القارورة … مدفن المجتمع الساهي

مايو 29, 2012 | القارورة | 0 تعليقات

محمد العباس
القارورة، حكاية مسرودة بواقعية إجتماعية، يتناسب قالبها الروائي مع الوسط الإجتماعي، المعبر عنه بمرويات صغيرة أشبه بلعبة الحقائق المزيفة، فهي سيرة القهر الذكوري، بما هو طبع ذوات تواطأت على إذلال المرأة قمعاً وخداعاً وتهميشاً، وكما تحشّد في السرد عبر أصوات لا تقبل ” التأويل ” إذا ما تم إختبارها داخل تعريف أدبي للعملية النصية، والعودة بالشخصيات إلى مواضعاتها الإجتماعية،

أو تقشير مسمياتها المموهة، فيكفي تجسير الهوة بين دال الأسماء ومدلولاتها، كأن تضاف نقطة لإسم علي الدحّال مثلا، لتنكشف نوايا ” حسن العاصي ” الموضوعية، وأردّية يوسف المحيميد اللفظية.
هذا ما أراده المحيميد للعنكبوت المتسكع في أوهن البيوت، والشماغ المقدود، وحتى القارورة كمدفن لحكايات مجتمع استمرأ الغفلة، أي أن تنغرس كمكونات دلالية في عمق البنية السردية لتمويج مستوياته، فسوسيولوجيا الرواية تحتمل امتزاج الواقع عندما ينحط مع الأساطير، وتفترض أن حقائق الأشياء أكثر تعقيدا مما تبدو عليه، فاللحظة الحاضرة بقدر ما تبدو ملموسة وواضحة هي على قدر من الغموض والإفلات من الوعي البشري، كما أن غرائبية الشفرات التي اعتمدها تفترض إنتاج قدر من اللغة تفتح النص على تعدد المعاني، وهو ما يعني أن تتأسس ” القارورة ” كنص على حبك مركب للدوال، أو هذا ما يفترض في حكاية تقوم على واقعية المصادفات، بمعنى محايثتها بحبكة مموهة تتحرك وفق بنية باطنية لتعرية ما يبدو ظاهريا كواقع.
بموجب ذلك الإختزال للبنى وتضئيل فاعليتها، تم إختراق مجتمع بكامله ممثلا في أسرة ” الساهي ” بكل ما يحمله لقب العائلة من دلالات الغفلة، فكل أفراد البيت ” تحيط بهم علامات الزيف والدجل “. وهو ما يعني دراية الراوي والروائي بهذه الثغرة، واستثمارها بصورة بلاغية – ساخرة – افترض المحيميد بموجبها، تواطؤ الجميع عليها كمعرفة مشتركة لواقع الأشياء، فالتجانس في الرؤية كان على درجة من الوضوح، ومن خلاله يمكن فهم السيرورة الخالقة لمعنى ذلك الإستغفال، خصوصا مع التأكيد على ثيمة الحرب كخلفية لواقعة الغزو العاطفي، كما أعلنها الدحّال انتقاما، حيث اتخذ من هشاشة منيرة العاطفية ممرا، وقد فسرت هي هزيمتها بمنتهى الأسى ” لم يجعلني أطارد رجولته، بقدر ما طارد هو أنوثتي ” فهكذا اصطدمت ” دائخة بالحب، الحب الذي يشبه أعمى تقوده العواطف والشهوة المخبأة في أدراج السنين “. أجل الحب الذي يشبه خفاش أعمى يدور في ظلال غرفتها، حيث ” كان ابن الدحّال يجهز صواريخه المحملة برؤوس عشق زائف، كي يصوبها تجاه قلب هش ومتلهف “.
إذا، الرواية مؤسسة على شخصية ساطية، بالغ المحيميد في تفظيعها، وتصعيد قدراتها التضليلية، للإستخفاف بمجتمع لديه من الإستعداد ما يكفي للإنخداع، داخل نص يكتفي موضوعيا بتسجيل الحقيقة دون مجازية كفيلة بحل التناقض، حيث يغري الدّحال الأخصائية الإجتماعية، والصحفية المثقفة ” منيرة الساهي ” ويستغفل والدها التاجر حمد الساهي، وأخوانها محمد العائد من أفغانستان، والرائد صالح الذي يتلقى دورة تدريبية في بريطانيا، ولا ينجو من مكره حتى قاضي المحكمة الكبرى ابن واسع، إلى الحد الذي تحال بموجبه كل تلك الوقائع المتناقضة إلى ” الصدفة ” ما عدا التشابه بين أشخاص وأحداث الرواية وأشخاص الواقع، حيث شهادة الإثبات الإنكارية، وكأن المحيميد يتعمد الإيغال في تصعيد الوجه العابث للحياة، بما هو النقيض للواقعي، فشخصيات الرواية تتحرك في ظل شروط مفروضة عليها، دون قدرة أو رغبة للرد، الأمر الذي يجعل من مراكمة تلك المصادفات بين غلافين مفارقة لا تقوض معنى الحياة وحسب، بل تربك جاذبية ” التنسيق ” كعملية تركيبية لجملة من العناصر المبعثرة داخل نص روائي يفترض فيه أن يكون متحركا كانعكاس للوقائع.
الرواية مسرودة بلسان ” منيرة ” ولكن مضامينها، والفاظها، ولا شعورها أيضا يشير إلى سارد برّاني، فنبرة الخيبة والإنكسار لإمرأة مغدورة في أنوثتها ووعيها، تتضاءل أمام لغة تشريحية، وحيادية في أغلب الأحيان، لدرجة أن منيرة لا يرد اسمها إلا مصحوبا بلقبها، وكأن صوتاً خارجياً – ذكوريا – يعبر عن كينونتها المدمرة، فحميمية أحاسيسها تتضاءل، رغم محاولة المحيميد تمكيثها أمام المرايا، وتضويعها بالعطور، وتعويض عوز أنوثتها بالإكسسوارات والملابس الحريرية، لإحداث صلة تزامنية بين العناصر داخل الحكاية، من خلال لغة تعتمد على كثافة الوظيفة التوصيلية والتمثيلية، تحد من تعدد المعاني، حتى صورة الدحّال كمجرم، مرسومة كمعادل لشخصية كائن أحادي البعد، محتقن بالشر الصافي، دون مساحة استدراكية لتفكيك البنى النفسية والإجتماعية التي استولدته، وكأن مستوى الصوغ اللغوي أو اللساني لمركباته البنيوية، لا تستدعى داخل السرد كعلامة، بقدر يتم نسجها كشخصية معزولة عن العالم، فيما يفترض أن تكون العلاقة بين الأدب والحياة، داخل مثل هذه الطرازات الواقعية، في أقوى حالاتها، خصوصا عندما يتم ترحيل الشخوص من الواقع إلى الرواية كشخصيات.
الواقعية الإجتماعية وبما تتضمنه من رؤية عقلانية تحتمل شيئا من الرومانسية، خصوصا في معناها ووظائفيتها الجديدة، وهو ما يحتم أن تعكس ” القارورة ” كعملية خلق فني حقيقة التصارع أو مغزى وجود قوى متضادة داخل المجتمع، فعلي الدحّال مثلا هو نتاج ظرف موضوعي، ويفترض أن تكون منيرة الساهي فكرة أو قوة مضادة، رغم تولدهما في ذات الظرفية، وعليه فإن الإبقاء على شكل العلاقة بين مختلف القوى خارج وداخل الرواية، يعني تمكيث ذات المعادلة القديمة، وهو أمر لا يقره الواقع الموضوعي، ولا يتولد عنه ذلك الأثر الجمالي كما يفترض حدوثه داخل النص، وهذا ما أدى إلى تراجع الطابع الثوري للصراع في ” القارورة ” ربما لأن المحيميد – كعادته – صمم روايته بشكل بنائي، ولم يتورط بوجدانه وانفعاله بقدر ما استدعى وعيه وخبراته بالواقع.
ذلك بالتحديد ما أدخل الرواية في التوصيف أو التوثيق بمعنى أدق، ونأى بها عن مهمة الكشف عن قانون التطور الإجتماعي، حيث غاب الفهم أو ربما التوظيف الفاعل لطابور من النسوة المقهورات على هامش الرواية، وخارج الجدلية التاريخية، من خلال مرويات صغيرة لنبيلة التي ينتهكها زوج أمها. وميثاء التي يضطهدها زوجها. وفاطمة التي يغدر بها معيض، بعد أن استعار اسم بندر. وحسناء كما جنى عليها زوجها المطرب الشعبي بالمخدرات. وغنيمة كما راوغها زوجها الدحّال بأكاذيبه، فعذابات المرأة أو مراوحاتها الحقوقية والعاطفية هي الدال اللازمني المحرك للنص، وكما يتكدس في شر مطلق اسمه الرجل.
حين يستدعي السرد الأسطورة، يفترض به الكشف عن البنى الاجتماعية الموازية لبنى الخرافة، لكن القارورة، لم تكن أكثر من آنية، مستعارة من الوعي الحكائي للجدّات، ومنيرة الساهي مجرد ضحية لا يتحرك السرد بموجب فجيعتها، ولا يتموج الحدث الجمالي أو التاريخي على إيقاع نبرتها، فالسرد يتحرك بأفقية دون مفاجآت داخل حكاية إجتماعية، حيث لم يوظف المحيميد ما التقطه من براعم النمو الخفية في شخصيتها الإنسانية، وكأن الواقع مرجعية أكبر حتى من أدواته الفنية، حتى صارت ” القارورة ” كرواية وآنية أيضا، وثيقة حقوقية لتسجيل حال ومآل سجينات دار الفتيات، أكثر مما يفترض ان تكونه كبؤرة لكشف قوانين التطور الكامنة والدائمة للمجتمع، وهو الأمر الذي تأكد بتوثيق واقعة نساء غامرن بقيادة السيارات في الحادثة الشهيرة ابان أزمة الخليج.
إذا، ليس في الرواية ذلك الإحساس أو الثقة بقوى النمو الإجتماعي، بقدر ما تتحشد بإشارات تململ الضحايا من سطوة الواقع، وهو أمر يضعف مكامن جماليتها، بل يصيب الموقف الإنساني بشيء من العطالة، لأن الواقعية ليست صيغة تعبير عقلانية صرفة، ولا تتشبه بالواقع أو تطابقه بقدر ما تلهب الوجدان والفكر بقيمة مضادة، فمنيرة الساهي، من منظور الواقعية الإجتماعية هي فرد، ولكنها تعيش تحت وطأة حياة جماعية، ويفترض أن تتأثر كعلامة وموضوع وحالة بجملة من الحقائق داخل مستوجبات حكاية تتقلص وتتمدد، وفق مفهوم متجدد ودينامي للواقعية.
على الدحّال أيضا، شخصية مسكونة بشرٍ أنطولوجي، لدرجة أن ضمير المحيميد الأدبي، وإشعاعه الذاتي تعطل أمام سطوتها، فأن يتلبس مراسل تافه دور وهيبة رائد مسألة يمكن تبريرها، أما أن يلعب قروي محافظ دور التقدمي المتحضر، ويتناسى ما يكمن في أعماقه من ارتكاسات، ليمثل دور العاشق لامرأة – مختلفة – كم مرّ في سمائها ” من طيور عشّاق ووالهين ومخبولين ومسمّرين ” على أعتاب عينيها الرائعتين، فهي مسألة بحاجة إلى الكثير من الإقناع، فعدته من قصائد نزار قباني الشعبية لا يمكن أن تصمد أمام مثقفة مفتونة بديستوفسكي، أو ربما هذا هو مسرح العبث كما صمم دكته المحيميد بمفارقات يتهاوى بموجبها وعيها ويتزلزل كيانها أمام عبارة على درجة من العادية ” أنت لست امرأة عادية. إنك الدهشة .. والتخمين “.
إذا، لم تتم إعادة ترتيب الأدوار، داخل الحدث، وفق جدلية تاريخية توازي بين ثقافة الدحّال الشعبية وثقافة الروائي العالمة، ربما لأن الإحساس بميكانيكية الواقع التبس مع حيوية الواقعية، فالقارورة استمدت مبرراتها الفنية من حقيقة موضوعية أحادية، فصارت بنية منغلقة على نفسها، يتحدث بموجبها الروائي بالنيابة عن منيرة، ولكنه لم يفتح زاويتها ” زهور في آنية ” حيث يكمن صوتها ووعيها لتتجاوز بنا تداعيات فجيعتها وتقودنا ” إلى جذر الحكاية ” فهي الأخرى، كما يبدو، لم تتمكن من القبض على خيطها بيديها الناعمتين.
ـــــــــــــــــــــــ
* جريدة الاقتصادية- عدد4257 تاريخ30/4/1426هـ الموافق7/6/2005

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *