لقد تعبت… كان عليَّ أن أطرد أمي من البيت، أو أن أهرب بجلدي، وهذا ما فعلته في ذلك المساء البعيد. قررت بعد شهرين أو أكثر من محاصرتها لي، وزعيقها أنصاف الليالي: “فيصصصل الله يفصل رقيبتك” أن أهرب ليلاً، في الظلام الحالك، فاخترت إحدى الليالي الأولى من شهر رجب، كان القمر فيها هلالاً، بل خيطاً ناحلاً، كشعرة في أحد حاجبي أمي الطويلين. كانت ليلة شديدة السواد، حينما سحبتُ حقيبتي السوداء، وواربت باب السور الخارجي، حتى لا أحدث صوتاً، وقد مضيت كما لو كنت سأعود بعد قليل. كنت قبل ساعات من منتصف تلك الليلة، قد مررت بمكتب عقاري، بشارع العليا، وسألته عن أي شقة صغيرة للإيجار، نظيفة ورخيصة، فصحبني السمسار المصري إلى شقة في عمارة على شارع العليا، أمام مجمع الموسى، دخلتها على عجل، وقلت له أثناء نزولنا في المصعد: اتفقنا، المهم أنها نظيفة، وصغيرة! دفعت له قيمة الإيجار لستة أشهر، وتسلَّمت منه مفتاحها، دون أن أعرف أيَّ سرٍّ يخبئه ذلك المفتاح الحديدي اللعين!
(2)
ولدتُ في يوم غبار ترابي عاصف، كان الوقت في نيسان من عام ١٩٧٣م، وحين كبرت عرفت أن ولادتي كانت في شهر إبريل، شهر الأكاذيب، فداهمتني خلال فترات لاحقة من حياتي أحاسيس غريبة ومزعجة، كأن أشعر أنني كذبة، وأنني لم أولد أصلاً، ولم أعش بتاتاً، وأن خبراتي تلك لشخص آخر غيري، ولم يكن آخرها يقيني بأن الموتى هم الذين يجوبون الشوارع، بينما الأحياء هم أهل المقابر النائمين بسلام تحت أسرتهم. منهوبٌ أنا في هذا البلد – هكذا أفكّر – كل ما حولي ينهب بعضي، حتى لم يتبقَ مني شيءٌ، زوجتي التي رشّت بعض سعادة وهمية قصيرة ثم مضت، أبي الذي رحل بحلم الثروة، فلم يصبح تاجراً، واكتفى بوظيفته بوزارة المالية، فخرج من هذه الدنيا بمنزل مسلَّح في الملزّ، قرب شارع صيته، بناه في السبعينيات الميلادية، حيث ولدت هناك، حلم أن يصبح ثريَّاً، حين اشترك مع زميل عمل في تجارة استيراد الأحذية، دخل معه بعشرين ألفاً، لكنه بعد أشهر، ومع إلحاح أمي، استعاد رأس ماله من شريكه، كي نسافر بها إلى مصر، فأشرك هذا الزميل شقيقه، الذي دفع لأبي نقوده ليبعثرها على النيل، ولم تمضِ سنوات حتى توالت سلاسل متاجر الأحذية الشهيرة في الرياض، فتقاعد زميله مبكراً، بينما مضى أبي يفتتح صباحه البارد بوضع الميزانيات العمومية للدوائر الحكومية كل عام، بمبالغ مليونية، لم يخرج منها إلا بمرتب التقاعد، وعمارة متهالكة في شارع السبالة، تورَّطتُ بها، مع مستأجر جشع وصاحب محل أوان منزلية، له لحية مشذَّبة على طريقة “سكسوكه”، وهو يستغل طيبتي وسذاجتي، فيماطل مراراً في دفع إيجار سنوات متراكمة، حتى اختفى ذات ليل. الحكومة التي وضعتني على رصيف البطالة ثم غادرت، والحلم الذي نهبته مني، بعدما مدّت تجاهي لسانها الأفعواني الطويل، حتى صوتي لم يعد لي، آخر مرة سمعته منذ شهور، حتى أنني أشك بأنني أخذت صوتي معي منذ عام، بصحبة جنازة أمي، ودفنته معها. كل صباح حين أغسل وجهي أمام المرآة، أمد لساني لأتأكد أنه في مكانه، وأن أحداً لم يسرقه في الظلام، كم كانت أمي تعاتبني في أوقات الصمت التي تتلبسني، وهي تقول: آمنا بالله، هو لسانك عظم! في السيارة أتوقف في محطة البنزين، ومن خلف الزجاج الموصد أفرد أصابع يدي الخمسة تجاه العامل، مختصراً الإجابة عن تساؤله عن أي نوع من الوقود يملأ به سيارتي، فئة ٩١ أم ٩٥؟ مما يجعله يفهم فوراً، ثم يفرد يديه كمن يفتح ستارة مسرح، أو كقائد فرقة موسيقية، مستفسراً هل يملأه كاملاً؟ فأهز رأسي موافقاً. وفي محل التموينات قرب البيت، أجمع المواد والمأكولات التي أحتاج إليها داخل سلة، ثم يحسبها الباكستاني عبدالحي بالآلة الحاسبة، ويخبرني بالمبلغ المطلوب، فأمد يدي بخمسين ريالاً، ثم أتسلَّم الباقي والكيس وأمضي دون أن أتفوه بكلمة واحدة. متى أتكلم إذن، وقد تيبست حبالي الصوتية إلى حد بعيد؟ لقد ابتسمت ذاك المساء البعيد، حينما سألني المحاسب الشاب في بنده، إن كنت أرغب في التبرع بنصف ريال متبقٍ؟ فقلت: نعم! أخيراً نطقت وقلت: نعم، ربما لم يتنبه المحاسب الشاب إلى أن هذه الـ “نعم” قد جاءت عتيقة، من عصور ضاربة في اللغة، من رجل فطري بدائي، رجل كهف أخذ عملته القديمة، بعد أن نام مئات السنين، وذهب إلى المدينة الغريبة. صحيح أن الشاب تلفَّت ذات اليمين وذات الشمال حينما سمع “نعم”، وكأنما شكَّ في مصدرها، أو ربما توهَّمتُ ذلك، لكنني متأكد أنه دارى ارتباكه، وابتسم في وجهي! كلما فكرت أنني منهوب، مقطَّع، متشظٍّ، تذكرت صورة الشبان الثلاثة، الذين ربطوا الكلب في الصدام الخلفي لسيارتهم البيك أب، فقاد أحدهم السيارة بسرعة وتهوّر، حتى تقطعت أعضاؤه، عضوًا عضوًا، وأمطر دمه، ثم جحظت عيناه! كنت كلما استعدت هذا المشهد المأساوي، تحسَّست رأسي، وأنا أشعر بالتشظي عاماً إثر عام، كما هذا الكلب المسكين! كانت عينا الكلب البلدي تشبهني كثيراً، وأنا لا أملك سوى بصري، أنظر فاغراً، دهشاً بما حولي، كالكلب الذي ينظر إلى مؤخرة السيارة قبل أن يلفظ أنفاسه، وهو لا يعرف لماذا يُعذَّب؟ كذلك أنا حين أحدق في مؤخرة هذه البلاد، وهي تجرُّني بسرعة جنونية، دون أن أعرف كيف أحرر عنقي من قيدها، وأتركها تسير بجنون كسيارة البيك أب، لتمضيَ وحدها من دوني، لا أعرف ماذا تريد؟ ولا ماذا أريد؟ وأنا أعجز عن كتابة فيلم قصير يعبِّر عن الخوف، الألم، الحزن، الوحدة، أو عن الموت مثلاً. حضرت ناهد في حياتي، ثم غابت، فكانت آخر الشظايا، كانت هي عيني الكلب قبل أن تجحظا في لحظة النظرة الأخيرة، آخر كائن حي نظرت إليه كانت هي، بكل ملامحها الجميلة، وضحكها العذب، وبراءتها الفطرية، كانت نظيفة وطاهرة في زمن قذر وملوَّث، لكنها أرعبتني وقد انسحبت بهدوء، لأنني ملوَّث، وكاذب، وخائن، هكذا قالت لي، وكأنني الخائن الوحيد في هذا العالم!
(3)
أحب الكذب، أحبه كثيراً، ولا أستطيع تخيُّل العالم بدونه، حتماً سيكون سخيفاً وغبياً وكئيباً، فلكي أشعر بسعادة صغيرة أضع سيناريواً بديعاً لأكذوبة جديدة، أمرّرها على أمي، أبي، أختي نورة، أو حتى أصدقائي الواثقين، ولا أتسبب بمضايقتهم فيما بعد، بأن تكون أكذوبتي تلك غير محكمة، فيكتشفوها، وينتابهم الغضب، وأتعرض أنا للعتاب، وسحب الثقة مني. أكاذيبي المدهشة لا تكشفها ملامحي، كالحمقى من حولي، بل أدلقها باحتراف لتنساب كالماء، حتى أصدقها قبل أن يصدقها الآخرون، وهذا هو الاحتراف المتقن في الكذب، فكم تعلَّقت منذ طفولتي بممثلي السينما، إذ تأسرني قدراتهم المدهشة على التمثيل، ونسج الأكاذيب. حاولت مراراً أن أتذكَّر متى بدأت الكذب في الطفولة؟ ما أول كذبة لففتها حول عنق أمي؟ لكنني للأسف لم أتذكَّر، سوى أكاذيبي الصغيرة، كأن أجيبها بأنني كنت نائماً، بينما أنا أتابع فيلماً جديداً، أخبرها بأنني ذهبت إلى المسجد، في حين كنت أتجوَّل في شارع الستين، أقول لها بأنني زرت قبر أبي، مع أنني مع أصدقائي في المقهى بعد صلاة الجمعة، هذه الكذبة الأخيرة كررتها ما يقارب سبعة أعوام، أنادم الأصدقاء وهي تظنني في مقبرة النسيم أبكي على قبر أبي. لقد بكيته كثيراً بعد رحيله، واستعدت رفقته الجميلة في الليالي الأخيرة، حينما نُوّم لأشهرٍ في مستشفى الشميسي، قضاها مضطجعاً على ظهره، الذي تقشَّر وتيبَّس لكثرة النوم على قفاه، أتذكَّر قبل وفاته بيوم، لم يكن يكفُّ عن مغازلة الممرضات، كنت قد سألته جادَّاً عمَّ يتمنى؟! أردت أن أفعل شيئاً يسعده:
– تقدر تحقق لي رغبتي؟ ظننته سيطلب أكلاً معيناً، أو شيئاً مشابهاً، وحين هززت رأسي موافقاً، صدمني وقد ابتسم بسخرية:
من كثر النوم على ظهري، ودّي لو تدفنوني وأنا واقف! ضحكتُ، وضحك بقوة، ضحكنا معاً ليلتها حتى دمعت أعيننا. فكرت مراراً في عبارته تلك، وصمته فجأة بعد ضحك طويل، حين مسح دمع عينيه، وهو يأمرني بأن أجيبه، قل يا فيصل لو كل من عاش حياته منبطحاً دفناه واقفاً، لاحتجنا مقابر جديدة، تُحفر القبور فيها بشكل عمودي، حتى يضمن الموتى وقوفهم ولو بعد حيواتهم الكئيبة. ظللت أتخيَّل أبي، واقفاً في قبره، كمن يتهيأ لسباق المسافات الطويلة، وهو يهمُّ بالهرب من قبره، ويعيش في الرياض باسم جديد، وهوية جديدة، أتخيله في شارع العليا يتلصَّص عليَّ وأنا أسير وحيداً. بعد رحيله، لم أكن مقتنعاً بأن أزوره في مقبرة النسيم، كنتُ جازماً بأنه يسير بيننا، يتنفس الهواء ذاته، ويلاحقني في شارع الثلاثين، حتى أمي كانت تشاركني الحالة ذاتها، لكنها حينما أدخل غرفتها، وهي تنصت إلى سورة الكهف، تعانقني وتمسك رأسي بيديها بطريقة طفولية، وتسألني: “شفت أبوك؟” حتى بتُّ أخجل من كذبي عليها، واضطررت إلى زيارته أسبوعياً، بعد كل صلاة جمعة، إلى أن توقفت تماماً بعد تلك الحادثة الأليمة التي أثارت رعبي وهلعي. في قيظ 1998م، كنت خارجاً من صلاة الجمعة، متجهاً شرقاً نحو مقبرة النسيم، لم يكن هناك داخل المقبرة سوى سيارة أو اثنتين، فقد كان معظم أهل الرياض مسافرين خلال الصيف، كانت الحرارة عالية جداً، وكالعادة، لكي أتعرف على قبر أبي، أعدُّ القبور، من جهة الجدار الشمالي، حتى أصل إلى القبر العشرين، ثم أعد من جهة الجدار الشرقي للمقبرة، حتى أبلغ القبر الثامن، فأجلس القرفصاء عند ناصبة القبر، أقرأ بصمت، وأدعو، وأبكي، وأتذكَّر، حتى يصفو رأسي من الهمّ. لكنني ذلك اليوم، الذي لم يكن فيه جنائز تُدفن، كنت أرى السيارتين واقفتين، لا أحد فيهما، ولا حتى في المقبرة، ظننت أن أصحابهما داخل غرفة حارس المقبرة، وما أن جلست كعادتي أدعو لأبي، حتى لاحظت شيئاً أسود يتحرك في أحد القبور المفتوحة الجاهزة لاستقبال جنازة جديدة، في البدء قلت لنفسي هي وسوسة الشيطان، أو الشمس الحارقة فوق رأسي، أو تهيأ لي ذلك، ولكنني سمعت نهنهة بكاء خافت، ثم لاحظت السواد يتحرك، يعلو ثم يخبو، صرت أبسمل، وأتلفت للخلف، دون أن أرى أثراً لأحد، وما هي إلا برهة، حتى فاض رأس أشعث، وتبعه آخر، وثالث، من القبور المفتوحة، لا أتذكّر بعد ذلك شيئاً، سوى ركضي وصراخي، كنت أركض بجنون، وقد تعثرتُ بطوب مرمي على حواف القبور المفتوحة، فسقط نعلي وأنا أركض، وكذلك غترتي، بينما هم يصرخون خلفي، لم أفهم ما يقولون آنذاك، بل حتى أصواتهم شعرت أنها عارية، آتية من أقفاص تصفر فيها الريح، خرج الحارس من الغرفة راكضاً، يتبعه رجلان، وما أن اقتربت منه، حتى ارتميت بين يديه، كنت أرتجف، بينما استقبلني أحد الرجلين، وهو يبسمل، وينفث عليَّ، ويمسح رأسي حتى هدأت. حملوني إلى غرفة الحارس، غسلوا وجهي، وأسقوني، ثم فوجئت بأحد الموتى الذين هربت منهم، يدخل علينا ضاحكاً، وهو يحمل نعلي وغترتي، بينما نهره الرجل الذي نفث عليَّ، وهو يقول له، هذا أمر لا يُضحك، ليتك تعرف مهابة الموت من هذا الموقف! كان هؤلاء الثلاثة طلاباً مستجدين في جماعة التوعية الإسلامية، جاء بهم المشرف لمعايشة الموت والوحدة، والبقاء داخل قبر مفتوح، كي يتأملوا الوحشة، ويستعيدوا أخطاءهم في الحياة الدنيا، ويعيشوا لحظة انتظار أسئلة الملكين، وعذاب القبر، كي يزداد إيمانهم. اقترح عليَّ المشرف أن ألتحق بهم في تجربة الموت، بعدما دعا لأبي أن يغفر الله له، ويرزقه صلاحي بالدعوة إليه. تسلَّمت نعلي، ووضعت غترتي فوق رأسي، وأدرت محرك سيارتي الصغيرة، ولم أدخل المقبرة بعد ذلك قط. نسيت هذا الأمر تماماً، واستعدته في حياتي مرتين فقط، مرة عند رحيل أمي، واضطراري إلى دخول المقبرة، بمساعدة أبناء خالي، وقد حضروا كي يشاركوا في عزاء عمتهم، والمرة الثانية عندما تعبت من طيف أمي في بيتنا القديم، وهي تحوم ليلاً تلتقط كرات الخياطة في المنزل، وأكياس النايلون الفارغة، أو تصوِّت لي: فيصصل، فأهبُّ من نومي، وأنا ألهث فزعاً، باحثاً عن مصدر الصوت، فاقترح عليَّ صديقي الطبيب النفسي أن أغيّر المكان، كنت أظنه يقصد السفر، أو الهجرة، لكنه صحَّح لي ذلك، بأن أغيّر المنزل فحسب، فاستأجرت تلك الشقة في شارع العليا، ولم أكتشف أنها تطل على مقبرة، إلا في اليوم التالي. طبعاً لم أتوقع أن تطل على نهر، أو بحر، في مدينة صحراوية كالرياض، لكن على الأقل أن تطل على شارع، أو أرض شهباء فارغة، أو حتى مليئة بالنفايات.
(4)
أتنحنح أحياناً، وأنطق بكلمة ما، لأتأكد أنني ما نسيت الكلام. صمت شقتي الصغيرة المطلَّة بشكل مائل على شارع العليا، يجعلني أتدرَّب على الكلام مع نفسي، أتسلَّى بذلك كثيراً، أضحك وأنا أفتح الثلاجة، فيضيء النور داخلها، وأخاطب الأشياء بطريقة الندِّ إلى الندِّ: تعال هنا يا ولد! فأجذب علبة جبنة مرسوم عليها ولد، وألتقط حلاوة الطحينية، وأغمز لضحكة (جوليا روبرتس) المعلقة على باب (الفريزر) العلوي، فتسيل بلؤم، على عكس (كيت ونسلت) التي تشيح بوجهها عنّي، كلما اقتربت منها عند زرّ ضوء المطبخ، لصق الباب. أشعل الموقد بينما أدندن بأغنية خالد الشيخ (ضيَّعوك)، فتخنقني العبرة، حتى تطفر دمعة مخاتلة من عيني، وأنا أتذكَّر أختيَّ المتزوجتين، وأمي التي رحلت منذ عام، وحسرتها على طلاق زوجتي، دون أن تستمتع بحفيد من صلبي، كم كافحت طويلاً لأغتال هذا الحنين، منذ أن انتقلت من دور علوي قرب شارع الثلاثين العليا، إلى هذه الشقة الموحشة. منذ أن أقمت في هذه الشقة قبل شهرين لم أسمع جرس بابها، حتى أنني في منتصف ليلة ما، خرجت وضغطت زر الجرس لأتأكد أنه يعمل فعلاً، كان صوته يشبه شقشقة عصافير، لكنني سمعتها بشكل آخر، ربما نعيق غربان، أو غرغرة غريق قبيل موته، أو شيء من هذا القبيل. لا أعرف لماذا ازدادت حساسيتي تجاه الأصوات إلى هذا الحد؟ كأن أخلع بطارية ساعة الحائط كي أوقف التكتكة المملة! أذكر أنني دخلتها لأول مرة بصحبة السمسار المصري في مكتب العقار، كان الوقت ليلاً، فأضاء لي المصابيح وهو يثرثر بأنها شقة “سوبر ديلوكس” وموقعها متميز، وأذكر أنني شاغبته ليلتها: ليه، بتطل ع النيل مثلاً؟ من عيوبي أنني استمتع بالكلام الطويل الممل كلما قابلت أحداً، وكأنني أنتقم من صمتي الطويل. وحين فتحنا الزجاج المفضي إلى الشرفة انصرف بصري إلى أضواء النيون في عمارة فندق نوفوتيل المقابل، ثم عدت دون أن أتفحص المكان المجاور في الأسفل. في الصباح الأول صحوت متثاقلاً، وفتحت الستارة الزرقاء، ثم سحبت الزجاج، وخرجت إلى شرفتي في الطابق الثاني من العمارة، أطللت نحو الشارع في الأسفل، حيث سيارة الشركة الوطنية للتوزيع تقف محمَّلة بصحف اليوم، ثم رفعت بصري نحو الحوش المجاور، تفحَّصته، كان ثمة قبور قليلة متفرقة، ودهشت كثيراً، هل هي حقاً قبور؟ هل هو حوش مؤجر مقبرة؟ وهل الموتى مثلنا، يستأجرون قبورهم أيضاً؟ هل صاحب الحوش قرر أن يقبر فيه أهله وذويه؟ هل هي مقبرة حقاً؟ ولكن كيف يمكن لمقبرة صغيرة جداً أن تكون هنا في شارع العليا، الشارع الذي تنتشر على جانبيه محلات الأزياء والموضة؟ يا للغرابة فعلاً! كنت مصدوماً، ولم أتوقع يوماً أن أعيش بجوار مقبرة، ليس سهلاً أن أفتح النافذة، أو أطلّ من البلكونة على موتى، كيف لم أتنبَّه لذلك. خرجتُ إلى الشارع ومررت بحذاء الحوش المجاور، وقرأت لافتة بنّية (مقبرة العليا)؛ الغريب أنني أسكن في هذه المنطقة منذ سنوات، وأمرُّ من هذا الشارع مراراً، دون أن ألمح هذه اللوحة البنّية، ولم أعرف أن ثمة مقبرة صغيرة كهذه تغفو هنا، فالمقابر التي نعرفها جميعاً هي مقبرة العود، ومقبرة أم الحمام، ومقبرة النسيم، ومقبرة منفوحة، ومساحاتها الضخمة، وأسوارها الطويلة العالية، المكتوب عليها دعاء المرور بها، على خلاف هذه المقبرة السرّية، ذات السور القصير، ومن غير دعاء للموتى، لماذا إذن تنبت هذه المقبرة بخجل، في شارع تجاري، ووسط منطقة تجارية مكتظة بالسكان، ثم ما هذه المقبرة التي لا تتسع لأكثر من عشرين جنازة؟ ومن هؤلاء المدفونون؟
الحكايات تتكرر على مرِّ الزمان، يموت أبطالها، ويذهبون في النسيان، لكن الحكاية تبقى حيَّة لا تموت، ترويها الجدات اللطيفات لأطفالهن قبيل النوم، وقد تتنقَّل في بيوت الشعر في الصحراء خلال ليالي الخريف الباردة، أو في مجالس الرجال في البيوت الطينية، ثم يأتي من يدوِّن الحكاية على ورق أبيض، أو أصفر كامد، أو حتى على رقٍّ جلديٍّ قديم، فتطوف بين الأيدي والقلوب، كما انتقل رقّ الملحمة الهندية العتيقة من عجوز النهر إلى بطل روايتنا هذه، ليعبر البحار والصحارى الموحشة، من يدري، فقد تتنقل حكايتنا هذه مثل هذا الرقّ المسحور من بلد إلى آخر، ومن بيت ثري إلى آخر، ومن متحف إلى آخر، ومن يدري، فقد تُحفظ هذه الحكاية الغريبة التي سأرويها لكم الآن، ذات يوم، في متحف ضخم، يرتاده البشر من كل أنحاء العالم، ومن يدري أيضاً، فقد تتنقل هذه الحكاية، من لغة إلى لغة أخرى، ولا تعود مجرد حكاية نجدية يهبُّ فيها الهواء النجدي المعتدل، فتتأرجح وهي تطير مع حبيبات الرمل الذهبية، لتموت قبل أن تبلغ ساحل البحر!. هذه الحكاية ستعبر البحر والمحيط، كما عبر بطلها الفتى الصغير متاهات الصحارى، وأهوال البحار، بحثاً عمَّن يفسر له حلمه العجيب. هذه الحكاية تخصُّ قرية صغيرة في نجد، قرية وادعة وهادئة تدعى (خبّ المنسي)، تحيط بها الرمال، حتى أصبحت مجرد نقرة صغيرة في قلب الرمال المحيطة، لم يكن يمرُّ بها طريق الحجاج، فلا تكسب شيئاً مما تكسبه القرى الأخرى من قوافل الحجاج العابرين، لكنها كانت تشتهر بالرطب القليل في نخلها العالي، ومائها العذب، وأهلها الطيبين، وفتيانها الشجعان النبلاء، ثم أصبحت، فيما بعد، تشتهر أيضاً بحكاية الفتى صالح الخرَّاز الذي لحق بحلمه، ذلك الفتى الذي فشل في أن يساعد أباه في صنع الأحذية الجلدية المزركشة بالألوان، فاكتفى والده بأن جعله يلوّن الأحذية بالأصباغ الجميلة، والتي برع فيها. كان صالح مزوحاً، يحبه جميع فتيان القرية، وقد كان يمازحهم بطريقته المحببة اللاذعة: لولا جلود أبي، ومطرقته، لكان أكثركم حفاة، يا حفاة! ثم يضحك بصخب، فيضحك الفتية الآخرون. في الليالي المقمرة، يلعب مع أصدقائه لعبتهم المحببة، حيث يطوّح أحدهم عظماً بعيداً في الخلاء، بينما يغمض بقية الفتيان، ثم يبحثون عنه تحت ضوء القمر، وما أن يعثر عليه أحدهم حتى يلتقطه ويهرب به إلى نقطة الأمان صائحاً: عظيم لاح. بينما يلحق به الآخرون محاولين الإمساك به قبل أن يصل. هؤلاء الفتيان، كانوا يتذكرون حكاية صالح الحزينة مع مهنة أبيه، وكرهه لها، فكما كانت عادة الصنَّاع في نجد قديماً، حرص الخرَّاز أبو صالح على تدريب ابنه الأكبر على إتقان هذه المهنة حينما بلغ الثالثة عشرة، فأخذ يصطحبه معه إلى دكانه في السوق، ويدربه على استخدام المخرز، وهو الإبرة الطويلة، التي يصنع بها الأحذية، كيف يمسك به جيداً، ويحدد النقاط المتتالية على الجلد، التي سيخترقها هذا المخرز، كي يخيط طبقات النعل، ثم كيف يصنع الشسع العلوي للحذاء. أحياناً يبين له كيف يصنع قربة الماء الجلدية، كيف يحدد حجمها، ثم يطوي الجلد، ويحدد غُرز المثقب فيه. كان صالح يغمض عينيه كلما وخز الجلد، حتى بلغ به الأمر أن أصبح يبكي كلما فعل ذلك، وحين يسأله أبوه، يجيب بأنه يحس بقشعريرة تصيب حنكيه وأسنانه، ورغم أن الأب يلمح رأسه يرتعد بغتة كلما غرز المخرز في الجلد، إلاَّ أنه كان مقتنعاً أنه سيتعلم مع مرور الوقت، في حين كان الأمر يزداد سوءاً، فأصبح صالح يتحاشى الاقتراب من السوق لئلا يلمحه أبوه، ويحاول أن يتسلل باكراً لينام قبل أن يلمحه، فيعاتبه، ولم يزد ذلك أباه إلا إصراراً على أن يرث المهنة منه. بعد أيام من محاولات الأب أن يقوِّي قلب ابنه، وذات مغيب، بينما كان صالح يعمل وحده في الدكان، تجمَّد فجأة، ونفض الأصباغ من يده، وفرَّ هارباً يركض في الدروب الترابية، يصيح دون أن يفهمه أحد، وبعد أن قبضوا عليه، وأعادوه إلى بيت أهله، وهدأ قليلاً، أخبر أباه بأنه سمع ثغاءً داخل الدكان، ابتسم الأب وهو يمسح على رأسه، مؤكداً له أنها خيالات يراها ويسمعها، لكن صالح أقسم له مراراً بأنه سمعها بأذنه. ورغم أن الأب لم يعد يصطحبه لأيام، إلا أن صالحاً لم يتوقف عن التفكير بالثغاء الذي سمعه، فغامر ذات ليلة، بأن ذهب في جنح الظلام، كي يفتح الدكان، ويخلي سبيل الأغنام المحبوسة داخله، فقد كان يهذي بأنه سمع ثغاءها العالي: مااااا… ماااااا. في اليوم التالي، اكتشف الأب أنه ترك باب الدكان مفتوحاً طوال الليل، فاضطر إلى أخذه إلى مطوع القرية، كي يقرأ عليه لأيام عديدة، وينفث في صدره مراراً، حتى هدأ، ونسي هذا الأمر تماماً، لكنه تجاسر ذات يوم، وقد شعر بحزن لأنه لم يعد نافعاً لأبيه، فقال له: سأساعدك يا أبي في الدكان. وبدأ يساعده في مرحلة الصباغة، حيث بدأ يتقن وضع الألوان على الجزء العلوي من الأحذية القصيمية. كان يذهب فجراً إلى دكان الخرازة، قبل أن يذهب إلى الكتاتيب كي يتعلم القراءة والكتابة، وحينما ترتفع الشمس، وتدخل في قلب الدكان من جهة بابه الشرقي، يصل أبوه، فيذهب هو إلى مدرسته كي يتعلم القرآن والكتابة. كان يقول لأبيه، إن ذهابه إلى الدكان فجراً، يسعفه في كسب الوقت قبل الدراسة، لكنه لم يقل بأنه لا يريد أن يرى أباه، وهو يخز الجلود بمثقابه القوي، كي لا تعود إليه حالة الهلع والخوف مرة أخرى. اكتسب الفتى صالح من أبيه محبة الناس والترحيب بهم، وإكرامهم، ومساعدتهم، خاصة الفقراء والمحتاجين، فكان مستعداً لأن يمنح فقيراً حافياً حذاءً جديداً دون مقابل، حتى أن بعض صحبته من الفتيان كانوا يهرعون معه لمساعدة الآخرين، فكانوا يساعدون الفلاحين صيفاً في جدِّ التمر من أعالي النخل، ويتحولون إلى معاونين للبنائين، وهم يخلطون الطين والعشب، عند بناء بيت جديد لأحد الأهالي، ويسافرون بمحاصيل الفلاحين من الخضار والتمر، لبيعها في قبَّة رشيد، في بريدة، حتى عندما يهجم الوباء على قريتهم الصغيرة، ويضرب الأطفال، كانوا يتحولون إلى مسعفين جاهزين. لكن هناك ما يفوق قدرات هؤلاء الفتيان، خاصة وقت الشتاء، حينما ترعد السماء، وتنفجر بسيل هادر، وتسيل الأودية، وتداهم البيوت الطينية الضعيفة، فيسقط سقف هنا على امرأة وأطفالها، وينهار جدار هناك، رغم أنهم يركضون في الأنحاء، يرفعون بأيديهم الطين، وجذوع الأثل الساقط، وينبشون جريد النخل المغمور بالطين والسيل، بحثاً عن طفل، أو طفلة مفقودة. كانت الحياة رتيبة، كذلك حياة صالح الخرَّاز، كانت هادئة، يقضيها في الدراسة، والعمل، واللهو مع الرفاق، حتى حدث له أمرٌ غيَّر حياته إلى الأبد، فذات ليلة صيف، وبينما كان نائماً في سطح بيتهم الطيني، والهواء النجدي اللطيف يهبُّ على وجهه النائم، رأى نفسه يطير في السماء، يطير من غير جناحين، يطير بثوبه الواسع الفضفاض، ويرى تحته الأشجار والبيوت، ويذهل لمنظر القرى، والصحراء، والبحر، والمدن الغريبة، ثم يحطُّ فجأة في بيت مهجور، ويتحول إلى جزَّار، يقف أمام ذبيحة معلَّقة في الهواء، يشق بطنها بسكين حادة، ثم يسحب بيديه أمعاءها، ويلفّها حول ذراعه، حتى انبجست أمامه المعدة المملوءة، وانفرط روثها. وبعد أن استيقظ من نومه، استعاذ بالله من الشيطان، ثم نزل متحسساً الجدار الطيني في عتمة الدرج المتآكل، وهو يسمِّي ويستعيذ، وحلَّ رباط فم القربة الجلدية المعلقة في باحة البيت، سكب ماءً في وعاء فخاري صغير، وشرب حتى ارتوى، وفكر كيف له أن يشق بطن بهيمة بسكين حادة، ويجذب أمعاءها أيضا، وهو الذي يصاب بالهلع حينما يمسك مثقب الخرازة؟. في الصباح التالي، بعدما خرج من الدكان، ذاهباً إلى درس الكتاتيب في المسجد الطيني الصغير، روى حلمه المفزع لصديقه ناصر الدبَّاغ، وقال بأنه كاد أن يتقيأ حينما هبَّ من النوم مذعوراً، فما كان من ناصر، الذي يعرف صديقه جيداً، إلا أنه قال له: خيراً إن شاء الله. فسأله صالح: هل تعرف تفسيراً لذلك؟. أجابه: لا، لكن أعتقد أنك حلمت بسبب تفكيرك وخوفك من العمل في دكان أبيك؟. صمت صالح لوهلة، ثم تنهَّد: تعرف يا ناصر، أتمنى أن أبي لم يكن خرَّازاً، ليته كان مثل أبيك، دبَّاغاً، على الأقل تقتصر الدباغة على شراء جلود الأضاحي ووضعها في حفرة ماء وملح، ثم تجفيفها ودباغتها، أقصد ليس فيها تعذيباً. ضحك ناصر بقوة وهو يسخر منه: أنت فقط توسوس يا صالح، وهذي الوسوسة انتقلت من تفكيرك في الواقع إلى أحلامك الليلية. رغم ذلك، لم يركّز صالح مع المعلم في الدرس، بل كان يفكر في لحظة طيرانه فوق، حتى وهو في طريق العودة، حاملاً حقيبته معه، كان يرفع رأسه نحو أسراب الطيور، ويقول كم هي محظوظة وهي ترى البيوت والأشجار والأطفال من الأعلى. في الليلة التالية، تمدَّد على فراشه القطني، وجعل يتأمل النجوم المضيئة في سماء نجدية صافية، يحدّق في بنات نعش، يعدُّ النجمات السبع، وهن متحلقات، بينما أكبرهن تهمس لهن بحكاية سرّية لا يسمعها أحد، قال وهو يشير إليهن، كم سأكون محظوظاً لو أنني بجواركن، لأنصت معكن إلى الحكاية. تذكَّر طيرانه في حلم ليلة البارحة، فانقلب على جنبه الأيمن، وهو يشغل ذهنه بتذكّر لحظات اللعب مع الفتيان، ثم قرأ المعوذتين في سرّه، نام مرهقاً، فداهمه الحلم ذاته مرة ثانية، ورأى نفسه يطير ويطير، ويحطُّ أمام الذبيحة ذاتها، فازداد قلقه في الصباح، وبات يقضي نهاره يفكر في الحلم، حتى قرر أن يخبر أباه، فما كان من الأب إلا أن طمأنه بأنه مجرد حلم لفتى يخشى من استخدام المثقاب في عمله، لكن الفتى لم يقتنع بذلك التفسير، فسأل مطوع القرية، واستوقف الحكماء العابرين، دون أن يجد تفسيراً لحلمه. لم يكن هناك من اهتم بحلمه ذلك، سوى صديقه ناصر، الذي اقترح عليه أن يقرأ ما يتوافر في خزانة أبيه من كتب، فأعجبه ذلك، وكفَّ عن سؤال الناس والعابرين، لينكبَّ على الكتب والأسفار القديمة، لعله يجد فيها إشارة أو دليلاً، قال لنفسه بعد ثلاث ليال: لقد صدق ناصر، سأجد في الكتب تفسير حلمي. فتح خزانة أبيه العتيقة، نبش فيها، فوجد مصحف أبيه، ومسبحته، وخاتم جدته الذهبي، وصك منزلهم الطيني الذي بناه جدّه، لم يجد شيئاً يقوده إلى تفسير الحلم، عثر على بضعة كتب قديمة، بأوراق بالية، نظر في كتاب عنوانه (تفسير الأحلام) لأبي بكر محمد بن سيرين، تصفحه قليلاً، ثم التقط كتاباً آخر، ونظر في غلافه، ماذا تعني (ألف ليلة وليلة)، كتاب عتيق جداً، تعود طباعته إلى سنة 1828م، ماذا سأجد في هذا الكتاب العتيق؟ ماذا ستفعل بي ألف ليلة، وقد أربكت حياتي ثلاث ليال فقط؟ هل سأجد أحلاماً؟ هل يمكن أن أقرأ ألف حلم وحلم في ألف ليلة وليلة، كي أجد ما يشبه حلمي العجيب؟ أم أنها مجرد قصص مسلية؟. كان الفتي يسأل نفسه مأخوذاً بعنوان الكتاب. ثم وجد نفسه ينساب مع الليالي بمتعة نادرة، حتى أنه شكر حلمه العجيب، الذي قاده إلى هذا الكتاب المسلِّي.
الفصل الثاني: الرجل ذو البشت الرمادي
في فجر الليلة الرابعة، وقبيل شروق الشمس، وبينما كان الفتى يجهز الأصباغ الملوّنة، أحس بشخص يقف خلفه، فالتفت ببطء، وإذا بمسافر غريب يلبس بشتاً صوفياً رمادياً، له لحية طويلة مصبوغة بالحناء، ويلبس حذاءً يلمع بلون الفضة، فقال له: صباح الخير! أوجس الفتى خوفاً، لكنه ردَّ تحيته، ثم ازدرد ريقه وهو يطلب منه الجلوس، كي يحضر له قهوة الصباح، فالفتى تعوّد أن يكرم ضيفه، غنياً، أو فقيراً، أو عابر سبيل. وبينما كان الفتى يعد القهوة في زاوية الدكان، أراد أن يكسر صمت الفجر الرتيب، فسأله: لا أرى معك حذاءً معطوباً يا عمّ كي أصلحه، أم أنك تريد حذاءً جديداً؟ أجاب الغريب ذو البشت الصوفي الرمادي باختصار: لا، شكراً، لا حاجة. ابتسم الفتى رغم وجله: لا تخجل يا عم، إن كنت لا تملك مالاً، فسأهبك حذاءً مستعملاً يساعدك على الطريق. وبينما مدَّ الفتى له فنجان القهوة، هزَّ الغريب ذو البشت رأسه: شكراً، أنا لا أستطيع أن أشرب شيئاً. كاد الفتى أن يسأله: لِمَ؟ لكنه كبح نفسه، وقال في تردد وقلق: هل تأمرني بشيء يا عم؟. رفع الغريب رأسه إلى السماء، وتنهد بقوة، وقال وهو ينظر في أنحاء الدكان: أحتاج قماشاً فقط!. شعر الفتى أن هذا الكائن الغريب ليس إنساناً، كأنه طائر أو ملاك أو ربما جني مثلاً، لكنه ليس إنساناً عادياً يأكل ويشرب، وبعد أن ابتلع ريقه أجاب: كما ترى يا عم، هذا محل أبي، وهو ليس قمَّاشاً، ولا يتاجر ببيع الأقمشة، لكنه صانع أحذية، فهل يناسبك أن تحصل على جلد مدبوغ بدلاً من القماش. ثم استدرك وقد تذكّر قطعة قماش جديد، له ولأخيه، كانت أمه قد احتفظت بها، لتخيطها ثوبين لهما في يوم العيد: هل تستطيع أن تنتظر دقائق، كي أحضر لك قماشاً من المنزل؟. هزَّ الرجل الغريب رأسه موافقاً. هرول الفتى بعدما أوصى الغريب بالدكان، وحينما بلغ باب البيت، دخل بخطى حذرة، ثم فتح خزانة الملابس، وخطف القماش الأبيض، ثم هرول عائداً إلى الدكان. حينما أقبل لم يجد الرجل الغريب في وقفته التي تركه عليها، وبحث عنه داخل الدكان، فلم يجده أيضاً، واستعاذ من الشيطان، وبينما هو يجهّز الأصباغ، فوجئ بصوت الرجل: هل عدت يا بني؟. ارتعش الفتى وهو يناوله: هذا قماش ثوب العيد، لي ولأخي، خذه فأنت بحاجته الآن، ونحن سنتدبر أمرنا حينما يقترب العيد. شكره الرجل، ثم خلع فردة من حذائه الفضي اللامع، وناوله الفتى وهو يقول: هذه هدية لك، قد تشتري بثمنها ثوب عيد لك، ولأخيك. استوقفه الفتى، وهو يمسك بالحذاء الفضي اللامع: قل لي يا عم، هل لديك معرفة في تفسير الأحلام؟ أجابه: ربما، قل ماذا رأيت؟. قصَّ عليه الفتى حكاية الطيران فوق القرى والمدن، والذبيحة، والروث. فهزَّ الرجل الغريب رأسه وهو يقول: خيراً إن شاء الله. الطيران علو في المكانة يا ولدي، و… و… سترى خيراً كثيراً، فقط عليك أن تسافر. سأل الفتى بقلق: أسافر إلى أين؟ أجاب الرجل الغريب وهو يهمُّ بالرحيل: سافر في أرض الله الواسعة. تساءل الفتى: ولكن ما علاقة ذلك بحلمي؟ قال الرجل الغريب، وقد أضاءت عينه الخضراء: دعني أسألك، أنت ابن صانع الأحذية التي ينتعلها الناس والمسافرون والعابرون، لكنك لم تسافر من قبل، صحيح؟ أجاب صالح: صحيح. قال الغريب ذو البشت الرمادي: إذن طِرْ، الطيران في حلمك هو السفر، والعلو، فلا تتوقف طويلاً كما الأشجار المغروسة في الأرض، تحرّك، وستجد تفسير حلمك هناك، في أرض الله الواسعة. صمت صالح لوهلة، ثم هزَّ الحذاء بين يديه وتجاسر وهو يقول: إذن، فشرطي لقبول هديتك، هو أن تقبل الحذاء الذي سأمنحك إياه، لا يمكن أن أتركك تكمل سفرك حافي القدمين، فالحرارة ستحرق قدميك. وحينما دخل الفتى صالح في عمق الدكان، كي يجلب له فردة حذاء، سمعه يقول: يا ولدي، لا تهتم لأمري، فلا أحتاج إلى الأحذية. عاد صالح إلى واجهة الدكان، فلم يجد أحداً، تلفت في الأنحاء، دون أن يعثر على أي أثر للغريب، كأنه لم يكن هنا منذ قليل، تلفت في طرفي الشارع، ولم يلمحه، كأنه مر أمام عينيه مثل شهاب خاطف، فاستعاذ بالله من الشيطان، وعاد يخلط الأصباغ، وقد لمح فردة الحذاء الفضي، فلمسها، وحملها بين يديه، وهو يقول: والله لولا هذا الحذاء الذي ألمسه بيدي الآن، لقلت إني في حلم. ثم توقف لوهلة مستعيداً عبارة الغريب الأخيرة: كأنني سمعته يقول بأنه لا يحتاج إلى الأحذية، هل قال بأنه لا يمشي؟ كيف تحرّك إذن؟ هل طار مثلاً؟. خرج من الدكان ونظر في السماء الصافية، ولم يلمح سوى سرب حمام يعبر، وأجنحته تبشر بالضوء، فعاد إلى ألوانه، وهو يقول لنفسه، لقد تعجّب أنني ابن صانع أحذية، ولم أطر بعد!. كان ذهنه مشغولاً، فلم يتمكن من التركيز، التقط لوح الكتابة، وأودعه داخل حقيبته، ثم غادر الدكان سريعاً، لكنه توقف، وقد تذكَّر الحذاء، فالتقطه على عجل، ووضعه داخل الحقيبة أيضاً، ثم انطلق إلى باحة المسجد حيث يجتمع التلاميذ، التحق بهم جالساً في الصف الخلفي، وأخرج اللوح وأداة الكتابة، وقد اطمئن إلى الحذاء اللامع، كان يتصيد التفاتة صديقه ناصر، كي يغمز له بخبر مهم، لكن ناصر كان منهمكاً في مراجعة سورة النبأ، وما أن انتهى الدرس، وخرجوا إلى الدروب الضيقة، حتى انتحى بصديقه تحت أثلة ضخمة تفيض من خلف حائط طيني، وأخبره بحكاية الرجل الغريب الذي زاره، صمت ناصر لوهلة، وقد شعر بالإحباط، وهو يجزم أن حالة صديقه بدأت تسوء من جديد، فتنحنح وهو يقول: اسمع صالح، لا بدّ أن تبعد عنك الوساوس، فلا يوجد شيء غير الذي يراه الناس جميعاً، ولا يوجد شيء غير الذي يسمعه الناس جميعاً. هزَّ صالح رأسه باستفزاز: لا يا ناصر، أنا أرى ما لا ترون، وأسمع ما لا تسمعون، وإن كنت لا تصدق حكاية الرجل الغريب الذي زارني فجر اليوم، وحكاية الحذاء الفضي، فماذا ستقول لو أريتك إياه؟ صاح ناصر مذهولاً: هل ستريني الرجل الغريب ذا البشت؟ ضحك صالح بشغب وسعادة: الظاهر أنت طلعت المجنون، وليس أنا، سأريك الحذاء الفضي، حذاء مختلف عن أحذية أبي الجلدية، لا هذا حذاء فضي يلمع. هتف ناصر بتلهف: هيا أرني إياه، أتحداك. فتح الحقيبة الجلدية، وأزاح اللوح، وأراه إياه دون أن يخرجه: انظر، ما رأيك بهذا الحذاء الفضي الجميل؟. شهق ناصر، وهو يتمتم: والله أنك صادق، هذا حذاء لم أرَ مثله في حياتي. زمَّ صالح شفتيه، ووضع يده عليهما: اسمع يا صديقي، لا من شاف، ولا من درى. انتبه تخبر أحداً بذلك. هزَّ ناصر رأسه: أعدك. في البيت، خبأ الفتى صالح حقيبته الجلدية، ووضعها في مكان ليس في متناول أحد، ثم صعد أول الدرج المؤدي إلى السطح، وجلس يتأمل العصافير وهي تطير وتحطُّ على باحة البيت، لتشرب من طشت الماء، الذي تغسل أمه الملابس فيه، كان يطيل النظر في أمه، التي تثني ساقها، وتدعك الملابس في الماء، ويفكّر عما إذا كانت هي الأنسب كي يفاتحها بفكرة السفر، أم ستستشيط غضباً عليه، وستدّعي أن حالة الجنون قد عادت إليه، وتجبر أباه على أخذه عاجلاً إلى المطوع، كي يقرأ عليه، وإن لزم الأمر، وأصبحت حالته غير قابله للشفاء، فليقوم بكيِّ رأسه، لعله يهدأ بعد ذلك. قال بصوت مسموع: لا، ما ينفع أبداً. تنبَّهت إليه أمه، وحدقت نحوه بقلق: ماذا بك يا صالح؟. صعد الدرج الطيني وهو يردد: لا، ولا شيء. انهمك صالح في القراءة، لم يفهم تلميحات ابن سيرين في كتابه (تفسير الأحلام)، فاستلَّ كتاب (ألف ليلة وليلة)، وأكمل قراءة الليالي، التي سحرته حكاياتها العجيبة، فكان يلهث خلفها كل ليلة، حتى أنه لا ينام إلا والكتاب بين يديه، وفتيلة السراج بضوئها الخافت تتراقص بخفة أمام عينيه الصغيرتين، ولا يصحو فجراً إلا وهو مرهق، فيذهب إلى الدكان وهو يتأرجح نعساً، وفي داخله شغف لمعرفة ماذا حدث للسندباد البحري، ولأبي الحسن العماني، ولشمس النهار، وللصياد والعفريت، وللتاجر البغدادي واللص، ذلك التاجر الذي أفلس، فحلم بكنز عند جدار جامع في القاهرة، فركض خلف حلمه إلى هناك، وقابل متشرداً عند جدار الجامع، ولما أخبره عن حلمه، قال له المتشرد بأنه حلم أيضاً بكنز في بيت بغدادي، فوصف له بيت التاجر بشكل دقيق، وعاد التاجر كي يعثر على الكنز في بيته. لقد راقت له القصة التي تشبه قصته، وابتسم لنفسه وهو يفكر، هل يعقل أن يكون مصيرك يا صالح نفس مصير التاجر البغدادي، الذي حلم بكنز في القاهرة؟. ثم أضاف محبطاً: لكنني لم أحلم بكنز ولا مال، بل حلمي كان غريباً، وربما تافهاً، ولا يستحق العناء ومشقة السفر، ولم أجد متعة في تلك الليالي الثلاث التي حلمت فيها، سوى متعة الطيران، ورؤية الأرض من الأعلى، أما جزء الذبيحة، وسحب الأمعاء من جوفها، حتى يندلق الروث من المعدة أمامي، فهو يثير الغثيان حقاً. ضحك صالح وهو يردد بسخرية: حتى الحلم يختلف بين تاجر وابن صانع، فالتاجر يحلم بكنز من الذهب والمجوهرات، وابن الخرَّاز يحلم بدم وروث ورائحة نتنه! يا سبحان الله، الأحلام صارت كالأرزاق، للتجار والسلاطين أحلامهم الثمينة، وللخرازين والنجارين والطحانين أحلامهم الفقيرة. ورغم ذلك، لا يهم ما تقوله هذه الكتب، المهم هو ما قاله الرجل الغريب، لقد قال لي سافر، وستجد تفسير حلمك هناك! ولكن كيف أسافر؟ كيف أقنع أبي أن تلك هي الحقيقة التي يجب عليه أن يتفهمها؟ وكيف أقنع الناس في طريق رحلتي بحلمي، وأسأل عن تفسيره؟ أشعر أن الضحك والسخرية لن تقتصر على أبي، بل العالم كله سيضحك مني، ويعتبرني مجنوناً، فكيف لفتى عاقل أن يتجرأ على الرحيل تاركاً أمه وأباه، وأخاه وأخته، ومدرسته وقريته، وأصدقاءه، بحثا عن تفسير حلم؟. لم يعد صالح ينام ليلاً، إلا حينما يقترب الفجر، فأصبح يستيقظ متأخراً، يسير مرهقاً، ويتأرجح دائخاً بعينين حمراوين، حتى أهمل في عمله، وفي تحصيل دروسه، فانتاب أباه القلق لهذا التحول الغريب في حياته، وبدأ يراقبه جيداً في حركاته، وسكناته، وخروجه من المنزل، وعند نومه.
لم يعد مشروع إنشاء مترو الرياض، بالإضافة إلى النقل العام، مشروعاً كمالياً أو جمالياً، بل هو مشروع مهم وجوهري لإنقاذ هذه المدينة الضخمة من فوضى النقل الخاص والزحام والفوضى الراهنة، والتمدد المستمر لهذه المدينة، إضافة إلى الهجرة إلى العاصمة بحثاً عن العمل أو الدراسة، مما يجعل الكثافة السكانية تزداد بشكل متسارع ومنتظم، الأمر الذي يجعل حدودها وأطرافها تتمدد باستمرار.
ربما لم يكن الخلل في صورة أمين منطقة الرياض منشغلاً بجواله، مزداناً بمشلحه الجميل، متبوعاً بجندي حراسة يحمل مظلة تحميه من حرارة الشمس، ولا أن الصورة حملت ازدراء الناس وسخطهم في مواقع التواصل الاجتماعي، وتهكمهم أن المشهد أعاد زمن الباشوية في الدولة العثمانية، ولا التبرير لاحقاً بعفوية تصرف الحارس الذي صار حامل مظلة،
منذ أن استلم الدكتور توفيق الربيعة حقيبة وزارة التجارة والصناعة وهو يعمل بإخلاص ملحوظ في كل ما يمكن أن يخدم المواطن، كأنما جاء أخيراً وزير تجارة يتفهم أنه لا يعمل لخدمة التاجر كالمعتاد، بل لخدمة المواطن، والوقوف بجانبه، وانتشاله مما وصل إليه من حالة إحباط، وعدم ثقة بأي وعود، حتى أنقذه الله بتقنية الإنترنت،
أحدث التعليقات