والذين أكرههم، حضروا كلهم، وغاب هو.
لم أتوقع أن يحضر، لكنني حزنت أكثر حينما قدَّمت لي سارا عقدًا من الإكسسوار المطلي بذهب أبيض، وبداخله بطاقة صغيرة مكتوب عليها: “مبروك تخرجك رشا”
سارا وسعود

التقطتُ صورًا تذكارية مع الجميع، صورتي مع سارا لم أزل احتفظ بها في جوالي القديم سوني أريكسون، كانت ترتدي فستانًا أزرق، ويظهر النمش في صدرها، تقف ضاحكة وعلى كتفيها العلم السعودي، تمامًا كما حملته أمها أثناء مباراة في الثمانينات؛ تعتزُّ كثيرًا بوطنها الذي تخلَّى عنها، بل الذي لم يعترف بها، ولم يفتح لها أبوابه، هي تحب وطني أكثر مما أحبه، تشعر بالانتماء أكثر منِّي، هي تعشق الانغلاق وأنا أحلم بالحرية، وربما تحلم بواقع لم تعشه بعد، ولا تدرك قسوته أبدًا، ولو عرفت لتخلت عن هذا الحلم الكئيب، وربما وجدت في سعود بعض حلمها بالوطن، لم تذق الوطن لكنها ذاقت سعود وتخيلت وطنها في شخصه.
لم أسألها وقت ذاك عنه أبدًا، ولا عن مستقبلهما، أو أتأكد من معلومة قالها لي ماهر، زميلي الفلسطيني، الذي كان على علاقة بسعود، بأن سعود لم يقدم طلبا للحصول على البطاقة الأمريكية الخضراء، وإنما قدم أوراق زوجته إلى السفارة السعودية، كي تصحبه بعد تخرجه، كنتُ أتساءل في داخلي، وهل سيتخرج، وأنا التي أعرفه جيدًا؟.
كلما تأملتُ صورتي معها، وهي تلتصق بي بابتسامة بلهاء، وكأن شيئًا لم يحدث. ابتسم بحزن، وأنا أستعيد كيف استقبلتها كالآخرين، دون أن أحقد عليها، بل كنت متماسكة، وأنا أخبئ غضبي جيدًا، ولا أعاتبها، لكنني بالطبع لم أبتهج لرؤيتها، ولم نعد صديقتين.
أنا لا ألومها، لكنني ألومه كثيرًا، صحيح هي مذنبة لكنها لا تعنيني هي أو غيرها، فالمحب حين يكون مستعدًا لأن يهجر محبوبته، لا يهم مع من يهجرها، ولا لأجل ماذا، المهم أن حبيبته أصبحت في نظره لا شيء، بالضبط لا شيء، كنت أشعر أنني لا شيء، لا أحد، هو لا يراني مطلقًا، ولا يسمعني أبدًا، تجاهلني تمامًا كما لو لم يكن يعرفني من قبل، لدرجة أنني صرت أشك أن في الأمر شيء آخر، كأنني ضربته على رأسه في الملهى، كأنني لكمته وهشَّمت أسنانه أمام الملأ، كأنني ارتكبت جريمة، كل ما فعلته أن وقفت مشدوهة، ثم خرجت ودفعته بعيدًا عني حينما أصرَّ أن يمسك بي، هل استكثر أن أنفعل مثلاً، هل تعوَّد أن أذعن له، وأطيعه دائمًا، وأنفذ رغباته بلا تردد، هل كانت علاقتي به كما حللت الدكتورة كارين، واعتبرت طريقتي خاطئة في التعامل مع الرجل عمومًا. لا أعرف.
عادت أمي وأبي إلى الرياض بعد أسبوع من الحفل، وبقيت أنهي بعض الإجراءات، أنهي علاقتي بهذه المدينة التي أعشقها حد البكاء، بقيت شهرًا لا أنساه ما حييت، أسهر حتى الصباح، وأطوف فيها مثل ناقة فقدت جنينها، لم أترك محلا إلا اقتحمته، ولا مطعما إلا تلمست طاولاته كعمياء، ولا شارعا إلا متِّرته بجنون، ولا شجرة إلا تمسَّحت بها، كنت أطوف ليلاً وأبكي، لا أعرف لماذا، بالأمس القريب كنت أبكي سعود، واليوم أبكي المدينة كلها، أبكي كل شيء فيها، بل أبكي أمريكا العظيمة كلها، يا الله، كم أحببت هذه البلاد، أحببت ترابها الحر، وكلما تعبت من التجوال والبكاء، ذهبت إلى هشام الذي تحمَّل حزني، كأنما كانت مهنته الوحيدة مواساتي، كنت أبكي بين يديه، فيضمني ويسألني:
“لماذا تبكين؟”.
“هشام لا أود أن أعود، أنت لا تعرف السعودية؟” وأضفت:
“ستذهب أنت للبحرين، وتعيش الحرية، أنا سأتكوم في عباءة هناك”.
“لكنك ستزورينني في البحرين؟” أعرف أنه يواسيني.
“لا أعلم يا هشام إن كنت أستطيع أم لا؟”.
خلال ذلك الشهر بعت أثاث شقتي، بعت سيارتي، وحريتي أيضًا بعتها عندما صعدت الطائرة، كنت كمعتقل يُقاد إلى منفى، أمشي في المطار بتثاقل عجيب، وأسمع السلاسل في قدميَّ وأنا أسحبهما بصعوبة. صحيح أن أمريكا قدمت لي خنجر سعود، لكنني على استعداد أن أتلقى مئات الطعنات مقابل أن أبقى في أرض الأحلام، أرض النخيل العالي، والهواء الحُر.
قبل يومين من سفري، ذهبت إلى مقهى بلاك دوق، وتذكرت الجلسة المطلة على الشارع، حينما جلست وكتبت إلى سعود رسالة موافقة أن أمنحه فرصة، فتحت الرسالة من جوالي، وقرأت ما كتبته له: سأعطيك فرصة أتمنى تكون قدَّها، ولو ناوي تجرحني يوم أرجوك أنا ماني ناقصة جروح، لا تحبني إذا تفكر في يوم تتركني”، تسللت دمعة من عيني، وتنهَّدت بقوة، وأنا أهمس لنفسي: “رشا كوني قويَّة، ولا تأخذي الناس وكلامهم على محمل الجد دائمًا”. نهضت نحو طاولة الاستقبال، وطلبت أن تكون قهوتي “تيك أوي”، خرجت وهواء مايو يملأ رئتي، اتجهت للحديقة القريبة، كانت ثمَّة مقاعد حجرية جميلة، لم أجلس على أحدها، بل جلست على الزرع الناعم، وجلست أمسِّده بيدي، كما لو كنت أمسد شعر مدينتي الجميلة لوس أنجلوس، بالقرب مني جرت حشرة راكضة، فرفعتها فوق كفِّي وجلست أسلِّيها، مرَّت بجواري امرأة سبعينية يقودها كلب صغير، ونظرت نحوي وهي تبتسم، يا ربي، أليس من حقي أن أحيا ما تبقى من حياتي هنا، أليست سبعينية مبتسمة في وجهي أكثر جدوى من عجوز تلحق بي في السوق كي تجرَّ طرحتي وهي تصيح بي: “غطِّي شعرك”؟.
مررت على معظم الحدائق في المدينة، جريفيث بارك، واتلس بارك، هارولد بارك، وجلست على الأرجوحة ذاتها، التي دفعني فيها نحو السماء، وقد تصالحنا بعد حكاية شمسه، تذكرتُ حين أخبرني بمحادثته مع أمه، وزواجنا، وأحلامنا الكاذبة. تأرجحت دمعةٌ مالحة، نشجتُ لوهلة، ثم تنحنحتُ بصلابة، وصرتُ أتزحلق مرارًا، أصعد وأهبط مثل طفلة مجنونة. جلست إلى الطاولات الخشبية العتيقة، تناولت الوجبات فيها، كنت هائمة على وجهي، أتأمل السياح، وأطارد الطيور والفراشات، كنت أليس في بلاد العجائب، وأدرك أنني بحاجة إلى أن أشحن بصري جيدًا، قبل بلادي الشاحبة، حيث الحدائق النادرة الشهباء، التي يجتمع فيها الباكستانيون والبنغال.
في المطار ودَّعني هشام، احتضنني، وعانقته بقوة، كنت أريد أن أتسلل داخل ملابسه، ولا أغادر. عانقت جارتي وصديقتي جولي وصافحت زوجها جيمس، واحتضنت بناتها الجميلات الثلاث، كانت الصغيرة إيفا تبكي بحرارة، ولم تقبل أن تفك ذراعيها الصغيرتين عن عنقي، كأنها تعرف أنني أغادر للمرة الأخيرة، كنت أمشي وأنا ألتفت للخلف وألوِّح بيدي، خلافًا لمغادرتي بلادي أول مرة، حين لم ألتفت نحو أبي، لئلا يغيِّر رأيه في سفري.
حينما تحرَّكت الطائرة نسيت أن أربط حزام المقعد، نبهتني المضيفة وهي تمرُّ بجواري، أحسست أنني أريد أن أهرب في اللحظة الأخيرة، وأقول لهم: كنت أمزح، لن أغادر هذه الأرض الجميلة. نظرت من النافذة حيث الأرض التي فتحت ذراعيها لي، لم تشك في سلوكي، لم تحاصرني، لم تفرض وصايتها عليَّ، لم يُرسل ناسُها أعينهم كي تقيسني من رأسي حتى أخمص قدميَّ، لم يسألوني عن ولي أمري، ولا محرمي، كنت إنسانًا كاملاً، وها أنا ذا أعود تاركة اكتمالي، أعود إلى نقصي، نقص عقل ودين، أعود جاهلة رغم شهادتي، وأحتاج من يصادق على تصرفاتي بدمغة وبصمة وتوقيع، أي عالم غير عادل هذا؟
بعد أن قفزنا فوق الغيم، ولم أعد أرى مدينتي الجميلة، بدأت أفكِّر لو كنت شابًا، لأمكنني الهجرة ببساطة، وربما الزواج من أمريكية كسعود، لن ينتقدني أحد، فأنا أحمل عيبي في جيبي، كما يقولون، لكنني للأسف امرأة، لو فعلتها ورفضت العودة، فسأصبح حديث الإعلام والصحافة في بلدي، وقد تتم إعادتي مخفورة وبالقوة، لأنه ستنسج حولي قصص كاذبة، ويوصف سلوكي بالعاهرة، و… و… إلخ.
أرجعتُ مسند الكرسي للخلف، وطلبتُ من المضيفة لحافًا، تغطَّيت، بعدما غرست سماعتي الأذنين، وتصفحت أسماء الأغاني العربية في جوالي، ثم تصفحت الأغاني الأجنبية، حتى توقفت عند أغنية we belong together، همزت التشغيل، وبدأت الكلمات تعيد لي المشاهد كلها، حينما كنَّا معًا، كأنما الكلمات على لساني، كأنما ماريا أنا، وأنا ماريا كاري:
أجلس هنا وحيدة
لأنني لم أعرفك
لأنني لم أعرف نفسي
ولكنني اعتقدت أنني عرفت كل شيء
لم أشعر أبدًا
بالشعور الذي أشعر به الآن
الآن أنا لا أستطيع سماع صوتك
أو أن ألمسك، وأقبِّل شفتيك
سحبتُ طرف اللحاف الصوفي الخفيف، وغطيت به وجهي، كي أواري الدمع في عيني. الحزنُ مرٌ، والبكاءُ مالح، والغيم تحتي لم يعد ندفًا، بل أصبح معدنًا. لم تعد الموسيقى تغسل الروح، بل تخز القلب.
لا أعرف كم بقيت أعيد الأغنية، عشر، عشرين مرة، لكنني دخلت في ظلمة أو إغفاءة قصيرة، رأيتني أركض بشعري المنكوش في حقل مليء بالضفادع، كانت تنطُّ حولي، وأنا أتحاشاها في قفزات متلاحقة، كأنني فتي الأدغال ماوكلي. تنبهتُ فجأةً مذعورة ومتقزِّزة، ثم تأملت الركاب من حولي، وعدت أختبئ من جديد.

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *