الــذات والــروايــة 1/2

مايو 29, 2012 | القارورة | 0 تعليقات

د. أحمد صبرة
بينما يبدو مهما أن نقول إن للمرء طبيعته ، فإن الأكثر أهمية القول إنه ينشئ طبيعته ، أو بشكل أكثر بساطة إنه ينتج ذاته .
بيرجر ولوكمان إن الذات ليست شيئا عضويا له مكان محدد ، إنها تأثير درامي يظهر منتشرا من المشهد المعروض .
جوفمان

تطرح الرواية المسرودة بضمير المتكلم إشكالات ذات شأن داخل النظرية النقدية ، حلت بعضها السرديات حين ميزت بين السارد البطل والسارد المصاحب والسارد المُعلِق ، وبقيت أخرى دون حل بسبب أن استيلاء السرديات على نظرية الرواية مدة من الزمن حال دون طرح هذه الإشكالات التي لا تستطيع السرديات – بسبب طبيعتها البنيوية – الإجابة عنها بمعزل عن الاستعانة بحقول معرفية أخرى ، لعل أهم هذه الإشكالات أن ضمير المتكلم في هذه الرواية يحيل إلى ذات لا يمكن الإمساك بها وفق آليات التحليل السردي ، ومن ثم فإن الحديث عنها يترك من الأسئلة أكثر مما يقدم من إجابات ، فما هذه الذات التي تظهر حين يكون السارد بطلا على وجه الخصوص ؟ وما علاقتها بمؤلف الرواية ؟ وإذا كانت الذات الروائية تُنتج في عالم متخيل ، فهل هناك فروق أساسية بينها وبين الذات في العالم الواقعي ؟ ثم ما المرجعية التي نحيل إليها الذات حين نريد أن نتصورها ؟ هل هي مرجعية العالم الواقعي ، أم مرجعية العالم المتخيل ؟ وإذا كان المؤلف ذكرا والسارد أنثى – أو العكس – كما في رواية القارورة ليوسف المحيميد فهل يمكن تجاوز هذا التعارض الجنوسي ؟ كيف تتحول الذات الواقعية الذكر إلى ذات تخييلية أنثى ؟ هذا إذا كان هناك تحول أصلا ، وهل يمكن أن تنشئ الذات الواقعية ذاتا متخيلة ؟ ما طبيعة الحبل السري الذي يربط بين الذاتين ؟ هل يمكن الإمساك بالذات وفق آليات غير آليات التحليل السردي ؟ ما الذات ؟
يتصور بعض علماء النفس الذات أنها مجموعة من الشعور والعمليات التأملية التي يُستدل عنها من خلال سلوكها ، أو من خلال الخبرات والاتصالات التي تكونها نتيجة احتكاكها بالآخرين ، ويتصورها آخرون أنها تتكون من خلال اتصالها بالآخرين ، التصوران يحيلان إلى مفهومين مختلفين للذات : مفهوم يرى أنها جوهر كامن في الفرد ، وآخر لا يرى أنها جوهر ، كلا المفهومين تترتب عليه نتائج مهمة في التعامل مع الذات ، وفي رؤية العالم الذي يحتويها ، وهو ما سيتضح بعد ذلك .
يرى هيجل أن الذات جوهر وأن المحرك الأساسي لها هو الصراع من أجل الاعتراف ، يوضح ذلك فيرى أن للكائنات الإنسانية – شأن الحيوانات – حاجات ورغبات طبيعية لأشياء خارجة عن ذاتها : الغذاء والشراب والمسكن ، وكل ما يحافظ على الجسد الذاتي ، إلا أن الإنسان يختلف جذريا عن الحيوانات ، لأنه – بالإضافة إلى ذلك – يرغب في ” رغبة ” الناس الآخرين ، أي أنه يريد أن يتم الاعتراف به ، يريد الاعتراف بذاته ، أي كائن مزود بكفاءة معينة وبكرامة معينة ، هذه الكرامة ترتبط بالدرجة الأولى بإرادته ، وباحتمال تعريض حياته إلى صراع من أجل الاعتبار فحسب ، بالنسبة لهيجل فإن رغبة الاعتراف هي التي قادت أول خصمين مصارعين إلى السعي المتبادل كي ” يعترف ” الآخر بطبيعة الكينونة الإنسانية لخصمه ، مع تعريض حياتهما لصراع مميت ، وعندما يؤدي الخوف الطبيعي من الموت بأحد الخصمين إلى الخضوع ، فإن علاقة السيد والعبد تولد إذ ذاك ، إن أسباب هذه المعركة الدامية في بدايات التاريخ ليست الغذاء ولا المأوى ولا الأمن ، ولكن الهيبة والاعتبار فحسب ، إن لدى الإنسان نزوعا نحو شحن الأنا بقيمة معينة ، وإلى طلب الاعتراف بهذه القيمة ، وهو يتوافق مع ما نسميه في اللغة الدارجة ” احترام الذات ” ، هذه النزوع لاحترام الذات يولد من هذا الجزء في الكائن الذي يسميه أفلاطون ” تيموس ” ، فهو يشبه عند الإنسان نوعا من الإحساس الفطري بالعدالة : يعتقد الناس أن لهم قيمة معينة ، وإذا عاملهم الآخرون وكأن قيمتهم أقل من ذلك ، فإنهم يشعرون بانفعال الغضب ، وفي المقابل عندما لا يرفع الناس حياتهم إلى مستوى ما يعتبرونه قيمتهم ، فإنهم يشعرون بالخجل ، وأخيرا عندما يُقيَّمون تقييما يتناسب مع قيمتهم ، فإنهم يشعرون بالاعتزاز ، فرغبة الاعتراف والانفعالات التي تصاحبها ( الغضب والخجل والاعتزاز ) تشكل جزءا لا يتجزأ من حياة أية شخصية ، وبحسب هيجل ، فإنها محركات السيرورة التاريخية بأكملها .
لكن ” الرغبة ” في الاعتراف ليست الركيزة الوحيدة التي ترتكز عليها الذات ، هناك أيضـا ” الرغبة ” في الاكتمال التي صاغ أهم أفكارها الأساسية جاك لاكان .
مفهوم الذات عند جاك لاكان :
استطاع جاك لاكان أن يقدم تصورات عن الذات استقرت الآن في التحليل النفسي في مرحلة ما بعد البنيوية ، من خلال تطبيقاته ودراساته على المرضى في الثلاثينيات والأربعينيات ، ثم بدأ في الخمسينيات تطبيق منظوره الخاص في التحليل النفسي الذي تأسس على اللغوية البنيوية ، والأنثروبولوجية البنيوية ، بحيث يمكن أن نقول عن لاكان إنه مزيج من فرويد ودي سوسير وليفي شتراوس ، مع بعض التأثيرات لجاك دريدا عليه ، لكن التأثير الأكبر كان من فرويد الذي شرحه على ضوء من النظريات البنيوية وما بعد البنيوية محولا التحليل النفسي من فلسفة إنسانية humanist philosophy إلى فلسفة ما بعد بنيوية( ).
لقد كانت المنطلقات الأساسية للإنسانيات أن هناك شيئا اسمه الذات الثابتة ، تملك إرادة حرة وتحديدات خاصة بها ، أما أفكار فرويد عن اللاوعي ، فقد خلخلت النموذج الإنساني للذات ، التي رآها منقسمة بين حقلي الوعي واللاوعي ، كان فرويد يأمل أن يسد الفجوة بين الوعي واللاوعي ، ومن ثم تحل الأنا ego محل اللاوعيid ، أي أن يكون الوعي أكثر قوة من اللاوعي .
هذا المشروع – بالنسبة للاكان – مستحيل ، لأن الذات ego لا يمكن أبدا أن تحل محل الوعي id أو تتحكم فيها أو تفرغها من محتواها ، لأن الذات عند لاكان مجرد وهم ، أو نتاج للاوعي نفسه ، وهو – أي اللاوعي – يعد أساسا لكل الوجود .
وبينما اهتم فرويد ببحث الكيفية التي يشكل بها الطفل لاوعيه وذاته العليا ليصبح إنسانا متحضرا بالغا ومنتجا ، فقد اهتم لاكان بكيفية حصول الطفل على هذا الوهم المسمى الذات ، ودراسته عن مرحل المرآة Mirror Stage تصف هذه العملية ، وتبين كيف يشكل الطفل وهم الـ ego : وهم الذات الواعية المتماسكة المرتبطة بالضمير ” أنا ” .
والفكرة المركزية عند لاكان أن اللاوعي الذي يتحكم في كل الوجود الإنساني قد بُنينstructured is مثل اللغة ، وقد أسس هذه الفكرة من خلال تفسير فرويد للآليتين الرئيسيتين في عمليات اللاوعي : التكثيفcondensation والإحلال displacement ، كلتا الآليتين ظاهرة لغوية ، حيث يتكثف المعنى في الآلية الأولى من خلال الاستعارة ، ويحل محله شيء في الآلية الثانية من خلال المجاز المرسل metonoymy ، لاحظ لاكان أن تحليل فرويد للحلم ، ومعظم تحليله للرمزية اللاواعية التي يستخدمها مرضاه تعتمد على ألفاظ اللعب والتورية والمتلازمات إلخ ، وقد رأى لذلك أن محتويات اللاوعي فيها إدراك حاد للغة ، وبخاصة بنية اللغة .
اعتمد لاكان على أفكار دي سوسير في نقاشه لفرويد ، تحدث دي سوسير عن العلاقة بين الدال والمدلول التي تشكل العلامة ، وأكد على أن بينة اللغة ذات علاقة سلبية بين العلامـات ( العلامة تكون على ما هي عليه لأنها ليست علامة أخرى ) ، أما لاكان فقد ركز على العلاقة بين الدوال ، ورأى أن عناصر اللاوعي – الأماني والرغبات والصور المتخيلة – كلها تشكل الدوال ، ويتم التعبير عنها من خلال مصطلحات لفظية ، هذه الدوال تشكل سلسلة دوالية signifying chain : دال له معنى فقط بسبب أنه ليس دالا آخر ، عند لاكان ليست هناك مدلولات ، لا توجد ما تشير إليه الدوال أبدا ، ولو كان هناك ما يمكن الإشارة إليه ، فإن معنى أي دال سيكون ثابتا نسبيا ، فوفقا لمصطلح دي سوسير ستكون هناك علاقة دالية بين الدال والمدلول ، وهذه العلاقة سوف تخلق أو تضمن نوعا من المعنى ، يرى لاكان أن هذه العلاقة الدالية لا يمكن أن توجد ( على الأقل في اللاوعي ) هناك فقط علاقات سلبية ، أو علاقات قيم حيث يصبح الدال على ما هو عليه لأنه ليس شيئا آخر .
يقول لاكان إنه بسبب هذا النقص في المدلولات ، فإن سلسلة الدوال x = y = z = b = q = o إلخ تنزلق وتتحول وتستدير ، ليس هناك مرتكز لها ، لا شيء يعطي معنى أو ثباتا للنظام كله ، إن سلسلة الدوال أساسا في حالة لعب بتعبير دريدا ، ولا توجد وسيلة لإيقاف هذا الانزلاق للسلسلة ، لا توجد وسيلة للقول ” آه ، إن x تعني هذا ” ومن ثم يمكن تحديدها ، ما نجده أن دالا يقود إلى دال آخر ، ولا يقود إلى مدلول ، إنه مثل المعجم ، حيث تقود الكلمة فيه إلى كلمة أخرى ، ولا تقود أبدا إلى الأشياء التي من المفترض أن تعبر عنها هذه الكلمة .
في رأي لاكان ، فإن هذه هي حالة اللاوعي : سلسلة دائرية مستمرة من الدوال لا يوجد فيها مرتكزanchor ، أو بمصطلح دريدا لا يوجد مركزcenter ، وهذه هي ترجمة لاكان اللغوية لصورة فرويد عن اللاوعي بوصفه حقلا مشوشا للدوافع المتحولة المستمرة والرغبات ، اهتم فرويد بكيفية جلب هذه الرغبات والدوافع المشوشة إلى الوعي حتى يكون لها نظام ومعنى ، أما لاكان فرأى أن عملية أن يصبح الإنسان ناضجا ، أن يصبح ذاتا – وهي العملية التي يحاول فيها تثبيت وإيقاف سلسلة الدوال من أجل الحصول على المعنى المستقر بما فيه معنى الأنا الذي يراه البعض أمرا ممكنا – هذه العملية مجرد وهم ، وصورة تخييلية تتخلق من خلال سوء الإدراك للعلاقة بين الجسد والذات .
تحدث فرويد عن ثلاث مراحل يمر بها الأطفال : المرحلة الفمية ، ثم المرحلة الشرجية ، ثم المرحلة القضيبية ، ثم تحدث عن عقدة أوديب وعقدة الخصاء التي تبدأ بعدها الكائنات في البلوغ ، أما لاكان فقد أبدع تصنيفات مختلفة ليشرح المسار نفسه : مسار الطفل إلى البلوغ ، لقد أوضح ثلاثة مفاهيم : الحاجةNEED ، والطلبDEMAND ، والرغبة DESIRE التي تناسب تماما ثلاث حالات من التطور ، أو ثلاث حقول يتطور داخلها البشر : الواقعي ، والمتخيل ، والرمزي ، وبموازاة المفاهيم والحقول ، فإن الرغبة توازي الرمزي الذي هو بنية اللغة نفسها ، ونحن ندخل إليها حتى نصبح ذواتا Subjects متكلمة ، من أجل أن نقول ” أنا ” ، وأن نمتلك الأنا التي تبدو أنها ثابتة .
مثل فرويد ، لا يبدأ الطفل – عند لاكان – منفصلا عن أمه ، فلا تمييز بين الذات والآخرين عنده ، ولا تمييز بين الطفل وأمه ، فهو يأتي إلى العالم بلا أنا ego ، بلا هوية ، بلا معنى للذات منفصل عن الآخر ( عن أمه ) ، إنه في هذه المرحلة يشبه كتلة ليس لديها أي تصور لجسدها على أنه كل موحد متماسك ، هذا الطفل يتحرك من خلال الحاجة ، فهو يحتاج إلى الطعام والراحة والأمان ، يحتاج إلى كل شيء ، ويتم إشباع هذه الحاجات من خلال أشياء مادية ، فهو يلقم ثدي أمه إذا احتاج إلى طعام ، وهو يتعلق بها إذا احتاج إلى الأمان ، ولا يدرك الطفل في هذه الحالة من الحاجة أي تمييز بينه وبين الأشياء المادية التي تلبي حاجاته ، فهو لا يدرك مثلا أن هذا الشيء المادي الذي يحتاج إليه – وليكن الثدي – جزء من شخص كامل ( لأنه ليس لديه أي مفهوم عن الشخص الكامل ) وليس لديه أي تمييز بينه وبين أي شخص ، أو أي شيء ، لديه فقط حاجات وأشياء تُشبع هذه الحاجات .
على الطفل – من وجهة نظر فرويد ولاكان – أن ينفصل عن أمه ، وأن يكون هوية منفصلة ، حتى يدخل إلى الحضارة ، هذا الانفصال يستلزم نوعا من الفقد LOSS ، فعندما يعرف الطفل الاختلاف بينه وبين أمه ، ويبدأ في أن يصبح كائنا متفردا ، فإنه يفقد المعنى الأولي للوحدة ( الأمان ) الذي يمتلكه أصلا ، وهذا هو الجزء التراجيدي في نظرية التحليل النفسي ( سواء عند فرويد أو لاكان ) ، فلكي تصبح كائنا متحضرا ، عليك أن تشعر بحالة فقد لا مفر منها للوحدة الأصلية للاندماج ، وبخاصة مع الأم .
إن الطفل الذي لم ينفصل عما حوله ، والذي يتم إشباع حاجاته فقط ، والذي لا يميز بين ذاته والأشياء التي تشبع حاجاته ، هذا الطفل يوجد في حقل الواقعي ، وطبقا للاكان ، فإن الواقعي هو مكان ( مكان نفسي وليس مكانا ماديا ) توجد فيه هذه الوحدة الأصلية ، ومن أجل ذلك ، فإنه لا يوجد فيه غيابabsence أو فقد loss أو نقص lack ، إن الواقعي ممتلئ تماما وكامل ، حيث لا توجد فيه حاجة لا يمكن إشباعها ، وبسبب أنه لا يوجد غياب أو فقد أو نقص ، فإنه لا توجد لغة في الواقعي .
يعلق لاكان على موضوع الفقد من خلال دراسة حالة ظهرت في كتاب فرويد ” ما وراء مبدأ اللذة ” ، تحدث فرويد عن ابن أخته البالغ من العمر ثمانية عشر شهرا ، والذي يلعب بكرة من الخيوط مربوطة بغزل من الصوف ، إن الطفل يلقي الكرة بعيدا ، ويقول ” راحت Fort ” ، تعود الكرة إليه مرة أخرى فيقول ” جاءت da ” ، يقول فرويد إن هذه اللعبة رمزية بالنسبة للطفل ، أسلوب للتخلص من القلق حول غياب الأم ، فهو عندما يلقي الكرة ويقول Fort ، فإنه يكرر تجربة الفقد للشيء الذي يحبه ، وعندما يستعيد الكرة ، ويقول da ، فإنه يستمتع بالإبقاء على هذا الشيء ، أخذ لاكان هذه الحالة وركز على شكل اللغة الذي تعرضه ، قال لاكان إن لعبة ” Fort / da ” التي قال فرويد إنها حدثت لابن أخته البالغ من العمر ثمانية عشر شهرا هي حول دخول الطفل العالم الرمزي ، أو دخوله إلى بنية اللغة نفسها ، إن اللغة – كما يرى – تتحدث عما هو مفقود أو غائب ، فأنت تحتاج إلى الكلمات عندما تكون الأشياء التي تريدها غائبة ، ولو كان عالمك ممتلئا بلا غياب فيه ، فأنت لا تحتاج إلى اللغة ( وقد أشار جوناثان سويفت إلى شيء من هذا في رحلات جيلفر حين تحدث عن ثقافة ليس فيها لغة ، الناس فيها يحملون على ظهورهم كل الأشياء التي يحتاجون إلى أن يشيروا إليها ) .
وهكذا ، فإن حقل الواقعي – في رأي لاكان – لا توجد فيه لغة ، لأنه لا يوجد فيه فقد ولا نقص ولا غياب ، يوجد فيه فقط امتلاء كامل وحاجات ، وإشباع لهذه الحاجات ، ومن ثم فإن الواقعي هو دائما ما وراء اللغة ، غير ممثل في اللغة ، ولا يمكن استعادته أبدا إذا ما دخل المرء إلى عالم اللغة .
في سن 6 شهور إلى سن 18 شهرا يبدأ الطفل في الانفصال عن العالم من حوله ، ومن ثم يتحول من طور الحاجات إلى طور الطلباتdemands ، والطلبات لا يتم إشباعها من خلال الأشياء ، إن الطلب هو طلب التقدير من الآخرين : الحب من الأم مثلا ، وتحدث العملية كالتالي ؛ الطفل يبدأ في إدراك أنه منفصل عن أمه ، وأنه توجد أشياء في هذا العالم ليست جزءا منه ، وهكذا تنشأ فكرة ” الآخر ” ، لكن الطفل لا يدرك في هذه المرحلة التعارض الثنائي بين الذات والآخر ، لأنه حتى هذا العمر لا يستطيع التعرف على معنى متماسك للذات ، هذا الإدراك للانفصال أو حقيقة الأخروية يخلق قلقا لديه ، يخلق معنى الفقد ، لذلك يطلب الطفل التوحد مرة ثانية ، أن يعود إلى المعنى الأصلي للامتلاء واللانفصال الموجود في الواقعي ، لكن هذا غير ممكن بمجرد أن يعرف الطفل أن فكرة الآخر موجودة ( وكل هذا يحدث في مستوى اللاوعي ) إن الطفل يطلب الامتلاء من الآخرين ، وأن يعود إلى معنى الوحدة الأصلي ، إنه يطلب من فكرة الآخر أن تختفي ، والطلب بهذا المعنى طلب للامتلاء والاكتمال من الآخرين أن يوقفوا النقص الذي يعاني منه الطفل ، لكن هذا بالطبع غير ممكن ، لأن النقص أو الغياب ومعنى الأخروية شروط لأن يصبح الطفل ذاتاSelf /Subject ، كائنا متحضرا فعالا .
ولأن الطلب هو طلب التقدير من الآخرين ، فإنه لا يمكن إشباعه ، لأن الطفل من 6 – 18 شهرا لا يستطيع أن يقول ما يريده ، إنه يصرخ فتعطيه الأم ثديها أو زجاجة لبن ، أو أي شيء آخر ، لكن لا يوجد شيء يشبع طلبه ، لأن الطلب هو استجابة على مستوى مختلف ، فالطفل لا يستطيع أن يقدر الأساليب التي تستجيب بها الأم له ، ويقدر هذه الاستجابة ، لأنه ما يزال لا يمتلك بعد مفهوما عن ذاته بوصفها شيئا ـ إنه يعرف فقط أن هذه الفكرة عــن ” الآخر ” موجودة ، لأنه منفصل عن هذا الآخر ، لكنه لا يمتلك فكرة عن كينونة الذات .
في مرحلة المرآة في سن 6 – 18 شهرا ، لا يمتلك الطفل سيطرة على كل جسده ، كما لا يستطيع التحكم في حركته ، إنه لا يمتلك فكرة عن جسده ككل ، فهو يختبره متجزءا ، أو في قطع تكون في متناول يده ، لكنها تختفي بمجرد أن الطفل لا يستطيع أن يراها ، إنه يمكن أن يرى يده ، لكنه لا يعرف أن هذه اليد تتعلق به ، إنها يمكن أن تتعلق بأي شخص آخر ، أو لا تتعلق بأي أحد ، مع أن الطفل في هذه المرحلة يستطيع أن يتخيل ذاته ككل ، لأنه يرى الآخرين ، ويدركهم ككائنات كاملة .
يقول لاكان إن الطفل في هذه الفترة تتكون ذاته من خلال المرآة ، فهو يتطلع إلى انعكاس الأشخاص عليها ، ثم يعود ليتطلع إلى الشخص الحقيقي – أمه أو أي شخص آخر ، ثم يتطلع مرة ثانية إلى الصورة المرآوية ، إنه يتحرك في هذا الفعل من القصور إلى الحدس : من صورة المرآة إلى الشخص ، والعكس ، هذا يعطيه فكرة أن هناك كائنات متكاملة ، أشخاصا كاملين ، لكن الطفل يظل غير قادر على أن يكون كلا ، ومن ثم ينفصل عن الآخرين ( على الرغم من أنه يمتلك هذه الفكرة عن الانفصال ) في مرحلة المرآة يبدأ في توقع الكامل ، إنه يتحرك من الجسد المتجزئ إلى رؤية مشوهة لكليته ، إلى رؤية ذاته ككل متكامل ، وهي مشوهة لأنها تستخدم كدعامة أو أداة تصحيح ومساعدة للطفل كي ينجز حالة الكلية .
يعرف الطفل في هذه المرحلة معنى الذات بوصفها كلا منفصلا متحدا ، فهو يرى نفسه في المرآة يشبه الآخرين ، يرى كينونته في المرآة ، هذه الكينونة التي ستصبح ذاتا ، ويتم التخطيط لهذه الكينونة من خلال كلمة ” أنا ” ، أما ما يحدث حقيقة فإن هذه المماثلة ليست سوى سوء تمييز misrecognation ، فالطفل يرى صورة في المرآة ، وهو يعتقد أن هذه الصورة هي أنا me ، لكنها في الحقيقة ليست الطفل ، إنها مجرد صورة ، ينظر الطفل إلى المرآة ، ثم يعود لينظر إلى أمه ، تقول له أمه ” نعم ، هذا هو أنت ” إنها تؤكد على واقعية العلاقة بين الطفل وصورته ، وتؤكد على فكرة التكامل بين الجسد الكلي المتكامل الذي يراه الطفل ويتماهى معه. إنه أحيانا يحدق في المرآة ويقول ” تعال هنا ” وشكسبير يقول ” عندما نولد نصرخ لأننا جئنا إلى هذا المسرح الكبير من الحماقة ” لكن هذا الفعل من الإدراك يوسم بالنقص
يأخذ الطفل هذه الصورة في المرآة على أنها خلاصة كينونته الكاملة كذات ، وتخلق هذه العملية من سوء تمييز ذات المرء في صورة المرآة – تخلق الأناego ، هذا الشيء الذي يقول ” أنا ” ، وبتعبير لاكان ، فإن سوء التمييز هذا يخلق درعا للذاتsubject ، يخلق وهما أو سوء إدراك للكلية والتكامل والشمولية التي تحيط بالجسد المتجزئ وتحميه ، وبالنسبة للاكان فإن هوية الـ ego ، أو هوية الذات ، أو هوية الأنا مجرد وهم ، إنه تماثل مع صورة خارجية ، وليس معنى داخلي للهوية الكلية المنفصلة .
بهذا المعنى تتخلق الذات في حقل التخييلي Imaginary ، من خلال هذا التماثل التخييلي مع الصورة في المرآة ، ويقع حقل التخييلي حيث تتخلق العلاقة الغريبة للذات مع صورتها الخاصة وتصان ، إن التخييلي هو حقل الصور سواء أكان الوعي أو اللاوعي ، وهو ما قبل لغوي ، وما قبل أوديبي ، لكنه مؤسس على إدراك بصري ، أو ما يسميه لاكان تصور تأملي Specular Imaging .
تعرف الصورة المرآوية – أي الشخص الكامل الذي يخطئ الطفل في معرفة أنه هو نفسه – في مصطلحات التحليل النفسي على أنها الأنا العليا Ideal Ego ، الذات التامة التي لا تمتلك أي نقص ، هذه الأنا العليا تصبح باطنية ، ونحن نبني هويتنا أو نبني معنى الذات من خلال سوء تماثلنا مع هذه الأنا العليا ، ومن خلال ذلك – كما يقول لاكان – نتخيل الذات التي لا تعاني أي فقد ، وليس لديها أي فكرة عن الغياب ، ولا عن عدم الاكتمال ، إن تخييل الذات الثابتة الكاملة المتحدة التي نراها في المرآة يصبح تعويضا عن فقد الواحدية الأصلية مع جسد الأم ، بكلمة مختصرة – عند لاكان – فإننا نفقد اتحادنا مع جسد الأم ( حالة الطبيعة ) كي ندخل إلى الحضارة ، لكننا نحمي أنفسنا من معرفة هذا الفقد من خلال سوء إدراك لأنفسنا على أننا لا ينقص منا شيء .
يرى لاكان أن مفهوم الذات عندالطفل ( أناه أو هويته ) لا تتلاءم مع كينونته الخاصة ، فصورته الذهنية في المرآ ة أصغر ، كما أنها أكثر ثباتا ، ثم إنها بالنسبة له هي الآخر ، إنها شيء ما خارج عنه ، ولذلك فإن الطفل – لبقية حياته – سوف يسيء تمييز ذاته على أنها الآخر ، على أنها صورة في المرآة تمده بوهم الذات ، وبوهم السيطرة .
إن التخييلي مكان نفسي ، أو حالة يسقط فيها الطفل أفكاره عن الذات في صورة المرآة ، وإذن فإن مرحلة المرآة توطد ثنائية الذات / الآخر ، حيث يعرف فيها الطفل الآخر ، لكنه لا يعرف الذات ، وبالنسبة للاكان فإن تماثل الذات يتم دائما وفق مصطلح الآخر ، هذا لا يشبه تعرضا ثنائيا حيث الذات = كل ما ليس آخر ، والآخر = كل ما ليس ذاتا ، عند لاكان الذات هي الآخر ، وأما فكرة الذات ووجودها الباطني الذي يتشكل من خلال كلمة ” أنا ” ، فهو مؤسس على صورة ، مؤسس على آخر ، ومن ثم فإن مفهوم الذات يعتمد على سوء تماثل الفرد مع هذه الصورة عن الآخر .
يستخدم لاكان مصطلح الآخر بعدة طرق يجعله صعبا في الإدراك ، لكن أولها – وربما أكثرها سهولة – يستخدمه في ثنائية الذات / الآخر ، حيث الآخر ليس ” أنا not me ” ، في مرحلة المرآة يصبح الآخر هو ” أنا me ” ، كذلك يستخدم لاكان مصطلح الآخر Other بحرف O كبير ليميز بين مفهوم الآخر والآخرين الواقعيين ، إن الصورة التي يراها الطفل في المرآة هي آخر ، وهي تعطي الطفل فكرة عن مفهوم الآخر كاحتمالية بنيوية .
وعندما يصوغ الطفل بعض الأفكار عن مفهوم الآخر ، وعن الذات المتماهية مع آخرها الخاص : صورتها في المرآة ، فإن الطفل يبدأ في دخول الحقل الرمزي ، وفي هذه الحالة يتشابك الرمزي والتخييلي معا ويتعايشان على الرغم من بعض أفكار لفرويد في هذا الصدد ، إن النظام الرمزي هو بنية اللغة نفسها ، ونحن نريد أن ندخل فيه كي نصبح ذواتا متكلمة speaking subjects ، وأن نشكل أنفسنا من خلال كلمة ” أنا ” إن أساس امتلاك الذات يقع في الإسقاط التخييلي للذات على الصورة التأملية : الآخر في المرآة ، وامتلاك الذات هو التعبير بكلمة ” أنا ” التي تقع فقط في النظام الرمزي ، وهذا هو السبب في تعايش الرمزي مع التخييلي .
إن لعبة Fort / da – في رأي لاكان علامة على الدخول إلى النظام الرمزي ، لأن هذا الولد يستخدم اللغة كي يتغلب على فكرة الغياب ، وعلى فكرة الأخروية كفئة أو احتمالية بنيوية ، إن كرة الخيط – في رأي لاكان – تستخدم كشيء صغير أو كشيء صغير خارجي ، وعندما يلقيها بعيدا ، فإن الطفل يدرك أن الآخرين من الممكن أن يختفوا ، وفي حالة استرجاعها ، فإنه يدرك أن الآخرين من الممكن أن يعودوا ، وقد اهتم لاكان بالجزء الأول مؤكدا على أن هذا الطفل الصغير معني بفكرة النقص أو الغياب للأشياء الصغيرة الخارجية .
إن الآخر الصغير يوحي للطفل بفكرة النقص أو الفقد أو الغياب مُظهرا الطفل أنه ليس كاملا في نفسه ولنفسه ، كما أنه وسيلة عبور إلى النظام الرمزي ، أي إلى اللغة ، حيث إن اللغة نفسها نتيجة منطقية لفكرة النقص أو الغياب ، يرى لاكان أن هذه الأفكار عن الآخر ومفهوم الآخر ، وعن النقص والغياب ، وعن سوء تماثل الذات مع الآخر ومفهوم الآخر – كلها تحدث عند المستوى الفردي لكل طفل ، لكنها تشكل بنى أساسية للنظام الرمزي للغة التي يجب أن يدخلها الطفل حتى يصبح عضوا بالغا في الحضارة ، وهكذا فإن الأخروية التي تؤثر في لعبة Fort / da تصبح أفكارا تصنيفية أو بنيوية ، وهكذا ففي النظام الرمزي هناك بنية للأخروية أو مبدأ بنيوي ، وهناك مبدأ بنيوي للنقص .
إن لاكان نفسه مهتم بفكرة النقص بوصفها مركزا للنفس البشرية ، فعندما يتطلع الطفل إلى المرآة ويرى صورة كاملة لنفسه ، فإن هذه الصورة Image تبدو في حالة تعارض مع خبرته الواقعية عن العالم والذات كشيء متجزئ ، في هذه الحالة يُنشئ الاختلاف بين الصورة النموذجية والخبرة المتجزئة للطفل النقص الذي يعاني منه طوال حياته ، ربما كانت أول حالة نقص يعاني منها الطفل هي حالة الفطام الذي يواجه فيه أول حالة انفصال بين شيئين : الغذاء والحب ، يقول لاكان إن الرغبة تظهر حينئذ مميزة حياته كلها ، دافعة إياه للبحث عن الرجل النموذجي أو المرأة النموذجية أو الوظيفة النموذجية إلخ .
إن مفهوم الآخر موقع بنيوي في النظام الرمزي ، إنه مكان يحاول كل شخص أن يؤثر فيه ويندمج معه ، حتى يمكن التخلص من الانفصال بين الذات والآخر ، إنه بتعبير دريدا مركز center النظام الرمزي ونظام اللغة نفسها ، إن مفهوم الأخروية شيء ترتبط به كل العناصر ، لكنه بوصفه مركزا لا يمكن أن يندمج معه شيء ، لا يمكن أن يكون هناك شيء في المركز مع مفهوم الآخر ، ولذلك فإن موضع الأخروية يخلق ويدعم نقصا لانهائيا يسميه لاكان الرغبة desire ، إن الرغبة هي رغبة أن تكون الآخر ( مفهوم الآخر ) ، ومن ثم فإن الرغبة لا يمكن إشباعها ، فهي ليست رغبة في بعض الأشياء ، أو رغبة في الحب ، إنها رغبة أن تكون مركزا للنظام الرمزي ومركز اللغة نفسها ، هذا المركز له عدة أسماء في النظرية اللاكانية ، فهو مفهوم الآخر ، كما أنه القضيب Phallus الذي يستعيره من نظرية فرويد عن عقدة أوديب .
إن مرحلة المرآة ما قبل أوديبية ، والذات فيها يتم بناؤها في علاقتها بالآخر ومع مفهوم الآخر ، والذات فيها تريد أن تندمج مع هذا المفهوم ، إن الآخر / المركز عند فرويد هو الأب ، والأب هو القضيب ، والقضيب بوصفه مركزا يدعم الطبيعة البطريركية للنظام الرمزي ، إن القضيب يقيد لعب العناصر المختلفة ، ويعطي ثباتا للبنية كلها ، كما أنه يدعم سلسلة الدوال المنسابة وغير المستقرة في اللاوعي التي تنزلق دائما وتتحول ، كما أنه يوقف اللعبة لأن الدوال يمكن أن تمتلك بعض المعاني الثابتة .
إن القضيب ليس هو الذكر penis ، فإذا كان الذكر يتعلق بالأفراد ، فإن القضيب يتعلق ببنية اللغة نفسها ، فلا أحد يملكه ، مثلما لا يوجد أحد يتحكم في اللغة ويقعد لها ، بالأحرى ، القضيب مركز ، إنه يتحكم في البنية كلها ، إنه ما يريد كل شخص أن يكونه أو يملكه ، لكن لا أحد يستطيع ذلك ( فلا يوجد عنصر في النظام يمكن أن يأخذ مكان المركز ) هذا هو ما يسميه لاكان الرغبة : الرغبة التي لا يمكن إشباعها لأنها لا يمكن أن تكون مركزا ، أو أن تتحكم في النظام .
هناك مشكلة أخرى تتعلق بطبيعة دخول كل من الولد والبنت إلى النظام اللغوي ، فالولد يشعر – لأنه يمتلك القضيب – أنه يمتلك اللغة أي المركز ، والبنت تشعر بالفقد لأنها لا تمتلك هذا القضيب ، ينشأ عندها ما يسميه فرويد عقدة الخصاء ، لكن لاكان يقول إن كل ذات subject في اللغة مرتبطة بالنقص ارتباطا وثيقا ، والسبب الوحيد الذي يجعلنا نمتلك اللغة هو الشعور بالفقد أو النقص أو الرغبة في التوحد مع الجسد الأمومي ، وفي الحقيقة فإن هذا ضروري كي نصبح جزءا من الحضارة ، أن نصبح ذواتا subjects في اللغة ، أن نواجه هذا الغياب والفقد والنقص . إن التمييز بين كلا الجنسين مهم جدا في نظرية لاكان ، لكنه ليس كذلك عند فرويد ، يرى لاكان أن كل من الولد والبنت يدخل إلى بنية اللغة بشكل مختلف ، فكل منهما لايرى إلا الدال الذي يرتبط بالجنس الآخر ، وكل منهما ينشئ رؤيته الخاصة للعالم من خلال فهمه للعلاقة بين الدال والمدلول .
إن مرحلة المرآة دراما شديدة التأثير ، فقد خلقت أوهاما عن الجسد المتجزئ وعن الهوية المعزولة ، كما أنها جعلتنا نجد أنفسنا في غربة مع أنفسنا ، وتصبح الغرائز والرغبات – من ثم – أشياء يمكن أن تدمر الأنا النموذجية(*) .
إن النتائج التي ترتبت على أفكار لاكان كثيرة جدا ، فنحن نلاحظ أن نموذج لاكان عن الذات قريب جدا من تحليل دريدا لفكرة الاختلاف ، إن ضمير أنا ينتج ذاتا مترابطة ( كما تفعل العلامات ) ، ربما تُظهر الذات في بعض الأحيان نقصا خاصا بها ، أو تظهر مجزأة ، لكنها – في الحقيقة – مهددة بفكرة التفتيت ، أو أن تُكتشف لاواقعيتها ، وقد أخذ نقاد الأدب هذه المفاهيم للحديث عن التأثير المتواصل للآخرين على الشخصية ، وللحديث عن الأساليب التي تؤثر بها الرغبة المستحيلة في الاتحاد والاكتمال ( أي أن تكون بلا نقص ) على الشخصيات ، وأحيانا على النصوص الأدبية ، كيف يمكن أن نقرأ عملا مثل القارورة ليوسف المحيميد على ضوء من هذه المفاهيم ؟
الذات بوصفها مفهوما سرديا
من نحن ؟ ما الذي يفهمه علم النفس من فكرة الذات ؟ ما طبيعة هويتنا ؟ هذه أسئلة طرحتها الفلسفة ، لكنها أصبحت الآن قضايا أساسية في علم النفس ، أما المعالجة السرديـة( )في دراسة الهوية والذات فإنه تركز على الأسئلة التالية :
هل يتضمن الأفراد ذاتا واحدة أو أكثر ؟
تحت أي ظروف يتغير الناس ؟ كيف يعرف الناس ذواتهم ؟ هل يمكن أن نعرف في الحقيقة من نحن ؟
كيف يصوغ الناس قصصا شخصية ليعبروا بها عن ذواتهم ؟
كيف تتكامل الثقافة مع الذات الفردية ؟
في كتابة السيرة الذاتية ، هل يخفي الكاتب أكثر مما يكشف ؟
ما مدى دقة ذاكرة الأطفال ؟( )
إن هناك جدلا بين من يرى سبق الذات للغة ، أي يراها ذاتا ثابتة مستقرة ، ومن يرى أنها تتشكل من خلال الممارسة اللغوية ، وبخاصة قدرتنا على تأليف القصص ، هذه الرؤية الأخيرة تظهر من خلال رؤية معينة لطبيعة اللغة ، وجوهر هذه الرؤية يرفض فكرة أن اللغة تستخدم كوظيفة مرجعية ، وكتب في ذلك كيربي ” إن اللغة ببساطة ليست أداة للاتصال أو انعكاس ما نكتشفه في واقعنا ، إنها نفسها جزء مهم من هذا الواقع ، جزء من نسيجـه ” ( )
إن الذات منتَج للممارسات السردية ، ولإثبات هذه القضية ، هناك في أطروحات علم النفس الفلسفي الحديث ما يسمى بنظرية المحاكاة Simulation Theory ، وهي تعني أننا في محاولتنا تفسير الحالة العقلية لشخص ما ، فإننا نتشارك قليلا فيما يشبه مسرحية ، ومنظرو المحاكاة يقولون إننا نفهم أعمال الآخرين من محاولة تخيل كيف يبدو العالم من منظورهم ، إنهم يرون أننا حين نحاول فهم أعمال الآخرين ، فإننا في الحقيقة نوظف مهاراتنا التخييلية في محاولة معالجة كيف تبدو الأشياء من وجهة نظر الآخرين ، ولفهم كيف يتصرف الآخرون ، فإننا نتشارك في نوع من المحاكاة العملية( )، مثل هذه المحاكاة تُرى بشكل أفضل على أنها نوع من المسرحة : محاولة لتبني شخصية الآخرين تبنيا تخييليا .
لكن المسألة ليست هينة ، هناك صعوبات كثيرة تواجه منظري المحاكاة في تفسير هذه المشاركة ، وهناك محاولات لتجاوز هذه الصعوبات ، منها محاولة اقتراح مفهوم للذات الديكارتية التي ترى الذات شديدة الوضوح ، وهناك من يقدم الاقتراح السردي الذي يراه جديرا بفهم الطبيعة الكامنة للمحاكاة .
هناك سؤالان أساسيان يطرحهما منظرو المحاكاة : كيف تُنجز المحاكاة ؟ وكيف تُكتسب القدرة علي المحاكاة ؟ وفي محاولة الإجابة عن السؤال الأول هناك من يرى – وهو رأي شائع – أننا نستخدم أنفسنا نموذجا للآخرين ، وطبقا لهذه الرؤية فنحن نضع أنفسنا تخييليا في أحذية الآخرين ، وعلى أساس من هذا الإسقاط نتخذ قرارات من المفترض أن الآخرين سوف يتخذونها ، مثلما يفعل بعض العلماء حين يصنعون نموذجا للمجموعة الشمسية ، ويحركون الكواكب فيها مفترضين أن حركة الكواكب في النموذج تماثل حركة الكواكب الحقيقية ، يسمي هؤلاء ما يفعلون نموذج الاستبطان الواعي Conscious introspective modelling ، وهم يرون أن المحاكاة هي فهم تصوري جانبي من خلال تشغيل نموذج فعال للعقل ، ثم قراءة النتائج ، هذا النموذج مؤسس على رؤية ديكارتية للذات تفترض أن عقولنا يمكن نقلها ومعرفتها بسهولة ، كما يفترض أيضا أن لدينا مبررا في الاعتقاد أن الآخرين يمكن أن نقيسهم على أنفسنا( ).
وعلى الرغم من شيوع هذا النموذج ، فإننا يجب أن نكون حذرين في تقدير هذا النوع من الادعاء ، لأن هناك غموضا كبيرا في الطريقة التي يكشف بها أي انعكاس واع بسيط عن الطريقة التي تُنجَز بها المحاكاة ، وعلماء النفس يقولون دائما إن الناس ليسوا دقيقين تماما في التبعير عن الطريقة التي ينجزون بها أعمالهم ، ومن ثم فإن هذا الأسلوب لا ينجز شيئا ، أيضا فإنه من المهم التذكر أن المحاكاة ليست عملا واعيا تماما ، إنها – مثل أي مهارة أخرى – يمكن تعلمها بشكل واع ، ومن خلال الخبرة يتبين أننا لا نفسر أفعال الآخرين من خلال مقارنة أنفسنا بهم ، أو باستخدام أنفسنا نموذجا لهم ، لأن المحاكاة ببساطة ليست هي إسقاط أنفسنا لنحل محل الآخرين ، هذه العملية تسمى الإسقاط الكامل في الأدب ، وهي تفشل في أن تأخذ في الحسبان الاختلافات بين ذواتنا وذوات هؤلاء الذين نرغب في أن نفسر أفعالهم ، إن المحاكاة ليست مسألة وضع ذاتك في حذاء شخص آخر ، إنها محاولة تخييلية لفهم أو تبني منظور الآخرين تجاه الحوادث ، وإنه من المهم أن نلاحظ أنه حتى نحاكي ما يمكن أن يكون مشابها لـ x ، فإننا لا نتخيل ببساطة ما هو مشابه لنا لو كنا في موضع x .
هذا ليس مثل أن أقرر ما سوف أفعله في لعبة الشطرنج مثلا ، فاللاعب لا يقرر الخطوة التي يقوم بها فقط ، بل يتخيل ما يمكن أن يفعله اللاعب الآخر في موقفه هو ، ولهذا الغرض ، فإن اللاعب يبادل مجموعة من الخواص بأخرى ، كما أنه يدعي جهلا بالنوايا الخاصة باللاعب الآخر ، مثل هذا يحدث عند قادة الجيوش ، وفي أعمال البحث الجنائي( ) .
معنى ذلك أنه كي تصبح المحاكاة جيدة ، فإنه من الضروري أن نكون قادرين على إصدار أحكام حول مدى اختلاف منظورنا الخاص عن منظور الآخرين ، ولو اتخذت نفسي نموذجا للآخرين فإن محاكاتي ستكون رديئة ، إن مشكلة هذا النموذج المقترح أنه يفترض أن الناس متماثلون تماما نفسيا ، ولأن هذا غير صحيح ، فإن هذا الاقتراح لا يفسر الطريقة التي يحاكي بها الناس أفعال الآخرين .
إن أفضل طريقة لفهم أنماط الشخصيات هو ما يسمى بالاقتراح السردي The narrative proposal الذي يقدم محاكاة جيدة للآخرين ، بمعنى أن هناك نوعا من الألفة مع أنماط الشخصيات والحالات السردية ، وهي التي تكون أساسا نستطيع من خلاله لعب الدور في المسرحية بنجاح .
والفكرة مؤسسة على أن قدرتنا على أن نصنع صفات نفسية وتوقعات للآخرين تتطور من خلال عملية الاستماع والفهم والخلق للقصص ، ولو كان هذا صحيحا ، فإن معرفة أن الناس لهم خصائص ترتيبة معينة تؤمِّن أي محاكاة ناجحة ، هذه الخصائص تعتمد على فكرة الذات Subject العقلانية النموذجية ، ويجب أن تؤخذ هذه الفكرة في الحسبان في تفسير أي فعل من الآخرين ، ويمكن أن نمضي بها إلى أبعد من ذلك في تفسير المعتقدات والرغبات ، مثلا لو كان x عطشانا ، وأنا أعرف أنه يمكن أن يحصل على كوب من الماء من الثلاجة ، فإن هذا التوقع يعتمد على افتراض خلفية كونه عاقلا ، لكن لو كان x غير عاقل ، فلا يمكن توقع سلوكه في هذه الحالة ، وبقدر ما يبدو هذا صحيحا ، فإن المسألة لايبدو أنها تذهب بعيدا جدا ، فحدود تفسيراتها بسيطة ، وهي لا تعطينا أي رؤية حول كيفية نجاحنا في نسبة بعض التوقعات للآخرين ، وفي الواقع فإن فكرة الفاعل العقلي ليست كافية تماما كي تكون أساسا لكثير من تنبؤاتنا النفسية اليومية .
نحن نحتاج إلى شيء أكثر من الفاعل العقلي لتفسير سلوك الآخرين ، والاقتراح السردي هنا يحاول الإجابة عن هذا ، ومؤداه أنه كي نتنبئ بأفعال الآخرين ، لا يجب أن نشتغل على فكرة النموذج الوحيد للشخص ، بل نعتمد على فهمنا لكيفية أن هذا التعدد في أنماط الشخصية يُحدث رد فعل في جملة من السيناريوهات السردية المختلفة ، هذه السيناريوهات تجعلنا ننسب للأشخاص سمات مختلفة وربما متعارضة ، لكن كل منها يمثل اتجاهات ترتيبية معينـة .
وميزة الاقتراح السردي أنه يجعل لنا مرجعية في توقع أفعال الآخرين ، مرجعية للذات الإنسانية مباشرة أو غير مباشرة ، يمكن أن ننسب إليها بعض الصفات النفسية ، لكن هذه المرجعية لا تتم من خلال فكرة الفاعل العقلي النموذجي ، لكن من خلال أنماط من البشر ، بمعنى البشر الذين يمكن تصنيفهم تحت هذه الأنماط .
استخدم جولدمان دليلا من شخص انطوائي لينقد به فكرة الفاعل العقلي ، وقد أخذه من الأدب عن طفل اطوائي وذكي لديه معرفة بالمفاهيم النفسية ، لكن قدرته على توقع الحالة العقلية للآخرين فقيرة جدا .
والحكاية عن صبي انطوائي قادر على مساعدة الآخرين ، على الرغم من انطوائيته وبخاصة في أعمال المنزل ، يوما ما طلبت منه أمه – وهي تعد كعكة فواكه – أن يحضر لها أي قدر من القرنفل cloves ” هل يمكن أن تذهب وتحضر لي بعضا منها ؟ ” ذهب الصبي ، وعاد بعد مدة حاملا حقيبة من الملابس النسائية بما فيها بعض الملابس الداخلية من محل للملابس في نهاية الشارع ، هنا بوضوح ، أساء الصبي تصور كلمة cloves ، وتخيلها clothes ملابس ، ليس هناك صبي طبيعي يفترض أن أمه تسأله أن يشتري لها ملابسها الداخلية .
يفسر جولدمان القصور هنا بأنه ليس في فهم المفاهيم العقلية المتصورة نظريا ( إن الصبي فهم الطلب Wanting بشكل دقيق ) لكن يبدو أنه لا يمتلك قدرة على إدراك طبيعة الموقف ، أو أن فهمه قليل في إدراك ما يرغب فيه الناس في حالات معينة ، أو ربما ليس لديه أي فهم لذلك ، إن لديه قليلا من الفهم للسرديات ( ) ، ما يمكن أن نراه هنا أن قدرتنا على تفسير سلوك الآخرين ربما تعتمد على فهم سردي قد يمر دون ملاحظة غالبا ، أو حتى دون الإشارة إليه .
أما كيف تُنجز المحاكاة ؟ فمن خلال الاقتراح السردي ، نحن نحصل على معرفة بالمخزون الأساسي لأنماط الشخصيات وللسيناريوهات السردية من خلال الاستماع إلى القصص وحكايتها ، وهذه نتيجة مهمة في فهم الذات ، فهذه الشخصيات التي نواجهها سواء في الواقع أو في الخيال تستخدم كمرجعيات ونماذج لفهم الذات في حالتها السردية .
في السياق نفسه ومن منظور اجتماعي تناقش بربارا سوكر فكرة الذات ، فترفض فكرة الذات التي يتصورها البعض على أنها ثابتة دائمة منشئة للمعنى الذي تملكه أي أنها جوهرية ، إنها ترى الذات معضلة وفهمها ليس بسيطا ، فهى تشبه الفيل الذي أراد العميان أن يصفـوه ( ).
إنها ترى أن الواقع لايختلف كثيرا عن المتخيل ، على الأقل في المبادئ التي تحكم الاثنين ، فطريقة حكينا عن حياتنا ذات طبيعة سردية محضة ، وهي تتبع مبادئ القصدية والمباشرة والوقتية ، وهي المبادئ نفسها التي تحكم المتخيل ، ومن هذا المنظور يعد فهم الذات وهما محضا ، لأن هذا الفهم لا يؤخذ على أنه حقيقة ميتافيزيقية ، بل حقيقة اجتماعية أو أدبية ، ترى سوكر أن التكوينية Construction نظرية مهمة في فهم الذات لأنها رفضت رؤية الذات على أنها كينونة جوهرية ثابتة ، ورأتها ذاتا تزامنية تنبثق من خلال اتصال الحوادث المتفاوتة وغير المترابطة ، ومن ثم فهي تصطبغ بالمعنى ، إن مفهوم الذات الشخصية والثابتة والمدعية أسبقة للوجودي والإبستمولوجي تخييل ما بعد حداثي ، إن حساسية ما بعد الحداثة ترفض الحالة ما قبل اللغوية للذات ، وتؤكد على الطبيعة الاستطرادية للهوية الشخصية التي تولد كما يشير ريكور من خلال صناعة الحبكة emplotment حيث تصبح الأحداث شخصية من خلال الانعكاس السردي عليها ، ولصنع حبكة يجب أن تصنع ربيعا جليا من العرضي ، وتصنع كليا من المفرد ، وضروريا أو محتملا من المترابط ( ).
تحاول بربارا استكشاف عناصر حساسية ما بعد الحداثة كما تشكلت في الفكر الاجتماعي المعاصر تحت الإرشادات العامة لنظرية التكوينية الاجتماعية ، وهي تفعل ذلك من أجل فهم العالم الاجتماعي والذات التي يحتوي عليها ” إننا سنبحث عن تأثير هذه النظرية على رؤى الهوية الشخصية ، ونسعى لإثارة بعض النتائج الأكثر بروزا للتحول من الذات اليقينية إلى غير اليقينية ، ومن الذات المركزية إلى الذات الهامشية ، وأخيرا فإننا سنبحث عما يمكن أن يقدمه المنظور ما بعد الحداثي لكيفية استطاعتنا معرفة ذواتنا التكوينية والتخييلية في غياب مرجعيات مستقرة وموثوق فيها ، إننا نرى أخيرا أن السرديات يمكن أن تكون منهجا حيويا في فهم الذات . ” ( )
تعتمد بربارا على أعمال كينيث جيرجن التي طاردت الذات في العالم التفكيكي لما بعد الحداثة ، مؤكدة بمزيد من الوضوح على أن الذات منتج للترتيبات الاجتماعية التي تدعمها ، كما أكدت على أن هذه الترتيبات متعددة ومتجزئة ووقتية وبلا عمق ، وقد نقلت العقل من مكانه ليصبح شكلا من أشكال الأساطير الاجتماعية ، وحركت مفهوم الذات من الرأس ، ووضعته داخل محيط الخطاب الاجتماعي ( )
يرفض جيرجن فكرة أن هناك طبيعة بشرية تنشأ منذ البداية ، يرى أن طبيعة الأشخاص مرنة ومعتمدة على القوى الاجتماعية من أجل تكوين شخصيتها المميزة ، من نحن ؟ في ظل هذه الرؤية لسنا إلا تخليقا متعاقبا مثلما تتخلق الحوادث الاجتماعية ، ومن أجل شرح ذلك يتبنى جيرجن التكوينية الاجتماعية ، فما هي هذه التكوينية الاجتماعية ؟ وماذا يمكن أن تفعل مع مفهوم الذات ؟
إن التكوينية الاجتماعية توجه متميز نحو المعرفة ، أو هي نموذج إبستمولوجي يؤكد على أن ما هو معروف أو غير معروف ، وعلى أن الأسلوب الذي يعبر به الخطاب عنهما كلها أشياء اصطناعية ، بمعنى أن نظرية التكوينية الاجتماعية مهتمة بالعمليات النفسية الجزئية التي يكون الناس من خلالها قادرين على وصف أو شرح أو تفسير عالمهم وأنفسهم أي ذواتهم ، وفكرة الذات مثل كل الأفكار الأخرى ، عندما تُفهم من خلال نظرية التكوينية الاجتماعية ، فإنها تتحدد وتبرز بوصفها تأثيرا للسياق الاجتماعي الجزئي الذي تكون فيه .
ومن وجهة نظر البنيوية الاجتماعية لا توجد طبيعة إنسانية سابقة الوجود تشكل العالم ، ناهيك عن أي مجموعة من المعايير الموضوعية لاكتشاف هذه الطبيعة ، وفي الحقيقة ، فإن مثل هذه المعايير التفسيرية – كما يرى التكوينيون – مشتقة من تاريخ خاص وثقافة معينة قد شكلتهما وشرحتهما ، إن كل المعارف مشروطة ، وكل الذوات مؤقتة .
أكد بيرجر ولوكمان على أن الإنسانية مفهوم متغير اجتماعيا وثقافيا ، وهي – أي الإنسانية – تستطيع أن تُكيف أي عدد من الأشكال الواقعية actual والطبائع الحقيقية ،إن هذه الكينونات الذاتية جوهريا – أي الموجودات البشرية أو الذوات مثل الأفكار وأنواع السلوك – تصبح حقائقية Facticities من خلال عملية التعود habitualization والروتينية للسلوك ، وقولبتها في أنماط ، هذا الانتظام – كما يلاحظ بيرجر ولوكمان – يعد أصلا ضروريا للتأسيس ، بمعنى آخر ، يجعل السلوك المختار والاتجاهات والمعتقدات حقائق مقبولة بشكل عام : موضوعية وواقعية ، هذا يعني أننا نخلق ذواتنا ونعيد خلقها مع الوقائع realities المتغيرة على الدوام ، إن هذا إنساني بشكل عام ، إن هذا هو ما نقوم به( ) .
لقد حاول جيرجن – اعتمادا على أعمال بيرجر ولوكمان – أن يكتشف العمليات التي يفهم بها العقل العالم ، ويفهم ذاته ، ووجد أن هذا الفهم يعتمد على تكوينات اجتماعية متغيرة ، وأن فهم الذات – من ثم – يرتبط بلحظات ثقافية وتاريخية شديدة التنوع ، وهى تعتمد على مفاهيم نفسية عما يمكن أن يكون عليه الشخص .
هذه الأفكار عن الذات تدعونا إلى تأمل المصادر التكوينية الاجتماعية للافتراضات الشائعة عن الهوية ، هنا نجد الذات فكرة عامة معتمدة على الخطاب ، وليست شيئا داخليا ، إن الذات المتوحدة ، أي الذات الديكارتية ليست ذاتا subject بل موضوعا object بمعنى أن كل مسألة خارجية تصبح منقسمة هامشية منفصلة عن ذاتيتها الخاصة من خلال الوعي الفرويدي ، هنا نجد زعزعة كاملة من خلال التعدد ومن خلال النتائج المفهومية التي تجعل ما يمكن بناؤه يمكن أيضا تقويضه وإعادة بنائه بطريقة أخرى ، ولو كانت الأفكار مسألة منظور أكثر من كونها مسألة ثبات ، فإن فكرة الذوات المتعددة يمكن أن تحل محل فكرة الذات الواحدة التي يشعر بها الإنسان في أعماقه ، هذا هو مفهوم التعددية الذي انعكس في حشد من التطورات العقلية خلال الجزء الأخير من القرن العشرين ، بما فيها الحركات الهرمنيوطيقية والتفكيكية التي التفت إلهيا جيرجن ليبحث عن تفسير للفهم والخبرات الأساسية في التعامل مع الذات .
في هذا السياق لا نستطيع التغافل عن أهمية التقنيات الحديثة في الربط بين البشر ، ومن ثم حضور ذواتهم على رغم المسافات البعيدة بينهم ، إن ” الراديو ” و ” والهاتف و ” التليفزيون ” والأقمار الاصطناعية و ” والإنترنت ” أصبحت كما يؤكد جيرجن محفزات اجتماعية جعلت ذواتنا دائما رهن الاتصال online ، إن هذه التقنيات قد بدلت الذات لأنها جلبت قدرا من التنوع اللانهائي في العالم ، وجلبت أيضا أصواتا متنافرة النغمات ، كثيرة في عددها ، كل هذا جلبته إلى البيت ، وإلى وعي الناس الذي يزداد بسهولة ويسر ، وهذا أنتج ما يمكن تسميته بالذات العلائقية relational self .
إن التحول من مفهوم للذات الجوهرية إلى مفهوم للذات العلائقية هو أبرز إنجاز انتقلت به الذات من الحداثة إلى مرحلة ما بعد الحداثة ، لذلك فإنه من أجل إعادة صياغة المفاهيم الخاصة بهذه الذوات ، فإننا في حاجة إلى إعادة صياغة المفاهيم الخاصة بالعالم الاجتماعي الثقافي ، ومن ثم مفاهيم العلائقية داخله ، لأن إنجاز هذه المفاهيم هو التحدي الأساسي في صياغة مفهوم للذات ، فأفكار مثل الاستقلالية والفردية وحتى التصورات الديكارتية عن ذات مفردة مركز للمعرفة ، كلها أصبحت في خطر .
في هذا العالم العلائقي لا يوجد مركز مفرد للحصول على المعرفة ، ولا يوجد عارف ، ولا يوجد حتى جسد للمعرفة ، وهو مبدأ خطير ، لأن الذات في هذا العالم تصبح منتجا شديد التنافر للتجزيئية الأبدية الدائمة ، وكل علاقات جديدة تنتج ذواتا جديدة ، وتصبح الذوات التي تتكون وتتفكك والتي يعاد تكوينها مثل الذوات الأخر لا تشير إلى كينونة واقعية ، والتكوينية – من هذا المنظور – تصبح وسيلة نستطيع من خلالها أن نلمح شكل charcter الوجود ، على الرغم من أننا لا نستطيع القبض عليه ، ولأنه لا توجد مرجعية ( مطلقة أو نهائية ) بمعنى أنه لا توجد ذات جوهرية core self يمكن أن ننسب إليها كل الحقائق ، فإن كل الدوال اللسانية – بالمعنى السوسيري – من الممكن أن تعيد الكلام عن الذات .
في هذه الواقعية العلائقية ، فإن الفكرة القديمة عن سمة نفسية خاصة تترك للاندماج والاتحاد مع كل الآخرين ، لأنه إذا لم تعد هناك ذات واقعية actual التي هي أنا mine ، إن تكوينات الذات والأدوار التي تنجزها لا يمكن أن تُتصور على أنها متعلقة بي ( me or an “I ” ) إنها بالأحرى مخلوقات سياقية ، والأدوار المولدة لضمير ” أنا ” هي التي تشارك في العمليات الاجتماعية ، وتتفوق على الوجود الشخصي ( ).
وطبيعة هذه المشاركة تخضع للتغير كما تتغير طبيعة العلاقات نفسها ، وفي هذا فإن الذات التي لا تملك أي هوية منجزة ولانهائية لا تقاوم طوال الوقت ، ولا تحمل أي روابط مفهومية ولا خبراتية مع الفكرة التي تقول إن معنى هوية الأنا ego يعطي شرعية وثقة للواحدية الداخلية والاستمرارية التي تُحمل على الفرد من الماضي وتستمر معه ، وفي عالم ما بعد الحداثة فإن الطارئ يحل محل الدائم ، والسياق يلغي الموثوق فيه ، وجوهر الذات لا يرتبط بأي مرجعية ثابتة ، ولا تنتظر بفارغ صبر أن يكشف عنها أحد ، إن ذات ما بعد الحداثة دور في حالة تنقيح أبدي ، والسهولة التي ينتقل بها الفرد من دور إلى دور ومن شخصية إلى شخصية تصف شيئا في طبيعة الذات بوصفها تمثيل شخصيات impersonator ، لأنه لتمثيل هذه الأدوار هناك تأكيد على أنه لا يوجد دور دائم ومحدد تحديدا أساسيا ، إنها جميعا متساوية وقابلة للتغيير .
وإذا كانت كل أشكال الوجود الإنساني ممكنة ، فإنه لا يوجد شكل منها يمكن أن يدعي أنه الأحق من غيرها ، والذات في هذا المنظور لا يعوقها أن تكون أي شخص يمكن أن تتماهى معه ، ومن ثم فإن تمثيل الشخصيات يحل محل الثبات كمصدر للهوية ، وحين تصبح الذات الواحدة ذواتا ، وحين تتشبع بأصوات الآخرين ، فإننا يمكن القول عنها إنها مغمورة بالآخرين ، وحينئذ يمكن أن تُلغى فكرة الآخر مطلقا .
من الممكن أن نتبين هنا النتيجة التي تترتب على إلغاء فكرة الآخر في فكر جيرجن ، بمعنى أن القريب والمجهول والشكل الغائب والآخر تصبح هي الأرض الحصرية للجوهر الأبدي .
إن الهوية التي تُتصور على أنها واحدية باطنية عبر الزمن تعوق مفهوما يمكن أن ينسب إلى شخص ما سمات تقول إنها ذاته المتميزة ، ما لا يمكن وضعه تحت هذه المظلة من السمات هو ببساطة أنا ” me ” ، إنه الآخر ، ما يحتوي عليه الشخص بالضرورة ليس هو ، وهناك حدود شخصية لا يمكن تجاوزها ، إنني لا أستطيع أن أكون أنت بمعنى أن أكون الآخر ، وأنا أستطيع أن ألاحق الآخر ، وأن أرغب في الآخر ، وحتى أتمنى أن أمتلك الآخر ، لكن لا أستطيع أن أكون الآخر ، إنني أظل ذاتي ، وفي الحقيق كوني ذاتا لا يعتمد على قدرتي على انتهاك حدود الأخروية ، فإدراك الوجود يحتاج إلى أن نكون جزءا من الجشتالت حيث لا وجود ، ولإدراك الذات نحتاج أن نكون لاذات مختلفة diffretiated nonself ، ولأن واقعية ما بعد الحداثة تؤكد على أنه لم تعد هناك صور متماثلة وقابلة للتماثل للوجود الذي يقف في مواجهة مع اللاوجود nonbeing ، فإن الأشخاص يوجدون في حالة بناء وإعادة بناء مستمرة ، وهذا في الحقيقة يمزق المصفوفة النفسية التي تحدد الفردية ، إن وجهة نظر ما بعد الحداثة أن كل المفاهيم يمكن أن تُفكَك أو تُفكِك مفهوم المتصورلهذه الوجهة من النظر ، إن المؤلف قد تم محوه من النص ، وفي عالم ما بعد الحداثة من الممكن أن تلعب كل الأدوار ، وأن تشعر بكل العواطف ، وفي الوقت الذي تفهم فيه هذه الأدوار والعواطف ، فإنك تعرف أنها في خطر دائم أن تمحى من الوجود ، إن كل الأشياء يمكن أن تحضر أو أن تتغير في منظورها ، وبهذه الطريقة فإنه يمكن أن يتطابق كل الآخرين مع الذات ، فإن الذات نفسها لم تعد قابلة للتمييز ، لأنها حين أصبحت كل الآخرين ، فإنها لم تعد ببساطة ذاتا محددة ، وإذا كانت الأشياء التي يحسها المرء أو يفكر فيها يمكن إعادة تحديدها على أنها الآخر ، فإن امتلاك ذات يصبح أيضا آخرا وحاو للأخروية ، وتصبح الذات في هذا الصدد نوعا من الشمولية يمكن أن تحضر فيها كل الأشياء ، وأخيرا ، فإن كانت كل الأشياء حاضرة ، فإن فكرة الغياب تستبعد ( الذات المفردة لم تعد متصورة ) إن المفارقة التي تقدمها ما بعد الحداثة أن الذات الحاضرة حضورا كليا ذات غائبة ، ومن ثم يمكن أن نقول مع جيرجن إن الذات لأنها قد تشبعت تماما ، فقد أصبحت لا ذات على الإطلاق . ( )
هناك عدميةNihilism ظاهرة في الفكر التكويني ، عدمية ترى أنه لا شيء وراء الوجود ، وأنه لا يوجد ما يسمى بالمحرك الأول الذي تنسب إليه الأشياء ، إذن لاشيء له موثوقية إلا الكلمة ، لأنها مع الكلمات الأخرى التي نتكلم بها يتشكل العالم ، وإذا كانت دوال المعنى قد انفصلت للأبد عن مدلولاتها ، فكيف – في عالم ما بعد الحداثة – نميز المعنى ؟ وما نوع المستقبل النفسي الذي تراه اللاتحديدية الراديكالية والتفكيكية المفهومية للجوهرية ؟ وللإجابة عن ذلك ، فإننا سنستخدم منهجا ذا فاعلية من المنظور التكويني ، إنه منهج السرديات .
إن المنظور التكويني يؤكد على الطبيعة اللاتحديدية للذات الإنسانية ، فهي لا تُدرك إلا من خلال شبكة من التكوينات الاجتماعية ، ولأن الذات لها طبيعة اجتماعية ، فإنها ليست إنجازا ماديا ، بل إنجاز اتصالي ، ليست وجودا واقعيا ، بل وجود متلفظ ، ذات منشأة لغويا خاضعة لمئات القضايا والمراجعات .
ومنهج الفهم للخبرات التي تمر بها الذات منهج رمزي في وظيفته وطبيعته ، وهو قائم على عملية ربط لغوي للحوادث التي يمر بها الشخص ، إننا نتكلم عن ذواتنا ، ونخبر عما تكون عليه هذه الذوات ، ولماذا تفعل ما تفعله ؟ ومن خلال بناء شكل متماسك وذي مغزى بتوظيف الأدوات الاجتماعية المتميزة في العلامة والرمز ، واللغة في ذلك تعد وسيلة مهمة لتوظيف هذا الشكل Fashion ، وهكذا فإن السردي يشكل fashions الذات ، والذات تشكل السردي ، ومن أجل أن تكون السرديات ذا فاعلية في تكوين الذات ، فإن على السارد أن يموضع ذاتيته subjectivity ، وإذن لا توجد ذات خاصة واقعية ، لأن السرد بوصفه نظام من الرموز اللغوية عام بالضرورة ، وبالتالي فإن الذات المتضمنة في السرد – كما يتضمن ضمير أنا في الحكي – مثل السرد نفسه وسيلة اجتماعية .
يميز جيرجن ( ) بين ثلاثة مخططات سردية أساسية ، كل منها يتميز من خلال قدرته على تقديم اهتمامات المجتمع ، هذه المخططات هي : السردي الثابت stability narrative ، والسردي المتقدم progressive narrative ، والسردي الانكفائي regressuve narrative ، كلها يعرض تقييما للحوادث حين تتجه وجهة معينة ، هذا يعني أن كل شكل سردي يتلاءم مع توجه محدد في الزمن ، أمامي أو خلفي ، فيما يتعلق بالحوادث ، ويقدم تقييما للخير والشر العام في هذه الحوادث .
أما السردي الثابت فهو مخطط يربط الحوادث والصور والمفاهيم بأسلوب لا يتغير فيه الفرد أبدا فيما يتعلق بموقفه التقييمي ( )إن الذات الساردة لا تكون أفضل أو أسوأ في أثناء القصة ، إنها تبقى كما هي ، هذا لا يعني أنه لاتوجد توقعات فيما يخص حوادث المستقبل ، ففي الواقع توجد هذه التوقعات ، اما الذي لا يتغير فهو تقييم السارد للظروف ، وكما لاحظ جيرجن فإن عبارت مثل ” مازلت …. ” و ” إنني مستمر أن أكون ….. ” فيها نوع من الثبات الذي يميز هذا المخطط ، أما إذا استخدمنا عبارات تدل على زيادة أو نقصان ، فإننا نكون إزاء المخططين الآخرين : السرد التقدمي أو السرد الانكفائي ، في المخطط الأول يميز الفرد الحوادث من خلال عبارات تحمل معنى الترحيب والرغبة ، أما في المخطط الثاني ، فيتم التعبير عن الحوادث من خلال عبارات تحمل معنى الانحدار أو الفشل ، ومن ثم فإن عبارات مثل ” إنني تعلمت أن أتغلب على …. ” توضح ما تعنيه كلمة تقدمي ، بينما عبارت مثل ” لا أستطيع أن أتحكم في …. ” تعد رمزا للسرد الانكفائي ( )
من الزاوية نفسها يعالج لويس بوتيلا مفهوم الذات( ) ، فيتحدث عن علم النفس التكويني وعلم النفس السردي ، ويرى أنهما يتفقان في رؤية العالم رؤية سياقية ، كما أنهما يتصوران المعرفة بوصفها عملية تكوين وإعادة تكوين للمعاني الشخصية والاجتماعية ، ثم إنهما يريان العلاقة بين البشر على أنها علاقة جدلية ، والفرق بينهما أن التكوينية تتبنى معالجة لهوية الذات مؤسسة على استعارة الذات على أنها نظرية شخصية ، وفي المقابل فإن علم النفس السردي يفضل استعارة الذات على أنها سردية شخصية .
وطبقا لمعالجة هيوبرت هيرمان السردية لهوية الذات ، فإن الكتلة الأساسية لسرديات الذات هي التقييم ، ووفق مصطلحات هيرمان ، فإن التقييم هو أي وحدة للمعنى لها قيمة إيجابية أو سلبية أو محايدة في عين الشخص ، مثل هذه الوحدات المعنوية يتم تنظيمها وقتيا ، ويتم صناعة الحبكة لها في شكل سرد ذاتي ، على سبيل المثال يمكن أن يكون تقييم جون لنفسه في الماضي ” لقد كنت عاملا شديد التحمل ” ويكون تقييمه لذاته في الحاضر ” الآن ، وقد تقاعدت ، لم أعد الشخص الذي كان ” بينما يمكن أن يكون تقييمه لذاته في المستقبل هو ” آمل أن أجد عملا مؤقتا كمتطوع اجتماعي حتى أكون مفيدا مرة أخرى ” ، وإذا وضعت التقييمات الثلاثة معا ، فإنها تحدد سردية ذاتية تتحرك وفق موقف جون .
إن نظريات الذات وسرديات الذات كلاهما مهم للفرد ، فهما معا يضعان فكرة أن الكائنات الإنسانية تحقق أفضل فهم لها عبر البعد الزمني ، وأن هويتنا الحاضرة هي أفضل أسلوب لربط ماضينا بمستقبلنا المتوقع ، هذا الشعور بالاستمرارية الشخصية يمكن أن يُفقد في حالة البارانويا على سبيل المثال ، ففي هذه الحالة يحدث في سرديات الذات تغير عنيف لا تستطيع معه أن تشكل المستقبل ، ولا أن تسترجع القيم الاجتماعية الماضية .
هناك أيضا من حاول رؤية الذات بوصفها مركزا للثقل السردي انطلاقا من مشابهة وجدها بين مفهومي مركز الثقل والذات ، وانطلاقا كذلك من إمكانية للحديث عن مركز الثقل وقياس الذات عليه( ) ، إن مركز الثقل مفهوم نيوتيني فيزيقي ، لكنه لا ينتمي إلى عالم الفيزياء ، فهو ليس ذرة أو جزيئا ، أو أي مفردة فيزيائية في هذا العالم ، فليس له كتلة ولا لون ، ولا سمات فيزيائية على الإطلاق ، إنه مثال جيد لما يسمى بالمجرد ، فهو موضوع مجرد تماما ، إنه تخييل نظري لأنه ليس شيئا حقيقيا في الكون ، وهو تخييل له تأثير قوي ، ويلعب دورا مهما في حقل الفيزياء ، إن مركز الثقل هو الذي يحفظ توازن الأشياء ، ويمنعها من السقوط ، لكن يمكن التلاعب به وزحزحته من مكانه إلى مكان آخر ، على الرغم من كونه موضوعا مجردا ، لكنه موضوع مجرد عجيب .
إن الذات أيضا موضوع مجرد ، تخييل نظري ، لكنها هنا لا تتعلق بالفيزياء كما نعرفها ، بل بما يمكن أن نسميه فيزياء البشر ، هذا ما يعرف بالظاهراتية phenomenology أو التأويلية hermeneutics أو علوم الروح soul-science ، وإذا كان الفيزيائي لديه تفسير للكرسي وسلوكه حين يتحرك من مكانه مزحزحا معه مركز الثقل ، فإن التأويلي أو الظاهراتي أو الأنثروبولوجي يرى أشياء أكثر تعقيدا تتحرك في هذا العالم ( الكائنات البشرية والحيوانات ) وهو مُواجَه بالمشكلة نفسها في محاولة التفسير ، ويتطلب الأمر ذهنا حادا لتنظيم تفسيرات ما حول المجرد المركزي لهذه الكائنات ، فكل شخص له ذات ( مقارنة بمركز الثقل ) ، والمشكلة النظرية في تفسير الذات شديدة الصعوبة ومهمة مثل مشكلة أي تفسير آخر .
لكن كيف تختلف الذات عن مركز الثقل ؟ إنها مفهوم أكثر تعقيدا ربما يتضح من خلال مشابهة مع نوع آخر من الموضوعات المتخيلة : الشخصية المتخيلة في الأدب ، ولتكن مثلا رواية موبي ديك ، في الصفحة الأولى تجد هذه العبارة ” سمني إسماعيل …. ” من تسمي إسماعيل ؟ هل تسمي ملفيل إسماعيل ؟ بالطبع لا ، إنها تسمي إسماعيل إسماعيل ، لقد أبدع ملفيل شخصية متخيلة سماها إسماعيل ، وفي أثناء قراءتك للرواية تعرف عن إسماعيل وعن حياته ومعتقداته ورغباته وأفعاله وكل شيء ، إنك تعرف الكثير عن إسماعيل ، لكنك تعرف القليل عن ملفيل الذي ربما تستنتجه من خلال السطور ، أو من خلال الاستقراء ، لكن خلف حدود هذه العوالم المتخيلة الاستقرائية يوجد لاتحديد ، تأمل مثلا هذا السؤال : هل يملك شارلوك هولمز ثلاث فتحات في أنفه ، إن الإجابة بالطبع : لا ، ليس لأن المؤلف نفى ذلك ، ولكن لأننا نقوم بعملية استقراء ، وفي غياب أي دليل ، فإننا نفترض أن أنف شارلوك هولمز عادية ، هناك سؤال آخر : هل يحمل شارلوك هولمز شامة على كتفه اليسرى ؟ إن الإجابة هنا ليست نعم أو لا ، فلا شيء حول النص أو حول مبدأ الاستقراء من النص يقدم إجابة عن هذا السؤال ، لأنه ليس مهما ، فشارلوك هولمز شخصية متخيلة قد أبدعها النص والثقافة التي يعيش فيها هذا النص .
إن اللاتحديد سمة أساسية للأشياء المتخيلة التي تتميز عن أي شيء آخر في عالم الفيزياء ، ربما يقول المنطقيون إن مبدأ التكافؤ لا يكون مفيدا في حالة الأشياء المتخيلة ، هذا يعني أنه في حالة أي رجل سواء أكان حيا أو ميتا ، فإن السؤال عن وجود شامة على كتفه اليسرى سؤال يمكن الإجابة عنه ، أما في حالة الشخصية المتخيلة ، فإن السؤال يمكن ألا تكون له إجابة على الإطلاق ، ومركز الثقل له نفس السمات تقريبا بوصفه شيئا متخيلا .
والآن كيف يمكن إثبات أن الذات الحقيقية تشبه الذات المتخيلة ؟ هل تعتمد الذوات المتخيلة في إبداعها على وجود ذوات حقيقية ، هناك من يجيب بنعم ، لكني أعتقد أن ذلك مجرد وهم ، ولنتأمل حالة إسماعيل في رواية موبي ديك ، إنه شخصية متخيلة ، على الرغم من أننا نعرف عنه كل شيء ربما أكثر من معرفتنا لأصدقائنا ، لكننا نعرف أن إسماعيل شخصية قد أبدعها ملفيل ، وملفيل شخصية حقيقية ، ذات حقيقية ، ألا يعني هذا أن الذات الحقيقية قد أبدعت ذاتا متخيلة ؟ أنا لا أعتقد ذلك ، لو أردت أن تقتنع ، فسآخذك في تدريب خيالي .
تخيل مثلا أن هناك حاسوبا قد اخترعته وزودته بكل البيانات حتى يصلح لأن يكتب رواية ، أخرج لك رواية فعلا ، وخلق فيها شخصية متخيلة ، في هذه الحالة نقول إن هناك ذاتا مخلوقة ، لكن لا توجد ذات خالقة على الإطلاق ، إن هذا الحاسوب لا يشعر ولا يفكر ولا يعرف حتى أنه قد خلق ذاتا متخيلة ( شيء شبيه بهذا يحدث في المخ ، إن المخ لا يعرف أبدا ما يفعله ) ومع ذلك فإن أنماط السلوك التي يتحكم فيها الحاسوب لا يمكن تفسيرها .
إنني آمل أن نأخذ هذا القياس جديا ، ونسأل سؤالا في هذا السياق : أين توجد الذات ؟ إن من الخطأ أن نبحث عن الذات في المخ ، فنحن حين نرى ثلاثة أشخاص جالسين في حديقة ، نقول إن هناك ثلاثة ذوات موجودة ، دون أن نحدد بدقة أين توجد الذات في كل واحد منهما ، إنها مفهوم تجريدي ، لكن هناك فرقا كبيرا بالطبع بين الشخصيات المتخيلة وذواتنا ، واحد من هذه الفروق أن الشخصية المتخيلة نواجهها كأمر واقع ، فبعد أن تُكتب الرواية وتنشر وتُقرأ ، عند هذه النقطة لا يستطيع الروائي أن يغير شيئا من هذه الشخصية ، أو أن يجيب عن أسئلة كثيرة يمكن أن يطرحها الفضول ، فنحن لا نستطيع مثلا أن نعرف فيما كان يفكر راسيكولينكوف حين كان في قسم البوليس ، لأن ديستويوفسكي صاحب الرواية قد مات ، وأي أسئلة يمكن أن تطرح على الشخصية لا يمكن الإجابة عنها إلا من خلال أجزاء ثانية من الرواية يتفاعل فيها المؤلف مع الجمهور ، وهذا لا يحدث إلا في الروايات الشعبية .
لكن ذواتنا على العكس من ذلك ، إنها تتحدد أكثر من خلال استجابتها واصطدامها بالعالم من حولها ، واسترجاعها لماضيها وتفكيرها في المستقبل وذاكرتها ، لكن هذا التحديد ليس تحديدا مكانيا ، فالواقع أن سؤال ” أين توجد الذات ؟ ” لايمكن الإجابة عنه ، ومثله السؤال عن طبيعة الذات ، ويصل جازانيجا بعد بحث طويل عن المرضى الذين يعانون من مشكلة في الاتصال بين جانبي المخ إلى خلاصة مؤداها أننا جميعا روائيون ، وأننا نجد أنفسنا جميعا مشاركين في أنواع من السلوك يبدو مترابطا أحيانا وغير مترابط في أحيان أخرى ، لكننا نحاول قدر الإمكان ان نجعله مترابطا ومتجانسا ، وأننا نفعل ذلك من خلال السرد ، هذا السرد في حقيقته هو سيرتنا الذاتية .
إن الشخصية المتخيلة الرئيسية في قلب هذا السرد ذات واحدة ، لكنك إذا حاولت أن تعرف ماهية هذه الذات ، فإنك تقع في خطأ تصنيفي ، ففي الواقع هناك أكثر من ذات داخل كل فرد ، وهذا يظهر في كل مرة تعرض فيها لهذه الذات ، هذا أمر ليس فيه أي إعجاز ،فالذات تنتج نفسها في كل موقف سردي ، وإذا أردت أن تعرف الذات فلن تعرفها إلا من خلال الإدراك ، بل إنه لا يوجد في الحقيقة إلا الإدراك ، ولو رأى شخص أن لديه أفكارا مختلفة عن ذاته ، فيمكن أن نتفق معه في ذلك ، كل ما يمكن قوله أنه محق في أفكاره مثلما نحن محقون ، فربما يكون قد أدرك ذاته على أنها شيء بسيط ومتصل ، وهو ما لا نراه نحن في ذواتنا ، إنه الإدراك ولا شيء وراءه .
الخلاصة
ما يمكن إيجازه هنا عن مفهوم الذات في الفكر الغربي الحديث والمعاصر أن الذات مفهوم مراوغ لا يمكن الإمساك به ، وهو يشبه في هذا مفهوم مركز الثقل الذي له تأثير كبير على فيزياء العالم المادي ، لكنه ليس من جنس هذا العالم ، لأنه مفهوم مجرد ، لكن هناك عناصر تأثير شديدة الأهمية على هذه الذات المراوغة منها ما قاله هيجل في رغبة الذات في الاعتراف بها داخل هذه العالم ، ومنها ما كشفه لاكان عن رغبة الذات في الكمال الذي بدأ معها في مرحلة المرآة كما حللها ، وما تفرع عن تحليله من مفاهيم أشد أهمية عن علاقة الذات بالآخر ، بل عن مفهوم الآخر نفسه ، وجدنا كذلك أن بعض الاتجاهات في علم النفس السردي يرى الذات منتجا لغويا يتخلق من خلال الكلمات والضمائر كما يقول بذلك جيرجن ، ومن ثم لا يوجد ما يسمى بالذات الجوهرية ، بل الذات التي تنتج نفسها في كل موقـف سردي .

الذات في رواية القارورة
ما تأثير ذلك على فهم الروايات التي تروى بالضمير الشخصي ؟ كيف يمكن التعامل مع الذات المتخيلة في الرواية؟ بعض الاتجاهات لا ترى فرقا كبيرا بين الذات الحقيقية والذات المتخيلة على الأقل في الأسلوب الذي تعرض به كل منهما نفسها للآخرين ، لكن هناك من يرى فارقا أساسيا بينهما ، فالذات المتخيلة تراها كاملة في حدود صفحات الرواية التي تقرؤها ، أما الذات الحقيقية فلا تراها إلا متجزئة ، ثم إن الذات المتخيلة لا تعرف عنها إلا ما تقوله هي عن نفسها ، وأما استكشاف ردود أفعال الآخرين تجاهها فعملية استقراء شديدة التعقيد من داخل النص ، أما الذات الحقيقية فيمكن ببساطة معرفة ما تقوله هي عن نفسها مقارنة بما يقوله الآخرون عنها ، بمعنى أن سردية الذات الحقيقية سردية حية ، بينما سردية الذات المتخيلة سردية جامدة ، من ناحية أخرى فإن لغة الذات المتخيلة أشد تنظيما وولوجا لمناطق في الأعماق قد لا تصل إليها لغة الذات الحقيقية بيسر .
كيف يمكن الإفادة من هذه المفاهيم في التعرف على الذات الروائية في رواية ” القارورة ” ليوسف المحيميد ( ) ، وهي رواية فيها إشكالية أساسية ، لأن السارد في الرواية امرأة، بينما مؤلف الرواية رجل( ) ، أي أننا هنا أمام ذات حقيقية ” ذكر ” أنتجت ذاتا متخيلة ” أنثى ” فكيف يمكن تفسير هذا الأمر ؟ وماذا يعني الحديث باسم المرأة في السياق الاجتماعي والروائي والنفسي ؟( )هذان سؤالان تجاوزهما معظم من كتبوا عن الرواية .
لا تسيطر الساردة على كل فصول الرواية ( 41 فصلا ) ، فلها منها خمسة وعشرون فصلا ، والباقي مروي بضمير الغائب ، كتب المؤلف الرواية ما بين نوفمبر 2002 ومارس 2003 ، لكنه اختار لها زمنا ما بين 13 يوليو 1990 ومارس أو إبريل 1991 وقت أن غزا صدام حسين الكويت واستولى عليها ، يبدو الغزو حاضرا بقوة في ثنايا السرد ، لكنه ليس ” التيمة ” الأساسية فيه ، لكن إذا كان ما بين يوليو 1990 وإبريل 1991 هو زمن الحدث ، فإنه ليس زمن السرد ، لقد اختارت الساردة ” منيرة ” أن تحكي قصتها بعد زمن ليس محددا ، تسترجع فيه الأحداث وتعيد تقييمها ، كما اختارت الرياض لتكون مكان الأحداث .
بدأ المؤلف روايته بنص مواز ظهر في عبارتين جاءتا في صفحتين متتاليتين ، الأولى ” إن أي شبه بين أشخاص وأحداث هذه الرواية وبين أشخاص حقيقيين وأحداث حقيقية هو مجرد مصادفة ” والثانية اقتباس من نيتشه ” الحب وسيلته الحرب وخلفيته العميقة الحقد القاتل الذي يكنه كل جنس للآخر ” في العبارة الأولى يلعب المؤلف لعبة الواقعي / التخييلي من خلال مستويين من الخطاب : مستوى معلن يؤكد على التخييلي وينفي الواقعي ، ومستوى مضمر يؤكد على العكس ، يطلب المؤلف من القارئ – الذي لا يحتاج إلى ذلك – أن يقرأ الرواية قراءة تخييلية ولا يعقد مقارنات بين شخوصها وشخوص حقيقية يمكن أن يراها في الواقع ، وهي جملة لا تُكتب إلا إذا كان شخوص الرواية أسماء كبيرة في مجتمع الرواية ، وحوادثها ذات تأثير كبير على قطاع واسع من الناس ، فإذا عرفت أن شخوص الرواية ليسوا كذلك ، بل هم مجموعة من البشر العاديين الذين لا تكاد تميزهم إذا ما رأيتهم في الطرقات ، وحوادثها ذات تأثير محدود جدا على عدد قليل في مجتمع الرواية ، فكأن المؤلف هنا يطلب في خطابه المضمر أن ينظر القارئ حوله ليعقد مقارنات كثيرة بين شخوص الرواية وأي شخوص يمكن أن يراها من حوله ، يتقدم المؤلف في العبارة الثانية خطوة إضافية نحو ” التيمة الأساسية ” في الرواية فيلخصها تلخيصا مدهشا ، بل يمكن القول إن الرواية بأكملها ترجمة درامية لعبارة نيتشه .
أما ” التيمة ” الأساسية في الرواية فهي عن منيرة الساهي الإخصائية التي تكتب زاوية أسبوعية في صحيفة يومية ، وقعت في شراك جندي مراسل اسمه حسن العاصي يعمل عند أخيها الضابط ، فقد أراد أن ينتقم من أخيها بعد أن لكزه – هذا الأخير – في صدره بسبب سؤاله عن مدى قرابته للكاتبة منيرة الساهي ، انتهز فرصة سفر أخيها في بعثة ، فتودد إليها بعد أن أوهمها أنه رائد في الجيش واسمه ” على الدحال ” ، أغرقها بمديحه لكتاباتها ، وإعجابه بأفكارها ، وانتهى بهما المطاف إلى عقد القران ، ثم تحديد ميعاد الزواج ، وفي ليلة الزواج اكتشف أحد أقربائها أمره ، فانفض الحفل دون دخول ، ثم تحول الأمر بينهما إلى المحكمة التي قررت بعد مداولات كثيرة أن تفض عقد النكاح بينهما لتسترد منيرة الساهي حريتها .
السؤال المهم هنا : لماذا لم يتحدث يوسف المحيميد عن منيرة ؟ لماذا جعلها في كثير من أجزاء الرواية تتحدث عن نفسها ؟ للإجابة عن ذلك لا بد أن توضع الرواية في سياقها المحلي برغم أن الرواية منشورة في بيروت ، وهي لذلك متاحة لكثير من قراء العربية ، لكن توجه الرواية الأساسي نحو سياقها المحلي الذي هو المجتمع السعودي المحافظ ، هذا المجتمع له مشكلة ما مع المرأة ، وهو لذلك لا يقبل أن تكتب امرأة عن ذاتها إلا في نطاقات ضيقة جدا ، ثم إنه على استعداد أن يماهي بين الذات المكتوبة والذات الحقيقية حتى داخل الأعمال التخييلية ، وهو اتجاه موجود حتى في المجتمعات الغربية ، وتلجأ بعض الكاتبات – من ثم – إلى استخدام حيل روائية شديدة التعقيد والالتواء كي تتجاوز مشكلة التماهي مثلما تفعل رجاء عالم في كثير من كتاباتها ، لكن يوسف المحيميد يريد أن يكتب عن المرأة ، أن يكتب عنها بلا التواء ولا لجوء إلى حيل ، أن يكشف عن المخبوء فيها ، ويعرض هذا المخبوء دون مواربات ، وفي لغة صادمة في كثير من المواضع ، لا يوفر له ضمير الغائب هذه الإمكانية برغم غناه وقدراته اللامحدودة على الولوج إلى كل المناطق والمستويات ، ضمير المتكلم هو الذي يحقق له هذه الإمكانية ، لكن المشكلة أن المؤلف رجل والسارد بضمير المتكلم امرأة ، أي أن الذات الحقيقية ذكر ، والذات التخييلية أنثى، هنا فكرة لا بد من تجاوزها عن العلاقة بين الذات الحقيقية الذكر والذات التخييلية الأنثى ، لأن أصحاب فكرة التماهي لهم كلام كثير غير مقنع في ذلك( ) . كيف استطاع يوسف المحيميد – إن كان قد استطاع( ) – أن يبني صورة لأنثى من المجتمع السعودي ؟ تساعدنا نظرية المحاكاة الموجودة في الجزء النظري على الإجابة عن هذا السؤال ، فكيف أنجز يوسف المحيميد المحاكاة ؟
وفق الاقتراح السردي في نظرية المحاكاة ، هناك مخزون أساسي لأنماط الشخصيات النسائية عند المؤلف ، وهناك سيناريوهات سردية كثيرة ترسبت في ذهنه من خلال الاستماع إلى القصص وإلى المواقف السردية المختلفة التي تتعرض له المرأة في مجتمعه ، استخدم المؤلف هنا ما يمكن تسميته بـ ” قاعدة لو ” : لو وجدت امرأة في مجتمع محافظ مثل المجتمع السعودي ، وأرادت أن تكتب عن نفسها دون قيود ، فماذا يمكن أن تقول ؟ ولقد كان مخزون المؤلف من الأنماط النسائية هو مرجعيته التي حاول من خلالها أن يفهم ذات منيرة الساهي في حالتها السردية ، إذن حين يكتب المؤلف على لسان البطلة ، فهو يمتح من أنماط نسائية رآها أو استمع إليها أو سمع عنها أو قرأ ، ومن جماع كل ذلك خرجت منيرة الساهي ذاتا روائية مكتملة الملامح ، أو هكذا يرجو المؤلف .
من يمكن أن يعيد تشكيل الذات المتخيلة ” منيرة الساهي ” ؟ هل هي منيرة نفسها ؟ والرواية بأكملها تقرير تقدمه منيرة عن نفسها ، وهو تقرير محل شك كبير ، أو يجب أن يكون كذلك ، لأن ما تراه منيرة عن ذاتها لا يراه بالضرورة الآخرون سواء أكانوا شخوصا روائية مثلها ، أو قراء من خارج العالم المتخيل لهم طريقتهم الخاصة في الحكم على الآخرين ، تحاول منيرة من خلال تقريرها ” روايتها “أن تكسب تعاطفا من الآخرين معها في محنتها – هذا جزء من مقاصد الرواية العليا ، بعض السرديين يقولون إن السرد لا يتم دون مقابل ، ربما يكون التعاطف هنا هو المقابل للسرد ، لكن التعاطف لا يُكتسب بالنوايا ، فاللغة التي تكتب بها منيرة قد تُنتج آثارا مدمرة لنواياها لا تستطيع معها أن ترممها وبخاصة أنها ذات متخيلة محصورة بين كلمة سردية أولى وكلمة أخيرة ، ثم إن القارئ لا يعرف عنها إلا ما تريد هي أن تقوله عن ذاتها ، إنها ليست ذاتا مفتوحة يمكن ملاحظتها دون وسيط من لغة أو غيرها ، وقد يكون التأويل ممكنا ، لكنه هنا عملية محفوفة بكثير من المزالق ، لأن المعارف القبلية تتدخل أحيانا لتوحي بنوع خاص من التأويل قد لا يكون صحيحا تماما .
ولأن الذات المتخيلة لا تظهر إلا من خلال ما يريد السارد أن يقوله عنها ، فهي إذن – كما يقول جيرجن وغيره – منتج لغوي ، هذا الفهم للذات يصدق – في عرفهم – أيضا على الذات الحقيقية ، وهو أكثر صدقا على الذات المتخيلة ، وكون الذات منتجا لغويا لا يعني أنها ستتحول إلى مجرد ضمير واسم وفاعل كما يقول بذلك رولاند بارت( ) لأن هناك من لا يرى للذات أية أهمية سردية في مواجهة من يعطي للذات أهمية كبيرة ، لأنه لا يوجد سرد في العالم دون شخصيات .( )
لا يوجد – إذن – طريق آمن للوصول إلى صورة متماسكة للذات ، بل إن هناك شكا كبيرا في وجود هذه الصورة المتماسكة للذات ، هذا الوضوح الديكارتي الذي ظل صامدا ردحا من الزمن ، ثم ما لبث أن تهاوى تحت تأثير تساؤلات لفلاسفة مثل هيجل ولوك ، وعلماء نفس مثل فرويد ولاكان ، وسرديين مثل بروب وباختين وكثيرين غيرهما .
ماذا عن منيرة الساهي في ” القارورة ” ؟ إذا أردنا أن نطبق مفاهيم الذات كما وردت في الجزء النظري على ذات منيرة ، فإن هناك أفكارا مفيدة يمكن استخدامها هنا : فكرة هيجل عن ” الرغبة في اعتراف الآخرين بنا ” وما يتفرع عنها ، وفكرة لاكان عن حالة النقص التي يشعر بها الشخص ، والتي تتبلور منذ مرحلة المرآة في سنه المبكرة وسعيه إلى الكمال بقية حياته لتعويض هذا النقص ، وفكرته كذلك عن الآخر وعلاقة الذات به ، وفكرة جيرجن عن أن الذات تتشكل من خلال الممارسات الاجتماعية ، ومن ثم يبدو للمؤسسات التي يبنيها المجتمع تأثير واضح على الذات ، وهناك أخيرا فكرة الذات بوصفها مركزا للثقل السردي ، ومن أجل تحقيق ذلك ، هناك في الرواية ثلاث دوائر مهمة تواجه منيرة الساهي ، وهي دوائر متداخلة ومتشابكة بحيث لا يستطيع القارئ أن يقرر أي منها أكثر تأثيرا من الآخر ، هذه الدوائر هي :
1 – المدينة ومؤسساتها الاجتماعية .
2 – الأسرة .
3 – الآخر / الرجل أو على الدحال .
ليست هذه الدوائر كل شيء في الرواية ، هناك أيضا دائرة أخرى مهمة هي منيرة نفسها : كيف تواجه منيرة نفسها ، وهناك أيضا القارئ الذي يمارس دورا ما في تكوين ذات منيرة ، لكن هاتين الدائرتين منبثتان في خلال الدوائر الثلاث الأخرى ، وسيأتي الحديث عنهما في أثناء التحليل .

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *