ياسين رفاعية
ثمة حركة نشطة في كتابة الرواية في السعودية، حيث برزت أسماء لا تقل أهمية عن كتَّاب الرواية المعروفين في سوريا أو لبنان أو مصر أو بقية العالم العربي، فمنذ عشر سنوات بتنا نقرأ روايات سعودية قلباً وقالباً، أي أنها تتعرّض للحياة في هذا البلد المؤتمن على الاسلام، فيجد نفسه بين المطرقة والسندان، وهو موقف صعب حقاً، فالرواية السعودية “تنبش” الحياة في هذه المملكة،
وتكاد تفضح الممارسات التي تقام في السرّ، من مخدرات واغتصاب وتعرض للمحرمات، بحيث يجد النظام نفسه إزاء أمرين: إما اضطهاد هؤلاء الكتَّاب أو تترك لهم الحبل على الغارب، وضمنا ثمة غض نظر عن هذه الكتابات، ربما رغبة في تطوير الحياة، ولو ببطء وعلى مدى سنوات.
كان لابد لي من هذه المقدمة، بعد قراءة رواية يوسف المحيميد الجديدة “القارورة” التي نلاحظ فيها أن وأد البنات مازال قائماً، ولكن بأسلوب آخر، وهو سجن المرأة في منزلها، وبالتالي اضطهادها من الأب والابن والأخ، ومحاصرتها في كل أمور الحياة. ونتذكر –كما تتذكر الرواية- تحدي بضع نساء سعوديات للسلطة، عندما قدن السيارات في شوارع الرياض، وأثرن في ذلك الحين ضجة كبيرة تناقلتها وكالات الأنباء في العالم أجمع. ورواية “القارورة” تنتصر للمرأة العربية السعودية وتدافع عن حقَّها في الحياة أسوة بالرجل الذي تفتح له كل الأبواب إزاء إغلاقها أمام النساء، هذا في العموميات، أما في حدث الرواية الأساسي فهو لبّ الموضوع وذروة المأساة، منيرة الساهي، بنت العيلة، والمثقفة، والكاتبة في عمود اسبوعي في مجلة، والحقوقية التي تشارك في التحقيق مع نساء سجينات بسبب تعاطيهن المخدرات، بأساليب لا تخطر على بال أحد، حتى أن إحداهن تخفي المخدرات في فرجها وتكاد تتسمم بذلك. منيرة الساهي هذه الواعية لكل هذه الأمور، تقع في الفخ من حيث لا تدري، والعنكبوت مجرد رجل لا أخلاق له ولا ضمير، يريد أن ينتقم منها لينتقم من أسرتها كلها عندما دفعه رائد في الجيش هو شقيق منيرة على صدره وهو العسكري المراسل الموضوع تحت إمرته، فيحيك مؤامرته على هذه المرأة المسكينة الطيبة، تماماً كما يحيك العنكبوت خيوطه حول فريسته.
والرواية منذ مدخلها تشدُّ القارئ عبر مسارين، الراوي الذي يشاهد والراوية التي تعيش ما يشاهده، في هذين الخطين، تدخل براعة الكاتب ليقدم لنا رواية ممسوكة جيداً من كل أطرافها، تدل على خبرة متقنة في رسم الأحداث، كما لو أننا نشاهد فيلماً سينمائياً جيداً، بإخراج وسيناريو جيدين، وهنا عصب الرواية، والقارورة الرمز، هي الفانتازيا الأخرى التي تمسك بالرواية، فلا تتخلخل أو تضطرب، فإذا بنا نتابع الأحداث بشغف كبير.
كتابة تتقدّم وتتأخر، تستلهم ما بين الواقع والمونولوج الداخلي، فلا تتعسَّر أبداً، حرفية بكل ما تعني هذه الكلمة من معنى، بحيث يمكن القول أن نضع يوسف المحيميد في مقدمة الروائيين، ليس في السعودية فحسب، بل في الوطن العربي.
وجرأة الرواية هنا أنها تتدخّل في الحياة السعودية لتقدِّم لنا نماذج لم نكن نعرفها عن هذا البلد، خصوصاً فيما يتعلق بالنساء والشبَّان المعاكسين لهن بكل الوسائل.
والرواية مزيج بين حكايات الجدَّة بما يشبه ألف ليلة وليلة وبين الواقع المتأزم لحياة البطلة التي تتناوب في روايته مع الراوي الآخر، لتكتمل الحلقة دون أن تفرط حباتها، وثمَّة أمر آخر تستند عليه الرواية هو الحرب في العراق وغزو الكويت، وأظن أن هذه الحشرة لم تكن ضرورية وإن كان علي الدحَّال يتلظى بها كعسكري يتظاهر بأنه رجل المهمات الخطيرة، عندما يقدِّم نفسه إلى منيرة على أنه الرائد في الجيش والمكلَّف بالمهمات الصعبة في العراق والكويت، وهو كاذب في كل ذلك.
كانت خيوط العنكبوت التي غزلها هذا الدجَّال ببراعة، حتى أوقع منيرة في شباكه، بإعطائها من طرف اللسان حلاوة، والمحدِّث اللبق الجذَّاب، الذي –كما كان يدَّعي- تلاحقه النساء من كل حدب وصوب، وهو المتزوج وله ستة أبناء، واسمه الحقيقي حسن بن عاصي، لكن، ببراعة ابن الحرام، أزاح حياته هذه كلها، عندما قدَّم نفسه لها باسمه المستعار وبذلته العسكرية كرائد وهو في الواقع “جندي مراسل” وله أكثر من شخصية وأكثر من وجه وأكثر من أهل. ومع ممارسة اللعبة بحذاقة تقع منيرة في هواه، بل والأقسى من ذلك تتزوجه وعندما تنكشف اللعبة، تظهر أنياب هذا الذئب الذي حبك الحكاية حبكة لا يمكن الفكاك منها، وفي المحكمة عندما طلبت التفريق، كاد القاضي يقف إلى صفِّه من التمثيل البارع الذي قام به حسن بن عاصي أو علي الدحَّال، بل طالب بخمسين ألف ريال التي دفعها مهراً مع أنه لم يدفع شيئاً، كل ما هنالك أن هذا المبلغ قيِّد في عقد الزواج ولم يقبض الأب منه مليماً واحداً. ويا للمفارقة فقد قرَّر القاضي أن يعاد له هذا المبلغ، وتعطافاً، أقل من عشرة الآف، فهل هناك أقذر من هذه اللعبة التي مارسها حسن بإحكام وذكاء؟ فـ “مثل دولة عظمى تملك أسلحة ودراسات ومخابرات، كان ابن الدحَّال، إذ يهيئ الكمين ويرمي حوله القش وأوراق الشجر، منتظراً أن تقع فيه غزالة شاردة، لا يعرف ما إذا كانت الغزالة الشاردة الضالة هي العراق وقد وقع في فخ الكويت.. أم هي الكويت قد وقعت في فخ العراق! كان ابن الدحَّال يدرك أن العالم مجرد عبث وفوضى. وأنه-هو- جزء من هذا العبث والزيف، إذ يسأل نفسه أحياناً وهو يبدِّل ملابسه العسكرية الخاصة بحسن الجندي المراسل، بالأحرى التي تخص الرائد علي الدحَّال. من يعرف من أنا؟ هل أنا فعلاً حسن أم أنني الرائد علي؟ ماذا يثبت ذلك؟ الأوراق؟ ها أنا أصنع أوراقاً جديدة! الملابس؟ ها أنا أفصِّل ملابس رائد تليق بي! إذاً لم لا أكون الرائد الحقيقي، أليست الكذبة هي أنني الجندي المراسل؟ والحقيقة أنني الرائد الدحَّال؟ من الذي وضع أسماءنا؟ أباؤنا؟ وهل يملكون حقاً ذلك، خصوصاً ونحن لا نملك من أمرنا شيئاً.
في التمازج بين الحكاية الأسطورية والواقع نرى منيرة الساهي كأنها تنتظر بعد ذلك راعياً أو فقيراً صاحب مزمار، بل كانت تتوقع رجلاً بزوجتين أو ثلاث لتكون الزوجة الرابعة، فبعد تلك الفضيحة بات الأهل يريدون لها أي طارق مهما كان وضعه أو شكله ستراً لما حدث. والثالث عشر من يوليو هو الفصل بين الماضي والحاضر وهو لبُّ الإشكال الذي عاشته منيرة بين الحلم والاقتران بالرجل الذي أحبَّت واكنشافه الكذّاب الدجَّال المتآمر المنتقم لعزة نفسه، كأنه رأى فيها الضحية البريئة التي تسقط-كما سقطت فعلاً- في حبائله.
الصورة أوضح عندما يخاطب حسن بن عاصي، أو علي الدحَّال، في المرآة. هذا الرجل المهزوم والمهان:
– أنت جبان وذليل.
– لكن هذا رزقي وعيشي!
– أنت عبد الوظيفة يا حسن!
– لكنها مصدر عيش أطفالي الستة!
– أنت عبد أطفالك يا حسن!
– لا.. ليس الأمر كذلك، لكنني مسؤول عنهم!
– ومتى آخر مرة رأيتها؟
– من تقصد؟
– أقصد الكرامة والعزِّة.. أم نسيتها إلى الأبد! ام وضعتها في ملف الوظيفة وأغلقته عليها إلى الأبد.
ثم يخاطب نفسه في المرآة:
– منيرة!
– ما بها؟
– أوقعها في حبائل حبِّك.
– ثم…؟
– ثم اجعلها تجابه أهلها وتحاربهم من أجلك، دعها تقاتل غطرسة هذا المغرور “يقصد أخوها” حتى يمسح هو حذائك!
هذه هي كانت مشكلة حسن العاصي، الانتقام، والانتقام، ثم استغلال هذه المسكينة أقصى ما يمكن له أن يستغل.
وبدأت اللعبة في غرفة الشاي والقهوة وهو مع زميلين يقرآن مقالة عن هموم المرأة في زاوية “ورد في آنية” وتحولت إلى سخرية زميليه من أحلامه الكبرى في التودّد إلى بنت عائلة عريقة وراقية. وتضاعفت بعد ركلة الصدر الشهيرة التي كسرت قلبه ورجولته، ثم بدأ في تنفيذ اللعبة في الثالث عشر من يوليو، ونضجت اللعبة بعد أن هبط علي الدحَّال بمظلة من السماء، وأصبح فارس أميرته الحسناء منيرة التي انساقت خلف شهاب فرسه البيضاء الطائرة، وهي تركب أخيراً خلف ظهره… ألخ.
وهو، عند اكتشاف اللعبة الخبيثة، يحاول استرجاعها. ولم لا.. فهو الوضيع، وهي العالية، وهي بالأحرى الحلم، فتجيبه: “كيف يمكن أن أعيش مع إنسان امتلك كل هذه المهارة في خداعي طوال ستة أشهر؟! وتقول منيرة: “كنت أفكِّر قبل أن أوقف قلمي عن نسج المأساة، كيف لقارورة أسراري أن تتسع لكل هذه الأحزان؟ كيف تستوعب ذلك دون أن تنفجر وتتشظَّى؟ مسكينة أيتها القارورة.. يا مستودع أسراري وأوراقي وحزني”.
وتروي منيرة عذاباتها: سبقني إلى المحكمة، وادَّعى عليَّ، ادَّعى أنني زوجته معلَّقة برغبة أهلي، وأنه أصبح مريضاً بسبب السحر الذي وضعته له في كأس عصير الرمَّان الذي عملته له-وهنا تروي أكاذيبه أمام المحكمة والقاضي الذي بدا هو الآخر كأنه يؤمن بالسحر الذي يدَّعيه حسن العاصي. “قال في الادِّعاء أنه أهمل بيته ووالده المريض وصغاره ولم يعد يهتم بعمله، وهكذا، بكثير من الحذاقة والخبث يصبح حسن العاصي هو الضحية والعنكبوت هي منيرة الساهي، ياللمفارقة!
وتخاطب منيرة صديقتها: آه يا نبيلة.. كلما تذكرت أن هذه الأسنان كانت تلتهم فمي وتدعك شفتيَّ برعونة واستهتار، بينما استسلم له مثل بعوضة تستسلم لقدرها، أُصاب بنوبة بكاء طويلة، كيف لمثلي في هذه السن والعقل والوعي أن أسقط فريسة سهلة وميسرة لمثل هذا الأبله؟ هل كان أبله؟ أم أنني أنا كنت البلهاء؟ وهل كان قد تآمر هو وعمَّته والنادل في مطعم مكسيم والمأذون والشاهدان العسكريان والبطاقة المزيفة التي يحملها؟ هل تآمرتُ أنا على نفسي وسرت خلفه بثقة امرأة عمياء ومجنونة؟ هل كان القدر أحمق وهو يحجب عن عيني كل دليل قد يكشف مؤامرته؟ لا أعرف.
هكذا، كان مكتوباً، وهي بثوب العرس، أن يكتشف ابن خالتها حقيقة حسن العاصي أنه ليس رائداً ولا علي الدحَّال، بل مجرد عسكري مراسل. وهكذا اشعلت تلك الخبطة على صدر ابن العاصي نار الانتقام لكرامة نامت منذ سنوات بعيدة. وأخيراً وهي ترى في مرآة التسريحة المعتمة شبح امرأة ترقص بهدوء، جسدها يتمطى مثل هرَّة جائعة وحزينة كانت تراها تتمايل بجسدها المكتنز وعيناها لا تتورعان عن نزِّ الدمع السخي و: “لا أحد يمكن أن يحضنني بعد اليوم.. أبي ستقضي عليه الجلطة.. وأمي ستنكفئ على ذاتها وحيدة وحزينة. أما أخي صالح فسيعود إلى عمله، وسيوظف جندياً مراسلاً جديداً, وكأن الأمر لا يعني له شيئاً” أي كل شيء سيذهب إلى حاله.
أما منيرة فكانت الجريمة بحقها أشد من القتل.
وهي إذ تتخيل حياتها المقبلة التي لن يكون لها طعم أو رائحة.. وستجبر على الزواج من رجل ستيني ضعف عمرها لتعيش معه ما تبقى لها من هذه الحياة.
رواية جميلة، مؤثرة، بليغة في لغتها وأحداثها، وهي تستقطب ما هو ممنوع ومسكوت عنه في حياة مجتمع مغلق، لا يسمح لأحد أن ينشر غسيله علناً، ولا يرضى أن ينفتح على العصر، طالما أنه يعيش فوق أرضه المقدسة، ولو عاد إلى ألف سنة إلى الوراء، لأدرك أن الحياة هناك كانت أفضل وكانت أكثر انفتاحاً، والرواية بشكل غير مباشر تدعو إلى حياة جديدة، حياة تستلهم الخضارة والتقدم عوضاً عن التقوقع في مكانك راوح.
0 تعليق