إبراهيم الحجري*
1) لعنة الفخاخ
تظل لغة الفخاخ تطارد الرواة في روايات يوسف المحيميد بشكل هستيري يجعل قدَرهم المكتوب أن ينتقلوا من فخ إلى فخ، وأن تبلعهم المصيدة / المصيبة بمجرد انسلالهم من سابقتها، لتنفرج أمامهم الحياة فجأة مثل الضحكة الصفراء فما يكادون يظفرون بنوع من الفرح حتى تنقشع غيمة الخديعة فيجدون أمامهم هاوية من الفخاخ التي لا منجاة منها غير السقوط فيها.
الفخ هنا يغدو فلسفة تتقنع فيها كل الهاويات المحيطة بالإنسان في شتى تجلياته، وتتخفى داخل متاهاتها كل المتاريس والعراقيل التي قد تأتي من الذات أو من خارجها، الفخ علامة رمزية مفتوحة، كونية، ابتكرها الروائي ليصُب فيها رماحه النواهل التي تتغلف في شكل الحكي واللغة، قالب يختزل ما يعتمر الكون من مفاهيم محنطة بالية تشل انعتاق الذات وارتقائها صوب اشتهاءاتها الإنسانية وتطلعاتها المشروعة، الفخ فلسفة تحكم الإنسان العربي، تكبله، تتربى معه، تنمو بنمائه، تتحنك، تستأسد، فيستحيل الآدمي فخا لأخيه، دون أن يشعر أنه هو الآخر مصيدة لفخ محكم يتنظره، فتبدو الوجوه مرايا متعددة لذات واحدة، يموت هذا الكائن الآدمي دون أن يموت الفخ لأنه أصبح فلسفة أفرغها هذا الذي مات قبل أن يموت في شرايين تركته وورثته، فحيث اتجهت لن تجد سوى الفخاخ والدسائس، فإذا كانت الرواية السابقة (فخاخ الرائحة) تكشف عن جوانب المصائد الذي يتعرض لها الرجل بصفة خاصة، المصائد التي تتخذ الحواس مداخل لها، فإنه يتابع مطاردة هذه الفخاخ من جوانب أخرى تتعلق بالمرأة ككائن له خصوصياته المميزة، وله إكراهاته النفسية والاجتماعية والثقافية التي تجعل منه كائنا صامتا تحت القهر، خاصة في مجتمعاتنا العربية، التي ما تزال المرأة، في مواقع كثيرة، تعتبر ضلعا أعوج يجب عليها أن تعيش تحت رحمة الآخر (الذكر) يقرر مصيرها ويختار الطريقة التي يجب أن تسلكها في حياتها مسلوبة الإرادة مغبونة الرأي، بدعوى أن جسدها فتنة وأنها تمتلك غوايات شيطانية، وأنها حرمة يجب أن تعيش في الظل حتى لا يتمتع بها الأغراب، وأنها ناقصة عقلا ودينا، وأنها رديفة الشهوات والمتع، في هذه الرواية يصبح الرجل فخاً بعدما كان مصيدة وتصبح المرأة الضحية كميناً أيضاً بعدما ذاقت مرارة الخديعة وعاشت على إيقاعها أوقاتا تمتد مثل الجرح العميق. فأول الفخاخ بالنسبة لبطلة الرواية منيرة الساهي هو الكتابة كفعل استدرجها إلى العمل الصحفي عبر عمودها المعنون بــ (ورد في آنية) والذي كان العتبة التي ستوصل إليها المخادع الحاقد (علي الدحال)، ومن بعد فعل الكتابة يجيئ الهاتف في مرتبة ثانية ليكون المعبر الذي ينقل سحر صوت الذئب وغزله إلى قلب منيرة ليتهيأ له ما لم يتهيأ لغيره من رجال طيلة ثلاثين سنة، وبعد الهاتف ستأتي الثقة العمياء التي وضعتها منيرة الساهي في خطيبها، وكذا عدم فطنتها إلى أمور كثيرة كان بالإمكان أن ترشدها إلى الحقيقة المرة (سيارة أخيها، العنكبوت، الحقيبة، أوراقه الشخصية، الطائر المصنوع من المطاط المعلق في السيارة، تجارب نساء وبنات عرضت أمامها…)
إن الفخاخ المتوالية داخل المتن الروائي تشتغل وظيفيا لتطور المسارات السردية وتعقد الأحداث وتجعلها مشتبكة متراكمة بشكل توليدي، إن الفخ الواحد في قضية السرد يصبح محفزا قويا لاستمرار الحكي وتوالد وتيرته وتناسل الأحداث بشكل درامي (Motif)، فلو فطنت منيرة الساهي للأمر وتنبهت للخديعة لوُضِع حد للسرد وانتهت الرواية قبل الأوان، إن الفخ آلية من آليات السرد وجزء من استراتيجيته الكبرى وبعد صميمي في نسيج العالم الراوائي.
2) الحرب الصغرى
ابتدأت االرواية بالحديث عن حرب كبرى عرفتها بداية التسعينيات من القرن الماضي بالخليج العربي، لكن هذه الحرب الكبرى كما عرفها الواقع التاريخي لم يكن وقعها في النص الروائي (القارورة) مشابها للواقع والارتجاج الذي خلقته في العالم إبانها إلا بالقدر الذي كانت به تؤجج تفاصيل حرب موازية طاحنة كانت تدور رحاها داخل المتن بشكل لا يفتر، لذلك فحرب الخليج الثانية التي قرع طبولها صدام حسين بغزوه للكويت وضمها إلى حاضرة العراق لم تكن سوى شرارة صغيرة تتضاءل أمام بركان ناري يتأجج بالعالم الروائي، أوقد فتيله علي الدحال الشخصية الذكورية المخادعة والمزيفة، بإعلانه الانتقام من عائلة الساهي والتلاعب بكرامة منيرة وطعن كبريائها وتجريح شرفها وأنوثتها، الحرب الأولى كانت تستهدف العمارة والبشر والأرض والأشكال أما الثانية فكانت تلتهم المشاعر والأعماق وتحترق المعنويات الجوهرية والقيم الرفيعة التي بها نحيى ونسمو عن الكائنات الأخرى، الحرب الأولى تُعَوَّض خساراتها لأنها مادية بالأساس أما الثانية فلا تعوض لأنها تخرب القيم من أصلها وتهدم ما لا يترمم ولا ينجبر أبداً، حيث تدوم ندوب هذه الحرب مهما عاش الآدمي ولا تزول إلا بموته. ومع أن حرب الخليج الثانية لم تكن ذات أهمية كبرى في المتن الروائي، ورغم كونها المادة التاريخية الواقعية السخية التي تشد أرز العالم الروائي بمحيطه في شكل نسيج علائقي متخم، فقد وردت الإشارة إليها في السيولة الحكائية للنص أكثر من مناسبة وفي مواقع متعددة، مما يجعل حضورها ذا طعم إيديولوجي باذخ يمكن استثماره في أكثر من جانب تأويلي. إذ تم استغلال هذه المعطيات التاريخية المعروفة لدى القارئ العربي بكل تداعياتها ولبوساتها وانعكاساتها وامتداداتها، بشكل وظيفي، حيث يتاح للحكاية أن تنمو وتترعرع وتتناسل دون أن نشعر أننا نقرأ وقائع تاريخية، بل نحس، ونحن نتلقى الواقعة السردية كأن أحداث الحرب، بهذا الشكل، تحدث لأول مرة، وعبر المسرود فقط، إذ تفقد طعمها الواقعي الخبري لتشحن بدفق سردي يعبق بالذاتي والمتخيل. وقد كان لهذه الحرب الصغيرة حجر السبق في الحكي، ولهذا التبئير وظيفة تمويهية لفعل التلقي، فبؤرية حضورها في مفتتح النص لا تعني بؤريتها في البعد الفكري والدلالي والتداولي، إنما هي مجرد لعبة فنية أو لنقل فخا نصبه الراوي لقرائه كي يستدرجهم صوب متاهاته السردية، فهي طُعم صنارة لصيد القراء وتحفيزهم صوب اشتهاء القراءة ” في صباح بارد من أواخر فبراير 1991 م كانت السماء بيضاء صافية، وخالية من ضجيج طائرات إف 15 المقاتلة…” ، وظلت المغامرة السردية طيلة تفاصيل الحكي تورد لقطات مشهدية تحيل على الحرب التاريخية الموازية لحرب النص الرئيسية وكأنها تقارن بين الحربين وتوازن بين آثارها على الشخوص والعوالم المحيطة بها في الواقعي والمتخيل “(انتهت الحرب الآن!) تنهدت، ولم يكن واضحاً أي حرب تعني، حرب الصواريخ، وعاصفة الصحراء، أم حرب قلبها وعواصفه التي انطلقت بشغف العاشق لتحصد اليباب!” ، ففيما كانت المدرعات والمجنزرات العراقية تتأهب في أطراف البصرة، كانت عواطف ابن الدحال المدرعة تجهز ذخيرتها صوب روح منيرة الساهي، وهي تضع إحدى وعشرين قذيفة تجاه قلبها الضعيف المتلهف ، وفيما أحالت المداهمة العراقية أرض الكويت محافظة عراقية تاسعة عشرة كانت مداهمة ابن الدحال قد أحالت منيرة الساهي محافظة ثامنة في أملاكه السرية بعد ستة صغار وزوجة. إن الحرب التي كانت تستعر في أرض النفط كانت توازيها حرب أشد وأعتى بين عاطفتين، واحدة غادرة ماكرة مسلحة بالتجربة ومتمرسة بحرب النساء وأخرى ضعيفة خاوية الوفاض، بكر المشاعر والأحاسيس، عذراء في كل شيء.
إن الحرب الصغرى هذه التي كانت الكويت سببا فيها، وكان العراق مشعلا لفتيلها لم تكن سوى تمهيدٍ أو عامل مساعد لحصول حرب من نوع آخر استحوذت تفاصيل عراكها على مساحات بياض مديدة من المتن الروائي، كانت حرب الكويت ذلك الزناد الذي يؤجج حرب الداخل، حرب العواطف والأشواق الطاحنة.
3) الحرب الكبرى
لم تكن حربا كبرى من حيث حجم ضحاياها ومخلفاتها، بل كانت كذلك من حيث أثرها السلبي العميق على الذات الإنسانية، ومن حيث الاستراتيجيات التي أطرت تفاصيلها وخططت لبرامجها، ومن حيث تحطيمها للمرأة في شخص منيرة الساهي التي كانت الضحية الكبرى في حرب غير متكافئة، المرأة التي يفترض أن تكون أصل النسل وأولى المدارس في الحياة، جرت هذه الحرب بالموازاة مع حرب أخرى كانت تستهدف الكويت من طرف صدام حسين ثم بعد ذلك تحرك أمريكا وحلفائها قصد قمع التطاول الاستعماري هذا، فكان صدام حسين يقصف أهدافه بصواريخ سكود فيأتي التصدي لها بمضادات باتريوت، في حين كان علي الدحال، جندي الحراسة، بخبرته في الخداع والمكر والتحايل واستراتيجياته العالية في التمثيل وتقمص أدوار العشاق الوالهين، يقصف قلب منيرة الساهي أخت رئيسه في العمل الذي فوض له مهامه قبل الرحيل في مهمة خاصة خارج البلاد، بسهامه الفذة وسيوفه الصوارم فلا يجد أدنى مقاومة، لأن الأمر كان يتعلق بحرب بين الخداع المطلق الذي هو سلاح الدحال، والثقة العمياء التي هي اللحاف الذي تتلفعه منيرة الساهي، وبما أن البطلة داخل الرواية لم تبد أي نوع من المقاومة طيلة تفاصيل الخديعة، بل لم تكن قادرة حتى على قراءة بعض المؤشرات التي عرضت أمامها بشكل ما كي تتنبه من غفلتها، وتستيقظ من خدر حب مغالط بكل التفاصيل، فإن المسار السردي كان مهيأ لأن يتخذ وجهة آثمة كهذه، تبدو خلالها المرأة نموذجا سلبيا يتلقى الصفعة تلو الصفعة دون أن يبدي حراكا، نموذجا يحيل على الغفلة والسذاجة وربما حتى البلادة، إن السرد في الرواية ارتأى أن يمظهر صورة المرأة بشكل تبدو فيه ضحية مهيأة للافتراس بشكل فطري، وهو بذلك قد رسخ نوعا من القدرية تجاه هذا الكائن الضعيف نصيا بما أسند إليه من سمات تيماتيكية ورمزية وما صب عليه من بنى نفسية ووجدانية، القدرية الحتمية التي كتبت عليها نصيا منذ لحظات سردية مبكرة أشَّر عليها فوزها بهدية جدتها (القارورة الأثرية) التي لا تصلح سوى لتخبيء الأحزان، فقد ألصق المسرود بمنيرة الساهي مجموعة من السمات الدلالية التي يسرت حصول فعل السقوط في فخ الخديعة وتفوق الآخر (الرجل): [عدم التجربة – خطية التفكير – الثقة العمياء – غياب الحرص والحيطة – عدم القدرة على التطير وقراءة الفأل – الغفلة – الصدق المفرط – الغباء.. ]، والملاحظ أن هذه السمات لا تليق بامرأة تعيش واقعا ينغل بالقيم الرديئة، خاصة ونحن نعرف أن المرأة كائن حربائي بطبعه لا يستكين إلى الثقة، ميال إلى المزاجية والحذق مميز بالذكاء والفطنة بشكل غريزي.
إن الصوت الذكوري قد نجح إلى حد كبير في تفنيد مقولة أن الرجل لا يستطيع أن يشخص معاناة الجنس الآخر (المرأة) ولا يقدر على الغوص في بوحها وتجلية ما يكبل نفسيتها ويحبط عزائهما ويكسر أحلامها، بل إنه انتصر لها انتصارا وحل فيها حلولا ليتقمص أدوارها وبوحها ومشاعرها وشهواتها وكيفية تمثلها للعوالم والآفاق، وليمظهر بشكل قاس سبل بلعها لهزائمها وإخفاقاتها ويكشف عتمات أغوار نفسيتها وأعماق سريرتها، وبالمقابل صمم علاقتها بالرجل (ابن الدحال) على أساس التناقض بين المشاعر من كلا الطرفين، وبشكل يختزل نظرة الرجل إليها كجسد وكوسيلة تحقق رغباته الغريزية وتشبع نهمه الشهواني، وهي نظرة لا تبتعد عما يروج في الواقع العربي.
وإذا كانت الحرب التي اندلعت بالكويت قد تداعت تجلياتها لتجهز على حقها في استكمال أطروحة نيل الدكتوراه، فقد تداعت حربها مع ابن الدحال وامتدت وتعددت لتصبح حربا كونية ضد كائن صغير وضئيل اسمه منيرة الساهي، لم تعد حربها مقتصرة على سارق عواطفها وقلبها، بل امتدت لتطال الرجل بصفة عامة وباعتباره جنسا نقيضا، بل إنها اشتعلت لتُعلَن ضد المجتمع برمته، بكل قيمه وعاداته وتقاليده التي تزدريها وتختزل إنسانيتها، وهذه الحرب المتعددة الأبعاد لم تعلنها منيرة الساهي وحدها بل أعلنتها كل نساء المجمتع الروائي الذي يمت صلة، شئنا أم أبينا بالمجتمع العربي، فكل النساء اللواتي شكلنا شخصيات ثانوية داخل المتن الروائي ماهن سوى وجوهٍ متعددة لذات واحدة تجسدها المرأة، وماهن إلا متغيرات تشخيصية لصورتها المشروخة داخل مرايا عديدة، لقد تعددت الجروح وكثرت البلايا أما الذات فواحدة، إن هؤلاء الفتيات المقهورات هن صورة لمنيرة الساهي في وضعيات مختلفة، لقد حاول الكاتب (الرجل) أن يكون ديمقراطيا مع نفسه ومع جنسه وجَسَّد بصدقٍ كونية الكتابة: الكاتب ليس ملكا لذاته ولا لجنسه، هو كائن إنساني كوني يتجرد من ذاتيته بمجرد أن يحترف القلم والمداد، إن الذكورة هنا ليست ماهية، بل هي مجرد قناع ليس غير، لقد تحولت الذات لتشمل الآخر، تحيا فيه وتحس نبضه، أحزانه وأفراحه بكل عمق وصدق، وهذا هو جوهر فعل الكتابة ووظيفتها الأسمى: أن تحس بالآخر كأنك هو، وتعيش ذاتك مثلما لو كانت احتواءً لكل الذوات واختصاراً لكل الوجوه وانصهارا لكل الأحاسيس والعواطف الإنسانية.
هكذا إذاً، يمكن القول إن منيرة (بطلة الرواية) الأخصائية الاجتماعية بدار الفتيات حينما كانت تعرض عليها حالات الوافدات ووضعياتهن، فإنها إنما كانت تستقبل تجربتها الفاشلة القاسية قصد دراستها في تجليات مختلفة، وفي كل مرة كانت المرأة المقهورة تقاوم، بشكل مغاير، قيودا شائكة أكبر من طاقاتها، وكل مرة تؤدي بها حكاية المقاومة إلى السقوط في فخاخ الموت أو الجنون أو السجن، وباعتبار أن منيرة الساهي ذاتا أساسية في العالم الروائي فإن الذوات الأخرى تنصهر بداخلها فتصير امتدادا أنثويا كليا، ممتصا للنواقص ومشجبا للخسارات، ومفترقا للتوترات ومحورا للصراع داخل بؤرة مشحونة بالنكسات التي تتوالد وتتناغم داخل فجوات ضيقة لا تؤدي سوى إلى جحيم الخسارة، فكل السبل تقودها صوب المتاه السعيري مادام أن هناك على رأس منعطف رجل ومادام أن المجتمع برمته ينغل بقيم تُشَيِّؤُها وتُبَضِّعُها. ويمكن أن نبرز تعدد وجوه الخسارة النسائية كما تصورها الرواية في الجدول التالي:
الشخصية النسائية قصة حربها
منيرة الساهي خداعها من طرف ابن الدحال وحربها ضد الأخ والمجتمع بقيمه الزائفة.
سلمى استغلالها جنسيا من طرف جارهم القوي ومحاولة اغتصابها لولا تدخل منيرة الساهي.
ميثاء فرَض عليها أبوها الزواج من رجل عجوز لا تحبه دون أخذ رأيها فقتلته بعد أن مثل بجسدها وكرامتها فانتهى بها الأمر إلى السجن ثم الموت إعداما.
فاطمة الحساوية وقوعها في فخ علاقة عابرة مع طالب اغتصبها وأغرقها في بحر الشقاء.
فاطمة خذلها حبيبها بندر بعد ما ألقم رحمها نطفته وتركها تتقلب في عذابها وحدها.
حسناء تخبئ الحشيش في رحمها هربا من جحيم الفقر ونار الحاجة.
المرأة الشابة قتلها أبوها بالرصاص في جبل موحش انتقاما للشرف.
الأستاذة الجامعية انصراف الطلبة عنها لا لشيء إلا لأنها شاركت في وقفة احتجاجية قصد نيل حق تملك سيارة وقيادتها.
غنيمة ضحية لابن الدحال المتحايل، الذي أثقلها بالصغار وراح يفسد نساء الأرض.
إن هذه القصص المؤلمة التي تتناسل داخل المتن بشكل متواز مع القصة الرئيسية التي تطفح بها باحات النص، تكاد تكون متشابهة على اعتبار أنها تدور في فلك واحد هو قهر المرأة ككائن نصي يمتد خارجيا ليتجذر في الواقع المعاش ربما بوضعية أقسى وأشد مأساوية، حتى أن الكاتب تنبه لإمكانية حدوث خلط لدى المتلقي بين المتخيل المكتوب والواقع المجتمعي فأدرج تنبيها يفصل بين الواقعين النصي والمعيشي.
وتصوير المرأة بهذا الشكل المخجل لا يروم، قصديا، التبخيس بشخصيتها والسخرية من فظاعة عريها، بل على العكس من ذلك فهو يندرج ضمن صميمية نضالاتها التي لا تنفصل عن نضالات الكائن الإنساني برمته. وعلى الرغم من أن المرأة قد حققت إنجازات مهمة تخصها على أكثر من مستوى، ومهما يكن صحيحا أن ثمة تفاوتا في وضعية القهر الذي تعانيه المرأة العربية بين قطر عربي وآخر، فإنها ما تزال في معظم هذه الأقطار تواجه ذهنية ذكورية مسلحة بأعراف ومواصفات وقيم وتقاليد تتوازى وامتيازات هذه الذهنية، ومزودة بسلطات واسعة ومحددات صارمة لدور هذه المرأة ومكانتها في المجتمع، ورواية القارورة تسعى إلى تشخيص هذه الرؤية المتخلفة المتفشية في المجتمع السعودي على الخصوص، بشكل واسع النطاق وعلى أكثر مستوى، لذلك نلحظ تعدد الوضعيات التي تتعرض لها نساء الرواية، وكلها وضعيات محبطة ولا إنسانية: (القتل، القهر، التشييء – الاغتصاب – التعنيف – الظلم – اعتبارها كائنا شريرا – الحرمان من الحقوق – الاستغلال – حرمانها من الدراسة – قتل مواهبها وكبح قدراتها ككائن بشري…)، كما أننا نسجل النجاح الذي حققته الرواية على مستوى الرواية الفكرية، إذ عرف الروائي كيف ينسج العلائق ويشخص الوضعيات ويدخل في أغوار الذات الأنثوية ليسبر ثناياها الأشد عتمة، ويمظهر مراحل الحروب المتعددة والمختلفة التي تستهدف المرأة وتحاصر آفاتها:
* حرب ضد الرجل (علي الدحال) والتي تتخذ بعدا جنسيا (حرب جنس ضد جنس أو حرب الرجل ضد المرأة أو العكس)، ففي الواقع أن منيرة وصديقاتها داخل المتن الروائي لم يكن يحاربن رجلا معينا، بل كن يحاربن الذكورة بصفة عامة، ولم يكن يحاربن الرجل لذاته كرجل، بل كن يحاربن عقليته الذكورية “الدحال خرج من حياتها بعد أن رمى عود ثقاب أخير في بحيرة قلبها، فانطلقت أعمدة دخان ضخمة من الكره والضغائن تجاه رجال العالم!” ، إن الدحال يجسد تلك الشرارة التي أججت الحقد ضد الرجل عامة، فكأنما هو آدمهم الذي يقود لواء حربهم النزقة ضد كائن متعب!.
* حرب ضد الأسرة (الأب والأخ خصوصا)، هذه الحرب التي اتخذت بعدين: البعد الأول يتعلق بتراخي الأب وعدم حرصه على أخذ حقوق بنته وتتبع ملف خطيبها مما يَسَّر لعلي الدحال أمر الضحك على ذقون الأسرة برمتها، أما البعد الثاني فيجسده الأخ محمد الساهي لما يتصف به عنجهية وقسوة ونرجسية ذكورية، فالأول (الأب) تساهل كثيرا مع الخطيب ووقع صك الزواج دون أن يكلف نفسه أمر تقصي حقائق هذا الزوج ودراسة نواياه الحقيقية قبل الحسم والقبول، بل إنه كان منشغلا فقط بأمر تجارته وصنع مجده الخاص بعيدا عن دمج أمر عناصر أسرته في برنامجه، أما الثاني فيعتبر أن وسم الذكورة يبيح له السيطرة على الكل وأن النساء مهما كبر شأنهن أو صغر فهن مجرد قطيع عليه أن ينصاع ويسكت، وبناءً على تقاليد يحملها وقيم خاطئة يتسلح بها، انطلاقا من مرجعية ذهنية مغلوطة لا تستند إلى الفهم الصحيح للدين في مصادره الأولى. وقد كرس هذا الأخ الوجه الثاني لعلي الدحال وربما كان هو الأخطر، لأنه حارب طموحاتها كلها (العمل في الصحافة – الشغل – اختيار الزوج – تقرير المصير – سياقة السيارة…)، بل وكان يصر على إهانتها وطعن كبريائها كلما صادفها، مثلما لو كانت معادلا للشيطان “بدأ محمد الساهي الهائج بسخط يذرع أنحاء الصالة، وهو يتعوذ من الشيطان، ويتحدى إذا كانت أخته لم تزل عذراء! طالبا من والده أن يحسم الأمر مع أول طارق باب، إذا لم تفقد البنت منيرة كنزها الصغير!” ، إن الأخ هنا يمثل السلطة الرمزية التي تستند إليها العقلية الذكورية في تبرير نظرتها القاسية للمرأة ككائن شرير يجب أن يحكم تقييدها وحجبها لكي لا تنفلت فتدمر الثوابت، أو على الأقل تزعج سلام الرجل المتفرغ لبناء مجده الخاص، ثروته الخاصة، نسله الخاص، قانونه الخاص، عرفه الخاص، عالمه الخاص الذي لا تنتمي إليه المرأة إلا بالقدر الذي يقرره لها الرجل ، لذلك فالأخ محمد الساهي لم يكن يفعل ما يفعل غيرة أو حرصا على سلامة أخته من الأذى، بل كان يفعل ذلك حتى لا يفسد مشروعه الخاص، وحتى تظل ترسانة المفاهيم التي أُشبع بها وحُشد بها بناء على ثقافة مغلوطة، مصونة، وحتى تظل سيادته كاملة لا تمس وتظل سلطة القرار بيده كي يحدد مصير القطيع الذي يحكمه، إنه كان يفعل ذلك انتصارا لذكورته وغيرة على عقليته المشبعة بالتخاريف من أن تمس.
* حرب ضد المجتمع: إذا كانت المرأة تمثل أفصح الأمثلة على وضعية القهر بكل أوجهها ودينامياتها ودفاعاتها في المجتمعات المغلولة إلى أصفاد الوعي البطريركي الذي يسلب هذه المرأة، عن سابق إصرار، إنسانيتها وحقها في ممارسة وجودها على النحو اللائق بها، فإن وضعية المرأة في المجتمعات العربية بعامة تمثل هذه الفصاحة في أكثر صورها جلاءً، وأشدها بروزا ، هذا ما تصوره الرواية وتريد أن تفصح عنه وتعمقه لدى المتلقي، فحرب المرأة ضد المجتمع تفصح عنها نوعية التقاليد والمقاييس التي يحفل بها وفصائل الأعراف والقيم التي تشكل منظومته الفكرية، إن كلاًّ من علي الدحال ومحمد الساهي ما هما سوى رمزين يمثلان الرؤية المجتمعية في شتى تمظهراتها السلبية، فإضافة إلى كونهما مشبعين بقيمة الوفاء لمنظومة المجتمع المتخلفة، فهما أيضا يجسدان حراسا لهذه القيم الفاسدة ويسعيان إلى ترسيخها وتثبيتها بكل الطرق، وقد بدا بشكلي جلي، وفي أكثر من مناسبة، نوع التعامل الذي يقره المجتمع ضد المرأة، عبر لحظات سردية متعددة، كلها تجسد القسوة وامتهان كرامة المرأة.
– ثورة المجتمع ضد منيرة الساهي لا لشيء إلا لأنها تمارس حقها في الكتابة والصحافة عبر عموديها (ورد في آنية) و(حب وحبر) “غامرت بكتابة زاويتي “ورد في آنية”، فكان ظهوري للخارج وبزوغ اسمي لعنة على أهلي ورجال قبيلتي، وهأنذا أحلم بأن أنجز بحثي ودراستي كي أتحرر من قيد الداخل !” .
– مصادرة آرائها وقدراتها والإجهاز على مطامحها ” كنت أنثى، مجرد أنثى مهضومة الجناح كما يراني الناس في بلادي، أنثى لا حول ولا قوة لي، كنت أتلقى فقط، كالأرض التي تتلقى المطر وضوء الشمس والفأس ! فعلا كنت مستلقية لا أملك أن أنتصب مثل ذكر ! ” .
– اعتبارها مجرد شيء، مجرد جسد عليه أن يجتهد كي يهيء المتعة والشهوة للذكر ” قالوا لي إنك أنثى، وعليك أن تظهري أنوثتك، أن تسبلي عينيك، وتملئين وجهك بالمساحيق والكريمات..” .
– اختزال إنسانيتها في أعضائها الحساسة وتقييم أهميتها وأنوثتها بناءً على مقاييس ومعايير محددة لهذه الأعضاء، مثل الحملة أو النهد “إن العالم كله يقف ذليلا على حملة صدرك !” ، أو العينين “أحس أن الدنيا كلها، بمتعتها ومباهجها، تتجمع في عيونك !” ، أو العجيزة “ألم تكن أمي تهتم كثيرا بأن تصبح عجيزتي ثقيلة وكبيرة ولافتة، كي أتباهى بها في مناسبات الأفراح والزواج، حتى ألفت نظر أمهات الذكور الخاطبين إلى مؤخرتي وأنا أمر بينهن، فيرمقنها وهي تضطرب مكتنزة!” ، ويمكن أن نضيف كذلك غشاء البكارة الذي يشكل المعادل الرمزي للشرف والعفة والطهارة ” بدأ محمد الساهي الهائج بسخط يذرع أنحاء الصالة، وهو يتعوذ من الشيطان، ويتحدى إذا كانت أخته لم تزل عذراء !” .
– المعاكسة الدائمة التي تعانيها من الرجال الباحثين عن المتعة دون اعتبار لا نسانيتها وكرامتها وكبريائها (محاولة اغتصابها من طرف ابن الجيران الهائج – مضايقتها من طرف ابن خالتها – تحرش الشباب بها جنسيا أمام المحلات التجارية وفي الطريق بين الجامعة والمنزل…)
– تحيز القضاء للذكورة (هو جزء من منظومة مجتمعية يصمم بها الرجل مصالحه!) وانتصاره لها مع الإصرار على استفزاز المرأة وجرح مشاعرها “هل كانت أصابعي طويلة، هل كانت أظافري طويلة تشبه أظافر جنية أو ساحرة، حتى يستبقي القاضي أخي بعد خروجي، ليطلب منه أن يرغمني على أن أقص أظافري الطويلة” .
– سلب حقوقها الآدمية ومنعها من ممارسة حقها في التملك والسياقة وتنظيم وقفات احتجاجية أو مسيرات تضمن حقها أيضا في التعبير عن رغباتها وآلامها، ” تخيلت منيرة الساهي اسمها يتباهى بين أسماء الأخريات، جعلت تتأمل ردود الأفعال من حولها، أبوها قد تقضي عليه جلطة في الدماغ، ويموت قبل أيامه بشهور أو سنوات قليلة، أما أخوها محمد فقد يتلقى رنين الهاتف المنزلي بجموح، ويمسد لحيته بارتجاف، وهو يبصق في وجهها كلما استقبل اتصالا من ناصح أو لائم، أما أختها نورة فسيمنعها زوجها من الذهاب إلى أهلها…” هذا النص يكشف بعمق حجم المعاناة وثقل الحرب التي تُعلن على المرأة، إن الرواية بهكذا سرد تنجح في أن تجعل المرأة تقول أعماقها وتلفظ بوحها دون خوف محتمية بقناعَة حديدية في كون لا أحد يستطيع أن ينوب عنها في رفع هذا الثقل، ولا أحد غيرها يثبت تجذر كينونتها. والرواية إذ تشرع الشُّرف للمرأة أن تبوح جسديا وروحيا بآلامها وأحزانها فإنها تخرج عن إطار التصور التقليدي الذي كان يذأب الخطاب الروائي على الجهر به سرديا وفكريا بخصوص صورة المرأة باعتبارها شيئا يجب تجميله للذة الرجل ومتعته، والتركيز على الجنس كدعامة أساسية لحضور المرأة داخل الرواية، وحتى إن حضرت في أدوار أخرى كان حضورها باهتا وغارقا في الهموم التافهة، فهي لا تحمل الوعي الحضاري كالرجل أو تقف موقفا معينا يكون انعكاسا لوعيها، وإذا امتلكت موقفا معينا، فيكون المقصود منه إبراز قوة الجنس الذي تملك به التأثير أو التوجيه أو الترويض والإغراء، فهناك شبه إجماع على أن القناعات الفكرية التي تحملها المرأة تعبر أساسا من خلال جسدها الأنثوي، فتأتي غالبا إما في سياق السلبي الخاضع أو التابع أو الذليل، أو في سياق المسيطر المتجبر المستند إلى الجسم، وإذا أنصِفَت، تأتي في سياق المكافح الذي لا مفر من سقوطه في حمأة الرذيلة ، فالقارورة، كخطاب روائي، تستند إلى رؤية مغايرة تخلخل بها هذه الرؤية التقليدية وتتجاوزها، إنها لا تكسب المرأة هنا أية معايير إسقاطية، بل تتركها تصرخ ملء فيها دون وساطة أو تدخل، تجعلها شخصية مثلها مثل أي كائن ورقي يلعب دوره بحُرية داخل المتخيل الروائي، يفعل وينفعل، يصيب ويخطيء تبعا لمسار تختاره ولا يُختار لها تقرره رغما عن الآخر، صحيح أن الواقع من حولها كان يغلي توترا وحنقا، وصحيح أنها برزت في صورة أليمة، لكنها لم تكن مستكينة إلى ضعفها، بل ناضلت وقاتلت لتولد من جديد في صورة بهية قد لا ترتسم في هذه الرواية إلا بالشكل التأويلي أو التصور الفكري الضمني الذي تحفل به مسكوتات النص ورؤاه العميقة.
نكاد لا نجازف إن قلنا بأن الرواية هي رواية المرأة العربية بامتياز، صرختها الممتدة زمنيا عبر كل التجاويف تاريخيا [الماضي – الحاضر – المستقبل]، إن السرد ينطلق الزمن الحاضر نصيا ليتوغل في الزمن الماضي حيث تتجذر معاناة المرأة تاريخيا ثم ليقتحم ردهات المستقبل، من خلال استشراف منيرة الساهي لمِحَنها المستقبلية عبر كابوس يقظة مزعج، وترقبها لتعاسة قدرية مميتة تجعلها تتصور انتقامها، بنفس الشكل الرهيب الذي كانت تصادفه كأخصائية اجتماعية لدى حالات نسائية بدار الفتيات، ضد المجتمع الذكوري القاسي [زواجها بعجوز خرف تكون هي المشروع النسائي الرابع بالنسبة له – احترافها للخيانة الزوجية – سفرها مع الحبيب إلى الخارج – اكتشافها لمهزلة كون أختها هي الأخرى على علاقة غير شرعية بنفس الحبيب الذي تخون معه زوجها العجوز…]، إن تداخل الأزمنة المتساوقة نصيا داخل الخطاب الروائي توميء بكون مأساة المرأة السعودية على الخصوص، مستغرقة في الأزمنة بشكل يضمن فظاعتها الأبدية، ومهما يكن من أمر، فليس هناك داخل المتن الروائي ما يحيل على أن شعاعا ما يوشك على الإطلال من كوة ما، وليست هناك مؤشرات على أن مجتمع الرواية، على الأقل، قد بدأ يتفهم حجم هذه المعاناة بشكل أو آخر يبيح لها الانعتاق من شرنقة هذه التعاسة النصية التي تتعاظم كلما توغلنا في المتن. وإذا كانت المرأة (الأنثى) في بعض الروايات العربية الأخرى قد استطاعت أن تفرض وجودها من خلال استغلال قوتها كأنثى تمتلك سلطة الأغراء والتطويع والإفتان ضد الذكر بما يضمن لها امتلاك الوجاهة بطرقها الخاصة ، فإن المرأة في هذه الرواية، رغم امتلاكها لمفاتن الأنوثة القوية التأثير، لم ترض أن تتوسل بهذه الطرق لفرض وجودها واقتناص المزايا والحظوة الممكنة، بل تمسكت بخيوط شفافية نادرة وسلكت طريق النضال الحضاري الإنساني لإثبات وجودها ككائن له نفس قدرات الآخر [الرجل] رغم الاختلاف الفيزيولوجي [الصحافة – الكتابة – المسيرات – الدراسة – الحوار – الرفض – الاحتجَاج…]، ويمكننا أن نوضح تداخل الأزمنة السردية كالتالي:
الماضــــــي الحاضــــــــر المستقبـــــــل
الإحالة إلى حالة المرأة ووضعيتها المزرية تاريخيا سواء في المجتمع السعودي أو غيره، تصريحيا أو ضمنيا. – مأساة منيرة الساهي التي تجسدها الرواية.
– منع النساء من السياقة والتشهير بهن أخلاقيا ومضايقتهن في العمل.
– مأساة الفتيات نزيلات الدار. تمثًّل منيرة الساهي لا ستمرار سيناريوهات التعاسة وتكهنها بمصير أختها.
وأمام هذا التشظي والقتال اللا متوازن، تنال المرأة أكبر حظ من العنف والقمع الاجتماعيين أيضا، مما يؤدي إلى خسرانها لكينونتها وفقدان شخصيتها لمعظم القيم الإنسانية، وإلغاء وجودها ككائن إنساني كامل الحقوق ومتوازن الرغبات. فتعمل على محاولة استرجاع تلك الخسارة، بشتى الطرق والوسائل المنافية لكينونتها الإنسانية، التي تؤدي مزيد من العنف ومزيد من القمع ومزيد من التوتر في العلاقة بين المرأة والرجل التي من المفروض أن يطبعها الود والتعاون المستمرين، وأخطر ردود أفعال المرأة هي تلك التي تختصر من خلالها ذاتها في شكل موضوع جنسي وتملك هاجس التزيين والتجميل على نفسيتها، بحيث تندفع إلى استعمال كل طرق الإغراء، لتبرز جسدها في صورة يرضاها الرجل كإطار مستهدف لعملية وحيدة هي الجنس ، إن هذه الصورة تتعمق داخل هذا الخطاب الرواقي بشكل مقزز يبدو من خلالها أغلب وقت المواطن العربي (والسعودي طبعا) موزعا بين غزوة جنسية منتهية أو حلم حلم جنسي محتمل، وبالتالي، تتعمق الرؤية إلى المرأة كموضوع للرغبة الجنسية، ويتعمق معها الشعور بالأسى حينما نلفي أن الكائن الأدمي واعيا بمصيره إلى الهاوية، فمنيرة الساهي وغيرها من النساء بعد نضال مرير وبطرق مغايرة، وبعد إحساس بلا جدوى المقاومة، ينتصرن للذات بطرق مغايرة لفطرتهن المرادفة للحنان والليونة والعطف، فبدل أن يفجر المجتمع في المرأة هذه الطاقات ويؤججها فيها فهو يعمل على طمرها والعصف بها متيحا لإمكانيات هبوب نوازع العدائية والكراهية والانتقام والحقد، فسحات كبرى وأرضيات خصبة، تماما كما حدث لمنيرة الساهي التي تمثلتْ نفسها مستقبلا خائنة أو قاتلة أو مستهترة بكل القيم التي كانت تؤمن بها في الحياة.
تعكس هذه الرواية إذاً، تورط الذات في متاهة الحياة وانكشاف عريها وتلمسها لمسالك المحرم بعد اندحار الحق، إنها صرخة المرأة المدوية عبر الفضاء النصي، وإنذار بتشظي هذا الكائن الآدمي وانتكاس كينونته التي لا تنفصل عن الوجود الإنساني بصفة عامة. إن سبيل الذات إلى فك لغز القراءة هو فهم الذات وانبثاق رؤاها من فجوات التشخيص والتصوير وانتقاد مساراتها، ثم رسم أبعاد التحولات المنشودة عبر استيعاب الرؤية الفكرية والدلالية المتمظهرتين نصيا.
الهوامـش:
فخاخ الرائحة: يوسف المحيميد – رواية، رياض الريس للكتب والنشر – بيروت 2003م.
يعتبر توماتشفسكي المتن الحكائي بناءً مصمما انطلاقا من مجموعة من الحوافز المسببة لبعضها البعض بشكل تعاقبي (انظر الشكلانيين الروس، ترجمة إبراهيم الخطيب).
– القارورة ص 9.
– القارورة ص 13-14.
– القارورة ص 140.
– القارورة ص 96.
– القارورة ص 162.
– نازك الأعرجي: (صوت الأنثى، دراسات في الكتابة النسوية العربية) ط 1، دار الأهالي، دمشق 1997، ص 10.
– نضال الصالح: (صوت المرأة وقضاياها في القصة القطرية الحديثة) في علامات ج 47 م 12، مارس 2003 ص 508.
– القارورة ص 71.
– القارورة ص 70.
– القارورة ص 71.
– القارورة ص 69.
– القارورة ص 69.
– القارورة ص 72.
– القارورة ص 162.
– القارورة ص 200.
– القارورة 88
– سعاد الناصر: (بوح الأنوثة)، سلسلة شراع، العدد 28 دار النشر المغربية (أديما) توزيع سابريس، أبريل 1998 ط 1، ص 45.
– بالعودة إلى رواية (سباق المسافات الطويلة) للروائي الراحل عبد الرحمن منيف، نجد أن المرأة (شيرين) توظف الإغراء كوسيلة للتملك وكسب الوجاهات والتحكم في الرجال، لذلك قصَدَها ذلك الجاسوس الغريب الذي كانت توجهه التوصيات بكون المرأة هي مفتاح امتلاك الشرق برمته.
– سعاد الناصر: (بوح الأنوثة) مرجع مذكور ص 53.
0 تعليق