د. عدنان الظاهر
قدّم الكاتب روايته بكلمة عن الحب سبق وأن قالها الفيلسوف الألماني فردريك نيتشه [الحب، وسيلته الحرب، وخلفيته العميقة الحقد القاتل الذي يكنّه كلُّ جنسٍ للآخر]. لا أناقش مضمون مقولة الفيلسوف هذه ولا أتعرض لما فيها من خطأ أو صواب…فذلكم شأن آخر يطول حوله الحديث. إنما أود التوكيد على أمر له علاقة جذرية بمحتوى الرواية، بل وإنه يمثل الحلقة المركزية والعروة الوثقى فيها.
أعني الجمع بين قطبين شديدي التناقض والتضاد هما الحب والحرب. فالحرب وسيلة الحب والحقد القاتل خلفيته. الوسيلة ـ الحقد. وجهان لظاهرة واحدة أفنى البشر أعمارهم وما زالوا في الدوران حولها، والتطواف في أفلاكها وكتابة الشعر والموسيقى فيها والغناء لها. القراءة المتأنية والدقيقة لمحتوى تفاصيل الرواية تكشف عن أمر طريف إذ يتبنى يوسفُ المحيميدُ مقولة الفيلسوف الألماني نيتشه، فيدرجها في نسيج روايته وخاصة القطب الثاني الخاص بالحرب. فالحرب حسب هذا الفيلسوف إنما هي وسيلة الحب ( الحب، وسيلته الحرب ). لكن من حقنا أن نتساءل: وهل قامت حروبٌ بين البشر من أجل الحب أو بسببه ؟ نعم، قامت مشاجرات أو مهاترات محدودة بين عوائل أو بين بعض العشائر المتخلِّفة بسبب تولّه وتشبيب فرد من هذا الفريق بفتاة من الفريق الآخر. وبهذا الصدد لا ينسى المرء قصة شكسبير ( روميو وجولييت ). ثم نعم، قامت حروب كثيرة بين البشر ولكن لا بسبب حب رجل لإمرأة، وإنما لإشباع حب ونهم غريزة التملّك والتسلّط والسيطرة، وهو شأن يختلف عن حب البشر وتعلقهم ببعضهم بما نعرف من علاقات بين ذَكَرٍ وأنثى. هل يتبادل الناسُ الحبَ عبيداً لتأثير قوة حب التملك الطاغية والسيطرة على الآخر ؟ يقول بعض الفلاسفة نعم. غزو قلب إمرأة كغزو شعب لشعب. هكذا قامت وتوسّعت وإمتدّت الإمبراطوريات القديمة المعروفة. وهكذا غزا الضابط الفرنسي (نابوليون بونابرت) أوربا وتحطمَّ في موسكو وقضمت ثلوجها جيوشه الجرارة. وعلى هذا الأساس غزا الألماني (هتلر) أوربا ثم حاول غزو شمال إفريقيا فغاصت دروعه وفرقه العسكرية في رمال ليبيا والعلمين. رجلٌ فرد يغزو بشعبه شعوباً أخرى. فهل يندرج حب منيرة الساهي للرجل المزيف والخدّاع حسن العاصي، وحب هذا لتلك في إطار هذه المقولة الفلسفية ؟ قال لنا الراوي نعم، ولكن بعد إخراجها من أُطرها الفلسفية التجريدية العامة وتكييفها لظروف مجتمع عربي مسلم شديد المحافظة. الإنتقال من العام إلى الخاص ومن المجرَّد إلى المحسوس.
إذا قبلنا هذا المنطق فلسوف نجد الطريق أمامنا سالكاً لفهم رواية يوسف المحيميد
بشكل أفضل، فقد ربط فيها ربطاً جميلاً محكماً بين أحداث روايته وغزو صدام حسين لدولة الكويت في الثاني من شهر آب ( أُغسطس ) عام 1990 . صدام رجل معتوه متخلّف مهووس بالعَظمة ومظاهر الأُبّهة والتسلط وقهر الآخرين، منح نفسه أعلى الرتب العسكرية وهو الذي قضّى شبابه هارباً من الخدمة العسكرية يوماً ومن العدالة أياما. حب المال والتسلّط قاداه إلى غزو الكويت، جارته العربية الصغيرة والغنية بالنفط. كان صدام وقصته مع الكويت يمثلان ظلاًّ للرواية وخطاً موازياً لما يقع فيها من أحداث. خطّان متوازيان، يتقاربان حيناً ويبتعدان أحيانا. فالفتاة السعودية منيرة الساهي، بنت الثلاثين عاماً، الثرية بجمالها ووظيفتها وثراء أبيها تاجر العود والعطورحمد الساهي، وجدت نفسها ضحية لغزو رجل عسكري لا علاقة له بالحرب والعسكر، إنما هو مجرد مراسل ( فرّاش ) مَهين يقف في باب ضابط عسكري هو الرائد صالح الساهي، شقيق منيرة الساهي. منيرة هي الكويت، والمراسل حسن العاصي هو صدام حسين. ضحيتان وعمليتا غزو وغازيان. (( … بعد أنْ إختتمَ حسن العاصي حواره مع الرجل في المرآة ـ كان هو نفسه واقفاً أمام مرآة ـ غسل وجهه جيداً، وبدأ يحرّض عبقريته زاعماً إنه سيصبح في القريب زعيم منيرة كما هو شأن زعيم بغداد، وسيقتحم قلبها بمدرّعات الحب، وسيجتاح جسدها بمجنزرات الشهوة، بعد أنْ يقذفها بألف قذيفةِ ولهٍ وولعٍ وشوقٍ في إجتياح عاجل خاطف، كما فعل زعيم بغداد ! … ص 168 )). حسن العاصي أعطى نفسه إسماً آخرَ هو (علي الدحّال) وإنتحل من الصفات والسجايا والمهمات الخيالية التي لا وجود لها ما شاء له خياله المريض. تماماً كما فعل صدام بنفسه، إذ تفرّد بالسلطة والجاه والجبروت بقوة السلاح والكذب والحيل والتزييف والمؤامرات ومنح نفسه رتباً عسكرية وأسماءً وأوصافاًلم يسمعْ بها العراقيون من قبلُ. هنا أبدع الراوي إذ إقتبس مقولة نيتشه ووضعها موضع التطبيق حين خطط لروايته ونفّذ فيها ما خطط. هنا أجد ما يُذكّرني بالبحث العلمي وأساليبه المنوّعة التي يقوم بها العلماء في الجامعات ومختبرات أبحاثهم. على أنَّ هذا الإنجاز الفذ لا ولن ينسيني النَفَس الإنساني وموقف الراوي الشريف والصحيح الرافض لنظام صدام حسين وحكم حزب البعث أولاً، ثم إدانته مغامرة هذا المعتوه الدعيّ في غزو جارته الكويت وإستباحة هذه الدويلة بشراً وأرضاً وعِرضاً ومالاً ثم أحرقها بنفوطها بعد أنْ لم يستطع من بلعها فلفظها من معدته مُجبراً إذْ وضع الرئيس الأمريكي الأب بوش وحلفاؤه أحذيتهم في صدر وبطن صدام حسين الذي دمّر العراق والعراقيين ومسخهم قبل أن يغزو الجيران. ظل الكاتب دواماً في صف ضحايا هذا المخبول المشبوه أصلاً وفصلاً. هذا شأن المبدعين في كل زمان ومكان. إدانة المجرم والجريمة والإنتصاف للحق. الوقوف مع الإنسان في محنته. الدفاع عن حريته وكبريائه. رفع الحيف عنه باليد واللسان. صفحة يسجّلها التأريخ بأحرف من نور لكل كاتب وإنسانٍ إنتصر للعراقيين ووقف معهم في محنتهم مع نظام ورئيس نظام متخلّف عفا عليه الزمنُ وبالت عليه الثعالبُ.
نعم، خاض صدام حسين الحروب وضحّى بالعراق والعراقيين حبّاً بالمال والتسلّط
والتوسع النفسي المريض والإنتشار الجغرافي. إنفجار مزدوج يخرج به الرجل العليل من علاّته المزمنة ويجد فيه علاجاً ناجعاً يخفف عليه من وطأة وضغط أمراض خطيرة خبيثة لا يعرف مكانها الدقيق داخل دهاليز نفسه المعقّدة والشديدة العَتمة. ما كان صدام وحيداً في هذا النوع من الشذوذ، فلقد عرفنا قبله جنكيزخان وهولاكو ثم أدولف هتلر كما ذكرتُ قبل قليل. لذا لم أُفاجأ إذ إفتتح الكاتب الجزء الأول من روايته بالإشارة الخفيفة لذكر تأريخ بداية حرب تحرير الكويت (( في صباح يوم بارد من آواخر فبراير 1991 م كانت السماء بيضاء صافية، وخالية من ضجيج طائرات أف 15 المقاتلة…ص 9 )). ومعلوم أن هذه الحرب بدأت في السابع عشر من شهر شباط ( فبراير ) عام 1991. نثر الكاتب عن عمد بعض الغيوم في سماء صافية كيما يمهد لما سيأتي من أحداث تقع لإمرأة سعودية مع رجل سعودي، إبن بلدها، مثلها عربي ثم مسلم. صدام كذلك عربي ومسلم كأي مواطن كويتي. عملية تعكير أولية تمهيدية فالصفاء لا يدوم في الحياة طويلاً، والحياة نفسها لا تدعه يدوم طويلاً، ولا ينبغي لنا أن نتوقعه أو أن نتوقع دوامه أصلاً ( وطريقُ الفناءِ هذا البقاءُ / إبن شبل البغدادي ). نقاط سود على خلفية بيضاء ، كما يفعل الرسامون وهم يحاولون السيطرة على فراغ لوحاتهم وملئه بالموضوعات أجساداً أو كتلاً أو ظلالاً وألوناً. صراع يعانيه الرسام في تعامله مع الفراغ، يتعامل معه في أغلب الأوقات والأحوال كما يتعامل مع خصم يتحدّاهُ عنيد، بل وعدو مُبين. الفراغ عدو الفنّان وكاشف عجزه ونقاط ضعفه. ولكنْ مهلاً، ليست هذه حالة كاتب رواية القارورة. لقد أثبت يوسف المحيميد إنه سيد الفراغ ومحرّك بل وخالق اللغة التي يتعاطى بها مع هذا الفراغ، وما أكثره وشدة إتساعه في عالم القصص والروايات. وجدت الكاتب فناناً أصيلاً ورسّاماً بارعاً يصمم وينفذ لوحاته لا بالألوان الزيتية والمائية المعروفة، إنما بأضواء أشعة الليزر، ويستطيع ملاحقة ورصد الأحداث والوقائع بكاميرات الديجيتال. لكن ينبغي التنبيه أن يوسف المحيميد لا يرسم صوراً سوريالية كتلك التي رسمها ( بيكاسو )، بل إنه يحذو في صوره حذو ميكائيل أنجيلو ورفائيل دافنشي دقّةً ووضوحاً. وأحياناً أراها مزيجاً بين روائع مدرسة ( رامبرانت ) الهولندي و ( رينوار ) الفرنسي الإنطباعي. لا سوريالية ولا غموض ولا تعقيد في لوحات يوسف المحيميد. كذلك لغته، فإنها لغة واضحة خالية من التزويق والتعقيد والديكورات والمؤثرات الفارغة. لا حشو في لغته ولا زيادات أو ثرثرة . كل كلمة محسوبة وكل جملة موزونة بميزان الذهب والجوهر الكريم. يختار ويصفُّ كلماته في جُمَله المتقنة الصياغة كأنه يجري عمليات حسابية دقيقة. بهذا يشذ الكاتب جوهرياً عن بقية الكتاب الشباب المأخوذين بالغموض والتعقيد والتلغيز ومجاراة البعض من مشاهير كتّاب الغرب.
الحرب
ظل موضوع غزو الكويت وحرب تحريرها الهاجس الكبير للكاتب ولمعبودته ـ المثال ـ الآنسة منيرة الساهي ولمجمل شعب الجزيرة العربية وإمارات الخليج. عمر مأساة منيرة الساهي مع الدجّال حسن العاصي هو بالضبط عمر كارثة الكويت غزواً وتحريراً. ستة أشهر لا أكثر : 2/8/1990 ـ 17/2/1991 . هل كان ذلك محض مصادفة في التوقيت أم، تُرى، صمم الكاتب هذا التطابق عامداً ليبين حكم الأقدار وكيف تضرب البشر طولاً وعَرضاً وهم في غفلة أو في ما يشبه الغفلة من أمورهم ((… منيرة الساهي تخاطب نفسها : كنتُ أشعرُ ـ وأنا أتذكر كثيراً من المواقف ـ أنَّ القدرَ ثقيلٌ وعاصفٌ ومدوٍّ، ولا يمكن لأحدٍ دفعه بعيداً… ص 34 )). (( … كل شيء كان مكتوباً. صدقت أمي في مقولتها التي تحقق لها الأمان النفسي دائماً : المكتوب على الجبين لازم تشوفه العين… ص 207 )).
((… كانت أحداث حربي الخاصة داخل البيت تشبه كثيراً أحداث الحرب خارج البيت، كان كل أفراد البيت تحيط بهم علامات الزيف والدجل، ولكنْ لا أحدَ يتأمل المشهد جيداً، كذلك الحرب الطاحنة، التي تشبه حرب النجوم، والتي تُنقلُ حيةً على شاشات التلفزة…ص 99 )). جدلية ثنائية الداخل والخارج.
أعود بعد هذه المقدمة لأتعرّض لبعض تفاصيل الرواية التي سحرتني فتركتُ
أشغالي وإنشغالي بكتابة مذكّراتي وجعلتني أسهو فيضيع مني الجدول الزمني لبرنامج أدويتي وأوقات تناول الحبوب الطبية وقوّة كل حبة بمقياس الغرام والمليغرام. هل أُقنن ملاحظاتي ووجهات نظري في الكتاب والكاتب وما قد كتب فأضعها في أرقام متسلسلة ؟ حَسَناً. أعطاني يوسف المبرر، فلقد سبقني
(( والبادي أظلم…)) ووزع محتويات روايته ( القارورة ) على أجزاء صغيرة أخذ آخرها الرقم 41 . هل لهذا الرقم من دلالة بالنسبة للكاتب ؟ لا أدري. قد يكون عمره حين إنتهى من كتابة روايته.
1- اللغة والرمز. قارورة منيرة :
منذ فترة طويلة لم أقرأ نصاً طويلاً لكاتب من كتاب زماننا هذا إلاّ ووجدت الكثير من الأخطاء اللغوية. رواية القارورة إستثناء فريد. لغة الرواية لغة سليمة مائة بالمائة ( عدا بعض الإستثناءات التي قد تكون من المسائل المختَلف بشأنها إشتقاقاً أو تصريفاً أو جمعاً. ولسوف أُشير إليها لاحقاً. لغة العرب تجمعهم حيناً وتفرّقهم أحيانا ). شكراً ليوسف، فلقد أزاح عن صدري همّاً أُواجهه كلّما جلست لأكتبَ نقداً لنص شعري أو قصصي أو روائي. الأخطاء اللغوية موجودة وبكثرة في أغلب ما أقرأ وما يصلني من نصوص وخاصة في شعر شباب قصيدة النثر. نقطة أخرى تضيء دروبي وتجعلني أحس بالسكينة والغبطة والرضا وأنا أتقحّم مسالك ودروب رواية القارورة. قارورة منيرة الساهي من زجاج فضاؤه الداخلي ـ الباطن ـ مُغلق من أعلاه، وظاهرها عليه (( نقوش هندية ممحوّة … ص 216 )) (( …ثم تطوي الورقً جيداً كمن تعلّم أن يلفَّ سجائر تبغ رخيص، فتدسّها في فم قارورةٍ عتيقة، على سطحها نقوش هندية فضية، طار معظمها بفعل لمس يديها طوال سنواتٍ طويلة … ص 15 )). وجدّة منيرة تنصحها أنْ تضع فيها (( الحكايات الميّتة كي تعيش … ص 23)). لكنَّ هذه القارورة تضيع من منيرة في نهاية الرواية. تبحث عنها ولا تجد لها أثراً (( … أبحثُ عن القارورة، التي جمعتُ فيها ما صرتُ أُسميه فضائحي التي كنتُ أُسميها أحزاني، لكنني أراها الآن قارورة الرذيلة، فأُقرر أنْ أتخلصَ منها، لكنني لا أجدُ للقارورة أي أثر…ص 216 )). نهاية جدَّ حزينة تلخِّصها منيرة الساهي بكلمات بالغة الدلالة عميقة الأسى تنضح باللوعة والدموع على عمر ضاع مخدوعةً مرةً وخادعة في مراتٍ أُخَرَ . تتكلم عن رجل تزوجها وهو في الستينيات من عمره وله أزواج ثلاث أُخريات ((… سيقرأ سيرتي وهزائمي وخديعتي وصك طلاقي وعلاقتي مع مهندس الديكور، وسيبكي وقوعه بدوره في خديعة كبرى، سيحاول أن يتذكر ليلتنا الأولى، وهل كنتُ بِكراً أم لا… ص 216 )). نهايتان مختلفتان : تم تحرير الكويت فعادت لأهلها وإحتفلوا بالنصر على عدوهم صدام حسين. أطفأت الشركات الأمريكية حرائق آبار نفطهم وإستأنفوا إستخراجه وضخه كالسابق للأسواق العالمية. أما منيرة الساهي فنهاية قصتها مختلفة، شديدة الإختلاف ((… كان صدام خرج بجنوده بعد أن رمى عودَ ثُقابٍ أخير، وجلس يتأمل أعمدةَ الدخان الأسود وهي تشبه عفاريتَ أو مَرَدة يقفون دون أن يطلقوا جُمَلاً من قبيل : شبّيكَ لبّيكَ ! بينما الدحّال ـ حسن العاصي ـ خرج من حياتها بعد أن رمى عُودَ ثُقابٍ أخير في بحيرة قلبها، فإنطلقتْ أعمدةُ دُخانٍ ضخمة من الكُرْه والضغائن تجاهَ رجال العالم…ص 96 )). رفضت الزواج من الدجال حسن العاصي فوجدت نفسها مضطرة للزواج من رجل في مثل سن أبيها، لا يميز بين البنت الثيّب والباكر. قبلت هذا الزواج لأنها وجدت نفسها محاصرة بين فكّي كماشة لا ترحم من الفولاذ. إنقاذ نفسها وما تبقى من شبابها من العنوسة وهمس المجتمع، ثم تشكيك إخيها محمد بعذريتها ((… وقال إنه سيطحن حبَّ رأسها الذي لم يٌطحن بعدُ، لدرجة إنه حاصر أباه وقد شكك في عذريتها، وإنْ لم تكنْ كذلك، فلتثبتْ وتقبل بأول طارق باب ! …ص 15 )). يجب أن تبرهنَ لهذا الأخ ولسواه أنها لم تزل بِكراً عذراء. ولكي لا تدع العمر يمر سدى فتخسر شبابها وتضيع فورة جسدها خانت زوجها العجوز فدخلت في علاقة متينة مع مهندس ديكور ((…سأرى شاباً نحيلاً درس هندسة الديكور في إيطاليا في محل ديكورات، سيحضر إلى منزلي بعد ثلاث سنوات من زواجي، كي يضيف إلى جدران المنزل لمسةً فنيّة مُذهِلة، ويضيف إلى جدران جسدي لمسةً توقظُ فتنته وروعته. ستلمع جدراني بضربات فرشاته الرائعة، وسأغوصُ في أعماقه تماماً، وسيغوصُ هو بي. سأقضي معه ثلاث ليالٍ متتالية، وسأخلدُ في الرابعة إلى جوار زوجي الستيني …ص 213 )).
2- مجسّات ( أنتينات ) الكاتب :
ليوسف قدرة عجيبة على التغلغل في أعماق النفس البشرية، سواء أكان هذا البشر رجلاً أو إمرأة. فلقد قدّم لنا الأعاجيب مما رصد ولاحق ورسم من مشاعر وخلجات المثقَّفة والكاتبة الصحافية والموظَّفة في دار الفتيات إبنة الثلاثين عاماً السيدة ( أو الآنسة ) منيرة الساهي. من أين أتت الكاتبَ هذه القدرات النادرة سيّما وإنه إبن مجتمع محافظ ومنغلق لدرجة أنَّ الشقيق قلّما يدخل بيت شقيقه المتزوج. حتى إبن الخالة ( ناصر )… ما كان مسموحاً له أن يدخل بيت خالته إلاّ في بعض المناسبات الخاصة، ولا يستطيع أن يختلي بإبنة خالته إلاّ إستثناءً أو في غفلةٍ من باقي الأهل في الدار ((… أذكرُ أننا كنا ذات ليل، في زيارة عائلية لهم
ـ بيت خالتها أم ناصر ـ ولأنَّ أختي الكبرى نورة، وهي متزوِّجة، تصير أُختاً له من الرضاعة، حيث أطلقت لها خالتي ـ ذات رِضاع ـ ثديها المُكتنز بالحليب فمزّتْ حلمتها، مما يجعل ناصر يدلف إلى وسط البيت دون حاجة أختي إلى غطاء لوجهها…ص 66 )). ثم كيف جمع كل هذا الترف في وصف ما ترتدي منيرة الساهي وبقية النسوة السعوديات من ألبسة وكيف تتزين المرأة السعودية، من
أين ؟ أحيل القاريء الكريم إلى الصفحة 59 و إلى الجزء الذي يحمل الرقم 33
وخاصة الصفحات 175 ـ 178 . في رسالة بالبريد الألكتروني قلت ليوسف عن طريق صديق وسيط (( لقد أوقعتني في غرام منيرة الساهي )). ثم قلت له ما
معناه : كلما توغّلتَ وأسرفتَ في وصف جسد وعيون منيرة الساهي، شخُصتْ أمام ناظريَّ المطربة سميرة توفيق وهي تغني في التلفزيون أغنية ( جسر الحديد إنقطع من دوس رجليَّ ). أحسب الأمر كذلك. فمنيرة الرواية هي صورة مرآة أو نسخة ( فوتو كوبي ) أخرى لسميرة. منيرة ـ سميرة. النور والسمر. النور والنار. أطلب من يوسف الحُسْن (( الحسنُ حلفتُ بيوسفه… أحمد شوقي )) أن يُثبت العكس. حين يصف يوسفُ الحُسنِ المرأةَ يجعلك تطمع فيها وتهيم فيها غراما. يمهد لك الأجواء السحرية التي تغريك في أن تندمج فيها وأن تتمناها صديقةً أو عشيقةً أو زوجةً … في الأقل…! يا يوسف، إنك واللهِ لساحر خطر، لا موسى يدانيك ولا سحر موسى، لا عصاه ولا أفاعيه. سحر يوسف إنما هو سحر السعودية وجزيرة العرب، رمالاً وجبالاً صخرية جرداء. أما سحر موسى فهو سحرٌ مصريٌّ فرعوني، سحر ماء النيل وخضرة ريف مصر. فمن الأكثر ثباتاً، الرمل والصخر أم الماء والخضراء ؟ الرمل يمتص الماء ويجفف الخضرة.
3 – قضايا إجتماعية شائكة :
عالج يوسف المحيميد الكثير من ظواهر مجتمعه السعودي المعقّدة بصبر وروية وقدرة متناهية على الوصف والتحليل ثم الجرأة في تقحّم أسوار المحظور والممنوع.
كان بارعاً في إقناع القاريء بحججه ومنطقه التحليلي وبما يستخلص من نتائج وعِبر. سأسوق بعض الأمثلة.
3-1 / عالج ببراعة ظاهرة (( العرب الأفغان )) التي دوّخت الجميع وأصبح العراق ضحيتها اليوم، حيث السيارات المفخخة والأحزمة الناسفة وسواها من أسلحة ووسائل مزّقت العراقيين أشلاءً، متخذاً من محمد الساهي، شقيق بطلتنا وحبيبتنا سميرة… عفواً… منيرة الساهي مَثَلاً.
3-2 / ووضع اليد على ثنائية ونفاق المجتمع من موضوع الجنس والعلاقات بين الرجل والمرأة، بين الشاب والشابة، وكيف يجد الجنس طريقه أو دروبه السرية ليحقق ذاته ويمارس نفسه المخلوق فيها طبيعةً وجِبلّةً. المطر يهطل ولا رادَّ له. والنباتات تنمو وتتكاثر. والشمس لا تغيب إلاّ لتشرق. تغيب اليوم وتشرق غداً.
كذلك البشر بنو أبيهم آدم. هذه الغريزة المغروسة عميقاً، إنْ لم تنكشف للعَلَن
مارست نفسها في السر. وتمارس نفسها عندئذٍ بأشكال أخرى مخالفة للطبيعة.
(( … كل شيء في هذه المدينة يحمل نقيضين، كأنما هي ذوات إنفلقت إلى شظايا، في داخل كل شخص شخصان أو أكثر، شخص الظاهر وشخوص الباطن، شخص محترم ومهذَّب ومخلص ومنفتح في الظاهر، وفي الباطن والعمق شخوص عديدون للصوص وخَوَنة ومنغلقين ومتزمتين. كان الناس يستبدلون الشخوص في دواخلهم كالملابس تماماً تبعاً للحالة والطقس والمكان والظرف المصاحب…ص 119 )).
3-3 / طالب جامعي يُغرر بالصبية فاطمة الحساوية، ينتهك حرمة جسدها الفتي فتحمل منه لينكرها وينكر ما حملت منه ( الفصل أو الجزء رقم 23 ، الصفحات 118 ـ 126 ). الحساوية في العراق هم من فقراء القوم، معروفون بالبساطة والبراءة وصفاء النوايا حدَّ السذاجة المُفرِطة. فهل هم كذلك في العربية السعودية ؟ إذن قد نجح الكاتب في جمع الصفة والموصوف.
3-4 / رجل يقتل إبنته بطلق ناري في صدرها. يحفر لها في الرمل قبراً ((… نعم كان يحفر التربة بمسحاة أحضرها على كتفه، ولا يكفُّ عن النشيج، ولحيته تبتلع الدمع السخي. كان يحفر ويشهق مثل إمرأة، بل إنه حتى بعد أن لففنا الشابة داخل عباءتها، وأنزلها قليلاً في الحفرة، زلّت قدمه، فهوى معها، وصار يشهق بعنف وجنون… الصفحة47 )). حين سألت الأبَ غاسلةُ الموتى وشاهدة الحادث عن سبب قتله للفتاة كان رده (( مسألة شرف )). نقرأ في هذا الكلام الكثير من العِبر والعظات البليغة. رجل يقتل إبنته غسلاً للعار أو توارياً منه، لأنَّ العار سيبقى حياً حتى بعد قتل ودفن من جلب على العائلة هذا العار. وما هي حقيقة هذا العار ؟ مارست فتاة شابة الجنس مع واحد من الرجال فإستحقت عقوبة الموت. لِمَ لا يُقتلُ ذاك الرجل الذي مارس الجنس مع القتيلة ؟ نعم، الرجل الذي خدعها أو أغراها أو هددها أو كذب عليها فكال لها الوعود. أليس الجنسُ الجسرَ والقاسمَ المشترك الأعظم الذي يربط الرجل بالمرأة ؟ الجنس منذُ أبينا آدمَ قِسمةٌ وشِركةٌ بين إثنين لا ثالث بينهما : الذكر والأنثى. ألسنا نحن الأحياء نتاج هذه الشراكة ؟ يبكي الرجل ـ الأب ـ القاتل إذ يواري ضحيته وفِلْذة كبده التراب، يئدُها كما كان يفعل أجداده عرب الجاهلية مع فارق واحد : ما كان من يئدُ إبنته يبكي لحظةَ أن يدسها في التراب (( وإذا بُشِرَّ أحدُهم بالأنثى ظلَّ وجههُ مُسوَّداً وهو كظيم. يتوارى من القومِ من سوءِ ما بُشِّرَ به أيمُسِكهُ على هُونٍ أمْ يَدُسّهُ في الترابِ ألا ساءَ ما يحكمون / سورة النحل، الآيتان 58 و59 )).
لماذا يبكي الأبُ القاتل على إبنته وهو من قتل ؟؟ دموع الرجل في ظني دموع إدانة وعبراته صرخات يطلقها في وجه المجتمع. فهذا المجتمع عينه من أجبر الأبَ على إنزال القصاص الذي لا يريده ولا يؤمن به، على إبنته الشابة أو الصبية. اليد التي أطلقت النار يد الأب، نعم، ولكن الرصاصةَ رصاصةُ المجتمع. المجتمع مِدفع جاهز أبداً للإطلاق ولكنْ ، ينتظر من يشعل الفتيل ويوقد النار في البارود. تغلّبت أخيراً قوة ضغط تقاليد وعادات المجتمع على عاطفة الأبوّة فنحر الأب إبنته وهي جزء منه ليرضي وحشية وتخلّف سواه. صراع رهيب يعانيه الوالد قبل أنْ يُغلِّبَ إحدى كفّتي الميزان، وهي ضيزى أصلاً، على كفّة الطبيعة السويّة والأبوّة وحنان الوالد. ضحّى لمجتمعه بنفسه إذ ضحّى بإبنته وزهوتة وزهرة دنياه.. دنيانا نحن الرجال والأباء. أطلق النار على الجسد الفتي الذي يحمل نصف دمه وجيناته الوراثية والكثير من صفاته وخلاله. أي إنه قتلَ نصفاً وظلَّ يحيا بنصف. ما كان هيّناً عليه أن يدفن ويفارقَ نصفه، لذا زلّت قدمهُ وسقط في الحفير الذي أعده بنفسه للنطفة التي نمتْ وكَبُرتْ فغدت بشرياً سويّا. أراد أن يدفن نفسه مع من دفن. الموت يفرّق الآباء عن الأبناء، والموت من ثم يجمعهم.
نعم، قتلَ قابيلُ أخاه هابيلَ لكنَّ الوالدَ آدم لم يثأر لدم إبنه القتيل فلم يقتل قابيلَ.
كيف يقتل أبٌ أولاده ؟؟
3-5 / ثم ألمحَ بسرعة إلى وجه آخر من وجوه الإلتفاف على الجنس وممارسته سراً بأشكال أخرى مخالفة لقانون الطبيعة. فهذه ( نبيلة ) تدعو منيرة لممارسة السحاق (( … لا أعرف ما إذا كانت صادقة، وأن هؤلاء دجالون يحتالون على ناس بلادي البسيطين مثلي ؟ أم أنها تعتبرني ساذجة، لأنني لم أُلبِ رغباتها بأن تنام عندي في البيت، وتوقظ جسدي كما تقول لي بجسارة : جسدك حلو، لكن نائم في حلاوته ! محتاج أحد ينبهه من نومه… الصفحة 62 )).
3-6 / ثم ظاهرة اللواط بين الرجال. زوج منى، شقيقة منيرة الصغرى، تعرّض في صغره لإعتداءات جنسية (( … أما أختي الصغرى مُنى، فقد تتزوج من شاب في منتهى الجمال والأدب والثقافة، وستنجبُ منه ولداً بعد سنتين من النحيب،إذ تكتشف إنه يعاني من جروحٍ نفسية، وقد عرفت أنه تعرّض لإستغلال جنسي في طفولته. يا إلهي، ما هذا المصير يا مُنى ! )).
3-7 / ثم إبن خالتها ناصر، يلاحقها بسيارته، ويقبّلها في بيته عنوة مدعياً السهو والخلط بينها وبين أختها الأكبر نورة ( ص 66 ).
3-8 / ورجل في الأربعين يغريها كَذِباً يوم كانت طفلة في الحادية عشرة من عمرها بهديةِ عيدٍ نقدية ليقبلّها بشدة على خديها فترد عليه بأن لطمته على وجهه ( ص 67 ).
4 – بلغ يوسف الذُرى حين عالج موضوع المظاهرة النسوية المطالبة بالسماح للسيدات بقيادة سياراتهن بأنفسهن والإستغناء عن السائقين الأجانب من الهنود والباكستان والتايلنديين والفليبينيين ومصريين وفلسطينيين وآخرين سواهم من مختلف الأجناس والأقوام. إلتقط الكاتب ثلاث عينات من هؤلاء النسوة وكانت كافية لإستعراض طبيعة ونوع من خطط لهذه التظاهرة الإحتجاجية وقادها في وضح النهار وتحت سمع وبصر رجال شرطة المرور وغضب وتشنج المتزمتين من المتدينين والمحافظين من الرجال. نقرأ في هذه العيِّنة (( أسماء الساقطات الداعيات إلى الرذيلة والفساد في الأرض : عائشة بنت عيّاش ـ أُستاذة جامعية ـ أمريكية كافرة.
فاتن العبد الرازق ـ طالبة ـ شيوعية.
منيرة الساهي ـ موظفة ـ علمانية.
….. إلخ )). كان يوسف المحيميد قد مهّد لهذه الحادثة التي هزّت كيان المجتمع السعودي هزّاً عنيفاً. هيأ المُناخ الطبيعي والجو النفسي الذي أضاف أشياءَ أُخَرَ لتصميم المرأة السعودية على تحدي مجتمعها بأمرٍ عاديٍّ لا يستوجب الشجب أو المنع أو الإستنفار وتدخّل الشرطة. نقرأ في الصفحة 74 ((…إذ كنتُ مع زميلتي نبيلة وسامية نقوم بتلبية حاجات الأُسر الكويتية المُشرَّدة من بلادها، وقد تمَّ جمعهم مؤقتاً في ساحة ملعب الملز لكرة القدم. أذكرُ أننا كنا نوزّع البطانيات واللحف والوسائد، ونقدم للنساء الفاكهة الطرية، وما إنْ نبتعد قليلاً عنهنَّ حتى يطلقنَ كلاماً جارحاً، إذ يُعِبنَ علينا إننا ذليلات وخاضعات/ ولا نملك حتى أنْ نقودَ السيارات بأنفسنا. كنتُ سريعة الإنفعال ، إذ نادت إحدى الصغيرات بإستفزاز : ” أنتِ يا أم جوتي بنّي ! ” وقد كنتُ ألبسُ حذاءً بنيّاً، وبلوزة من الكتان البني، وتنورة بلون السكّر. إلتفتُّ نحوها، وزعقتُ بها :
” نعم ؟ خير يا…! ” قامت نحوي تريد أنْ تشتبك معي، لولا أن أمسكتها إمرأةٌ أربعينية، فقالت لي وقد إبتعدتُ ” أنتِ مثل المشرَّدة في بلادك ! “. كانت جملتها قوية ومؤّثِّرة، وقالت لنا ونحن نديرُ ظهورنا خارجاتٍ، إننا لا نملك حقَّ أنْ نقودَ سيارة، لا بدَّ من أحدٍ يقودكنَّ )). أشعلت فتاة كويتية لاجئة في السعودية فتيل الثورة النسوية الهادئة التي تم قمعها بفظاظة. نوع آخر من وئد البنات وقتلهن أحياءً. الرجل ثم الرجل يوسف المحيميد الذي وقف بوجه جنكيزخان بغداد وأدان غزوه للكويت وإستخدامه للأسلحة الكيميائية المحرَّمة دولياً ضد شعبه وبعض الشعوب المجاورة، هذا الرجل الرجل وقف وسيظل يقف مع قضية حرية المرأة السعودية على مختلف الصُعُد. يفضح مأساتها. يدين إستغلالها وإستغفالها بإسم الدين وتقاليد المجتمع الذكوري. يقوم بذلك لإنه يعرف أنَّ قضية المرأة هي أساساً قضية الرجل : أبيها وأخيها ثم زوجها. عبدٌ من سيتعبد المرأة. لا حرية لمن يسلب المرأة حريتها. لا حقَّ لمن لا يعترف بحقوق غيره. المجتمع لا ينهض ولا يتطور بجنس واحد وبنصف أعضائه. والطائر إنما يُحلِّق بجناحين.
5- وفي هذا الخط الإنساني الرفيع، خصص الكاتب بضعة أجزاء من كتابه لمعالجة قضية إنسانية أخرى بالغة الخطورة. مأساة الظل القاتم. مأساة النساء والفتيات الجانحات والقاتلات ومدمِنات المخدِّرات. يتابع أمورهنَّ متابعة عالم نفساني وقاص متمكن وخبير متخصص في شؤون بنات حوّاء. يفعل كل ذلك مستهدفاً أمرين إثنين : إدانة المجتمع فهو المسؤول الأول. وإنَّ هؤلاء النسوة إنما هنَّ ضحايا للرجل والمجتمع الذي يضع هذا الرجل فوق قامة المرأة ويعطيه حق السيادة المطلقة عليها (( الرجال قوّامون على النساء. وللرجل مثلُ حظ الأنثيين )). تمّت الدائرة وأُقفِلت نهايتاها. قرأت الفصول الخاصة بهذا الموضوع مِراراً، ولم أزلْ أشعر بالحاجة للمزيد من قراءتها. ( الفصول 21 ـ 25 ).
6- هنالك أمرٌ آخر يستوقف قاريء رواية ” القارورة “… هو جرأة الكاتب نفسه أو ما يسوق على لسان منيرة الساهي من عبارات مكشوفة أنا شخصياً لا أسيغها ولا أراها إلاّ كالأشواك التي تخدّش صفحات هذا السِفر الرائع. أراها كالقذى في عيني، وأتمنى أن لا يشاركني شعوري هذا الكثير من قرّاء الرواية. جمال منيرة الساهي وسحر عينيها لا تسمح بوجود مثل هذه الأشواك والأدغال البريّة. لديَّ ثلاثة أمثلة والقول فيها للفاتنة وساحرة العينين منيرة الساهي:
((… أرى أنني أكثر ثقلاً مما مضى، لقد ثَقُلت حتى عجيزتي، ها ها هااااا.. رائع، لقد أعجبتني كلمة ” عجيزتي ” ! ألمْ تكنْ أمي تهتم كثيراً بأنْ تصبح عجيزتي ثقيلة وكبيرة ولافتة، كي أتباهى بها في مناسبات الأفراح والزواج، حتى أُلفِت نظر أمهّات الذكور الخاطبين إلى مؤخرتي وأنا أمرُّ بينهن، فيرمقنها وهي تضطربُ مكتنِزةً ! اللعنة على عالم يقيس البشرَ ويفاضل بينهم بعجيزاتهم ومؤخراتهم ! هل أصبح العالمُ ينظر إلى المرأة من خلال فتحة الشرج ! يا إلهي… سامحني يا ربي … سامحيني يا أمّي إنْ قرأتِ يوماً مذكراتي هذه ! … ص 72 )). جملة ” هل أصبح العالم ينظر إلى المرأة من خلال فتحة الشرج ” زائدة ونابية ولا لزوم لها. لا تضيف جديداً لما سبقها من قول هو إجمالاً مقبول ومعقول. المثال الثاني ((… كانت تقول له بغيظ وبكاء : أخشى أن تكون إستعرتَ عضو الدحّال لتضاجعني به يا ابن العاصي.. ص 173 )). المثال الأخير ((… كان شيؤه قد إنتشرَ وتمدد، حتى أحسست به صُلْباً لحظةَ أنْ دفعني بقوّةٍ على السرير… ص 29 )). لاأظن أن إمرأةً عربية مسلمة تجرؤ على قول مثل هذا القول. أم…،تُرى، إنني على خطأ ؟؟!!
7- أخيراً، مشكلة اللغة. الأمثلة قليلة لحسن حظي، سأسوقها حسب تسلسل ورودها في الكتاب.
7-1 / ((… إذ رأى أبي أنَّ العقد في البيت وبحضور إخوتي أبرك وأجدى…
ص 62 )). الصحيح ” أكثر بركةً “. تستطيع القول ( أنا أفضل منك أو أقصر منك لكنك لا تستطيع القول أنا أبيض أو أسمر أو أحمر منك. الصحيح أنا أكثر بياضاً أو سُمرةًً…). الصحيح إذن هو القول ( أكثر بركةً ).
7-2 / ((… يتخاطف الصغار والشباب في قسم الرجال، وهم يخدمون الضيوف حاملين دلاء القهوة المرّة وأباريق الشاي الأحمر السادة…ص 178 )). تُجمَع دلّة القهوة على ” دِلال ” أو ” دلاّت “… تلّة… تِلال…تلاّت/ سلّة… سِلال…
سلاّت وهكذا. الدلاء هو دلو البئر بصيغة المفرد، كل ما يُدلى أو أن يُسمح له بأن يتدلى فهو دِلاء. ويجوز أن يكون الحبل الذي يتدلى منه وبه الدلوُ. ودِلاء هو جمع الدلو. ولنا في غيره ومن غيره قياس : جروٌ… جِراء… قَبوٌ… قِباء وأقبية…بهوٌ… أبهاء… جوٌّ… أجواء… عِبءٌ… أعباء… شُلوٌ… أشلاء. كما أنَّ الصِلاء هو النار وهو الحطب وكل ما يوقَدُ لصنع النار. وكل ما يصُطلى به فهو صِلاء.
7-3 / ((… وقد قمتُ أفتح الأزارير العلوية واحداً واحداً كي أترك حريقي يتنفس…ص 185 )). يُجمع الزر على ” أزرار ” وليس أزارير. ( في الكرخ من فلك الأزرار مطلعهُ / لإبن زُريق البغدادي ). سر… أسرار…، إلاّ إذا كان الكاتب يوظف عن عمد لغة كل يوم المحكية والمألوفة في أوساطه ومجتمعه هو، فذلكم من حقه، هو الذي يختار لغة قصّه وهو بالتالي المسؤول عنها. أفلمْ أقلْ سَلَفاً إنَّ العربية تجمع العرب وتفرّقهم ؟!
7-4 / ((… في الخارج كان الميدان أمام المحكمة غارقاً بالعمّال الأسيويين وباعة المساويك وكاتبي معاريض الإدعاءات… ص 199 )). تُجمَع العريضة على صيغة ” عرائض ” وليس معاريض. قذيفة… قذائف/ صريفة… صرائف / جريرة… جرائر/ جديلة… جدائل/ خميلة… خمائل…/ معاريض هي جمع
آخر ل” معرض ” الذي يُجمع عادةً على ” معارض ” … مكتب… مكاتب ومكاتيب / مفتاح… مفاتح ومفاتيح. اللهم إلاّ إذا كانت اللفظةُ سعوديةً خاصة خرجت من طبيعة الفرد السعودي فهي تنسجم مع ذائقته وطريقة تمثّله وهظمه للغته. وإلاّ لما إختلفت لهجات العرب منذ سالف الأزمنة، ولما جاء القرآن الكريم على عدة قراءات. أرجو أن يتابع هذا الموضوع علماءُ اللغة ليكشفوا الضرَّ وأن يكونوا إما معي وإما ضدي، فأريحهم وأرتاح. أو ان أصرخَ في ساعة ضيق وشدّة (( أُقتلوني ومالكاً …)).
ملاحظة ختامية : لم أقرأ سابقاً نصاً للمبدع يوسف المحيميد، أتمنى أن أقرأ المزيد وأن أعرف عن شؤونه الشخصية ما ينير طريقي وأنا أُشمّر ساعديَّ في مغامرات غير محسوبة لسبر أغواره وكشف أسرار مَلَكاته في الكتابة ومصادرها وينابيع قدرته على خلق الأجواء الساحرة التي تأخذ بالألباب. في عينيه قوة خارقة لها القدرة على النفوذ، كالنيوترون وأشعة أكس. وله القدرة على التلوين ولكن بأشعاعات الليزر. وتبقى إنسانية هذا الرجل تاجَ وإكليلَ عالمه الفيزيائي هذا.
نجح يوسف المحيميد في كشف تناقضات مجتمعاتنا نجاحاً باهراً. كشف هذه التناقضات المتعددة المستويات والأشكال كشفاً جريئاً. وضع الخط الفاصل بين عالمي الظلام والنور. فرغم الأجواء العابقة بالعطور ومظاهر الثراء والنعيم من قصور فارهة وسيارات مرسيديس وشيروكي وسواهما، وألبسة وفساتين غالية الثمن وساعات رولكس. ورغم كثرة الخدم والحشم من مختلف الجنسيات… رغم ذلك كله تظل المرأة ـ وهي زهرة الحياة الدنيا، مبتدانا وآخرتنا ـ هي العنصر المظلوم والمكبوت. محرّم عليها أن تقود سيارتها الخاصة. محرّم عليها السفر إلاّ برفقة زوج أو أبٍ أو أخ. ثم المصير البائس للجامعيات والمثقفات حيث يبتعد الرجال عنهن فيبقين دون زواج يواجهن العنوسة القاسية، ليجدن أنفسهن في نهاية الأمر مضطراتٍ إلى الزواج من رجال كهول في أعمار أبائهن، ولتحمل الواحدة منهنَّ رقم الزوجة الثالثة أو الرابعة لمن قد تزوّجت. (( ضياءٌ في بواطنهِ ظلامُ / من أحد أبيات الشاعر المتنبي )). المرأة هي الضحية في نهاية المطاف لأنها الأضعف في هذه المجتمعات.
نيسان/ مايس 2005
___________________
( رواية للروائي السعودي يوسف المحيميد. الناشر : المركز الثقافي العربي،
الدار البيضاء ـ المغرب / بيروت ـ لبنان الطبعة الأولى 2004 ).
0 تعليق