المدينة ومؤسساتها الاجتماعية
كيف يمكن معالجة موضوع المدينة ومؤسساتها الاجتماعية في مدى تأثيرها على الذات ؟ أو كيف تتشكل الذات من خلال الممارسات الاجتماعية كما يقول بذلك جيرجن ؟ في ” القارورة ” تحضر الرياض حضورا واضحا بأسماء شوارعها الشهيرة ومطاعمها
ومحلاتها التجارية ، لكن هذا الحضور الواضح يقابله خفوت لافت للنظر للمؤسسات الاجتماعية في الجانب الآخر ، ربما فرضت ” التيمة ” الأساسية في الرواية ذلك ، لكن هذا ليس إلا سببا واحدا لهذا الخفوت ، هناك سبب آخر سيتضح بعد ذلك .
في الفقرة الاستهلالية من الفصل الخامس والعشرين يبدأ السارد حديثه هكذا : كانت البيوت في المدينة يحفها الهدوء والطمأنينة ، وتحلق فوق سطوحها طيور التقوى ، وعلى سواريها تخفق رايات اليقين ، بينما يحفر الخوف والرعب أعماقها ، ويسف العذاب هواءه فوق جدرانها الأسمنتية ، وينام الشك خالدا في عتمة دهاليزها ، كانت صناديق الدسائس ترقد في الأقبية والمخازن ، بينما تنضب على أبواب البيوت مصابيح الطهر والصفاء( )
هذه صورة لمدينة مرعبة ، مدينة تعاني من ازدواجية ظاهرها هدوء وطمأنينة وتقوى ويقين ، وباطنها خوف ورعب وعذاب وشك ودسائس ، لكن الجانبين هنا لا يمكن أن يتعايشـا : لا يمكن أن تتعايش الطمأنينة مع الخوف والرعب ، ولا اليقين مع الشك ، ولا التقوى مع العذاب ، إن أحدهما ينفي الآخر ، فإذا وجد الاثنان فأحدهما حقيقي والآخر زائف ، وفي هذه الحالة فإن الحقيقي هو الباطن والزائف هو الظاهر .
الصوت هنا ليس صوت منيرة ، بل صوت السارد الغائب المساند لمنيرة كما سنعرف بعد ذلك ، والصورة التي يرسمها صورة استعارية ، لا يمكن أن نسأله هنا : من أين لك بهذه المعرفة الكلية ؟ كيف استطعت أن تلخص المدينة بهذه الصورة ؟ وما الحيثيات التي استندت عليها في التأكيد على ازدواجية المدينة ؟ يبدو الصوت هنا والرأي كأنه آت من خارج العالم الروائي ، لكن داخل هذا العالم ما يؤكد هذه الازدواجية : على الدحال اسم حبيب منيرة الظاهر ، وحسن العاصي اسمه الحقيقي الذي لم يظهر إلا آخرا ، وبندر اسم حبيب فاطمة الحساوية الظاهر ، ومعيض اسمه الحقيقي ، وعلى مستوى السلوك تتخيل منيرة أن أخاها صالحا ربما يفتخر بها أمام زملائه في لندن إذا شاركت في مظاهرة النساء اللاتي قدن السيارات ،بينما سيضربها إذا عاد إلى الرياض وغير ذلك .
ولأن الازدواجية هي التي تسكن المدينة ، فكل ما يدار في هذا البلد الغريب هو تمثيليات وسيناريوهات( )، وعلى الرغم من إلحاح السارد على أن هناك في المدينة خبازين أفغان وعمالا باكستانيين وخادمات أندونيسيات وفلبينيات ومستخدمين مصريين ومطاعم لبنانية ومحلات للحلوى الإيطالية وجنودا أمريكيين ومديرة مدرسة سورية ، على الرغم من أن كل هذا الحشد من الجنسيات يعطي انطباعا بأن المدينة كوزموبولوتية ، وهي – من ثم – أكثر انفتاحا في عاداتها وتقاليدها وتقبلها للغرباء ، وأكثر استواء في صحتها النفسية ، فإننا نجد في الرواية مواضع تبدو فيها وطأة العادات المحلية على سكانها ، وانفصالهم عن حشد الجنسيات الكثيرة الذين يعيشون بين ظهرانيهم .
مدينة يحكمها الرجال ، بل طائفة منهم ، هذه الطائفة هي التي تهيمن وتسيطر ، وهي لها الكلمة العليا ، وتأمل حادثة قيادة النساء للسيارات ، فالنساء أردن أن يتمردن ، فكان تمردهن لافتا للنظر ، لقد قادت كل واحدة منهن سيارة في شوارع المدينة ، وهو أمر ممنوع في قوانينها ، محرم شرعا عند رجال الدين فيها ، غير ذلك كانت النساء – ومنهن أستاذة جامعية – منقبات ، لا يظهر منهن سوى أعينهن( ) ، وفي ذلك رسالة ضمنية : أننا خاضعات لأعراف المجتمع وتقاليده ، وخاضعات أيضا لتفسيرات رجال الدين ، فقط اسمحوا لنا بقيادة السيارة لأننا نعمل ونحتاج إلى أن نتحرك بأنفسنا ، لا أن نتحرك من خلال غيرنا . ولقد كان رد الفعل عنيفا ، فالطالبات – وهذا أمر مثير للانتباه – استقبلن الأستاذة الجامعية بالاستهجان والخروج من المحاضرة ، وكتابة عبارات مثل ” العلمانية ترفض الدين وشرع الله ” ، ورجال الدين علقوا في الشوارع والمساجد أوراقا تحمل أسماء ” الآمرات بالمنكر والدعــارة “( ) ، وأخو منيرة أسمعها في البيت شريطا سجله أحد الدعاة( ) ، نقلت الرواية جزءا منه ” الإنكار العلني يتمثل في أن كل واحد منا لا بد أن يفعل شيئا ، كل واحـد : رجل امرأة كبير صغير عالم جاهل طالب مدرس ، لا بد أن يفعل شيئا ، أي شيء ، كتابة الرسائل ، البرقيات ، الشريط ، الاتصالات الهاتفية ، الزيارة للمسؤلين وللعلماء ، مناصحة حتى هؤلاء النسوة شخصيا ، وفي أماكن عملهن ، وفي بيوتهن ، وفي أماكن تواجدهن لتعرف هؤلاء النسوة ، ويعرف من وراءهن مدى رد فعل المجتمع ، فقد يكون المجتمع يغلي ، وهؤلاء النسوة ينمن ملء جفونهن ، يتصورن أن الأمر مر بسلام ، كذلك يجب مناصحة أولياء أمورهن ، وتذكيرهن بالله عز وجل ، وبالفضيحة ، وأنه يجب أن يأخذوا على أيدي سفهائهم …… ولا بد من توسيع نطاق الإنكار ليشمل كل السوابق التي سكتنا عنها في الماضي ، ولا بد أن نكشف أدوار العلمانيين في بلادنا ، وأصابعهم الخفية ، ونعريهم ، ونتكلم عن خططهم ، ونتابع ما ينشرون في الصحف وفي الإذاعة وفي التلفاز ، ونكشف ذلك للمسلمين حتى يبين الخفاء “( )
كل هذا من أجل أن بضع عشرة امرأة محتشمة قدن السيارة في قلب المدينة ، لكن تأمل رد فعل رجل القانون ورجل الدين على هذا الموقف ، فحين أوقفهن رجل الشرطة ، ارتبك قليلا ، ثم سألهن عن رخصة القيادة ، أعطته الأستاذة الجامعية رخصة القيادة الدولية ، فلم يفعل شيئا أكثر من ذلك ، بينما تقدم واحد من رجال الدين ، وخبط بقبضتيه على غطاء محرك السيارة ، خبط وهو يشتم بعنف ، ويشير بيده نحو الأستاذة الجامعية( ) ، ماذا يحدث بعد ذلك ؟ الذي يحدث لافت للانتباه ، فرجل الدين يفرض رأيه في هذا الموقف مزيحا معه كل سلطة الدولة .
وإذا كان رجل الدين قد ظهر هنا على هيئة رجل من رجال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فإنه ظهر في المحكمة على هيئة قاض مكلف بالتحقيق والحكم في قضية منيرة الساهي وحسن العاصي أو على الدحال ، لقد ادعى حسن العاصي أن منيرة سحرته بأن عملت له عملا ، وصدقه القاضي ، وعندما أنكرت منيرة ذلك ، طلب منها القاضي أن تثبت أنها لم تعمل له عملا ، وهو موقف أقرب إلى الكوميديا السوداء ، فالوصول بمشكلة ما إلى قاعة المحكمة هو محاولة من أحد الطرفين إلى تحقيق العدل ، والعدل لا يقوم إلا على استدلالات منطقية يقبلها العقل ، ولذلك يعد حكم المحكمة عنوانا للحقيقة ، وقد يُطعن في حكم بناء على فساد في الاستدلال ، أو يبقى حكم آخر بسبب تماسكه المنطقي وقوة استلالاته المستقاة من الوقائع المعروضة ، ولكن ما شأن السحر ؟ كيف يمكن الخلوص منه باستدلالات منطقية تُنتج حكما يكون عنوانا للحقيقة ، كيف دخل السحر إلى المحكمة ، وإلى عقل القاضي حتى يطلب من منيرة الساهي أن تثبت أنها لم تعمل له عملا ، وفي حال لم تثبت منيرة – وهي يقينا لن تستطيع أن تثبت – فما طبيعة الحكم الذي سيصدره القاضي بناء على عدم قدرتها على الإثبات ، بل إن القاضي تجاهل الوقائع الأساسية التي قادت بالاثنين إلى المحكمة ، وطلب من منيرة أن تعود إلى حسن متناسية كل هذا الزيف الذي مارسه معها طوال ستة أشهر طالما أنها تحبه ( أو كانت تحبه ) وتريده ( أو كانت تريده ) .
إذا كانت مقدمات القاضي المنطقية هي كل هذا، فماذا يكون طبيعة الحكم الذي أصدره ؟ لقد حكم القاضي لمنيرة أن تتطلق من زوجها في مقابل أن ترد له مهره وكل ما أعطاه لها ، وفي لفتة دالة تذكر منيرة أن القاضي بعد أن أصدر الحكم استدعى أخاها وطلب منه أن تقص منيرة أظافرها الطويلة لأن هذا مما لا يجوز .
لا يخطئ القارئ صورة القمع الذي يمارسه رجل الدين على المرأة في مدينة منيرة الساهي ، ولا صورة القمع الذي يمارسه الرجال بعامة على النساء في هذه المدينة ، ولقد كان عمل منيرة في دار رعاية الفتيات فرصة لأن تعرض على القارئ قصصا لنساء تعرضن لظلم من الرجال مما دفعهن إلى الجريمة .
كيف تشكلت ذات منيرة من خلال هذه الممارسات الاجتماعية في هذه المدينة ؟ لنلاحظ أولا أن منيرة لم تشارك مع النساء اللاتي قدن السيارات ، لقد كانت هذه المسألة عندها في حدود الأماني ، وقد فكرت أن تستأذن خطيبها – لاحظ ذلك – قبل أن تشترك مع النساء ، وحين رأت ما حدث لهن ، حمدت الله أنها لم تكن معهن ، لأنها كانت ستجلب الفضيحة والعار لأهلها ، وفي المحكمة كانت تشعر بالظلم والإهانة من القاضي ، برغم ذلك امتثلت لحكمه ، وردت المهر الذي لم يعطه لها على الدحال ، وحتى عندما قالت لها المرأة الكويتية ” أنت مثل المرأة المشردة حتى في بلادك ” لم تحركها هذه الجملة ، ولم تدفعها إلى أن تتخذ موقفا ما تجاه الممارسات القمعية من الرجل التي تخنق المرأة تحت دعوى حمايتها –أليس هذا هو رأي نيتشه في النص الموازي الثاني ، برغم هذا لا يمكن القول إن منيرة لم يكن لها أي رد فعل ، فهي وإن كانت قد تخلت عن دورها كفاعل اجتماعي نشط يحاول كسر القيود التي تكبل المرأة وتحبسها في قارورة ” القارورة = السجـن ” ، فإنها اكتشفت حريتها في جسدها ، لقد أرغمتها الممارسات الاجتماعية على أن تتخلى عن حريتها كامرأة ، لكنها مارست هذه الحرية كأنثى ، هذه الممارسة شكلت نوعا من القمع الإضافي ، وهو ما سيتضح أكثر في موضع تال .
بقيت نقطة أخيرة تتعلق بالمدينة والممارسات الاجتماعية فيها ، وهي وإن كانت تخرج عن سياق الحديث عن دور المدينة في تشكيل الذات ، فإن لها أهمية سردية كبيرة ، فقد قرأ بعض النقاد الرواية ، وقالوا إن بعض أحداث الرواية غير معقولة ، لأن هذه الأحداث لا تقع في مجتمع مثل مجتمع مدينة الرياض ، مثل عقد قران منيرة في المستشفى ، أو ركوبها سيارة أخيها مع خطيبها دون أن تعرف أن هذه هي سيارة أخيها ، أو الطريقة التي خطب بها على الدحال منيرة ، وبعض الأحداث الأخرى ، قاس هؤلاء ما يحدث في المكان المتخيل على ما يحدث في المكان الحقيقي ، أو أنهم قرؤا الرواية وفق شروط الواقع ، وعندما لم يجدوا تطابقا وسموا الرواية باللامنطقية ، وهذا أسوأ أسلوب في قراءة الروايات .
ما يلفت النظر في هذه الأحداث اللامنطقية ( من وجهة نظر هؤلاء ) كثرتها أولا ، ووعي الراوي بها ثانيا ، لقد جمعها كلها في الفصل التاسع والثلاثين قرب نهاية الرواية بادئا الفصل بعبارة ” كل شيء كان مكتوبا ” ، ثم كرر عبارة ” كان مكتوبا ” إحدى وعشرين مرة داخل الفصل ، وفي كل مرة يسرد حدثا مما يبدو لامنطقيا عند بعض النقاد ، ماذا يعني ذلك ؟ يعني ببساطة أنه يقصد إلى ذلك ، يقصد أن يبني الأحداث على هذه الهيئة ليشكل من خلالها مدينة أخرى غير المدينة التي يعرفها الناس ، إن رياض ” القارورة ” ليست هي الرياض التي يعرفها الناس ، على الرغم من أن الرواي يبني مدينته المتخيلة على أسس من المدينة الحقيقية ، إن الرياض في ” القارورة ” هي رياض يوسف المحيميد ، وليس أحد غيره ” هذه هي المدينة الحقيقية كما أراها ، مدينة يحكمها العبث واللامنطق ، وإذا كنت ترى – أيها القارئ – لامنطقية في حدث هنا أو هناك ، فبرر لي أسلوب القمع الذي يمارسه الرجل ضد المرأة في هذه المدينة ، إن هناك انسجاما كاملا بين كل ما يحدث في مدينتي ، ولا يمكن فيها إلا أن تطبق معيارا واحدا على كل الممارسات داخلها ” .
الأســرة
أكثر المؤسسات الاجتماعية أهمية وتأثيرا على الذات ، ولذلك وجب إفراد الحديث عنها هنا ، لقد اختار يوسف المحيميد أن تنتمي منيرة إلى أسرة من الطبقة المتوسطة في مجتمع الرياض ، وهي متوسطة بحجم الثراء الذي تتمتع به ، وليس بالقيم التي تعتنقها ، ثم إن وسطية الثراء لديها وسطية نسبية ، فأسرة لديها فيلا ، لكل فرد فيها حجرته الخاصة وحمامه ، وربما سيارته ، حديقة في هذه الفيلا ، وخادمة وربما أكثر ، أسرة ربما تكون من الطبقة الغنية في مجتمع آخر .
تتكون أسرة منيرة من أب وأم وأخوة يمثل كل فرد فيهم طيفا من أطياف مجتمع الرياض ، فالأم ربة بيت ، والأب تاجر صغير ، والأخ الأكبر ضابط في الجيش ، والذي يليه شاب متدين مر بتحولات درامية ، والأخ الأصغر شاب لاه ، والأخت الكبرى متزوجة ، والأخت الصغرى منغمسة في الموسيقى والرقص ، ثم منيرة واسطة العقد .
في سياق الحكي لا يظهر أفراد أسرة منيرة بأنفسهم ، بل يظهرون من خلال منيرة نفسها ، حتى في المرات القليلة التي ظهر فيها أخوها المتدين بمفرده ، فإنه ظهر من خلال هذا السارد الغائب المتواطئ مع منيرة ، تعتقل منيرة أفراد أسرتها فلا تسمح لهم بالحديث إلا ما تريد أن تعرضه في السرد بغية كسب التعاطف ، إن منيرة تريد منا أن نرى أسرتها مثلما تراهم هي ، لكن اللغة السردية لها قوانينها الخاصة ، ولها وحشيتها المتمردة ، فقد كان رد فعل من قرؤوا الرواية عنيفا ، وبدلا من أن يتعاطفوا معها انقلبوا ضدها ، إن غياب الحوار بين أفراد الأسرة – إلا قليلا – أمر لافت للنظر ، فإضافة إلى أنه قد جعلنا لا نرى الأسرة إلا من خلال منيرة ، فإن دلالاته الاجتماعية في محيط الأسرة كانت كبيرة جدا .
كيف ترى منيرة أفراد أسرتها ؟ وكيف تشكلت ذاتها في نطاقهم ؟ هذان هما السؤالان الأساسيان اللذان سيعنى بهما البحث في هذا الجزء ، فيما يخص السؤال الأول نجد أن أسرة منيرة تحتل مساحة كبيرة من الحكي ، وهي تتحدث كثيرا عن أفراد أسرتها ، وتبدي موقفا واضحا من بعضهم ، فأبوها تحبه جدا وهي تراه ملاذها وعزاءها الوحيد ( ) ، لكنها ترسم له صورة سلبية ، فهو لا يبالي بشيء ، ولا يتدخل في شيء لا يخصه ، ولا يعترض على شيء ، ولا يناقش في شيء ، ولا يشك في نوايا الناس ، ولا يعجبه كلام محمد وسعد ، لكنه لا يعارضهما ( )برغم ذلك فقد ساندها أبوها ضد أسرته وقبيلته حين أرادت أن تكتب في الصحافة باسمها الصريح ( ) أما أمها فلا تظهر في الرواية إلا مرتبطة بوصاياها لمنيرة ، وتحذيرها من الرجال الذكور ، وأن تحترس من الرغباء ، وأن تنكفئ إلى داخلها ، وأن تعرف ما يحبه الرجل في المرأة حتى تنفذه ، وتأكيدها على أن المرأة خلقت من ضلع أعوج ، وهي ناقصة عقل ودين ( ) ويظهر أخوها محمد ذا سطوة داخل البيت ، وتفرد له الرواية مساحة كبيرة من السرد : فصلين تتحدث فيهما عن تحولاته وذهابه إلى أفغانستان ، ثم عودته إلى الرياض متطرفا في أفكاره عنيفا في سلوكه مستغلا حاجات الآخرين ( ) حتى أن أباه يخشاه ولا يعارضه في شيء ، يبدو في سلوكه داخل البيت أنه صاحب الكلمة الأكثر تأثيرا في الأسرة .
لا يبدو واضحا من يضبط إيقاع هذه الأسرة ، من يقرر أمورها المصيرية ؟ يعيش أفرادها كل منهم معزولا عن الآخر ، لا يلتقيان في جلسات عائلية إلا قليلا ، لكن الأصل أن كل واحد منهم متقوقع على ذاته ، و إذا كان الرجال في الأسرة يستطيعون أن يقرروا لأنفسهم ما يريدون ، فإن النساء فيها لا يستطعن ذلك ، أمورهن معلقة بأيدي الرجال ، هكذا علمتها أمها أن تخضع ، ولقد خضعت منيرة ظاهرا ، وانسحبت إلى غرفتها ، وانعزلت لتشكل ذاتها من خلال هذه العزلة .
يلفت النظر في هذا السياق أن الرواية بدأت بمنيرة وهي داخل حجرتها ، وانتهت أيضا بها في الحجرة نفسها ، لم تهتم منيرة بتفاصيل بيتها قدر اهتمامها بتفاصيل حجرتها وحمامها الخاص , تقول هي عن نفسها كنت الوسطى المهملة ، لست الكبرى التي تتحول مع الزمن إلى أم بديلة ، وتكتسب أهمية مضاعفة ، ولست الصغرى أو آخر العنقود التي يتحبب إليها الجميع ، ويستلطفها أهلي في البيت أو أقاربي خارجه ، ربما هذا ما جعلني أنصرف إلى عالم الكتب والقراءة والبحث ، كنت لا أجد الأمن الوجداني ، وأتعرض للإهمال والنسيان من الجميع في البيت ، أو لحالات اقتحام جسدي ممن هم خارج البيت ، لم أصدق أن أسمع شخصا أو رجلا بصوت رخيم وملائكي يقول لي : يا حبيبتي ، يا عمري ( ) إنها وسطى لا دور لها ، لذلك تتعرض للإهمال ، وتهرب إلى القراءة ، وهو أسوأ قرار ، فالقراءة هنا ليست اختيارا ، إنما حالة هروب من بيت تقاس فيه أهمية الأشخاص بمدى الدور الذي يمكن أن يؤديه .
منيرة – إذن – داخل أسرتها متقوقعة على ذاتها ، معزولة عن البقية ، والدور الذي تؤديه أسرتها معها يرسخ فكرة الخضوع والسلبية والهشاشة النفسية ، ولقد كانت مثل الثمرة الناضجة التي تنتظر القاطف الملائم لها ، وقد كان هو علي الدحال .
منيرة الساهي وعلي الدحال أو الذات / الآخر
منيرة وعلي هما الطرفان الأساسيان في معادلة الرواية ، وقد اختار مؤلف الرواية أن يتخفى وراء منيرة أو ينطق باسمها لتكون هي السارد الأساسي في الرواية ،واختارت منيرة أن تبدأ الحكاية من نهايتها لتعود في نهاية الرواية إلى النقطة نفسها تقريبا التي بدأت منها ، وما بين النقطتين تقوم بعملية استرجاع زمني ممزوج باللحظة الراهنة لحظة الحكي ، والرواية من هذا المنظور ذات بناء دائري يبدأ من نقطة ما ليعود إليها في نهاية الأمر فيما يشبه الاستدارة السردية ، يقول السرديون عن ذلك إنه خطاب الحكي ، أما القصة فإن الزمن فيها خطي ، لا يعود أبدا إلى النقطة التي بدأ منها أو تجاوزها ، إنه زمن الواقع الذي يختلف عن زمن السرد ، هذا الفارق في الخطاب أتاح لمنيرة أن تعيد تقييم القصة في كل تفاصيلها ، فهي تطل على زمن القصة من خلال زمن السرد ، ولا تكتفي بذلك ، بل تصدر أحكاما كثيرة ، مثلا حين غاب عنها علي بضعة أيام قالت كان فأري العزيز يقضي حكما جزائيا أثناء انقطاعه عني ، أو ربما يطمئن على نصف درزن من الأرانب الجبلية ، نعم كان لديه بيت وأولاد وأم وأب ، لكنهم خارج نطاق اللعبة السرية التي أتقن خيوطها معي ، كخفيا كونه مجرد جندي مراسل برتبة جندي أول متحولا إلى قائد برتبة رائد ، يقوم بدور خطر وسري للغاية في هذه الحرب العشوائية( ) ما تسرده منيرة في هذه الفقرة من معلومات لا ينتمي إلى زمن القصة ، إنها اللحظة الراهنة التي تحكي فيها قصتها ، وتمزج فيها رأيها الشخصي فيما حدث ، ولذلك تجدها كثيرا في موقف لوم لنفسها على أنها لم تنتبه منه إلى هذا الفعل أو ذاك .
كيف تشكلت ذات منيرة / المرأة في مواجهة علي / الرجل / الآخر ؟ قبل الإجابة عن هذا السؤال يجب التأكيد على جملة من المنطلقات التي تتأسس عليها الإجابة أولها أن منيرة وعلي ذاتان سرديتان لغويتان ، كائنان ورقيان محصوران في النص الروائي بين الجملة الأولى والجملة الأخيرة ، وهما من ثم كائنان بلا تاريخ ، أو أن تاريخهما حاضر في النص ، ثانيها أن الرواية حاولت ألا تكون متوازنة بين الاثنين ، فقد سمحت لمنيرة أن تعرض لوجهة نظرها كاملة ، بينما اعتقلت على فلم تسمح له بالظهور بعيدا عن منيرة إلا قليلا ، وفي هذا القليل الذي يروى بضمير الغائب يبدو نوع من التواطئ بين نمطي السرد بحيث يؤكد الغائب على ما يرويه الشخصي ، وفي الحالتين تستكمل منيرة حيثيات الإدانة كاملة على علي ، السؤال هنا : من يساند منيرة في موقفها من الرجل ؟ إن هناك فصولا في الرواية يمكن فيها تغيير السرد بضمير الغائب إلى السرد بالضمير الشخصي لمنيرة دون خلل كبير ، لكن الواقع أن هذه الفصول قد رويت من خلال ضمير الغائب ، فمن هذا الغائب الذي يدعم منيرة ، والذي يعرف عن علي تفاصيل كثيرة ، ويستطيع أن يدخل إلى عقله ليعرف ما يدور داخله ، وليتبين نواياه وأساليب خداعه لزوجته ، ورغبته في الانتقام من أخي منيرة ؟ ثالث هذه المنطلقات أنه لا توجد وسيلة نتعرف فيها على ذات منيرة إلا ما ترويه هي عن نفسها ، أو يرويه هذا السارد المتواطئ معها ، أما على بالتحديد فلا يقول عنها إلا ما تسمح هي بقوله ، ربما ظهر من أخيها محمد رد فعل عنيف بعد تفجر الفضيحة ، تمثل في تشكيكه في عذريتها ، وتحديها أن تقبل أول طارق للزواج إثباتا لبكارتها ، ثم حبسها في البيت وعدم خروجها إلا للعمل في صحبته ، وكل هذا يمثل الولاية والسطوة والتحكم البطريركي الذي يختصر المرأة كلها في الفعل الجنسي .
تقول منيرة عن نفسها في هذه الفقرة الطويلة كنت أنثى ، مجرد أنثى مهضومة الجناح كما يراني الناس في بلادي ، أنثى لا حول لي ولا قوة ، كنت أتلقى فقط كالأرض التي تتلقى المطر وضوء الشمس وضرية الفأس ، كنت أتلقى كل شيء بخنوع حتى الحب ، لم أبحث عمن أحب ، ولا يحق لي ذلك أصلا ، بل فرحت بمن يحبني ، وبصراحة شديدة ، لم يكن يهمني أن أحب قدر ما يسعدني أن أكون محبوبة ومعشوقة ، أليس ذلك دلالة على أنني أتلقى وأستقبل ، وأنا مجرد امرأة مستلقية ، لقد كنت دائما متلقية ولست مستقلة ، كنت تابعة لأبي في طفولتي ومراهقتي ، وسأكون تابعة لزوجي في شبابي ، ثم سأتحول تابعة لولدي المراهق الذ سيأتي وينهاني ، وسيكون ولي أمري والوصي علي .
هكذا علمتني أمي في الطفولة ، أن أحترس من الغرباء ، أن أنكفئ إلى داخلي أن أخزن عواطفي وطاقتي في داخلي لأن أخوتي الثلاثة هم من يحق لطاقاتهم أن تنفلت وتظهر إلى الخارج ، حتى أعضاؤهم منفلتة إلى الخارج ، وليست مقموعة مثلي إلى الداخل .
قالوا لي إنك أنثى ، وعليك أن تظهري أنوثتك ، أن تسبلي عينيك ، وتملئين وجهك بالمساحيق والكريمات مثل مهرج يلفت الأنظار ….. قالت لي أمي : إن الرجل يحب أن تكون امرأته متعطرة ومتجملةوخطوتها بطيئة لا تخلو من الغنج والدلع ، قالوا عليك أن تهتمي بشكلك كل تلفتي انتباه الذكور ، اللعنة ، ليذهب هؤلاء عن طريقي ، ليذهبوا جميعا إلى الجحيم .
أن أفكر وأبحث وأتساءل ، فهذا يعني أنني بدأت أنبجس نحو الخارج ، وليس كما أرادت لي أمي ، وكما سعى إليه أبي بأن أغرق طفولتي بالكتب لكي لا أتعرف إلى الخارج( )
في هذه الفقرة قضايا كثيرة ، لكن أهم ما فيها أنها تصف ذاتا قلقة حائرة لا تعرف ما تريد ، ذاتا هشة ، اشتد قمعها فأصابها في الأعماق ، إنها أنثى وليست امرأة ، وإذا كانت امراة فهي امرأة مستلقية ، أو متعطرة ، كل شيء فيها يوصف في علاقته بالرجل ، إنها الهامش في علاقته بالرجل / المركز الذي هو قطب الرحى ، وحوله تدور الحياة ، وتستخدم منيرة في ذلك عبارات وجملا من أدبيات الحركة النسوية دون أن يبدو منها قولا أو فعلا أنها تنتمي إلى هذه الحركة ، عبارات مثل ” امرأة مستلقية ” التي هي في الموضع الأسفل في مقابل الرجل الذي هو في الموضع الأعلى ، وجملا مثل ” أعضاء الذكور المنفلتة إلى الخارج بينما أعضاء الإناث مقموعة إلى الداخل ، أو ليذهب الذكور إلى الحجيم ( ) إن انفلاتها إلى الخارج تم من خلال القراءة والكتابة في الصحف ، لكن هل كان ذلك انفلاتا حقا ؟
إن قضيتها الأساسية هي الحب ، وهي تبدو في ذلك في حالة تيه ، فأن تبادر بفعل الحب يعني أنها تستطيع أن تتخذ قرارا يمكن أن تمضي فيه إلى النهاية ، لكنها لا تستطيع إلا أن تخضع للمعايير الاجتماعية التي تسيج المرأة ، وتمنعها من الفعل .
هذه الذات الهشة القلقة التي تعاني – ربما – من كبت جنسي تظهر آثاره هنا في بعض العبارات ، وستظهر ظهورا كبيرا في مواقف أخرى مع علي الدحال ، تواجه هذا الرجل ، وكانت مواجهة عبر الهاتف ، في هذا اللقاء الأول الذي تم بعد اتصال منه ، ومحاولته أن يتعرف إليها بعد أن قرأ لها مقالات في زاويتها ” ورد في آنية ” تقول دخل بفرسه البيضاء من أفق الكتابة ، حيث ضفائر الكلمات في زاوية ” ورد في آنية ” التي أكتبها كل ثلاثاء في جريدة المساء اليومية ، كشف لي عن قارئ متابع وواع وذكي ، كانت لديه نظرة ثاقبة ، وقدرة على التنبؤ واستشراف المستقبل ، كان محاورا جيدا ، وصوته جعل مقبض السماعة التي على شكل خف دب يسخن في يدي لدرجة أنني أحسست بالدب ذاته بفروه البني يتمدد فوق سريري ، ويحتويني داخل نعومة فروه ، لأغدو بين يديه مجرد طفلة متلهفة على حضن دافئ ، قال لي كلاما كثيرا ودافئا ، حدثني عن رأيه في كثير من الكتاب والصحفيين ، وقال لي شعرا عاطفيا لنزار قباني ، أخذني من يدي مثل عمياء إلى أفلاكه ومداراته ، ولم يتركني ذاك المساء لأكثر من ساعة حكي ووشوشوة إلا بعد أن واعدني على ساعة مشابهة في مساء غد ( )
العبارة المفتاح في هذه الفقرة هي العبارة الأولى ” دخل بفرسه البيضاء … ” هي امرأة في حالة انتظار ، عطشى للحب وللجنس ، يجيء إليها هذا الفارس بكل إيحاءات المعنى ليدخل بفرسه ليأخذها ويحتويها ، فتصبح بين يديه مجرد طفلة متلهفة على حضن دافئ ، هذا هو اللقاء الأول بين الاثنين ، وهو لقاء عبر التليفون ، لا تعرف من الرجل ، ولا خلفيته الاجتماعية ولا مقاصده ، ومع ذلك هي على استعداد لأن تستسلم له بهذه الطريقة التي تكشف عن ذات هشة تعاني من حرمان عاطفي لا تخطئه العين ، وهذا يتأكد من طريقة وصفها له ، كيف استطاعت في هذه الساعة التليفونية أن تلخص هذا الإنسان ، إلا إذا كان هذا حكما غير موضوعي ورأي انفعالي استند على تأثير صوته عليها ” وحين قال لها شعرا عاطفيا فقد أخذها من يدها مثل عمياء إلى أفلاكه ومداراته ” ودلالة العمى هنا بينة ، فالأعمى لا يستطيع بنفسه ، وإنما يستطيع بغيره ، وفي هذه المعادلة فإن المرأة العمياء لا تستطيع إلا بالرجل : مرة أخرى سطوة المجتمع البطريركي ، لقد حاولت منيرة بعد ذلك أن تبرر هذا الانقياد الأعمى له منذ اللقاء الأول بدعوى أنه دخل إليها من مدخل يرضي غرورها ونرجسيتها ، وهي تحاول أن تؤكد على نرجسيتها من خلال بعض الأفعال الصغيرة : صور لها كثيرة في غرفتها كلفتها مبلغا كبيرا ، وصور لها محفورة على بلاط السيراميك في حمامها الخاص ، وإذا بدا ذلك صحيحا أحيانا ، فإنه لا يبدو صحيحا بين امرأة مثقفة ورجل ينسج شباكه حولها حتى يصل بها إلى عش الزوجية ، ماذا حدث لمنيرة في لقائها المباشر الأول معه ؟ كان اللقاء الأول معه في منزلها بعد أن تقدم لخطبتها ، وقد جاء متأخرا ، وحين عاتبته عبر جهاز التليفون الداخلي ” اعتذر بكلمات ناعمة ورومانسية دوخت ملائكة رأسي وغسلت سخطي( ) وحين جلس مع أبيها ، سحره بكلامه ، وبدا معه مثلما بدا معها في اللقاء التليفوني الأول يعرف كل شيء ويتنبأ بكل شيء ، أما حين اختلى بها في بيتها للمرة الأولى بعد خطبتها فقد سال عسلي بغزلك وقصائدك زخفت حمامتاي إلى الهواء الحر ، واضطرب قلبي مثل مراهقة في السادسة عشرة ، وأكلت صوتي في فمك مثل علك المستكة الذ تلوكه باستخفاف ، لقد علقت شفتي الناحلتين بشوك شاربك ، وجعلتني لا أرتوي منك ، حتى أبقى الليل كله أداري رفرفة شفتي المنهكتين( )
ولقد تكرر هذا الإنهاك لشفتيها والعبث بجسمها كثير سواء في بيتها أو في السيارة معه ، ولم يخل لقاء معه في أي مكان من فعل جنسي واضح( ) تفصله منيرة وتتحدث عنه بلذة ( )
ظل الأمر بينهما كما كان في اللقاء الأول : فارس نبيل فيه كل صفات الكمال ، وامرأة تابعة تدور في فلكه ، حتى كانت لحظة الكشف في ليلة الزفاف ، حين اُكتشفت هويته الأخرى الحقيقية : جندي بسيط يعمل عند أخيها ، ومتزوج ، وأب لستة أطفال ، ومن طبقة فقيرة ، انهارت منيرة ، وكان انهيارها طبيعيا ، وأنتج هذا الانهيار عندها أسئلة كثيرة ” لم حدث ذلك ؟ لم مارس معها كل هذا الخداع ؟ وأدار لعبة الزيف طوال هذه الأشهر ؟ كيف جاء باسم مزيف ؟ ووظيفة مزيفة ؟ وصفات وأهل وأصدقاء وعالم مخيف من الزيف ؟ ( )
ولقد التقته بعد ذلك في المحكمة ، وحين توسل إليها أن تعود إليه قالت إنها لن تتزوج مخادعا وممثلا ومزيفا حتى لو بقيت طوال حياتي بلا زوج ولا ولد ( )
تنهار منيرة وينهار معها مركز الثقل الذي يجعلها متماسكة في مواجهة الحياة ، فما طبيعة مركز الثقل الخاص بمنيرة ؟ تعلل هي انهيارها بسبب الزيف والخداع ، ويبدو هذا صحيحا من جانب ، لكن هناك جانبا آخر يظهر من خلال تفكيك المسألة ، ثم إعادة تركيبها مرة أخرى ، إن مجتمع منيرة قائم على علاقات معينة تحترم التراتبية بين طبقاته ، والتكافؤ بين أفراد كل طبقة ، يريد علي الدحال من الطبقة الفقيرة أن يتزوج منيرة الساهي من الطبقة الوسطى لسبب أو لآخر ، لا تسمح علاقات المجتمع بذلك ،الحل أن ينتحل علي صفة رجل من الطبقة الوسطى حتى يكون مكافئا لها ، فتقبله وفق الشروط الجديدة ، لكنه لا يستطيع الاستمرار في هذا الوضع الجديد أبدا ، وحين تجيء اللحظة ، وقد جاءت في موقف درامي عنيف في ليلة الزفاف ، وقبل الدخول عليها ، فإن كل فرد في هذا المجتمع يجب أن يحترم طبقته ويعود من حيث أتى ، وقد آثر السارد أن تكون لحظة الكشف قبل دخول علي على منيرة ، لأن فعل الدخول مؤشر على إمكانية الانتقال بين الطبقات ، وهذا ما لايسمح به مجتمع منيرة ، حتى منيرة نفسها كانت ترفض ذلك حين سألها علي مرة سؤالا افتراضيا حول هذا الموضوع( )
منيرة – إذن – أمينة لتقاليد مجتمعها ، وعلى الرغم من أن خديعتها العاطفية ظاهرة ، فإن خديعتها الاجتماعية هي الأكثر ظهورا ، لقد جثا على ركبتيه أمامها في المحكمة ، وطلب منها أن تسامحه ، وأن تهرب معه من هذا العالم( ) لكنها رفضت بشدة ، لذلك يتعجب القارئ من هذا الكمال الذي تنشده منيرة( ) ، إنها تشعر بالنقص ، وتبحث عن الكمال ، وإذا كان النقص لديها ارتبط بالاعوجاج والخضوع للرجل ، فإن الكمال هو التمرد والتحرر من سلطة الرجل ، لكن منيرة لا ترى ذلك ، وأقصى تضحية يمكن أن تقدمها مقابل ألا تتزوج من علي أن تبقى طوال حياتها بلا زوج ولا ولد ، ما الذي يميزها إذن أمها ، أو عن أي امرأة أخرى في مجتمعها ؟
إن وفرة الأوصاف المرتبطة بالجسد وبالجنس في الرواية يمكن أن تفسر على أنها نوع من التمرد السري على المجتمع ، وكسر لأكثر التابوهات تحريما في علاقة المجتمع بالمرأة ، لكن منيرة لا تفعل ذلك إلا ارتباطا بالرجل ، وكأنها تعيد إنتاج خطاب الخضوع للرجل في صورة جديدة ، حتى عندما طلبت منها صديقتها أن تنام معها كي توقظ جسدها الذي يحتاج إلى من يوقظه ، رفضت ذلك ( ) لأن هذا لا يحدث إلا مع رجل .
الجانب الذي تظهره منيرة من ذاتها لا يثير تعاطفا كبيرا ، بل يخرج المرء بعد أن يستمع إليها حتى النهاية بانطباع راسخ أنها تستحق ما حدث لها ، لقد كانت منيرة ترغب في أن تُعامل من علي ومن الآخرين معاملة أفضل مما حدث لها ، ترغب في أن يعترف بها الآخرون كائنا كاملا مساويا للرجل ، له تطلعاته وأحلامه ورغبته في اكتساب الاحترام من الآخرين ، لكن هذا لم يحدث ، بل مورس عليها قهر باعتبار أنها أنثى ، أي لا شيء ، لكن الذي جعلها تستحق ما حدث لها أن رد فعلها كان سلبيا ، بل لم يتبين القارئ طوال صفحات الرواية أي رد فعل منها على النقيض من النساء اللاتي عرضت لهن في دار رعاية الفتيات ، لقد وصل الأمر بإحداهن إلى القتل دفاعا عن كينونتها بوصفها إنسانا له أشواقه في الحياة .
الذات والخطاب السردي
لا يولي السرديون عناية كبيرة بالذات وفق التصورات التي طرحها الجزء النظري من هذا البحث ، الذات في عرفهم هي التي تظهر في الخطاب اللغوي بوصفها فاعلا أو اسم فاعل أو ضمير ، بل لقد تجاوز بعضهم فعد الشخصية في الرواية لا قيمة لها ، وحاول بعض التجريبيين أن يصنعوا رواية بلا سارد ( ) ، برغم ذلك قدم السرديون جملة من المصطلحات المتصلة بالذات لها فائدتها في إضاءة جوانب من الذات التي تتجلى في الخطاب ، لعل أهم هذه المصطلحات ما فرق فيه جيرار جينيت بين ” أنا الساردة ” و ” أنا المسرودة ” ( ) ، في حالة القارورة تبدو منيرة الساهي أنا ساردة ، وهي في الوقت نفسه أنا مسرودة ، فما الفرق بين الموقفين ؟ قبل الإجابة عن هذا السؤال يجب الانتباه أولا إلى الإشكالية الأساسية التي اختيرت من أجلها هذه الرواية ، وهي إشكالية أن المؤلف الواقعي لهذه الرواية رجل ، والأنا الساردة في الرواية امرأة ، عرض البحث لجانب من هذه العلاقة في موضع سابق ، والآن يعرض لها من جانب آخر .
يرى السرديون إن سارد الرواية ليس هو المؤلف ، بل هو شخصية متخيلة يتقمصها المؤلف( ) ، وهو لا يتقمصها كلية ، بل يتقمص دور السرد الذي تقوم به هذه الشخصية ، بمعنى أن دور السرد هنا هو دور من الأدوار في حياة هذه الشخصية مثل أن تفعل ، أن تسوق ، أن تطبع ، وهنا أن تسرد ( ) ، لكن المؤلف ليس مسؤولا عما يحكيه السارد ( ) ، فما الفرق بين أن تكون منيرة ساردة أو مسرودة ؟ الفرق هنا أن منيرة تعيد إنتاج نفسها مرة أخرى ، بمعنى أن منيرة التي تحكي ليست هي تماما منيرة التي تحكي عنها ، وهو المأزق الذي تواجهه السيرة الذاتية في مدى صدقية التعبير فيها ، وكونها مرآة حقيقية لحياة كاتبها ، في حالة القارورة فإن منيرة أخذت شريحة مهمة من حياتها ، وأرادت أن تعرضها على آخرين ، وهو الذي بدا واضحا في التفاوت الكبير بين زمن القصة وزمن السرد ، لقد رأينا منيرة تطل على قصتها من بعيد ، بل تعيد تقييم أجزاء فيها ، وهي من خلال ذلك تحاول أن تقدم صورة عن نفسها تستطيع أن تكسب تعاطف الآخرين معها ، لكن منيرة الأخرى لا أحد يعرفها ، بل لا سبيل إلى أن يعرفها أحد لأنها في نهاية الأمر كائن من ورق ، لا تاريخ له ، ولا حياة له غير الحياة التي نراها أمامنا .
لكن ، لمن تتحدث منيرة ؟ من المسرود له في نص القارورة ؟ هذا السؤال لا يبحث عن القارئ خارج النص ، فذلك مجال بحث آخر ، هذا السؤال معني بمتلقي السرد داخل النص نفسه ، حين تقول منيرة مثلا في ربيعي الرابع كنت أعاني من القلق وشح النوم ، وكانت أمي تصاب بالتعب والإعياء وهي تهدهدني كي أنام ( ) فلمن توجه هذا الخطاب ؟ هذا السؤال اهتم به السرديون كثيرا ، وبحثوا عن العلامات النصية التي تحدد طبيعة هذا المتلقي داخل النص( ) ، في نص القارورة لا توجد علامة نحوية أو صرفية واضحة تحدد طبيعة المسرود له ، وكأن النص بكليته يتجه إلى أن يكون خطابا عاما ، لكن جملا مثل هذه الجملة كل شيء استيقظ فيَّ وتحفز تماما ، وهو أيضا كان شيؤه قد انتشر وتمدد حتى أحسست به صلبا لحظة أن دفعني بقوة على السرير( ) تعيد طرح السؤال عن ماهية المسرود له ، لا تستطيع منيرة أن تتحدث بهذا إلى أحد من أقاربها ، ولا تستطيع كذلك أن تتحدث به إلى رجل أيا كانت صلتها به ، ولا يوجد في النص ما يدل على أنها تتحدث إلى صديقة لها ، وهو أقرب ما يمكن تخيله هنا ، ثم إن مسألة الخطاب العام مسألة مستبعدة ، فلا توجد امرأة تمتلك الجرأة على ذلك ، فهل احتمت منيرة وراء اسم المؤلف لتطرح من خلاله ما تريد ؟ أم اختفى المؤلف وراءها ليكشف ما لا تستطيع المرأة الكاتبة أن تكشفه ؟
غير ذلك لا تقدم السرديات أدوات تحليل مهمة يمكن أن تضيء جوانب في الذات لا تستطيعها المناهج الأخرى ، بل إن السرديات في هذا الجانب أكثر المناهج إهمالا للذات.
المجلة الثقافية بجريدة الجزيرة- الأعداد 133 و134 و135 بتواريخ 12و19و26 ديسمبر2005م.
الهوامش:
–انظر مثلا ما كتبه جاب لينتفلت في ” مقتضيات النص السردي الأدبي ” في كتاب ” طرائق تحليل السرد الأدبي ” / منشورات اتحاد كتاب المغرب – سلسلة ملفات 1992/ 1 – ط1 – الرباط 1992 / ص 83 – 99
– انظر كتاب ” مفهوم الذات ” ص
– انظر كتاب ” معرفة الذات ” ص
– مختارات من هيجل / ص
– هذا الجزء خلاصة ما كتبته Prof. Mary Klages عن جاك لاكان ، وهو موجود على موقع بالانترنت هو www.lacan.lec
– من الموقع السابق مقال بعنوانThe Mirror Stage كتبه Carl Steadman .
– من الموقع السابق مقال بعنوان Lacan: An Overview of The Mirror Stage
– لا يقصد بالمفهوم السردي هنا أي تصورات جاءت بها السرديات التي هي أحد فروع النقد الروائي الحديث ، بل تستخدم هنا الكلمة بالمعنى الحرفي لها ، أي الحكي .
– www.narrativepsych.com والمقال بعنوان Topics in Narrative Psychology / The Self in Narrative وقد كتبه Hevern,V.w. ( 2003, June )
– انظر مقال The Story of the Self: The Narrative Basis of Self-development الذي كتبه Daniel D. Hutto وهو موجود في الموقع السابق ، وإحالات المراجع الموجودة في هذا الجزء مأخوذة من هذا المقال .
– Gordon, Robert. 1986 ” Folk Psychology as Simulation ” in Mind and Language. Vol. 1 No. 2 P 161
-Gopnik, Alison – wellman, H. 1992 ” Why the Child,s Theory of Mind Really Is a Theory ” in Mind and Language . Vol. 7 No. 1- 2 / p. 145
– Gordon, 1986 المرجع السابق / p. 162
-Dannett, Daniel 1985 Brainstorms. Cambridge, Mass. : The MIT Press. / p 16 – 22
– هذه خلاصة بحث كتبته Barbara J. Socor تحت عنوان The Self and its Constructions: A Narrative Faith in the Postmodern World والمقال موجود على الموقع www.suite101.com والإحالات التالية مأخوذة من هذا المقال .
– Ricoeur, P ( 1984 ) Time and Narrative, tr. K. Mclaughlin & D. Pellauer. Chicago: The University of Chicago Press./ P. 41
– مقالة بربارا سوكور السابقة .
– Gergen, K. (1985 ) The social constructionist movment inmodern Psychology. American Psychologist, 40: 266 – 275
– Berger, P. & T. Luckmann ( 1966 ) Xhffl Social Construction of Reality / garden City. NY: Anchor Books 1967 / P 60 – 61
– Gergen, K. ( 1991 ) The Saturated Self: Dilemmas of Identity in Contemporary Life . New York Harper Collins . / P 156
– المرجع السابق / ص 7
– Mary M. Gergen ( 1997 ) , Narratives of the self . In Memory, Identity . community, eds. Lewis P. Hinchman & Sandra K . / Hinchman Albany : State University of New York Press, 1997, pp 161 -184
– المرجع السابق / الصفحات نفسها .
– المرجع السابق / الصفحات نفسها .
– Botella, Luis : Constructivism and narrative Psychology , on www.narrativepsych.com
– الجزء التالي خلاصة بحث بعنوان The self as a center of Narrative Gravity وهو موجود في F. Kessel, P . and Cole and D. Johnson, eds, Self and consciousness : Multiple Perspectives, Hillsdale, NJ, 1992 وكذلك موجود في الموقع السابق .
– القارورة : يوسف المحيميد /منشورات : المركز الثقافي العربي – الدار البيضاء / بيروت – الطبعة الأولى 2004
– السرديون يرون أن فكرة المؤلف غامضة نوعا ما ، فقد رأوا أن المؤلف هو مجرد دور ، وقد حاولوا أن يبتكروا ما يسمى بالمؤلف لاضمني الذي يمكن استخلاصه من داخل العمل ، وتجاوز بعضهم فقال بموت المؤلف ، وكل هذه أفكار في حاجة إلى مزيد من التدقيق .
– ترى بعض الاتجاهات داخل الحركة النسوية أن مثل هذا الأمريعد نوعا من البطريركية التي تحاول الاختباء وراء دعاوى التحرر .
– فكرة أن الأدب مرآة أو تعبير عن ذات المبدع ، وهي الفكرة التي وجدت لها أنصارا كثيرين ، وشغلت النقد الروائي فترة من الزمن ، إذا طبقت هذه الفكرة هنا فربما تؤدي إلى نتائج شديدة الإرباك .
– هناك من مثقفي مجتمع الرياض الحقيقي من قرأ الرواية من الرجال والنساء ، وكانت لديهم تحفظات كثيرة على صورة الأنثى فيها .
– طرائق تحليل السرد الأدبي : ص 23
– يعلق رولاند بارت على ذلك في الهامش ” إذا كان قسم من الأدب المعاصر قد ناهض مفهوم الشخصية ، فلم يكن ذلك من أجل تدميرها ( وهو أمر مستحيل بالطبع ) بل من أجل تجريدها من الطابع الشخصي ….
– الرواية ص 133
– الرواية ص 64
– الرواية ص 86
– الرواية ص 87
– هذا الشريط حقيقي ، وقد سجله داعية مشهور في السعودية اسمه الشيخ سلمان العودة ، وهو رجل يقف على يمين الهيئة الدينية في الدولة .
– الرواية ص 78 – 79
– الرواية ص 86
– الرواية ص 95
الرواية ص 30 / 31 / 34 / 35 / 62 / 66 / 94 / 95
– الرواية ص 11
– الرواية ص 67 / 70 / 71 / 72
– الرواية ص 14 / 15 / 48 / 58 / 60 / 61 / 78 / 91 / 113 / 156 / 160
– الرواية ص 69
– الرواية ص 76
– الرواية ص 70 – 71
– هذه الأفكار موجودة في مقال هيلين سيكوكس الشهيرة ” ضحكة قنديل البحر ” التي تعد دستورا للكتابة النسوية ، انظرHelene Cixous, ” The Laugh of the Medusa ” ( 1975 ) في كتاب ” Feminisms : An Anthology of Litrary theory and Criticism ” 1997 by Rutgers, The State University – New York / pp 347 – 464
– الرواية ص 26
– الرواية ص 31
– الرواية ص 63
– الجنس في هذه الرواية خط أساسي ، فإضافة إلى علاقة منيرة بعلي ، كل القصص التي أوردتها منيرة عن دار الفتيات يبدو الجنس فيها ملمحا أساسيا سواء عند فاطمة الحساوية أو ميساء أو حسناء .
– راجع في ذلك صفحات 69 / 74 / 98 / 101 / 115 / 117
– الرواية ص 182
– الرواية ص 10
– الرواية ص 13
– الرواية ص 184
– الرواية ص 72
– الرواية ص 62
– مثلما فعل آلان روب جرييه في رواية ” غيرة “
– جيرار جنيت : ” خطاب الحكاية : بحث في المنهج ” ترجمة : محمد معتصم ، عبد الجليل الأزدي ، عمر حلي / المشروع القومي للترجمة – المجلس الأعلى للثقافة – القاهرة – الطبعة الثانية 1997 / ص 262
– فولفجانج كايزر : ” من يحكي الرواية ” في كتاب ” طرائق السرد الأدب ” ص 113
– المرجع السابق / الصفحة نفسها
في الحقيقة هذه القضية ما تزال تثير جدلا كبيرا ، وكما رأينا في الجزء النظري ، فإن هناك من يرى أن المخ البشري لا يعرف كيف يعمل ، وهي فكرة – إن صحت – تقوض المسؤولية التي يلقيها بعض النقاد على مؤلف الرواية تجاه شخصياته .
– الرواية ص 106
– جاب لينتفلت : ” مقتضيات النص السردي الروائي ” في كتاب ” طرائق تحليل السرد الأدبي ” / ص 91
– الرواية ص 29
0 تعليق