ملحق “شرفات” الثقافي

رجل تتعقبه الغربان: ملخص الرواية

يظهر خيط السرد بطريقة جديدة، لا تبدأ بالحاضر، وحظر التجول في مدينة الرياض، أو أربعينات القرن الماضي، ورصد المدينة المحصَّنة بأسوارها الطينية فحسب، وإنما القفز بالزمن في مغامرة مختلفة نحو المستقبل، من خلال منظار روسي بعدستين حمراوين، وشخصية (سليمان الزارع) القلقة التي تفرض على نفسها عزلة اختيارية، هربًا من ترقُّب الغربان الطائشة في الطرقات، وحفاظًا على ذاكرة يقظة سجَّلت حياة عائلة نجدية طاردتها الحروب والأوبئة.
في رواية “رجلٌ تتعقَّبه الغربان” يظهر الرمز والإيحاء في سرد مقتضب ولاهث، باستخدام عدسة سينمائية خاطفة، تشير دون أن تكشف، وتقول من غير كلمات، لتعبِّر عن عزلة الإنسان ووحدته، وصراعه المستمر أمام الموت والوباء، من خلال ثلاثة أجيال، وأماكن مختلفة، يتلقفها السرد بخفَّة وتنقُّل ذكي ومدروس.
وتغامر هذه الرواية كثيرًا نحو أنسنة الأشياء والكائنات، ليس بما يكشف اغتراب الإنسان، وإنما بتبادل الأدوار بين الأشياء والبشر، بين الإنسان والحجر، بين الطفل والحشرات، حتى لا يعود السرد مستقيمًا، وإنما دائرة تتكرر، دون أن تبدأ أو تنتهي الحكاية.

تلك اليد المحتالة – مختارات

لبس

ما ظنه الرجل الجالس أمام النافذة حمامة بيضاء بأربعة مناقير وعُرف… كان قفازًا منفوخًا ليد هاربة من وباء، دفعها الهواء بخفَّة. هكذا اكتشف الرجل الوحيد في عزلته.

طائرات

كلما انفتح باب السوبرماركت الكهربائي عن متجوِّل خرج للرصيف، يرمي بقفازين بلاستيكيين، فيطيران بشغب نحو شمس العصر الكئيبة، ويركض خلفهما طفلٌ لاهٍ كما لو كان يعدو خلف طائرة ورقية.

الحرب خدعة

الرجل المحتجز في غرفة معزولة في السطح، الرجل الذي لم يعد يميِّز طعم القهوة من الشوكولا، الرجل الذي يلتهم أقراصًا لم تسكِّن صداعًا نصفيًّا ثقيلًا، هذا الرجل الوحيد اكتشف أنه ليس وحيدًا، فلم يستطع أن يفرض السلام في معركة شرسة بين وجهه ويده، تلك اليد المحتالة التي تهمس وهي تهرول بالوباء نحو الأنف الأعزل: الحرب خدعة!

كلاب متوحشة

الشوارع أغمضت، فلا أحد يوقظها. المقاهي انطفأت على حكاياتها القديمة، والبيوت أضاءت بناسها الخائفين. السيارات في الظلال صارت فِراشًا وثيرًا للقطط الضالة، والكلاب الجائعة تعوي، فتضجُّ المدينة، كأنها تبكي ناسها.

سبتمبر ٢٠٢٠

ذات ليلة صامتة في خريف الوباء، ركض الأطفال هاربين من الفناء، نحو صالة البيت، ثم إلى القبو حيث قادتهم الخادمة وهم يلهثون هلعًا.
أزيز طائرة تعبر.

مسدس

حين تجرأ على عزلته، ولعن الوباء، خرج متلفتًا في الشارع مثل لص، وركب سيارته الصغيرة مدجَّجًا بالكمامة والقفازين، كمن يدخل حربًا حاسمة.
نزل إلى السوبرماركت، ووقف في الطابور الطويل، لم يكن يرتدي بيجامة السجن، لكنه حين وصل أول الطابور، قرب الباب الكهربائي، وقف أمام رجل مكمَّم وقد صوَّب نحو جبهته ترمومتر الحرارة، وضغط الزناد، فحبس أنفاسه، كأنما رصاصة تخترق رأسه، كأنما سيسقط مضرجًا بدمه.

الحلم

صرخ الشاب من على صخرة: أنا أحلم، لأنني لستُ حجرًا.
همست الصخرة: أنا أحلم أيضًا أن تأتي الريح تنحت أطرافي.

جدّ

كلما استيقظ وجلًا، متلفِّتًا حوله، تكاد حبَّات العرق تتعثَّر في حاجبيه الأبيضين الكثَّين، ينهض متثاقلًا نحو خزانة عتيقة، ليخرج مسدسًا بجراب متيبِّس بدم قديم، وقبل أن يصوِّبه نحو حلمه المتكرر، يتذكَّر أنه بلا رصاص!

وقت

الأشجار نامت، والنخل العالي، والحمام في الأفاريز، بائع شاي الجمر، الطفل وهو يلعب، العجوز في غرفة العناية المركزة، الجندي في وردية ليل، وحارس المقبرة الشاب نام أيضًا، كل شيء نام ما عدا عقرب الثواني على الجدران يصدر صوتًا لاهثًا كل ثانية.

جدار

كلما شاهد الطفل ستارة الغرفة تحمس لأن ينهض ويجذبها، مأخوذًا برسوم الأراجيح والأطفال والحدائق والشوارع والمدينة على قماشها، لكنه يتردد دائمًا وهو يتخيل أن يزيحها فجأةً فتظهر غابةٌ خلف زجاج النافذة.
هكذا قرر يومًا أن يغامر ويسحب القماش بجسارة، دون أن يخشى سقوط المدينة من خيوط القماش، ودون أن تقفز الغابة إلى غرفته..
هكذا جذب الستارة فجأة، فلم تسقط المدينة، ولم يجد الغابة، بل وجد جدارًا خرسانيًا صلدًا.

كلاب

كلما وضع رأسه لينام، يتعالى النباح، فينهض ويجذب الستارة، لا أحد خلف زجاج النافذة سوى طريق معتم، وأعمدة إنارة حزينة، وراية منهكة ترفرف فوق سور الليل الطويل.
من أين يأتي النباح إذن؟ يسأل.
يفتش البيت الصغير، الممر، الصالة، المطبخ، لا شيء.
من أين يأتي النباح اللعين؟ ينفعل.
يقترب من باب غرفة طفلته النائمة بعمق، يرهف، حيث يعلو الصوت، يفتح الباب ببطء وحذر، يتعالى النباح أكثر وأكثر.. يسد أذنيه مرعوبا، ويبحث عنها، يقترب من طاولة الكتابة، حيث بضعة أوراق مرسوم عليها بقلم الرصاص قطيع كلاب ترفع أذيالها، وتنبح بإصرار، التقط الأوراق ومضى بهدوء خارج الغرفة، ثم الصالة، فالممر، وباب البيت، حاذفًا الأوراق بقوة في الخارج، فركضت الكلاب بجنون وهي تنبح!

عجوز

يمشي بجسد مقوَّس.
لم ينحنِ لأنه قضى مئة عام يدبُّ على هذه الأرض العتيقة، وإنما لأنه لم يجد شيئًا في الأفق، فراح يفتش عنه تحت قدميه.

الذكريات

المرأة التي تفتش قمامةَ منزلٍ مهجور، لا تجدُ شيئًا، حتى التقطتها سيارة مكافحة التسوّل، وحين سألها المحقق الشاب: عمَّ تفتشين يا خالة؟
قالت: عن أشيائي!
أي أشياء في قمامة منزل مهجور؟
أجابت: الذكريات.

قطان أسودان

في الليل تنام “الرياض” على صمت طويل، البيوت الواطئة تخفي رؤوسها كالنعام وتغفو، أما ناطحتا السحاب فهما تقفان مثل هرَّين شرسين يتأهبان لنزال يشعل هدوء المدينة النائمة في سكون.

الرياض

في الصيف، يخرجون إلى الأسواق المغلقة، يتنفسون هواءً باردًا. يلهو أطفالهم في ألعاب السوق، ويجلس الأب في مقهى فرنسي يطل على الطريق العام، ذلك الطريق الذي تغيَّر اسمه مرارًا.
أما الأم فتطوف مع المتجولات بين محال الملابس والأحذية وأدوات التجميل، وتقف معهن أمام واجهات المحال بخشوع، يحدقن بملابس المانيكانات المحشورات داخل الزجاج المضاء.
عند منتصف الليل، تخرج الأم، ويخرج الأب والأطفال، والمتجولون كلهم يخرجون عائدين إلى بيوتهم الهادئة.
بعد منتصف الليل بقليل، تخمد أضواء السوق المغلق من الداخل، فتخرج المانيكانات حذرةً من حبسها الزجاجي، تتجول في الممرات، باحثة عن رؤوسها المقطوعة.

المشي على أربع

فقدنا الضوء في المدينة، ظلام دامس رمى ملاءته فوقها. في البيت لم أعد أرى يدي في الحلك، فلا أحد يشعل الضوء. صرتُ أمشي على أربع بحثاً عن نظارتي ومفاتيحي وثيابي! اكتشفت في الأيام التالية أن أهل المدينة كلهم باتوا يمشون على أربع، مثلي.


• من مجموعة “تلك اليد المحتالة” /دار خطوط وظلال في عمَّان/ الأردن

في مديح القاهرة

ذاكرة الدهشة الأولى

قبل ثلاثين عاما تقريبًا، تحديدًا في يناير من العام ١٩٩٢ زرت القاهرة لأول مرة في حياتي وأنا في منتصف العشرينات. جئت لوحدي لأكتشف معرض القاهرة الدولي للكتاب في مقره القديم بشارع صلاح سالم. لا أعرف هذه المدينة، ولم أسأل أحدًا، ولم أبحث عن تفاصيلها قبل قدومي. كل ما أعرفه أن معرض الكتاب في يناير، وأنني متشرد معرفة، ومتلهف، وشغوف. جئتُ كنسر يرصد طريدته (الكتاب) ولا يرى سواه. لم أحجز سكنًا وإنما حملت مبلغًا نقديًّا بسيطًا، وشيكين سياحيين. احتار سائق التاكسي بي، واقترح عليّ السكن في العجوزة، حين وصلت لم تعجبني الشقة، وذهبنا إلى شارع جامعة الدول العربية، لأقيم في شارع عمر طوسون بالمهندسين، في شقة صغيرة وقديمة قريبة من ميدان سفنكس.

حين وضعت حقيبتي ونزلت، سرت في الشارع حتى الميدان، سرت مأخوذًا بالمشهد البصري النابض حولي، شعرت لأول وهلة أنني لم أعد يوسف، وأنني تسللت فعلاً إلى فيلم مصري من إخراج عاطف الطيب، النساء، الصبية، الدراجات، البوليس، الضجيج، النكات الطائشة… حين وقفت وسط الميدان، احترت بين أحمد عرابي وجامعة الدول العربية، جلست على مصطبة حجرية تحت الأشجار الضخمة، محاولًا أن أخدع عاطف الطيب، فأهرب فجأة من دور الكومبارس الذي ورطني فيه، وأعود إلى كوني مجرد مشاهد أفلام عابر.
لم أكن آنذاك أعرف أحدًا في القاهرة سوى إبراهيم أصلان من خلال رسائل متفرقة، وإرسال مجموعتي القصصية الأولى (ظهيرة لا مشاة لها) عام ١٩٨٩ على عنوانه البريدي في إمبابة. تلك المجموعة الصغيرة التي بسببها استدعيت آنذاك من قبل وزارة الإعلام، بناء على تقرير ديني أخلاقي رفعه أحد المشايخ مطالبًا بسحبها من الأسواق. وقتها قررت ألا أنشر مستقبلًا أي كتاب في الداخل، لذلك كانت وجهتي في كتابي الثاني هي القاهرة.
في إحدى الجلسات رأيت الناقدة فريدة النقاش تتحدث عن الأدب الملتزم، والأدب الاشتراكي، وفي نهاية الجلسة تقدمتُ نحوها بخجل معرِّفًا بنفسي، فرحبت بي بحفاوة كبيرة، وقد تذكرت الملف الخاص بالأدب السعودي الذي نشرته مجلة (أدب ونقد) التي ترأس تحريرها، وكتبت افتتاحية ذلك العدد عن الأدب السعودي بكلمة احتفالية أكثر من كونها نقدية، وأشارت فيها إلى قصتي القصيرة المنشورة ضمن الملف كنموذج سردي حداثي يعبر عن التفاوت الطبقي الاجتماعي.
في صباحات يناير الباردة، في قاهرة التسعينات، كنت أنتظر أمام بوابات المعرض قبل أن أتوه في ممراته حتى الغروب، أنبش في الكراتين مثل قط أليف، أشم الورق والحبر والعناوين، أتفقد دور النشر. لا أرى أحدًا ولا يراني أحد، أمشي ببطء، مشية قصاص أثر، يختبر الرمل والخطى، خطى من سبقوه في الكتابة والإبداع، حتى عثرت على دار نشر جديدة ولافتة، تزين أغلفتها إبداعات الفنان الكبير محيي الدين اللباد، اسمها شرقيات. وجدت ثلاثة أعمال افتتاحية أو أربعة، لنجوم الأدب المصري وهم صنع الله إبراهيم، وعبدالحكيم قاسم، وإبراهيم أصلان، وأدوار الخراط… قلت لنفسي هنا سأكون، يجب أن تكون مجموعتي القصصية الجديدة في هذه الدار المميزة، لكن كيف سأصل للناشر؟ ومن سيقدمني له؟ في شقتي الصغيرة فتحت أحد إصداراتها الأنيقة، وسجلت العنوان على ورقة صغيرة: 5 شارع محمد صدقي باب اللوق.
وقفت أمام باب العمارة وسألت، ثم صعدت لشقة بديعة، تضاهي جمال إصدارات الدار، شقة ذات سقفٍ عالٍ، وفي منتهى الأناقة والفخامة، على الطراز الأوروبي القديم، مزدانة برفوف كتب عالية، وطاولة مكتب بالفخامة الكلاسيكية نفسها، يجلس خلفها رجل مبتسم وبشوش، بلحية مشذبة بعناية، رحب بي: تفضل. كان اللقاء الأول بصاحب الدار، النبيل حسني سليمان، الذي عاد من السويد بعد سنوات من الغربة، كي يصنع حلمه في النشر في وطنه مصر، والذي أرسلت له بعد أشهر مخطوطة مجموعتي الثانية (رجفة أثوابهم البيض) التي ضمَّت عناوين قصصية رئيسة، تحت كل عنوان بضعة قصص، من هذه العناوين (قصص الوحشة) التي تضم أربع قصص قصيرة عن القاهرة، طلب الناشر استبعاد قصتين منهما، فوافقت. لم أسأله لِمَ يجب استبعاد هاتين القصتين، لكنني ربما استشعرتُ وقتها الأسباب وتقبلتها وإن لم يفصح عنها مباشرة.
هكذا رفرفت (رجفة أثوابهم البيض) في سماء النيل، القاهرة ١٩٩٣، لتأخذ رحلتي في الكتابة منعطفًا جديدًا وجادًّا، لأنني وقتها غامرت بأن وضعت عملي المتواضع بكل جرأة وحماقة في رفِّ كتب يضم أهم قامات الستينات في النقد، والسرد القصصي والروائي.

المدينة مسرحًا تجريبيًّا واجتماعيًّا

القاهرة ساحرة، لا تفك طلاسمها زيارة واحدة، ولا اثنتان أو حتى عشر، أتخيلها امرأة دلو كما يصف مختصو الأبراج، غامضة، تبدو للغريب مدينة مكشوفة وواضحة ولا تخبئ شيئًا، تكشف عن نيلها ومنائرها وأنوارها، لكنها تخفي جمالاً لا يدركه المرء إلا مع النظر والإحساس والتأمل. مع الوقت والزيارات تظهر كنوزها وأسرارها.
هي تختلف عن سائر المدن، فشوارعها وميادينها ولافتاتها وناسها الطيبين يصعقونك بالسخرية من كل شيء، حتى من أنفسهم، عليك ألا تأخذ الأمور بجدية في القاهرة، فقط افتح صدرك للنيل الغامض وللضحكات، كي تسمو وتعلو أكثر.
هكذا بدأت أكتشف القاهرة على عدة مستويات، الأمكنة، الناس، السلوك، المشي، حتى المشي الاحترافي بين العربات يحتاج تدريب خاص في القاهرة، لأن الماشي وقتها يصل إلى مرتبة فهم تفكير السائقين المغامرين، ويتنبأ به قبل أن يحدث. كذلك على المستويات والاهتمامات الثقافية المختلفة، فلم تستمر علاقتي بالقاهرة علافة قراءة وكتابة ونشر في مجال السرد والقصة فحسب، وإنما سأكتشف جمالها المسرحي والروائي والتشكيلي خلال ثلاثين عامًا من الشغف والاكتشاف، هكذا كانت زيارتي التالية في التسعينات، ليست لمعرض القاهرة للكتاب الدولي، وإنما لمهرجان القاهرة للمسرح التجريبي، حيث أعلى مراتب التجريب والجنون في الكتابة المسرحية، والأداء، والتمثيل والإخراج.
جئت ضمن وفد مسرحية الهيار للكاتب المسرحي الكبير محمد العثيم، وإخراج أبو بكر خالد الشلقامي، وتمثيل راشد الشمراني وعلي إبراهيم وصالح الزير وحسن السبع وآخرون. كانت القاهرة تستضيف المؤتمر الدولي للسكان والتنمية عام ١٩٩٤، فلم تجد جمعية الثقافة والفنون سكنًا مناسبًا للوفد، وأقمنا الليلة الأولى في عوامة على النيل، كل شخصين من أعضاء الوفد في غرفة صغيرة جدًا، بسريرين متقابلين، ونافذة زجاجية دائرية على النيل. كنت أخرج لبهو صغير في مدخل العوامة، لأجد أحدهم مخمورًا ويبكي، كان يبكي طول الليل، كنت أحاول أن أفهم سبب بكائه، لكن لسانه الثقيل يجعلني لا أفهم شيئًا مما يقوله. كانت ليلة أولى مرهقة جعلتني أفكِّر بالعودة، لولا أن انتقلنا في اليوم التالي إلى فندق فيروجيبت المهندسين، فشعرت بالراحة والهدوء، وبدأت أحضر المسرحيات.
دهشتي كانت كبيرة وأنا أرى رجلاً بملابس رثَّة، ولحية كثَّة وشعواء، وهو يخبط خشبة المسرح بقدمين ثقيلتين مقيدتين، لم يكن فيهما قيد، لكنني شعرت أن يجرُّ شيئًا بصعوبة. كان يزعق في صالة قديمة مفتوحة النوافذ، ومن النوافذ يأتي الضوء مدروسًا. مساقط الضوء من خلال النوافذ أضفت جوًّا حلُميًّا، كأننا لسنا في مسرح، بل في حياة أخرى. كان الرجل العجوز يسير ويصيح، وهو يمشي بين الحضور، لا أتذكر إن كان يحمل حمامة بيضاء. كل ما أتذكره أنني ظللت مذهولاً ليومين. كان هذا الرجل العجيب هو المخرج البحريني الكبير عبدالله السعداوي.
وما أثار دهشتي فيما بعد، أن مقاعد القاعة كلها كانت مشغولة، غالبيتها من الشباب المصري رغم أن المسرحية تجريبية، وعميقة، وهو ما جعلني أفكر بعبارة “الجمهور عاوز كده” إزاء فشل المسرح اليوم وسطحيته. استمتعت بعروض مسرحية تجريبية عربية وأجنبية، حتى امتلأت حواسي إلى درجة أن اعتذرت من زملاء الوفد بمشاركتهم حضور مسرحية الزعيم للفنان الكبير عادل إمام.
هكذا أمسكت القاهرة بيدي، لتهمس لي بأن الكتابة التجريبية سواء في المسرح أو القصة أو الرواية، هي مغامرة جميلة، فجاءت مغامرة الكتابة في عملين لاحقين، مجموعة نصوص (لا بدَّ أن أحدًا حرَّك الكراسة) ثم روايتي الأولى (لغط موتى) ففيهما جرَّبت النص المتأرجح بين القص والشعر، وكذلك نمط الميتا رواية، لتبقى القاهرة كل مرة تهبني طاقة أجمل، وتجريب أعمق في الكتابة.

صنع الله صانع الرفض والدهشة

في مطلع الألفية أحل ضيفًا على القاهرة، ومشاركًا في ملتقى القاهرة الثاني للإبداع الروائي، بترشيح من صديقي الروائي جمال الغيطاني، الذي ربطتني به صداقة جميلة منذ كتابته المنعطف (التجليات)، كنت كتبت شهادة أدبية حول موضوع الملتقى (الرواية والمدينة)، وفي فندق بيراميزا في الدقي أقمت مع مبدعين ومبدعات من مختلف الدول العربية، بل أن القاهرة منذ تلك الدورة أصبحت القاهرة بيتًا دافئًا وحميمًا لكثير من الروائيين العرب.
حين دخلت دار الأوبرا لأول مرة في الصباح التالي شعرت بدفء غامر وطاقة مذهلة، كانت قاعة المسرح الصغير لإطلاق الافتتاح، بحضور وزير الثقافة الفنان فاروق حسني، وأمين عام المجلس الأعلى للثقافة الدكتور جابر عصفور، ومن ثم الجلسة الافتتاحية حول الملتقى الذي عاد بعد انقطاع عشر سنوات تقريبًا، والذي أسس عقب نيل الروائي الكبير نجيب محفوظ لجائزة نوبل عام ١٩٨٨. في الجلسات اللاحقة التي ستنظم في قاعات مبنى المجلس الأعلى للثقافة، سأتنقل بشغف بين الندوات والشهادات وورش العمل التي تٌعقد في وقت واحد، في غرف طوابق المبنى الثلاثة. سأنصت طويلاً وأتحدث قليلاً، سيضم المقهى أسفل المبنى معظم الروائيين والروائيات، في نقاشات وحوارات جانبية، مما جعل أثرها كبيرًا على تجربتي وقراءاتي في البدايات.
هذه المرة كانت القاهرة مختلفة تمامًا. المشي من الشارع المحاذي لفندق بيراميزا حتى الكشك الصغير، ثم انعطف يسارًا من شارع ديجول، حتى ميدان الجلاء، وأجتازه متأملاً النيل من فوق كوبري التحرير، نحو بوابة دار الأوبرا، لأكشف أول مبنى على يساري، مبنى المركز القومي للترجمة، ذلك المشروع الهائل الذي أنجزه الدكتور جابر عصفور. كنت أمشي ببطء وأناة، أمشي وأتأمل الشوارع والناس والشجر العالي والنيل والمراكب والعصافير، هذه المرة كانت القاهرة جميلة أكثر مما سبق، مما جعلني أدرك أن استيعاب الجمال أمر معقَّد، يصعب استيعابه من أول وهلة، وقد يحتاج المرء إلى عدد من المرات ليقبض عليه، هكذا كانت القاهرة كلما زرتها أكثر تعلَّقت بها، وتآلفت معها، وأخلصت لها، وصادقتها، بل وقعت في غرامها.
ستلفت انتباهي صِغَر قاعات المجلس، وأفكِّر، صحيح أنها تستوعب ثلاثين إلى أربعين شخصًا، لكنها ممتلئة على الدوام، ومستغلَّة باستمرار في مناسبة إثر مناسبة، باختصار قاعات صغيرة فيها روح أهم من قاعات ضخمة وفارهة لكنها ميتة. هكذا كنت أفكِّر.
ليس ذلك فحسب، وإنما تلك الحميمية التي كانت تحفل بها تلك القاعات، سواء القاعات العادية أو القاعة المستديرة التي تنعقد فيها ورش العمل حول الرواية والمدينة. نقاش ساخن وحميم وعميق، اختلافات في وجهات النظر، واستكمال هذه الحوارات في الممرات، وفي المصاعد، وأيضًا في المقهى أسفل مبنى المجلس الأعلى للثقافة.
في نهاية ملتقى الرواية عُقد حفل الختام في القاعة الكبرى بحضور وزير الثقافة الفنان فاروق حسني، وجمع غفير من المشاركين والمثقفين والمهتمين يتجاوز خمسمائة، حيث كانت الدورة تحمل اسم إدوارد سعيد، وترددت الأحاديث الجانبية بأن الجائزة هذه الدورة ستخصص الروائي مصري، بعد أن منحت جائرة الدورة الأولى للروائي عبدالرحمن منيف. في الحفل شاهدت الروائي المصري صنع الله إبراهيم لأول مرة، وأنا الذي قرأته منذ (تلك الرائحة) وحتى (أمريكانلي)، مرورًا بأعماله العظيمة: نجمة أغسطس، اللجنة، بيروت بيروت، ذات، شرف، ووردة. لمحته يهبط الدرجات نحيلاً بنظارتيه السميكتين، وشعره المنكوش، وشاربه الممتزج بالبياض، ثم جلس في الصف الأول بالقاعة. اكتمل الحضور بوصول الوزير فاروق حسني، ثم بدأ الحفل بكلمة لأمين المجلس الناقد جابر عصفور، وهو يصف فارس هذه الدورة الذي عرفناه جميعًا قبل الإفصاح عنه. نهض صنع الله مصحوبًا بالتصفيق ووقف أمام المنبر، ثم أخرج من جيبه الداخلي للجاكيت ورقة كان قد أعدها. ثم ألقى كلمة مؤثرة عما يحدث من تردي في كل مناحي الحياة، فلم يعد لدينا مسرح أو سينما أو بحث علمي أو تعليم – كما يصف -، لدينا فقط مهرجانات وصندوق أكاذيب. لم تعد لدينا صناعة أو زراعة أو صحة أو عدل…إلخ. ثم أشار إلى أنه “على بعد خطوات من هنا يقيم السفير الإسرائيلي في طمأنينة، وعلى بعد خطوات أخرى يحتل السفير الأمريكي حيًّا بأكمله، بينما ينتشر جنوده في كل ركن من أركان الوطن الذى كان عربيًّا”. وأخيرًا – كما هو معروف – اعتذر عن استلام الجائزة، محدثًا رفضه لها دويًّا وعاصفة من التصفيق والضجيج واللغط. ثم هبط من خشبة المسرح صاعدًا الدرج محفوفًا بالصفير والصراخ العالي. بجواري شابان، أحدهما يسأل الآخر عن قيمة الجائزة، فيخبره الآخر: مئة ألف جنية. يصرخ الآخر: يا خبر أبيض. ده عبيط.
ولعل أجمل ما تعلمته في هذا المشهد، موقفان متناقضان كل منهما يحمل رؤيته وتبريره، موقف المعارضة الذي أطلقه صنع الله تلك الليلة، وموقف الحكومة الذي مثله وزير الثقافة حينما وقف على المسرح، وأوضح أن من حق الكاتب قبول أو رفض الجائزة، وهي الحرية الحقيقية التي تكفلها له الحكومة والوزارة بأن يعود إلى منزله سالمًا وحرًّا، فالأول استغل وقفته أمام الصحافة العربية والعالمية ليمرِّر رسالته، والثاني استثمر الموقف أيضًا ليثبت الحرية التي يتمتع بها الكاتب.

مدينة قلبها كبير

كلما استعدت رحلتي الأولي مطلع التسعينات، تذكرت صوت محمد منير الذي يشبه النحيب، الذي ينساب في ممرات محل عمر أفندي الكبير، حيث أتجول بحثًا عن إبريق وكوب، وسكَّر وشاي، كي أؤثث تلك الشقة الصغيرة في شارع عمر طوسون. لا أعرف أي حنين يلتهم قلبي كلما سمعت أغنية لمحمد منير في أي وقت ومكان. وربما أتفهم ذلك الحنين الذي بثَّه لي الشاعر والروائي العراقي فاضل العزاوي ذات ظهيرة ونحن نعبر معًا ميدان التحرير في يونيو ٢٠٠٧ من خلال استرجاعه ذاكرة سبعينات القاهرة.
في منتصف يونيو كانت الجامعة الأمريكية قد أصدرت عددًا من الروايات لكتاب مصريين وعرب، ومنها روايتي (فخاخ الرائحة) التي صدرت بعنوان (wolves of the Crescent Moon) ورواية فاضل العزاوي (آخر الملائكة) بعنوان (The Last of the Angels)، وبعثت دعوة لنا لحضور معرض الكتاب السنوي الذي تقيمه الجامعة، وعلى هامشه حفل توقيع على الأعمال المترجمة الجديدة، منها أيضًا روايتين للروائي الراحل يوسف أبو رية، والروائية هالة البدري، إضافة إلى كتاب للناقدة العراقية فريال غزول. أقمنا في فندق شيبرد المطل على النيل، والمحاذي لفندق انتركونتننتال سمير أميس. خرجنا ذات ظهيرة مشيًا باتجاه مقر قسم النشر في الجامعة في شارع محمد محمود، ونحن نتقدم نحو ميدان التحرير، أمسك بيدي فاضل، وقال لي، لو أصف لك هذا الميدان في السبعينات لن تصدق! ثم وصف لي العربات والدكاكين والناس، أناقة الموظفين الذاهبين إلى أعمالهم ببدل رسمية وربطات عنق، وأناقة النساء بفساتين راقية وزاهية، إذ من النادر جدًا أن ترى امرأة محجبة في الشارع. وصفه لحالة القاهرة القديمة وملامحها، شوارعها وحفلاتها الغنائية، جعلني أتوق شغفًا لتلك الفترة، وأتمنى لو عشتها فعلاً، رغم أنني شاهدتها في أفلام حسن الإمام وحسين كمال وهنري بركات وغيرهم، في أفلام مثل: أريد حلا، خلي بالك من زوزو، أفواه وأرانب، امبراطورية ميم، لا عزاء للسيدات، وملامح الفنانات فاتن حمامة، وسعاد حسني، ونادية لطفي، ونجلاء فتحي، وميرفت أمين، وغيرهن. والفنانين محمود ياسين، وحسين فهمي ونور الشريف وغيرهم. رغم كل الزخم الذي عشته في صباي مع هذه الأفلام، إلا أن القاهرة في عيني شاعر وروائي من خارجها كفاضل العزاوي ترك فيَّ حسرة أنني لم أكن شابًا وقتذاك، وابن عائلة ثريِّة، كما هي العائلات السعودية الثرية في السبعينات التي اكتشف أطفالها روح القاهرة وثقافتها، وجمال بيروت أيضًا.
بالطريقة ذاتها التي كشف لي فيها فاضل العزاوي قاهرة السبعينات بوصفه لها كما لو كانت أمامه في اللحظة ذاتها، قادني ذات عصر صديقي الراحل يوسف أبو رية إلى دهاليز وسط البلد. كنت كلما زرت القاهرة اتصل بيوسف – وهو الذي عاش بيننا سنوات في الرياض، مدرِّسًا ومرافقًا لزوجته الطبيبة – فيسأل عن موقعي، وأخبره أنني في وسط البلد. حين يقترب ويتصل بي لأحدد مكاني، أخبره أنني انتظره في جروبي، فيطلق ضحكته العالية الثخينة: “جروبي أيه وبتاع أيه؟ ده مكان الحبِّيبه” ثم يأخذني: “تعال وشوف القاهرة، وسيبك من مكان العيال ده”. نسير معًا في أزقة وسط البلد، ويروي لي سيرة الأماكن والأزقة والشبابيك: “بص هناك يا يوسف، في البلكونة دي كانت سعاد حسني تستنى حليم” وهكذا يعيدني بفطرته السردية ومخيلته الشاسعة إلى حكايات الستينات وأوائل السبعينات وجمالها.
في حفل التوقيع، بمعرض كتاب الجامعة الأمريكية كنت التقيت لأول مرة بمدير النشر بالجامعة الراحل مارك لينز، ومساعده نيل هيوسن، وكبير المحررين تشيب روزيتي، واكتشفت أن القاهرة ليست بيتي لوحدي، كونها أول عاصمة احتضنت أول كتاب صدر لي خارج وطني، وكذلك دعتني إلى أول ملتقى دولي مهم، وامتلكت حقوق ترجمة أول رواية لي، وإنما كانت تفعل ذلك مع غيري من الأدباء والمثقفين العرب، حيث فتحت لهم القاهرة أبوابها ونوافذها وقلبها الزاخر بالحب، حتى أصبحت المكان الحميم الذي يجمعنا من كل أنحاء البلدان العربية.

الحكي الذي لا ينتهي

أجمل ما في هذه المدينة الغامضة والمكشوفة معًا، الخالدة والمتجددة، أن كل رحلة تجعلني كأنني أزورها لأول مرة، فالرحلة التي كرَّست شارع جامعة الدول العربية والمقاهي فيه، والمهندسين، تختلف عن رحلة دار الأوبرا، ووسط البلد، ميدان طلعت حرب ومكتبة مدبولي، ومكتبة الشروق، وجروبي والجريون وريش وغيرها من ملامح وسط البلد الجميلة، والتي أصبحت أجمل بترميماتها الأخيرة، بما تحمله من طابع ونكهة المباني الأوروبية العتيقة. وهي تختلف عن رحلة مراكب النيل وليل الحسين والفيشاوي وخان الخليلي.
كل جزء من القاهرة هو لوحة ساحرة ومتحركة لفنان عظيم، مما يجعل الإحاطة بكل تفاصيل مدينة كالقاهرة هو أمر بالغ التعقيد.
لم تكن المشاركة السنوية لملتقى القاهرة للرواية العربية تتوقف عند مبنى المجلس الأعلى للثقافة وقاعاته ولوحاته ومقهاه ومكتبته، ولا عند الأوبرا ومسرح الهناجر والمقاهي الخارجية ومتحف الفن المعاصر وعيرها، وإنما كنا نكمل أمسياتنا في الحسين، حيث المقاهي المنتشرة أمام ساحة الجامع، كنا مجموعات أصدقاء متآلفة، والحديث الليلي الذي يطول تقطعه الضحكات، ونداءات الباعة هنا وهناك. كنا رؤوف مسعد وعبده خال وإيمان يونس حميدان ومحمد البنكي وهدى العطاس وآخرون. تجمعنا أحلامنا وهمومنا في الكتابة والقراءة والأدب والسياسة وحال عالمنا العربي.
قد تكون القاهرة كمدينة تختلف عن غيرها، فغالبًا لا يشعر المرء فيها بالوحدة، إذ حينما يسبر في أنحائها لا يمشي فوق طبقات من الحضارات المتراكمة تحت سطحها فحسب، وإنما يمشي على طبقات هائلة من الحكايات التي لا تنتهي، في كل مكان يسمع الحكايات والعبارات والصيحات، في الشوارع والمقاهي والدكاكين والمقابر وداخل سيارات الأجرة، ولعل كتاب خالد الحسيني اللافت (تاكسي… حواديت المشاوير) الذي صدر عام ٢٠٠٧ يختزل روح القاهرة، خفَّتها وعمقها معًا، ضحكها وعبوسها، مرحها ومآسيها، ليلها ونهارها، هي مدينة يراها المرء وفق بصيرته، لكنها لا بدَّ أن تترك فيه أثرًا ما، وتوقظ ذاكرة ما، وتترك شغفًا إلى أماكنها الحميمة.
هي الدنيا، حيث يقول الأصدقاء المصريون لمن يزور القاهرة: “يا أهلا وسهلا، نورت الدنيا”، هذه العبارة وإن كانت تعبير عن الاحتفاء الحميم والمعتاد عند المصريين، إلا أنها جعلتني أتخيَّل أنهم بدلا من قول: نورت القاهرة، يقولون: نورت الدنيا. ربما هي الدنيا لأنها فعلاً تضم كل شيء، ولأنها كل أخذنا منها نطلب المزيد، هي المعطاءة بسخاء، حيث تفرد قلبها ونيلها نهارًا وليلاً، إلى درجة أن نشعر معها أيهما أجمل؟ صباحاتها الناعمة، أم ظهيرتها الكادحة، أم عصرها المسترخي على نيلها، أم ليلها الساهر بصخب وقهقهة ليس لها آخر. هل جميلة في كل حالاتها.

أكثر من سلالم – مقتطفات

(١)
قبلاته تشبه طيراً يلتقط الحبَّ

أخيرًا فعلتِها يا رشّو يا بنت سعيد! همستُ لنفسي، وأنا أعضُّ شفتي السفلى بقلق.
في الممر الطويل المؤدي إلى كابينة الطائرة بوينغ 777 كنت أمشي بخطوات سريعة إلى الأمام. لم ألتفت أبداً نحو أبي، الذي استطاع الدخول معي إلى مدخل الممر، بعدما أقنع الأمن أنه سيطمئن على جلوسي عند رقم البوابة الصحيح، فوافقوا لأنهم يعتبرونني كائنًا فاقد الأهلية، وطوال جلوسه معي قبيل الرحلة، كان يحيطني بنصائحه، بألا أصاحب من هب ودب، وألا أثق بأي أحد، ولا أذهب إلى أماكن لا أعرفها، وأن يقتصر خروجي على الأشياء الضرورية، كانت أمي صالحة، وأختي زهرة، وأخويَّ سعد وحسن في الصالة العلوية بالمطار، يقفون خلف الزجاج، كلما ألتفت نحوهم، وجدتهم يلوّحون بأيديهم، تبلَّل وجهي، وقد أحسست بدمع أمي، وخجلت من نفسي لأنني أبكيتها، وأحزنتها على فراقي.
تفحَّص الموظف بطاقة صعود الطائرة وجواز سفري، وتأكد من تأشيرة الدخول إلى الأراضي الأمريكية، قال وهو يناولني الجواز وبطاقة الصعود: بالسلامة. هرولت وعلى ظهري حقيبتي، لم ألتفت خلفي، ولا حتى لمرة واحدة، خشية أن يصرخ بي أبي كما في المسلسلات الخليجية: “رشا ارجعي، غيَّرت رأيي، لن تسافري إلى أمريكا!” لكنه لم يفعل بالطبع، ولم أتوقف إلا حينما رميت جسدي المنهك، المفكك تماماً بعد محاولة الانتحار الفاشلة التي أقدمت عليها قبل تسعة أيام، جلستُ بجوار الشباك، وجلس بجانبي رجل أربعيني، لم يلتفت نحوي، ولم يكلف نفسه بإلقاء التحية، ولم يبتسم أيضاً، كل ما فعله لحظة أن أقلعت الطائرة، أن أرجع مسند مقعده للخلف، ودخل في نوبة نوم مخيفة، كان يشخر مثل حوت، وكلما تعالى شخيره فزّ فجأة، كمن يدفع موتاً مباغتاً.
بينما المضيفة تقرأ التعليمات، تنبَّهت إلى أنني لم أقفل هاتفي المحمول، كانت أمي تنشج بحزن: “بغيت اسمع حسّك قبل تقفلين جوالك” هدَّأتها، ومازحتها قليلاً وأنا أخنق عبرة تتسلل، ووعدتها بألا تشعر بفقدي، سأتصل بها كل دقيقة، وأترك هاتفي المحمول مفتوحًا حتى في الليل، فتنهدتْ بحزن، ودعتْ لي قبل أن أقفل الخط، وأربط حزام المقعد.
حينما أقلعت الطائرة، لم أنظر من النافذة نحو الرياض وهي تختفي ببطء، ولم أندم أو أبكِ، كنت أمتلك قوة وشجاعة، بل وسعادة كبيرة أن أصبحت داخل هذا الصندوق السحري الذي سيلقي بي في أرض الأحلام، نيويورك التي لا تنام، نيويورك كيفن في فيلم (هوم ألون ٢)، بلازا هوتيل، سنترال بارك، تايم سكوير، تمثال الحرية، برودواي، مانهاتن، بروكلين… يا الله! كنت كل لحظة حينما ينتهي فيلم أشاهده في شاشة المقعد أمامي، ألتفتُ نحو الرجل الأربعيني الغارق في نومته العميقة، أودُّ لو ألكزه، كيف تنام وأنت في الطريق إلى المدينة التي لا تنام؟
شعرت بحرجٍ شديد حينما امتلأت مثانتي، كيف أوقظ هذا النائم كجنازة، لأمرَّ بينه وبين مسند المقعد المقابل، صحيح أن جسدي صغير وضئيل، لكن طاولة جاري كانت مفتوحة أمامه، وعليها هاتفه المحمول، وقد أقفل تماماً فرصة العبور إلى الممر، كنت أفكّر، ماذا لو نبهته قائلة: لو سمحت! ولم يستيقظ، أي حرج لي، وأنا واقفة، بينما ركاب المقعد الخلفي يتطفلون عليَّ، ماذا لو اضطررت إلى أن أمسَّ كتفه برفق كي يستيقظ، وكيف لي أن ألمس جسد رجل غريب، وماذا لو عدتُ بعد الحمام، لأجده دخل في الغيبوبة مجدَّدًا؟ مما يضطرني إلى إيقاظه مرة أخرى، يا الله ما هذا الحرج؟
تحمَّلتُ كثيراً حتى كدت أبكي لفرط امتلاء مثانتي، فجأةً قررت أن أفعلها، وأرفع هاتفه المحمول بهدوء من على طاولة المقعد، ثم أرفع الطاولة وأقفلها بهدوء، وأحاول التسلل بخفة كقطَّة أليفة، لكنني مجرد أن وضعت يدي على هاتفه المحمول، حتى تحرَّك وتململ، ثم تنبَّه في اللحظة التي قلت فيها: المعذرة؛ خشيت أن يظن أنني سأسرقه. لكنه ابتسم خجلاً، وأخذ هاتفه وأقفل الطاولة، وانعطف بجذعه يساراً تجاه الممر، دون أن ينهض، يا للحماقة، ألا يعرف التعامل مع فتاة؟ خرجتُ إلى الحمام، وحين عدت قلقة أن يكون نام ثانية، وجدته واقفاً في الممر يقوم بعمليات إحماء، كمن سيدخل في مارثون طويل، أو كمن يستعد لجولة ثانية من نوم أكثر عمقاً.
عدت إلى مقعدي، وتنقلت بين أفلام الرحلة المتاحة، معظمها أفلام قديمة، اخترت فيلم (Are we there yet)، وأطلقت بصري من النافذة حيث السحب البيضاء، وهذا السديم الذي أخذني عنوةً إلى طفولتي البعيدة، حينما كان أبي يحبني كثيراً، وكذلك أمي، وهما لا يرفضان لي طلبًا، كنت في المراهقة أتمنى أن يقول لي أحد: لا، لكن ذلك لا يحدث، عشت طفولة مثالية، أو بالأحرى طفولة مدللة، كل الألعاب الجديدة من ديزني لاند، تصلني قبل الآخرين، كنت محسودة كثيراً من قبل قريناتي من الأقارب، والصديقات، لكن الأمر بدأ يتغير شيئاً فشيئاً، منذ أن ساءت العلاقة بين أبي وأمي بعد زواجه من فتيحة، وتحوله إلى شخص آخر، يبحث عن أي سبب، ولو كان تافهاً، كي يثور ضدي، لا أعرف لِمَ كان يفعل ذلك، هل بسبب حدة أمي وانفعالها المستمر ضده؟ أم بسبب تأثير زوجته الثانية فتيحة؟ لم يعد أبي يضع القمر في يدي، ولم تعد الشمس تتسلل إلى غرفتي بخجل، كان يدخل ويفتعل أي شيء للشجار، مجرَّد الشجار، كأن أجهِّز الغداء بدلاً من الخادمة، أو يجبرني على الذهاب لبيت عمتي، فتحولت إلى شخصية مختلفة، عنيدة، أرفض كل شيء يطلبه، حين يأمرني بفعل شيء، أفعل عكسه تماماً، أصبحت فتاة نزقة، كنت ألفت انتباهه وتقصيره معي، صار يتهم أمي بأنها تحرضني على الرفض والتمرد، بينما لو كنت مكانها لخلعته منذ سنوات طويلة، فأنا لا أحب الرجل المتسلط والمستبد، الذي يعتقد أن دوره في إلقاء الأوامر، وليس المشاركة في حياة طبيعية.
أتذكر أول مرة صفعني كيف بكيت لساعات، لم أكن أبكي ألماً، لكنني شعرت بالمهانة والحزن، لأن من فعل بي ذلك هو أبي الذي طالما أغدق عليَّ حبه وعطفه وحنانه. بعد ذلك صرت لا أكترث له، وازداد عنادي حتى أصبحت قادرة على أن أجعل العالم كله يقف على قدم واحدة، أفعل ما يغضبه قصداً، وأختبئ في غرفتي بعد أن أرتدي ملابس ثقيلة تحت قميصي، وأغلق باب غرفتي جيداً، لكنه يعود ويجلدني بالعقال، وبالحزام أيضاً، حتى اعتدت الأمر، فلا أبكي أبداً، أتركه يفعل ما يريد، ثم أدخل الحمام، وأتحمم تحت ماء ساخن، وأغير ملابسي، ثم أخرج لأمي دون دمعة واحدة، بعد أن يكون قد غادر البيت.
كنت شقيَّة وشرسة، أفعل ما أريد، فلا يمضي شهر دون أن أوقع تعهُّدًا بعدم تكرار خطأ ارتكبته في المدرسة، إما أن ألبس بشكل مخالف للنظام، أو أثير الفوضى في الصف، مما يوقعني في فخ توقيع تعهد، أو عقوبة الفصل ليوم أو يومين أحياناً، وهذا ما يغضب أبي مني كثيراً، لكن أمي خلاف ذلك، فقد كانت سعيدة وفخورة بي، كأنها تعوٍّض ضعفها بقوتي! كأن لا شيء يعنيها سوى تحقيق درجات عالية، وهذا ما أفعله، فرغم الشغب والعبث والفوضى والتمرد، كنت أنجح بتفوق، وأنافس على الترتيب الأول، وربما هذا ما قادني، وفيما يشبه الورطة، إلى كلية الطب بجامعة الملك سعود، رغم كل الحماقات التي ارتكبتها أثناء المقابلة الشخصية، فما زلت أتذكر كل التفاصيل حينما جلست أمام دكتورة تسألني عن سبب رغبتي في الالتحاق بهذه الكلية، كيف وضعتُ ساقاً فوق أخرى، وتحدثتُ بلا مبالاة، لا أتذكر إن كنتُ ألوك علكاً في فمي، لكنني لا أنسى استفزازي لها مراراً، كي تطردني، غير أنها لم تفعل.
دخلت غرفة المقابلات الشخصية، كنَّ ثلاث سيدات، في الوسط أربعينية ترتدي بلوزة صفراء بلون الليمون، بنظارتين طبيتين فوق أنفها، كنت أمشي بطريقة مستهترة حين دلفت، وألقيت السلام، فأشارت لي بالجلوس:

  • هلا رشا، قولي لي، ليه تبغي تدرسي طب؟
    • لأن معدلي عالي، وأبغى أصير دكتورة، وأهلي يبغوا أصير دكتورة.
  • طيب ليه تبغي تصيري دكتورة؟
    • لأن ما فيه وظائف للبنات في السعودية، إلا معلمة، أو طبيبة، أو موظفة بنك، وأنا أكره البنوك والمال والاقتصاد، ولا عندي صبر أكون معلمة!
  • كيف ما عندك صبر؟ طيب اللي ما عنده صبر كيف يتحمل كلية طب؟
    • أقصد لو استفزتني الطالبات في المدرسة، يمكن اضطر إلى ضربهن!
  • طيب وإذا جاء لك مريض واستفزك، تضربينه بعد؟
    • لا طبعاً، أطرده فوراً من العيادة!
  • يا بنتي الطب عمل إنساني، يحتاج التضحية والصبر!
    • يمكن، بس في السعودية، صعب نضحي في عالم ذكوري!
    تنهَّدت الدكتورة بعمق، كأنها تتساءل، ما هذه الحمقاء؟ صمتت لوهلة، ثم سألتني:
  • طيب يا رشا، كيف تقضين أوقات فراغك؟
    • إنترنت… أقرأ أحياناً… أطالع التلفزيون… زيارات وطلعات سوق…
  • ماذا تقرأين؟
    • غالباً روايات.
    ثم فجأة سألتني عن لون الجدار خلفي، فضحكت، وأنا أتساءل هل هذا سؤال، وقلت إنه أبيض أو حليبي، فرفعت حاجبيها وهي تستغرب سخريتي، قائلة بأنه قد يكون للسؤال معنى، فابتسمت وأنا أقول ممكن، إلا أن يكون له معنى في الطب.
  • طيب رشا، لو فيه مرض معدي، أو مدينة فيها حرب، هل أنت مستعدة للمغامرة بحياتك لإنقاذ الناس؟
    • يعتمد على المحرم، إذا عنده استعداد يغامر معي، تعرفين ما أقدر أسافر من غير محرم!
  • شكلك مجبرة على حضور المقابلة، والتقديم على كلية الطب!

قالت ذلك، وتمنت لي الهداية والتوفيق، خرجتُ وأنا على ثقة بأنني لن أقبل في الطب، بعد هذه الجرأة، أو الوقاحة في بعض الإجابات، لكن المفاجأة الكبرى أن تم قبولي، رغم أنني أخبرت أمي أنهم لن يقبلوني إطلاقاً، فقد فشلت في إقناعهم، لكن يبدو أن استفزازي لهم، ووقاحتي أيضاً، كانت مثيرة وجاذبة!
كنت أفكر حينما دخلت كلية الطب بجامعة الملك سعود، أن أتخصَّص في طب العيون، بعدما عشت طفولتي المبكرة مع جدتي العمياء، حيث لم يسعفها الطب في علاج الماء الأزرق، الذي كان أمراً سهلاً إلى حد بعيد، لكنني الآن، وقد صعدت هذه الطائرة الضخمة صوب الحلم الأمريكي، غيَّرت رأيي، وفكَّرت بطب الأسنان، كي أضمن للنساء في بلادي أسناناً قويّة وحادّة وصلبة، لينتقمن عند الحاجة ممن يمعن في إيذائهن، لم أكن متأكدة من ذلك قبل أن أصل إلى لوس أنجلس، وأوفق بالدراسة في جامعة عريقة، جامعة جنوب كاليفورنيا، وتروق لي الجامعة، ومكتباتها، وكلياتها، وفنونها، وكلية الأسنان فيها، والأصدقاء الذين صاروا أهلي وقبيلتي!
كل شيء كان مختلفاً، الطبيعة والفضاء والهواء والغيم والبشر والعالم، حتى النظرات والابتسامات مختلفة، يبتسم لي زملائي في المحاضرات، ومن لا أعرفه في الممرات، فأبتسم بدوري، وينتهي الأمر، يبادر بعضهم صباحاً: صباح الخير رشا، فأرد التحية، وينتهي الأمر أيضاً، قد يناقشني أحدهم في المقهى المقابل للكلية، وكذلك ينتهي الأمر، بينما حين ضبطت عبدالإله متلبِّسًا وهو يقيسني بنظراته، في مادة العملي، بمستشفى الملك خالد الجامعي، تصاعد هرمون الأدرينالين، وارتبكت، وأضعت الدكتور والشرح، وما أن ابتسم لي في الأسبوع التالي، حتى شعرت بنمل يصعد فوق أذنيَّ، وصدغي، كما لو أنه يدعوني للخروج معه، صحيح أنني كنت جريئة، وأحب المزاح والتعليق، ما جعل معظم زملائي الطلاب لا يجدون حرجاً في الحديث معي، على خلاف زميلاتي اللاتي ينتقدن مزاحي وبساطتي معهم، مع أنني أضع مسافة احترام معهم، باستثناء عبدالإله الذي غامر، وكنت أشعر به قبل ذلك، وتبعني في الممر، بعد نهاية درس العملي، طالباً رقم هاتفي المحمول، فاعتذرت منه بلطف. مضى بهدوء، وظننت أنه انهزم، لكنه فاجأني في اليوم التالي بشريحة هاتف جديدة، وبطاقات شحن، ناولني إياها، طالبًا أن أحادثه من خلالها، بما أنني متحفِّظة على رقمي الخاص، ووطئت هذا العالم الشائك، فتحدثت بالمحمول، ولأول مرة مع شاب، فكل اتصالاتي وعلاقاتي منذ الطفولة، وحتى الجامعة مع صديقاتي البنات!
كان عبدالإله شاباً وسيماً، طويلاً، ملامحه حادة ودقيقة، وبشرته مغسولة بحقول الحنطة، شاربه خفيف للغاية، ولا يكف عن المزاح واللهو، كنت في البدء استغرب كيف لمن لديه مثل عبثه وجنونه أن يلتحق بكلية صعبة وصارمة كالطب، تحتاج إلى عمل دؤوب، وصبر واجتهاد؟ منذ اللحظة الأولى انسقت خلف سخريته ومزاحه، لم أتصوَّر أنه يتلاعب بي، بل اعتبرت عبثه المراهق جنوناً يجذبني، بل يأسرني، قبل أن يرديني برصاصته الأخيرة.
ورغم أن ظهر كفيه كانا خاليين من الشعر تقريباً، إلا أن أصابعه الطويلة النحيلة، حين تتخلل أصابعي، وتلتف حول كفيَّ، تدخلني في لذَّة مدوّخة، يا الله كم كانت قبلاته تشبه طيراً بارعاً يلتقط حبات القمح من تربة البيدر، في البدء كنت أتسلَّى. أشاغب. أكتشف. أختبر كل شيء، نظرته الساهمة، ملمس كفِّه، طعم القبلة حين يتململ النمل داخل شفتيَّ، كنت أجرِّب لكنني فيما بعد أحببته بجنون، وكنت أظن أنه يبادلني ذلك، ولن يتخلى عني يوماً، ولا عن حبه المقدَّس، كما كان يسميه!

(٣٧)
أعود إلى نقصي!

في مايو ٢٠١٠ كانت ضحكات الخريجات والخريجين تملأ المكان، وهم يتبادلون التهاني والقبلات، ويلتقطون صورًا تذكارية، كنت أتنقل بينهم كفراشة بجناحين رماديين. في الحفل حضر الجميع، حضرت أمي الجميلة وهي تبتسم طوال الوقت، وأشعر بها فخورة بي.
وحضر أبي ببذلة رمادية أنيقة.
حضر صديقي المخلص هشام.
حضر جمال.
حضر زياد، سحر، عائشة.
حضرت سارا أيضًا.
حضر الذين أحبهم، والذين أكرههم، حضروا كلهم، وغاب هو.
لم أتوقع أن يحضر، لكنني حزنت أكثر حينما قدَّمت لي سارا عقدًا من الإكسسوار المطلي بذهب أبيض، وبداخله بطاقة صغيرة مكتوب عليها: “مبروك تخرجك رشا”
سارا وسعود

التقطتُ صورًا تذكارية مع الجميع، صورتي مع سارا لم أزل احتفظ بها في جوالي القديم سوني أريكسون، كانت ترتدي فستانًا أزرق، ويظهر النمش في صدرها، تقف ضاحكة وعلى كتفيها العلم السعودي، تمامًا كما حملته أمها أثناء مباراة في الثمانينات؛ تعتزُّ كثيرًا بوطنها الذي تخلَّى عنها، بل الذي لم يعترف بها، ولم يفتح لها أبوابه، هي تحب وطني أكثر مما أحبه، تشعر بالانتماء أكثر منِّي، هي تعشق الانغلاق وأنا أحلم بالحرية، وربما تحلم بواقع لم تعشه بعد، ولا تدرك قسوته أبدًا، ولو عرفت لتخلت عن هذا الحلم الكئيب، وربما وجدت في سعود بعض حلمها بالوطن، لم تذق الوطن لكنها ذاقت سعود وتخيلت وطنها في شخصه.
لم أسألها وقت ذاك عنه أبدًا، ولا عن مستقبلهما، أو أتأكد من معلومة قالها لي ماهر، زميلي الفلسطيني، الذي كان على علاقة بسعود، بأن سعود لم يقدم طلبا للحصول على البطاقة الأمريكية الخضراء، وإنما قدم أوراق زوجته إلى السفارة السعودية، كي تصحبه بعد تخرجه، كنتُ أتساءل في داخلي، وهل سيتخرج، وأنا التي أعرفه جيدًا؟.
كلما تأملتُ صورتي معها، وهي تلتصق بي بابتسامة بلهاء، وكأن شيئًا لم يحدث. ابتسم بحزن، وأنا أستعيد كيف استقبلتها كالآخرين، دون أن أحقد عليها، بل كنت متماسكة، وأنا أخبئ غضبي جيدًا، ولا أعاتبها، لكنني بالطبع لم أبتهج لرؤيتها، ولم نعد صديقتين.
أنا لا ألومها، لكنني ألومه كثيرًا، صحيح هي مذنبة لكنها لا تعنيني هي أو غيرها، فالمحب حين يكون مستعدًا لأن يهجر محبوبته، لا يهم مع من يهجرها، ولا لأجل ماذا، المهم أن حبيبته أصبحت في نظره لا شيء، بالضبط لا شيء، كنت أشعر أنني لا شيء، لا أحد، هو لا يراني مطلقًا، ولا يسمعني أبدًا، تجاهلني تمامًا كما لو لم يكن يعرفني من قبل، لدرجة أنني صرت أشك أن في الأمر شيء آخر، كأنني ضربته على رأسه في الملهى، كأنني لكمته وهشَّمت أسنانه أمام الملأ، كأنني ارتكبت جريمة، كل ما فعلته أن وقفت مشدوهة، ثم خرجت ودفعته بعيدًا عني حينما أصرَّ أن يمسك بي، هل استكثر أن أنفعل مثلاً، هل تعوَّد أن أذعن له، وأطيعه دائمًا، وأنفذ رغباته بلا تردد، هل كانت علاقتي به كما حللت الدكتورة كارين، واعتبرت طريقتي خاطئة في التعامل مع الرجل عمومًا. لا أعرف.
عادت أمي وأبي إلى الرياض بعد أسبوع من الحفل، وبقيت أنهي بعض الإجراءات، أنهي علاقتي بهذه المدينة التي أعشقها حد البكاء، بقيت شهرًا لا أنساه ما حييت، أسهر حتى الصباح، وأطوف فيها مثل ناقة فقدت جنينها، لم أترك محلا إلا اقتحمته، ولا مطعما إلا تلمست طاولاته كعمياء، ولا شارعا إلا متِّرته بجنون، ولا شجرة إلا تمسَّحت بها، كنت أطوف ليلاً وأبكي، لا أعرف لماذا، بالأمس القريب كنت أبكي سعود، واليوم أبكي المدينة كلها، أبكي كل شيء فيها، بل أبكي أمريكا العظيمة كلها، يا الله، كم أحببت هذه البلاد، أحببت ترابها الحر، وكلما تعبت من التجوال والبكاء، ذهبت إلى هشام الذي تحمَّل حزني، كأنما كانت مهنته الوحيدة مواساتي، كنت أبكي بين يديه، فيضمني ويسألني:
“لماذا تبكين؟”.
“هشام لا أود أن أعود، أنت لا تعرف السعودية؟” وأضفت:
“ستذهب أنت للبحرين، وتعيش الحرية، أنا سأتكوم في عباءة هناك”.
“لكنك ستزورينني في البحرين؟” أعرف أنه يواسيني.
“لا أعلم يا هشام إن كنت أستطيع أم لا؟”.
خلال ذلك الشهر بعت أثاث شقتي، بعت سيارتي، وحريتي أيضًا بعتها عندما صعدت الطائرة، كنت كمعتقل يُقاد إلى منفى، أمشي في المطار بتثاقل عجيب، وأسمع السلاسل في قدميَّ وأنا أسحبهما بصعوبة. صحيح أن أمريكا قدمت لي خنجر سعود، لكنني على استعداد أن أتلقى مئات الطعنات مقابل أن أبقى في أرض الأحلام، أرض النخيل العالي، والهواء الحُر.
قبل يومين من سفري، ذهبت إلى مقهى بلاك دوق، وتذكرت الجلسة المطلة على الشارع، حينما جلست وكتبت إلى سعود رسالة موافقة أن أمنحه فرصة، فتحت الرسالة من جوالي، وقرأت ما كتبته له: سأعطيك فرصة أتمنى تكون قدَّها، ولو ناوي تجرحني يوم أرجوك أنا ماني ناقصة جروح، لا تحبني إذا تفكر في يوم تتركني”، تسللت دمعة من عيني، وتنهَّدت بقوة، وأنا أهمس لنفسي: “رشا كوني قويَّة، ولا تأخذي الناس وكلامهم على محمل الجد دائمًا”. نهضت نحو طاولة الاستقبال، وطلبت أن تكون قهوتي “تيك أوي”، خرجت وهواء مايو يملأ رئتي، اتجهت للحديقة القريبة، كانت ثمَّة مقاعد حجرية جميلة، لم أجلس على أحدها، بل جلست على الزرع الناعم، وجلست أمسِّده بيدي، كما لو كنت أمسد شعر مدينتي الجميلة لوس أنجلوس، بالقرب مني جرت حشرة راكضة، فرفعتها فوق كفِّي وجلست أسلِّيها، مرَّت بجواري امرأة سبعينية يقودها كلب صغير، ونظرت نحوي وهي تبتسم، يا ربي، أليس من حقي أن أحيا ما تبقى من حياتي هنا، أليست سبعينية مبتسمة في وجهي أكثر جدوى من عجوز تلحق بي في السوق كي تجرَّ طرحتي وهي تصيح بي: “غطِّي شعرك”؟.
مررت على معظم الحدائق في المدينة، جريفيث بارك، واتلس بارك، هارولد بارك، وجلست على الأرجوحة ذاتها، التي دفعني فيها نحو السماء، وقد تصالحنا بعد حكاية شمسه، تذكرتُ حين أخبرني بمحادثته مع أمه، وزواجنا، وأحلامنا الكاذبة. تأرجحت دمعةٌ مالحة، نشجتُ لوهلة، ثم تنحنحتُ بصلابة، وصرتُ أتزحلق مرارًا، أصعد وأهبط مثل طفلة مجنونة. جلست إلى الطاولات الخشبية العتيقة، تناولت الوجبات فيها، كنت هائمة على وجهي، أتأمل السياح، وأطارد الطيور والفراشات، كنت أليس في بلاد العجائب، وأدرك أنني بحاجة إلى أن أشحن بصري جيدًا، قبل بلادي الشاحبة، حيث الحدائق النادرة الشهباء، التي يجتمع فيها الباكستانيون والبنغال.
في المطار ودَّعني هشام، احتضنني، وعانقته بقوة، كنت أريد أن أتسلل داخل ملابسه، ولا أغادر. عانقت جارتي وصديقتي جولي وصافحت زوجها جيمس، واحتضنت بناتها الجميلات الثلاث، كانت الصغيرة إيفا تبكي بحرارة، ولم تقبل أن تفك ذراعيها الصغيرتين عن عنقي، كأنها تعرف أنني أغادر للمرة الأخيرة، كنت أمشي وأنا ألتفت للخلف وألوِّح بيدي، خلافًا لمغادرتي بلادي أول مرة، حين لم ألتفت نحو أبي، لئلا يغيِّر رأيه في سفري.
حينما تحرَّكت الطائرة نسيت أن أربط حزام المقعد، نبهتني المضيفة وهي تمرُّ بجواري، أحسست أنني أريد أن أهرب في اللحظة الأخيرة، وأقول لهم: كنت أمزح، لن أغادر هذه الأرض الجميلة. نظرت من النافذة حيث الأرض التي فتحت ذراعيها لي، لم تشك في سلوكي، لم تحاصرني، لم تفرض وصايتها عليَّ، لم يُرسل ناسُها أعينهم كي تقيسني من رأسي حتى أخمص قدميَّ، لم يسألوني عن ولي أمري، ولا محرمي، كنت إنسانًا كاملاً، وها أنا ذا أعود تاركة اكتمالي، أعود إلى نقصي، نقص عقل ودين، أعود جاهلة رغم شهادتي، وأحتاج من يصادق على تصرفاتي بدمغة وبصمة وتوقيع، أي عالم غير عادل هذا؟
بعد أن قفزنا فوق الغيم، ولم أعد أرى مدينتي الجميلة، بدأت أفكِّر لو كنت شابًا، لأمكنني الهجرة ببساطة، وربما الزواج من أمريكية كسعود، لن ينتقدني أحد، فأنا أحمل عيبي في جيبي، كما يقولون، لكنني للأسف امرأة، لو فعلتها ورفضت العودة، فسأصبح حديث الإعلام والصحافة في بلدي، وقد تتم إعادتي مخفورة وبالقوة، لأنه ستنسج حولي قصص كاذبة، ويوصف سلوكي بالعاهرة، و… و… إلخ.
أرجعتُ مسند الكرسي للخلف، وطلبتُ من المضيفة لحافًا، تغطَّيت، بعدما غرست سماعتي الأذنين، وتصفحت أسماء الأغاني العربية في جوالي، ثم تصفحت الأغاني الأجنبية، حتى توقفت عند أغنية we belong together، همزت التشغيل، وبدأت الكلمات تعيد لي المشاهد كلها، حينما كنَّا معًا، كأنما الكلمات على لساني، كأنما ماريا أنا، وأنا ماريا كاري:
أجلس هنا وحيدة
لأنني لم أعرفك
لأنني لم أعرف نفسي
ولكنني اعتقدت أنني عرفت كل شيء
لم أشعر أبدًا
بالشعور الذي أشعر به الآن
الآن أنا لا أستطيع سماع صوتك
أو أن ألمسك، وأقبِّل شفتيك
سحبتُ طرف اللحاف الصوفي الخفيف، وغطيت به وجهي، كي أواري الدمع في عيني. الحزنُ مرٌ، والبكاءُ مالح، والغيم تحتي لم يعد ندفًا، بل أصبح معدنًا. لم تعد الموسيقى تغسل الروح، بل تخز القلب.
لا أعرف كم بقيت أعيد الأغنية، عشر، عشرين مرة، لكنني دخلت في ظلمة أو إغفاءة قصيرة، رأيتني أركض بشعري المنكوش في حقل مليء بالضفادع، كانت تنطُّ حولي، وأنا أتحاشاها في قفزات متلاحقة، كأنني فتي الأدغال ماوكلي. تنبهتُ فجأةً مذعورة ومتقزِّزة، ثم تأملت الركاب من حولي، وعدت أختبئ من جديد.