حين تحرك القطار غروب ذاك اليوم المعتدل من أيام تموز لعام 2007م، من محطة ليفربول في لندن متجهاً شمالاً صوب مدينة غريت يارموث الساحلية، شعر فهد السفيلاوي بسعادة وقد منح نفسه إجازة يومين من عمل مضنٍ في مكتب خدمات الطباعة والبحوث، كي يتجول في شوارع لندن وحدائقها. اتخذ فندقاً متواضعاً سكناً له، في منطقة كوينزواي قرب حديقة الهايد بارك.
ارتاد مطعماً لبنانياً صغيراً، تذوق فيه طعم الأرز الأبيض بعد انقطاع طويل. ومطعماً إيرانياً متواضعاً تنتشر كراسي الخيزران عند مدخله، وتنساب خراطيم الشيشة كأفاعٍ بين الكراسي. واكتشف حانة صغيرة تدعى “الأسد السعيد” ذات طابع فيكتوري رائع. كما صرف وقته بالتجوال بين شارع أكسفورد وساحة ترافالغر، والجلوس في حانات جديدة ومقاهٍ على النهر، قرب جسر لندن الشهير.
اختار مقعداً عند طاولة في القطار، ووضع عليها حقيبة الظهر التي أصبحت جزءاً من جسده، ثم سحب من جيبها الجانبي قارورة ماء، وعلبة إكسترا بنادول كان قد ابتاعها من صيدلية في إجوار رود، دفع قرصاً في أقصى بلعومه وأتبعه بجرعة ماء، ثم فعل ذلك ثانية. تناول من قاع الحقيبة رواية “القُبلة المرسومة” لإليزابيث هايكي، التي تتناول علاقة غوستاف كليمت بمعشوقته الصغيرة إيميلي التي لفظ اسمها وهو يحتضر، حيث تستعيد المعشوقة الصغيرة، بعدما شاخت، حياتها مذ كانت تلميذة في الثانية عشرة، تتعلم الرسم على يد أستاذها المحروم، وحتى نقلها للوحاته من العاصمة فيينا إلى الريف النمساوي. كم تذكِّره هذه الرواية بفيلم شاهده قبل سنة. اسمه “البنت ذات القرط اللؤلؤي”، مأخوذ من رواية تحمل الاسم ذاته، ويتناول حياة الهولندي جوهانز فيرمير، الذي رسم لوحة بنفس الاسم، فثمة تقاطع ممتع بين الروايتين الرائعتين. أسند رأسه قليلاً على زجاج النافذة البارد، متتبعاً قطيع الكلمات، وما كاد يفعل حتى غفا لعشر دقائق أو أقل، كان القطار قد تحرك خلالها. أفاق فجأة، فوجد أمامه عجوزاً إنجليزية جلست في المقعد المقابل له تبتسم تجاهه، وتتصفح مجلة ديكور منزلي باهتمام بالغ. لم يقاطعها سوى استيقاظه مفزوعاً. ثم راح يتأمل الطبيعة الخضراء، وبيوت القرميد والبقر والخراف، وهي تمرّ أمامه مثل شريط سينمائي سريع.
تذكر صديقه الحميم سعيد، الذي اتصل به، ليطمئن عليه، ثلاث مرات خلال ما يقارب أحد عشر شهراً قضاها في بريطانيا، ففكر في الرد على مكالماته تلك، وعلى وفائه النادر، بأن يباغته يوماً بمكالمة من بلاد الفرنجة، كما يسميها دائماً. بحث عن جواله في جيب الجينز، فلم يجده، فتح حقيبته فعثر عليه أخيراً، لا توجد أسماء كثيرة في دفتر التلفون، العم هانك، والشابة الفرنسية ليندا وزميلة مدرسة اللغة، الفتاة المكسيكية سنتيا، والمحاسب الشاب نيل الذي يشرف على مكتب خدمات الطباعة والبحوث، إضافة إلى سعيد، صديق الطفولة والشباب المتهتك والمجنون، في الرياض.
حين ضرب الرقم، ووضع السماعة في أذنه لم يأت صوت الرنين المعتاد، بل كان صوت أغنية فتكت بقلبه الضعيف، أغنية دمرت كل ما فعله خلال عام، كي يخرج من مأساته العجيبة، مسحت كل العالم الذي تآلف معه، ورمت بكل جبروت مدينته الصغيرة “غريت يارموث” إلى زرقة البحر، كأنما دفعت هذه الأغنية المباغتة بتلك المدينة المسالمة، ببناياتها العتيقة وكنائسها وحاناتها وكورنيشها الرملي الأبيض، بمدينة الألعاب فيها وناسها الطيبين، دفعت بكل ذلك إلى بحر الشمال، كأنما فجأة غرقت المدينة الآمنة الصغيرة بأكملها، تماماً كما أغرقها البحر بطوفانه مطلع عام 1953م، غامراً البيوت الآمنة وأهلها النائمين، أو كأنما جندياً ألمانياً نازياً أشعل المدينة بقذائفه من البوارج الحربية الطاحنة.
لم يقفل فهد الخط، ولم يتمنَ أن يرد سعيد على مكالمته، كي تكتمل الأغنية الحزينة:
“تقوى الهجر، وش لي بقى عندك تدور لي عذر…
لا تعتذر.
تقوى الهجر… ما نجبره من عافنا ما ينجبر… لا تعتذر.
راح الصبر، لا تعنّى لي وتمر، وتبغى الصبر،
وين الصبر؟
جرحي عميق والقلب في دمه غريق،
وتبغى الصبر؟! ويلاه من وين الصبر؟!
مهما تقول لا تعتذر”
ما أقسى أن يصحو الغريب على لغته! أن تغسل لهجته عروقه، وأن يهجم الماضي كوحوش الغاب صوب طريدة عزلاء وهشة هي الغربة، حيث لا تطير المدينة فحسب، بل حتى اللغة والناس والطمأنينة، والذكريات والأغنيات، فطارت بغتةً سيلين ديون وحطَّ مكانها خالد عبدالرحمن، طار صوتها الرائع، وكلماتها التي أعادت الحياة إلى قلبه: “عندما تهاتفني، عندما أسمعك تتنفَّس، أنال جناحين لأطير، أشعر بأنني حي” حتى الطفل الذي يشبهه في الفيديو كليب، ذاك الطفل الذي يتحكم عن بعد بطائرة صغيرة، طار قسراً وحلَّ مكانه طفل آخر، طفل حزين، مسلوب تماماً، ولا يملك أن يطيِّر مجرد ريشة.
شعر فهد بحنين مفرط يضغط على رقبته ويستدرّ مآقي عينيه. وتملكه، في الوقت ذاته، خوف ورعب من رجال سمان ذوي لحى طويلة سوداء، يراهم دائماً في الليل وهم يأتون برماح مسنونة يخزون بها وسادته ويثقبونها، فينبثق ريش أبيض يطير حتى يسد أنفاسه فيصحو وجلاً كأنه أصيب باختناق.
وضع الجوال على طاولة عربة القطار، وأحاط رأسه بكلتا يديه، مسنداً مرفقيه على الطاولة، وأجهش بالبكاء. جسده الضئيل يرتجف بهستيريا غريبة، مما أرعب العجوز الانجليزية أمامه، وجعلها تندفع تجاهه وهي تلمس ذراعه برقةٍ وتردّد، وهي تسأله: هل أنت بخير؟ قال لها: نعم، أنا بخير، وقد خجل من نفسه، فهرب بعينين دامعتين صوب النافذة الزجاجية.
* * *
لم تكن طرفة الصميتان تحب الكتب كثيراً، رغم أنها تقرأ قصصاً بوليسية وروايات رومانسية. كانت تحب الأغنيات والرقص أكثر. تحب صوت خالد عبد الرحمن وحزنه، وكذلك تحب شوكولا سنيكرز وفريق الهلال، ومهووسة بأشكال الإكسسوارات النسائية، وبالجنس أيضاً، يوم ذاك كان الوقت ضحى من أيار العام الماضي، وقد وقف فهد بسيارته ينتظرها أمام مكتبة جرير في طريق الملك عبدالله، حين خرجت بخطوتها المطمئنة البطيئة، تحمل كيساً أحمر وحقيبة يد، صعدت إلى سيارته الصغيرة. وكالعادة حذرته بألا يتحرك حتى تكمل جلستها المريحة على المقعد المجاور، وتغفو يدها الرقيقة تحت يده، أدار المفتاح وسألها كالعادة: وين؟
لم يكن لديها وقت كافٍ، إذ ستعود بعد ساعة إلى الأكاديمية، فسألته: “ناخذ قهوة من ستار بوكس؟”. أجاب: “حلو، بس فكرت قهوة جافا كافيه أحلى”. أجابت وهي ترفع عباءتها إلى أعلى رأسها: “زي ما تحب حبيبي!”. لكنه وافق على مقترحها، لكنه لم يوافق على أن يأخذا القهوة وهما يتجولان بالسيارة في صباح الرياض.
أخذ فهد الطريق شمالاً إلى إشارة تقاطع الملك عبد العزيز، واستدار عائداً نحو إشارة شارع العليا، ثم استدار متخذاً طريق الخدمة. حتى إذا بلغ مقهى “ستار بكس” بحي الورود انعطف إلى اليمين، تجاه باب قسم العائلات، لم يكن ثمة أحد هذا الصباح سوى سيارة فان هيونداي يجلس في داخلها سائق اندونيسي، ركن سيارته بجواره، وأطفأ المحرك، ترددت طرفة وسألت:
– يعني مازلت عند رأيك؟
– كيف؟
– مو أحسن ناخذ قهوة في السيارة ونمشي؟
أجاب وهو يسحب مفتاح السيارة من عنق المقود:
– أحسن نجلس، حتى أقدر أشوفك.
تلفتت جهة السائق الإندونيسي:
– ما أدري، بصراحة وقت الضحى يخوّف!
فتح بابه وهو يردد بثقة:
– ما عليك، ما فيه إلا الخير.
نزل وتبعته بهدوء، وهي تحمل بيدها الكيس الأحمر وحقيبة اليد المزينة بتطريز فرسان يحملون دروعاً واقية، دخلا من باب تتأرجح عليه لوحة: للعائلات فقط. كانت رائحة القهوة المنعشة تملأ المكان. انفرج الباب الزجاجي، وهي تنظر بعينيها الواسعتين والهةً نحو وجهه، وما أن انغلق الباب ببطء، حتى مدّت سبابتها نحو فمه، لتلمسه ثم تُدخِل إصبعها من تحت غطاء وجهها، وتقبّله: “وربي عسل!” فابتسم وهو يحلم بكنزها السري المخبوء تحت الغطاء الأسود. رمق الغرف الخشبية المعزولة بأبواب مرنة، واختار أقصاها، دفع بابها وأفسح لحبيبته، فمرَّت ملتصقة به وهي تنظر نحوه بشغف، سألها: “كابتشينو؟”. أجابت: “أي شي من يد حبيبي حلو”.
وقف فهد أمام العامل الفلبيني، بينما كان عامل سعودي شاب يدير له ظهره وهو يغسل إناء الحليب ببخار حار. طلب كابتشينو كبير، وشوكولا ساخنة وما كاد ينظر نحو حلقات الدونات وأقراص الكوكيز خلف الزجاج، حتى أحس بهواء يلفحه من الخلف، لم يعرف، هل انفتح الباب الخارجي لقسم العائلات؟ أم هو هواء ملاك عجوز ومتربّص؟ أم رائحة صلاة الجمعة؟ أم رائحة سواك رطب؟ أم رائحة دهن العود الكمبودي؟ أم رائحة بخور شرقي في ليلة جمعة بحفل زواج؟ ربما هي رائحة هذه الأشياء كلها وقد انتهكت حواسه. حتماً لم تكن رائحة جسد أنثى تسبقها رائحة عطرها.
– السلام عليكم ورحمة الله.
– وعليكم السلام.
ما أن التفت نحوه حتى ارتجفت يده وهو يشير إلى قرص كوكيز مزين بقطع شوكولا، لمح وجهه المحدِّق نحوه، ومشلحه الحليبي الخفيف المقصَّب، ولحيته المسبوكة بعناية، لم يقل شيئاً سوى “السلام عليكم ورحمة الله” وترك الباقي لرعب فهد وخوفه، فهو كافٍ تماماً بأن يفضحه. كان كثعلب مراوغ فاجأ الطريدة بنظرات عينيه، انخلع قلب فهد، وبدأت يده المرتجفة تفضحه، بينما الشيخ يحدق منتظراً أن يسقط دون أسئلة إضافية ويقول له: نعم، ليست زوجتي ولا أختي ولا أمي، ليست من محارمي، إنها صديقتي. بل سأكون صادقاً وصريحاً معك، هي حبيبتي وعشيقتي وجئنا هنا كي نشرب الكابتشينو والشوكولا الساخنة، وتواسيني بموت أمي التي جعلني رحيلها وحيداً، لست متأكداً، يا شيخ، إن كنت سأقبّلها اليوم، أم سنؤجل ذلك حتى يخف الحزن عن قلبي المكلوم؟ لكنها قد تواسيني باحتضاني والمسح على رأسي، وربما تهبني قبلات خفيفة.
“كيف حالك يا أخي” قاطعه صوته الرخيم.
– الحمد لله.
– الاسم الكريم؟
– فهد.
– والنعم!
– والنعم بحالك.
– فهد، معك أحد؟
– نعم، وأشار فهد بارتباك نحو الكشك الأخير في العمق.
– من هي؟
ها هو يصوّب رمحه نحو عينيّ فهد ويقتلعهما. بينما تذكر فهد كل حالات الهروب التي حدثت وقرأ عنها في الصحف، رجل أربعيني حاول التسلل من نافذة الدور الرابع فسقط متهشماً، وشاب هرب بفتاته وقاد سيارته برعونة فارتطما بجدار إسمنتي مسلح وماتا، ورجلان مع امرأتين عاكسا الطريق هاربين وارتطما بسيارة مسرعة ومات الأربعة. قصة في تبوك، وأخرى في الشرقية، وثالثة في حائل و… وهذه المرة ستكتب الصحف فتاة ستار بكس تنتحر بأن رمت نفسها في سيل السيارات الهادرة في طريق الملك عبدالله، حتى عجنتها العجلات بعباءتها السوداء وطار حذاءاها الجميلان.
– من التي معك؟
– زوجتي!
لم يستطع إلا أن يكذب، كانت الكذبة عارية تماماً، يقسم فهد لنفسه أن الشيخ رأى عريها، حتى أن ثمة ابتسامة صغيرة تشكلت حول عينيه، إذ قال:
– ليست زوجتك يا ولدي فهد، قل لي ولا تخف، نحن نستر على الناس، ونعدل سلوكهم فقط.
تذكَّر أن رئيس الهيئة قال في حوار نشرته جريدة عكاظ، بأنهم يسترون على أكثر من 90% من قضايا الخلوة غير الشرعية. هل سيكون فهد وطرفة ضمن هذه التسعين بالمائة؟ وجهه يفيض سماحة وحنو وطمأنة وثقة، وجسده الفارع يشبه رجلاً يقف مع ابنه على حافة المسبح، ويقنعه أن يغطس بجرأة، فهو بجواره وسينقذه إن لزم الأمر.
– ليست زوجتي، هي صديقتي! هكذا قرر فجأة أن لا يغطس فحسب، بل أن يتجرد من لباس السباحة ويهجم على سطح الماء.
– لا تخف، تعال معي، هي مجرد إجراءات بسيطة، وتذهب في أمان الله.
– ولكن هي، كيف أتركها لوحدها؟
لم يكد يكمل الجملة حتى سار أمامه مردِّداً: “لا تهتم، لا تهتم هذا شغلنا”، فقابلهما رجل قصير وسمين، بلا مشلح، وله عينا نسر. أضاف الشيخ: “اذهب معه يا ولدي”. شدَّ الآخر على معصمه بقبضة حديدية، فأدرك في هذه اللحظة تحديداً، أن اليوم الثلاثاء الموافق للثالث عشر من أيار هو يوم قيامته، فلكل إنسان في هذه المدينة يوم قيامته الخاص، إما أن يموت فوراً، أو يعبر عتبته بسلام وينجو، أو يبقى يتذكّره كوصمة عار في وجهه أينما ذهب.
تركهما الشيخ ذاهباً إلى حيث تجلس طرفة بسلام، وتخرج وردة حمراء وضعتها داخل الكيس. كانت تشمها منتظرة كوب الكابتشينو، منتظرة أن تقلب بطريقتها الخاصة، وبلهوها المذهل، أسبوعاً أسود عاشه فهد منذ موت أمه، ومحاولات نقلها من إسعاف مستشفى الملك خالد إلى قسم التشريح الجنائي في مستشفى الرياض المركزي. لن تغسل طرفة بضحكتها وتعليقاتها الفاحشة حزنه، بل سيتسلق نمل أسود كريه جسدها الغض، سيدخل في تجاويف قلبها الحي، سيموت قلبها وحبها وحياتها، وستموت الأغنيات والرقص الخليجي الناعم، وسيكون رباط القماش حول وركيها حبل مشنقة.
حين خرج فهد من باب قسم العائلات للمقهى، كانت الشمس الصفراء قد بدأت تصير أكثر قسوة. والشرطي النحيل ببنطلونه الفضفاض وحزامه المتدلي بثقل جراب المسدس يقف منتظراً عند باب سيارة “الجيمس”. فتح أحد البابين الخلفيين، وأشار إليه بأن يقفز إلى المرتبة الثالثة في الخلف، صعد الشرطي ثم الرجل القصير السمين الذي مال جذعه نحو فهد وهو يفتح كيساً تحت وجهه: “حط أغراضك هنا، كل ما في جيوبك!”. سأل بسذاجة: “ليه؟” وحين لمح سخطه أضاف: “الشيخ قال لي مجرد إجراءات سريعة عند السيارة، وأنتم الآن أركبتموني السيارة، إلى أين سنذهب؟”
حادثه كما لو كان يحادث طفلاً يتأبَّى دخول الصف الأول ابتدائي. وضع الكيس أمامه، بينما نظر الشرطي نحوه بازدراء وصاح بصوته النحيل: “نفذ يا ولد!” أخرج محفظته ومفاتيحه ووضعها في الكيس. قال ببرود دون أن ينظر تجاهه: “جوالك!”
“اللعنة!” قال لنفسه، ماذا سيفعل لو أنهم فتحوا جهاز الجوال، وفتشوا الأسماء والرسائل والوسائط ومقاطع البلوتوث و… و… لماذا لم يطلب الذهاب إلى الحمّام في المقهى كي يرمي به في بالوعة الكرسي. كيف فات عليه أن هذا الجهاز الملعون سيدمره، أخرجه من جيبه، وحاول أن يسحب شريحة الذاكرة على الأقل. كان يخفي يديه خلف مسند المرتبة الفاصلة، لكن الرجل ضبطه وخطف الجهاز من يده بقوة مباغتة، ثم وضعه في الكيس. فتح بطاقة الأحوال وقرأ الاسم: “فهد سليمان السفيلاوي، والنعم!” قال بسخرية وتشفٍ. فتح محفظته ووجد صورة أبيه الأربعيني قبيل رحيله: هذا أبي رحمة الله عليه! فتح جهاز جواله وتوقف عند كلمة السر، ناوله القلم من جيبه ودفتر ضبط الحالات معه، وقال: سجل كلمة السر! أجاب فهد بحزم: لا!
لم ينفعل كما ظن، ولم يصفعه أو أن يسلط عليه الشرطي النحيل، بل قال ببساطة شديدة: ما هي مشكلة، الأمر يخصّك. خرجت طرفة خلف الشيخ وهي تتعثر بعباءتها وتبكي وتتوسل. كان فهد من وراء الزجاج يرى يديها اللتين قبّلهما مراراً، وهي ترفعهما أمام الشيخ كما لو كانت تتوسل. بقيت تنتظر نصف ساعة أمام مقهى ستار بكس حتى بعد مغادرة سيارة الهيئة، وكلما مرّت سيارة فارهة تمهلت ونظر سائقها الشاب بفضول، بينما استدار بعض مرتادي المقهى أمام الزجاج من الداخل كي يتسلوا بالموقف. كما لو كانوا يشاهدون مقطعاً من الحياة الطبيعية في قناة ديسكفري. اللبؤة بين الأحراش تتبع طريدتها الغافلة. تحرك قوائمها ببطء شديد حتى لا تثير صوت خشخشة العشب. هكذا حرك الشيخ قوائمه بهدوء وثقة وهو يقود الفريسة إلى فخّها.
وضع فهد رأسه بين يديه وهو يتنهد قائلاً: لا حول ولا قوة إلا بالله، وردّد بيقين ورعشة: يا رب، يا رب تستر! نهنه الرجل القصير ذو العينين النسريتين والبقعة البنية على جبينه: تعرفون الله بعد أن ترتكبون المعصية! وأضاف يتلو دونما خشوع: (فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون). قال فهد بصوت يحمل رائحة بكاء قادم: “استروا علينا الله يستر عليكم، استروا عليها على الأقل!” هكذا تحوّل فجأةً من واثق ومطمئن إلى مرتبك وحائر ومهزوم، في بلد يزرع الخوف والحيرة. ربما أرهقه بكاء طرفة، وماذا يمكن أن يفعل أخوها عبدالله، الذي قاوم ببسالة رغبتها في الالتحاق بأكاديمية العلوم الصحيّة، حتى استسلم أخيراً لعنادها الطويل؟ ماذا ستفعل أمها المغلوبة على أمرها؟ كيف ستنام صغيرتها سارة الليلة؟ أي حضن سيعوض سارة دفء حضن أمها؟ وأي حضن سيعوضني أنا؟ أي برودة وصقيع؟ أي جحيم سيفتح أبوابه لي منذ اللحظة؟
هكذا ظل فهد السفيلاوي يهجس طول الطريق.
0 تعليق