“القـارورة” ليوسف المحيميد: من الحكاية إلى المحكي

مايو 29, 2012 | القارورة | 0 تعليقات

د. زهور كرام
* ما الذي يتغير فينا عندما ننتهي من قراءة نص روائي ؟
* هل نخرج من النص كما دخلناه، محتفظين على رتابة معنى القراءة ؟
* ثم هل كل النصوص تشجع على طرح مثل هذه الأسئلة ؟

علمتنا الممارسة النقدية من خلال فعل القراءة، أن هناك نصوصا ندخل مجالها الإبداعي، وقد تبدو أنيقة من حيث صنعة الكتابة، ومنظمة بنائيا، ولكن، قد لا يحدث التجاوب معها، عندما تفتقد إلى ما يدفع بها نحو اختراق الفكر والوجدان والمشاعر. وبالمقابل هناك نصوص تبني معنى وجودها من هذه العلاقة التفاعلية والتعالقية التي تحدث بين الحكاية، وبين شكل بنائها وهو شكل لا ينطلق من هاجس أسئلة الكتابة كمعبر لصناعة النص، وإنما من المادة المحكية باعتبارها تفجيرا للحظة وعي.
وأنا أقرأ رواية “القارورة”* للكاتب والروائي السعودي “يوسف المحيميد” لمستُ هذا الاشتغال المعرفي-الفني من الحكاية إلى البناء ليصبح هذا الأخير مظهراً من مظاهر الوعي المحتمل للحكاية وإنتاجا ثقافيا مغايرا للواقع.
ولعل “القارورة” من بين النصوص الروائية التي تعمل على تنشيط السؤال في أبعاده النقدية والمعرفية-الثقافية.كما أنها من الأعمال التي تُحدث خللا في رتابة بعض الطروحات النقدية التي تكاد تفرض نفسها في مرحلة، باعتبارها مرجعية شبه ثابتة، وذلك بفعل تكريسها من خلال عينة من النصوص الروائية.
القارورة نص روائي ينتج معرفة فنية وثقافية حول اتجاهات الإبداعية الروائية السعودية التي باتت تفرض ضرورة انخراط أسئلة النقد في مساحاتها الرمزية، نظرا لما تعبّر عنه من انفتاح المتخيل على إمكانات من الوعي، تتجاوز بمرونة تقنية وجمالية أشكال الوعي السائدة في المجتمع السعودي.
1. عن قصة “القارورة”
تحكي الرواية عن حربين تنشبان بالتوازي : حرب ضد مشاعر امرأة، يُدخلها الحبيب زمن العشق، فتعيش الحب بكل تفاصيله وأبعادها الذاتية، ثم تكتشف بعد ذلك خيانة الحبيب الذي تقرب منها لينتقم من أخيها. ثم الحرب ضد الكويت التي سترعب المكان والإنسان والمفاهيم.
تلتقي الحربان في زمن البداية والنهاية، وفي تفاصيل الأحداث المتداخلة، كما يلتقيان في معنى الخلط المرعب للمفاهيم والقيم والزمن.
وعبر الحربين تتفجر حكايات تُخرجها الحرب من صمتها :
“ولم تمضي سوى أيام حتى صارت الكويت الصغيرة المحافظة العراقية التاسعة عشرة، وأصبح أنا المحافظة الثامنة في أملاك الدحال السرية، بعد ستة صغار وزوجة لم تكتشف إلا مع اسمه الحقيقي، الذي لم يكن علي الدحال” (ص.140).
2. البناء الحاضن للحكاية
تقترح رواية “القارورة” شكلا بنائيا مغايرا لاحتضان الحكاية. وهو شكل غير مُصرَّح به ظاهريا من إعلان مكشوف سرديا لنوعية التجارب. فهي لا تنتمي إلى النصوص التي تعتمد على سرد الحكاية أفقياً، واعتماد سارد واحد، يُخبر بالحكاية، ويدعها تُسرد وفق موقعه السردي. وليست من النوع الذي يكسر رتابة الأفقي ليدع الحكاية تتشظى عموديا، عبر تعدد السارد، وترك الفرصة للقارئ لكي يُعيد تجميع شتات الحكاية لإعلانها نظاما، وفق خلفية السرد التي انبنت عليه الرواية. وإنما هي كتابة روائية تسترسل في سرد حكايتها بدون تشظي، غير أنها لا تخضع للرؤية السردية الواحدة، ولا يسرها سارد واحد ووحيد، وإنما تعرف في تكوّنها حالة تناوب سردي.
يفرض هذا الشكل من البناء – بدوره – تريثا في عملية مواكبة كيفية بناء المادة الحكائية.
لهذا، فإن أهم ما يميّز كتابة هذه الرواية، إلى جانب البُعد المعرفي والاجتماعي والثقافي الذي تطرحه، هو منطق التحولات البنيوية التي يعرفها السرد داخل هذا النص من جهة، ثم إمكانيات النص الثقافية التي تدفع بالتحليل إلى الخروج بالمحكي إلى مساحات السياقات الثقافية للمجتمع السعودي، وهذا ما يجعل القراءة تتحرك بين مكونات النص البنائية الفنية، وبين مكونات النص الثقافية التي تعزز بلحظة الانخراط في أسئلة واقع المجتمع السعودي. وهي حركية تفاعلية وعلائقية تنتج أشكالا من الرفض تبدأ من رفض الصور المألوفة الجاهزة التي يتربى عليها الفكر، وتوجه عن ثمة السلوك والممارسة الحياتية، (صور المرأة مثلا)، إلى اقتراح الصور البديلة التي تعلي من شأن الفرد في الحياة العامة والخاصة باعتباره رغبة وإرادة وفعلا حرا.
لا تعرف القارورة الثبات في مكونات الحكي، ولا الرتابة، في عملية السرد، وإنما استرسال الحكاية وفق طبيعة الوعي الذي يشكل – بدوره – زمن الكتابة هو الذي يصنع هذه التحولات.
فالشخصية المحورية التي انبنى عليها الحكي “منيرة” تبدأ شخصية تتلقى الحكاية من الجدة، والأوامر من الأخ الأكبر والأب، والصور الجاهزة حول المرأة من منطق الأعراف، ثم تنتقل بفعل امتلاك القارورة بحكاياتها الصامتة إلى ساردة تحكي عن قصتها التي فاضت بها القارورة، وتكتب ألمها عندما راهنت على مشاعرها، فإذا بكرامتها تداس خيانة، وتوثق لخيانة حبيب تجعل من الكشف عنها لحظة الانتصار على لغة الأوامر والقانون في بلدها.
ينتصر السرد بهذا الشكل للشخصية منيرة، عندما ينتقل بها من موقع المفعول به، أو الموضوع الذي يتم التداول حول شأنه في نظام العشيرة والأسرة والمجتمع. ومن مجرد متلقية لحكايات الآخرين إلى صاحبة موقع تدبر شأن حكايتها بفعلها، وتكتب سرها الذي امتلأت به القارورة، وتصبح فاعلة في حكايتها عندما تمنح لها نظاما وترتيبا، أي تجعل منها زمنا لانبثاق وعي محتمل. فعلت عملية الانتقال هذه، في مجرى الحكاية وجعلتها تُنتج وعيا استثنائيا، ولعل الذي ساهم في الانتقال من الصمت والشفهي إلى الكتابة والتوثيق كون “منيرة” تدخل مجال الحكي باعتبارها ممارسة لفعل الكتابة الصحفية. فقد كانت تكتب عمودا صحفيا “ورد في آنية” إلى جانب امتلائها حكايا الآخرين لكونها تشتغل بدار الفتيات، وتُلزمها وظيفتها الإصغاء إلى حكايات الآخرين أو بالأحرى حكايات الأخريات. ولهذا، فالموقع الذي تشهد تُكَوُّنه داخل المجال السردي، لم يكن مفتعلا أو جاهزا، وإنما كان مُدَعَّماً بمكونات تخص طبيعة شخصية “منيرة”.
تتشكل حكاية “القارورة” سرديا بين ضميرين رئيسيين : من جهة ضمير المتكلم المعلن صراحة، وعبر مؤشرات ملموسة على امتلاك “منيرة” أحقية الحكي عن حكايتها وبضميرها الصريح الذي يسرد حكاية خيانة الحبيب وبالموازاة حكاية الحرب على الكويت، ويتخلل هذا التوازي الحكي عن الأعراف والتقاليد. ومن جهة ثانية، ضمير الغائب الذي يسرد “القارورة” انطلاقا من موقعه فيقدم معرفة عن العام، ويلتبس أحيانا مع أصوات اجتماعية قد تكون صوت المجتمع والأعراف وكل ما يشكل السياق العام.
هكذا، تعيش القارورة حالة التكون الروائي وهي تخرج تدريجيا من ظلام القارورة حكايات مشتتة إلى بياض الكتابة. تخرج من حالة الشفهي إلى المكتوب، ومن المكتوب إلى المسرود لتأخذ شكلها الطبيعي ضمن نظرية جنس الرواية، حيث يصبح لها منطق يؤثث أفعالها وعلاقات شخصياتها، ويصبح جوهر وجودها ليس في اعتبارها حكاية من الحكايات، وإنما كونها صارت شكلا من الوعي الذي قد يربك وعيا قائماً، ويخلخل رتابته ويخدش منطقه.
غير أن هذا الوضع التناوبي بين الضميرين المتكلم والغائب، لا يتم بشكل فجائي أو اقتحامي، كما لا يُحدث خدشا في استرسالية القراءة، ولا يوقف القراءة بدعوى الانتباه إلى دخول ضمير جديد يسرد ما تبقى من حكي الحكاية. كما لا يحدث التغيير على مستوى أسلوب الكتابة. لا نشعر – كقراء – بلعبة الضمائر المكشوفة في صناعة النص، وإنما نشعر بحالة سردية منسجمة بنائيا وأسلوبيا تعمّق الرؤية على ذات الساردة / منيرة عبر رؤية المتكلم، وتضيئ هذه الذات الرؤية الجماعية عبر الغائب باعتباره ضميرا عارفا بكل شيء وموجودا في كل مكان.
بل الذي يحدث هو انتصار السرد لضمير المتكلم، عندما يجعله يفتت سلطة الغائب المعرفية. ويتم ذلك بمرونة فنية لا تحدث اصطداما ضمائريا، وإنما يمكن الحديث في هذا المستوى عن مظهر من مظاهر تكون الحوارية. وهي حوارية الملفوظات التي تحدث عنها الناقد الروسي ميخائيل باختين ، حوارية لا تتم في سياق إخباري، وإنما تعرف حوارات بين الملفوضات، خاصة مع ظهور ضمير المخاطب الذي أصبح ضميرا ملازما، للضميرين الرئيسيين. فالكتابة الروائية في “القارورة” هي التي تدفع باتجاه هذه الحوارية.
إذا كان الحوار بين الشخصيات في سياق اجتماعي محكوم بسلطة الأوامر والأعراف، ومنطق السماح لصوت دون آخر بالكلام والتعبير، فإن الحوار حتى وإن حضر – على قلته – في النص فإنه لا يرقى إلى إنتاج الحوارية، لأن المتكلمين يدخلون مجال تبادل الكلام بدون المساواة في حقوق التعبير. ولهذا، فالرواية قد تمكنت أن ترقى بحواريتها عبر استثمار ملفوظات المتكلمين التي ترد في المقاطع السردية.
وهي حوارية بين مستويات سردية: مستوى السارد الغائب الذي يتأكد مع كل تدرج سردي أنه يدخل برغبة مراقبة الساردة بضمير المتكلم، وتلقين معرفة حول وضع معين يخص بلد بعينه، وقضايا محددة وفق أعراف وشروط سياقية، ولكن ملفوظات هذا السارد تخرج من سياقها الاجتماعي- المادي، وتدخل السياق الروائي- التخييلي لتجد نفسها محكومة بمنطق مختلف يُربك سلطتها ويجعلها تدخل في شرط استثنائي، وتجاورها في هذا الشرط ملفوظات أخرى يسمح لها السياق السردي بالتعبير المفتوح على قضايا مسكوت عنها.
يؤثر هذا الوضع في ملفوظات السارد الغائب، ويخلخل موقعه، ويدفعه باتجاه طرح السؤال حول راهنية موقعه. يدعم هذه الخلخلة حضور لغات مرافقة مثل لغة المنشور (ص 82) الذي تم توزيعه في مظاهرة قيادة النساء للسيارات، ونلاحظ أن الحوارية قد تعمّقت في مستوى الحكي عن حدث قيادة النساء للسيارات، حيث تداخلت لغات المجتمع الرافض بلغات المدافعات عن فكرة الثورة على منع النساء من قيادة السيارات، بلغة الساردة منيرة التي كانت تقوم بوظيفة تهيئ مناخ حواري عندما تطرح أسئلة هي أسئلة المجتمع السعودي المحافظ، الذي لا يقبل أن يرى امرأة تقود سيارتها. ثم إجاباتها وإعطائها تبريرات وتفسيرات للغة المنشور.
“ثلاث عشرة سيارة تقودها ثلاث عشرة امرأة، ومع كل واحدة منهن راكبة أو اثنتان أو أكثر” (ص 85).
يتم خدش ملفوظات الغائب، بل بترها عبر جرأة ضمير المتكلم، ويتم ذلك من طريقة تسريد منيرة لحكايات الآخرين. مثل تسريد حكاية ميثاء (ص 108) التي خرجت عن سلطة وصايا ضمير الغائب. ومن شكل الحكي يتضح أن منيرة متعاطفة مع ميثاء، لأن هذه الأخيرة وإن قامت بجريمة قتل زوجها، فإن منيرة تجد لها العُذر في ذلك. ونفس الشيء حدث مع باقي الحكايات التي استمعت إليها منيرة في دار الفتيات حيث تعمل، ولعل طبيعة شخصية منيرة التي تملك قدرة تطويع الحكاية سرديا قد أثرت على وضعية السارد الغائب الذي يتعامل معها مرة بشكل رسمي، يكاد يتميز بالنقل الموضوعي للمعرفة يقول ضمير الغائب: “بينما الأخصائية الاجتماعية منيرة الساهي تحاول…” (ص 122) وعندما يجدها وقد توغلت في تبرير ما يحدث في مجتمعها من جرائم ترتكبها النساء ضد أزواجهن، فإنه يتدخل ليحاورها وينتقدها. لكن دون الدخول في اصطدام أو إقصاء لوجهة نظرها مثل : “ألم يكن العرب قديما يتراجعون عن سفر أو مهمة أو ما شابه، وهم يستدلون على ذلك بالعلامات ألم يكن أهل الصحراء يتلقفون العلامات كي تهديهم في حياتهم وطرقهم المتشعبة ؟ كيف لم تنتبه منيرة الساهي إلى علامة كتلك، وهي تشارك في تحقيق مع فتاة مراهقة ومستغلة ؟ لتتحول هي بدورها إلى امرأة تقع في حبائل ابن الدّحال، الذي يفوق هذا المتسرع خبرة ودهاء وتكتيكا” (ص 121).
والملاحظ أن ضمير الغائب فيما هو يحاور تبريرات وتحريات الأخصائية الاجتماعية منيرة الساهي، لا يوجه إليها خطابه بشكل مباشر، وإنما يتعامل معها ضميرا غائبا. ونفس الشيء يحدث مع منيرة ولهذا، فإن الحوارية تحدث بين الملفوظات في المستوى السردي.
كما أن الغائب يقدم، أحيانا – معرفة لا تعلمها منيرة مثال (ص 167)، مما يزكي وضعية الساردة منيرة التي يتشكل موقعها سرديا داخل المجال النصي أي داخل التخييل.
3. التخييل الروائي والصور البديلة.
إذا كانت حكاية “القارورة” تعلن عن واقع يجعل من التفكير حول المرأة جامدا ولا تاريخيا، مادامت إمكانيات التعبير مقيدة التداول، وما يزال يتم ترديد نفس الوصايا التي تجاوزها إحساس المرأة، وثقافتها بل أيضا التحولات الداخلية والعامة، ويظهر ذلك من الشخصيات النصية مثل أخ “منيرة” محمد الذي اعتبر كتابة منيرة، للزاوية الصحفية ورد في آنية سببا في جعلها تخرج عن منطق الأعراف، وتمارس أفعالا لا يسمح بها الوسط الاجتماعي، واعتبر ثورة النساء في قيادة السيارات خارجة عن القانون والشرع. إذا كانت الحكاية تدعم منطقها الأفقي لهذه المظاهر، ولغيرها فيما يخص ضرورة حرص المرأة على استهلاك الصور الجاهزة، فإن الخطاب – والذي نعني به طريقة سرد الحكاية – قد خرق منطق هذه الحكاية، وكسر الصوت الواحد، المدبر لشأن المعرفة العامة والخاصة، واتضح ذلك في وضعية السرد الروائي. تشخص هذا التحول عبر مستويات عديدة حوّلها السردي من ثابتة بموجب مقتضيات الذاكرة، والأعراف، والتقاليد، إلى صور مغايرة جعلت التخييل الروائي في “القارورة” يطرح إمكانيات التغيير في الطروحات والمفاهيم وكذا الصور ولعل أوضحها صورة المرأة التي تتحول من موضوع حسب الحكاية إلى ذات فاعلة حسب مقتضيات السردي الذي ينتصر للمواقع المسكوت عنها في الحكاية.
تتلقى “منيرة” عبر مستويات الحكاية دروسا في الامتثال إلى الصور الجاهزة حول المرأة باعتبارها أنثى عليها أن تتلقى المعرفة دون أن تسأل، حتى الحب دون أن تطلبه. هكذا، شربت الدرس الأول من الأم منذ الطفولة “كنتُ أنثى، مجرد أنثى مهضومة الجناح كما يراني الناس في بلادي، أنثى لا حول لي ولا قوة، كنتُ أتلقى فقط، كالأرض التي تتلقى المطر وضوء الشمس والفأس ! فعلا كُنتُ مستلقية لا أملك أن أنتصب مثل ذكر ! كنتُ أتلقى كل شيء بخنوع، حتى الحب لم أبحث عمن أحب، ولا يحق لي ذلك أصلا” (ص70)، ولكنها انحرفت عن الدرس، عندما أحبت، وتجرأت على التعبير عن مشاعر الحب لابن الدحال الذي جعلت منه زمنا لاستنشاق هواء الحب “لقد سال عسلي بغزلك، وقصائدك، وخفَّت حمامتاي إلى الهوى الحر، واضطرب قلبي مثل مراهقة في السادسة عشرة، وأكلت صوتي في فمك مثل علك المسكة الذي تلوكه باستخفاف، لقد علقت شفتي الناحلتين بشوك شاربيك، وجعلتني لا أرتوي منك، حتى أبقى الليل كله أداري زفزفة شقتي المنتهكتين” (ص. 63).
وعندما استهوتها القراءة بدل أدوات التجميل، وغامرت في الكتابة بدل قبول أول طارق يطلبها للزواج، وأعلنت خروجها للملأ عندما أعلنت اسمها في زاويتها الصحفية “ورد في آنية” “فكان ظهوري للخارج، وبزوغ اسمي لعنة على أهلي ورجال قبيلتي، وهاأنذا أحلم بأن أنجز بحثي ودراستي كي أتحرر من قيد الداخل” (ص 71).
بل عمقت انزياحها عن الدرس، عندما بدأت تكتب مذكراتها لكي تستقيم مادام مجتمعها يعتبرها ناقصة عقل ودين. “سأدفع النقص وارتقه بالكمال” (ص 72). ولكون منيرة، قارئة بامتياز، فإنها تملك القدرة على التفكير والتحليل والتأمل أيضا. ولهذا، كانت ترفض بداخلها الصورة الجاهزة حول المرأة. فقد حاول والدها أن يبعدها عن الخارج بأن ملأ غرفتها بالكتب، فإذا به جعلها أكثر انفتاحا على العالم الخارجي “أن أفكر وأبحث وأتساءل، فهذا يعني أنني بدأت أنبجس نحو الخارج” (ص 71). وهي بذلك، فقط عطلت مختلف التوجهات الآمرة التي كانت تسعى جاهدة لإدخالها في معنى الأنثى السائد.
كما أنها انتصرت سرديا على منطق القضاء بالسخرية من خطاب القاضي، الذي كان عليه أن ينشغل قانونيا بقضية زيف زواج ابن الدحال منها، فإذا به ينحرف عن جوهر القضية ويجعل من أظافر “منيرة” الطويلة سبب الخراب “كان القاضي قد تجاهل المأساة بأكملها، ووجد أن الجاهلية الأولى – كما قال لأخي – في أظافري الطويلة، كان الخراب في المدينة كلها في أظافري الطويلة أظافري الطويلة التي انتقدها القاضي بشدة هي سبب خراب المدينة ” (ص 200).
كما أخرجت “منيرة” حكايات الفتيات من نطاق الوظيفة الاجتماعية بدار الفتيات، إلى مساحة التعبير المكشوف، وذلك عندما أخرجت حكاياتهن من الملفات المسكوت عنها، إلى الكتابة عنها.
لم تخضع “منيرة” لمنطق الصور الجاهزة، وإنما غردت خارج السرب المعتاد، لتحدد شكلا معينا من علاقتها بذاتها ثم بالعالم من حولها، عبر تبني منهجية المقاومة ليست فقط لهذه الصور، وإنما لمقاومة الأزمة التي تسبب فيها الحبيب الخائن. فعلى الرغم من ثقل الخيانة على “منيرة”، فإنها لم ترتد على خيارها، ولم تعلن تراجعا عن تبني الصور البديل، كما أنها لم تخضع لمنطق القبيلة في ضرورة الاستسلام وطلب السماح والمغفرة على سلوك الانزياح، خاضعة من جديد لأوامر الأعراف ووصايا القانون، خاضعة لما تشربته منذ الطفولة، بأن تظل حبيسة مقاس الأنثى كما يُراد لها. موضوعا مفعولا به، منظورا إليه، متكلما عنه، وإنما انتفضت من قلب رماد الخيانة شعلة قاومت بإخراج حكاياتها المتناثرة في القارورة العتيقة ذات النقوش الهندية الفضية أشكالا من الوعي التي ترغب أن يبقى الفرد في المجتمع أسير صور ثابتة. كما فضحت زيف الطروحات الاجتماعية (الأسرة، القبيلة) والقضائية حيث طرحت أسئلة حرجة على المنطق القانوني لمنظومة الزواج، وعلى إجراءات القضاء.
عبر هذا التحول في موضع المرأة سرديا، تكون القارورة قد ألهمت القراءة بإمكانية وعي ناضج، ينتفض عبر التخييل ليحاور وبمرونة واقع الوعي القائم، الذي مازال يحاصر المرأة ضمن الموضوع المفعول به. و”القارورة” بهذه الإستراتيجية السردية قد تربك بعض التوجهات النقدية التي تشتغل في إطار كتابة المرأة، معتبرة أن المرأة/الكاتبة مؤهلة أكثر لمقاومة الصمت عن خصوصية وضعها، حين تتمثل اللحظة النسائية وترقى بها إبداعيا. في القارورة نجد أن الروائي “المحيميد” قد جعل المرأة ساردة حكاية مجتمع بامتياز، امرأة تحكي ذاكرتها، وتاريخ صمتها، وتكتب حكاياتها وحكايات الأخريات وعبرهن تستفز جمود الصور المألوفة، وتدفع بالسؤال للاشتغال في ميدان المفاهيم (الحب، الزواج، المرأة، الرجل..) والقانون (القضاء، مؤسسة الزواج… قيادة النساء للسيارات…).
بهذا فإن “القارورة” للروائي يوسف المحيميد تشخص حالة صراع رمزي بين السلطة الآمرة التي تقنن باسم الشرع والأعراف والذاكرة والقانون الحياة العامة والخاصة لأفراد المجتمع، وبين الوعي المنفلت الذي يقترح عبر صوت المرأة شكلا مختلفا للحياة، من خلال الإعلاء من شأن الإرادة الذاتية، والارتقاء بالخيار الذاتي إلى لحظة تفجير معنى مختلف للوجود كما أن “القارورة” تنتج بهذا التوجه الفني-الثقافي دورا وظيفيا للرواية في حياة الأفراد والشعوب.

* ناقدة وروائية من المغرب

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *