د. مبارك الخالدي
لما ترفع منيرة الساهي الشخصية المركزية في رواية يوسف المحيميد (القارورة) وسادتها ليلة 13 يوليو 1990 يقع بصرها على عنكبوت يبدو أنه اتخذ من الوسادة ملاذا يحتمي به، أو يبث الدفء في أوصاله الباردة والوقت صيف. ليس في الرواية من البداية إلى النهاية ما قد يطفئ فضول القارئ لمعرفة كيف انتهى المطاف بالعنكبوت إلى تحت وسادة امرأة تعيش في جناح خاص بها
، في فيلا تشتغل على نظافتها خادمة أجنبية وربما يساعدها السائق الأجنبي. لكنني أعتقد أن معرفة الطريقة التي وصل بها العنكبوت إلى الوسادة ليست بذات أهمية، ولن يطول تساؤل القارئ عنها إلا إذا نسي أنه يقرأ عملا تخيليا يتطلب الاستمتاع بقراءته إيقاف ما يعرف منذ صاموئيل كوليريدج بــ(إيقاف عدم التصديق). فإذا ما تشبث القارئ بموقف النافي لمنطقية وجود العنكبوت في غرفة على درجة عالية من النظافة فأنه يشيد حينئذ محكمة لمحاكمة الرواية حتى بدون وعي بمعايير ومنطق العالم خارجها ، وليس انطلاقا من معايير ومنطق العالم التخيلي الذي تعرضه.
في هذه الحال ، يكون ممكنا طرح التساؤل نفسه عن السارد بضمير الغائب الذي يطوف بشوارع الرياض المتخيلة، في الصباح الباكر، ليرسم فيما يشبه لقطة التأسيس (establishing shot) صورة لفظية بانورامية للمكان وللشوارع وهي تمتلئ بهدير حافلات خط البلدة ، وتستقبل مجموعات العمال الأجانب ، ثم يتسلل إلى داخل البيوت ليصور العاملات الأجنبيات وهن يؤدين القسط الصباحي من أعبائهن اليومية ، ثم يغادرهن ليتلصص على الجدات النجديات وهن يسبحن منتظرات تسلل رائحة القهوة المبهرة بالهيل (9). ثم يغادر السارد الجدات ليتسلل إلى غرفة نوم منيرة الساهي ليقدمها بلقطة عن قرب close-up وهي مستلقية في فراشها الوثير(10). ، ليتوغل في تسلله إلى داخل رأسها ليتلصص وينقل أفكارها وتساؤلاتها عن الفضيحة التي حدثت الليلة الفائتة.
لا يوجد عمل سردي خال من التسلل والتلصص والتنصت لأنه بدونها لن تكون هنالك أعمال سردية، كما أن قراءة اي نص سردي تورط في التلصص والتنصت ، والسارد بضمير الغائب في (القارورة) هو أول متسلل على مستوى الخطاب، لا على مستوى القصة. فإذا ما أعتبر وجود العنكبوت تحت الوسادة مفتعلا وغير منطقي، فان لا منطقيته أقل بدرجات من لا منطقية قدرة الراوي ، والرواة عموما، على التسلل والتلصص والتنصت والانتقال من مكان الى آخر، والنفاذ الى الأغوار العميقة لدواخل الشخصيات. تسلل العنكبوت إلى غرفة الشخصية المركزية في (القارورة) منطقي وفق المنطق العام الذي تنتظم به اللعبة السردية في الرواية ويتحقق بواسطته وحدة وتماسك البنية السردية. إن إخفاء تسلل العنكبوت هو جزء من اللعبة السردية التي يلعبها المؤلف الضمني لـ(القارورة) ، وعبر لعبته هذه يأخذ الخطاب السردي شكله ومعماريته.
يقول روبرت ديتويلر:كل الفن (لعب) في خلقه عوالم رمزية أخرى؛ والقص في المقام الأول طريقة للتظاهر, والتظاهر عنصر أساسي في اللعب والألعاب
(باتريشيا وو ،Metafiction 34)، و اللعبة السردية في (القارورة) يمثل التسلل ثيمة رئيسة فيها، والعنكبوت بتعالقاته مع مفاهيم التسلل والمخاتلة يحتل المركز من هذه اللعبة. إن الوظيفة الترميزية والمجازية للعنكبوت تفيض خارج أطر تأويل تسلله على انه استباق أو نذير أو معادل لتسلل الرجل العنكبوت حسن العاصي إلى عالم منيرة الساهي، فوظيفته تنداح في اتجاهات مختلفة وعلى مستويات عدة في الرواية؛ فهوالمؤلف المجهول الفردي أو الجمعي الذي نسج الحكايات الشعبية الثلاث التي تحكيها بنات الساهي الثلاث لجدتهن في منافسة القص التي تنظمها الأخيرة وهو صدام حسين بتأليفه/تلفيقه قصة الكويت ، الفرع الذي افترق عن الأصل؛ وهو منيرة الساهي حين تكتب قصة انخداعها بحسن العاصي، وهو أخيرا، المؤلف الضمني الذي غزل كل الخيوط والوحدات السردية التي يتخلق منها العالم المتخيل في الرواية. واستطرادا بهذه الفكرة، إن كل حكواتي وقاص وروائي هو عنكبوت-وكل مؤرخ أيضا-ابتداء من شهرزاد، أم العناكب البشرية ،ذكور وإناث، التي تنسج طوال ألف ليلة وليلة شبكة عنكبوتية خرافية، من حكاية تتلوها حكاية، في سعيها لدفع السيف عن رقبتها، وانتهاء ،في هذه القراءة، بالمؤلف الضمني لـ(القارورة).
ليس في معاجم اللغة العربية ما يدل إلى الجذر/الأصل الذي اشتق منه الاسم عنكبوت؛ أما في الإنجليزية ، فالكلمة عنكبوت (spider) ترتبط ايتيمولوجيا بالغزل والنسج لاشتقاقها من الفعل (spinnan) في الإنجليزية القديمة، أي (spin)في الإنجليزية الحديثة، بمعنى يغزل وينسج ويلفق قصة ويغزل شرنقة أو شبكة. لكن بإخراج المفردة من نطاق معانيها المعجمية ثم موضعتها في سياق الموروث الديني والميثولوجي والفوكلوري العالمي ، يتسع المدى الدلالي والرامز للعنكبوت لارتباطها بتصورات عن إمكانات الحماية والخلق والاحتيال والتحول وصد الأذى. إن العنكبوت حامية الأنبياء كما في قصتي النبيين داود ومحمد عليهما الصلاة والسلام ؛ وفي فكلور هنود(توبا) في أمريكا الجنوبية، العنكبوت أول ناسج وحائك؛ ويرتبط بالقدرة على الخلق في فكلور العديد من السكان الأصليين(الهنود الحمر) في الولايات المتحدة ؛ العنكبوت (أنانسي) هو خالق العالم في أساطير ساحل الذهب، وهو البطل والمحتال(trickster) في معظم فكلور غرب أفريقيا والاميركان الأفارقة؛ ويعلق (الهنود الحمر) من قبيلة (تشيبوا) شبكات عناكب فوق أسرة الأطفال لتمسك (تصطاد)الأذى الطافي في الهواء.
على ضوء هذا قد يتضح لماذا جعلت اقتفاء خيوط العنكبوت محور اهتمامي في هذه القراءة لرواية المحيميد. فبإحالة العنكبوت إلى هذا الإطار المرجعي من الموروث الثقافي الذي تشكل حولها في مجتمعات متعددة ومتباعدة، تغدو إمكانات ترميزيته اكثر عمقا واتساعا وتعددية، مما يتيح مدى رحبا لممارسة عملية أو لعبة تحليل وتأويل النص وفك مغاليقه بهدف إنتاج قدر من المعرفة به. هنا أخلص إلى طرح المجادلة أن المؤلف الضمني لـ(القارورة) يلعب لعبة سردية يتخلق بها نسيج خطاب سردي تذوب فيه الحدود والفواصل بين التقاليد والمواضعات السردية الفرع- نوعية و تنجدل فيه خيوط الميتاقصي (ما بعد الحداثي) بالحداثي بالواقعي بطريقة تؤدي إلى تخفي الميتاقصي، ومروره أمام ناظري القارئ متسللا مثل العنكبوت في حال عدم انتباهه. بكلمات أخرى ، (القارورة) رواية ميتاقصية/ميتا رواية ، بيد أنها لا تنتمي إلى النوع الذي يعري ميتاقصيته ، لا تعلن أنها قص عن القص، إنها ،من وجهة نظري، من ذلك النوع الميتاقصي الذي تسميه ليندا هتشيون بالسرد النرجسي الميتاقصي الخفي/ المقنع ((Narcissistic Narrative, 23 .
(القارورة) لا تصرح بميتاقصيتها، أو بتعبير أكثر دقة ، لا تفصح عن المكون الميتاقصي فيها . وتبعا لهذا الإخفاء تتضاعف مسئولية القارئ تجاه النص . فبالإضافة إلى مسئولية المشاركة في تشكيل العالم المتخيل فيها عبر مراكمة إحالاته ، فان (القارورة) بمخاتلتها القارئ بتمويه الميتاقصي تضعه امام مسئولية أخرى تتمثل في تقصي واستكشاف الميتاقصي المضمر واستجلاء دوره في تشكل بنية الخطاب السردي وتأسيس جمالياته وقسماته الفنية. يتأسس المكون الميتاقصي (القارورة) عبر ثلاث ممارسات سردية : المحاكاة البارودية القائمة على الاستحواذ على الحكاية الشعبية واعادة كتابتها ، تأمل وكشف دافعية وغرضية السرد وتمثيل الطبيعة الحوارية للرواية.
من نافذة الحكاية الشعبية(الحكايات الثلاث) يتسلل الميتاقصي إلى الخطاب في (القارورة) ، أقول بتسلله لأن المؤلف الضمني-اسميه العنكبوت الميتاقصي أيضا-يستحوذ على حكاية غزوى البدوية بالتحديد ، ليحاكيها باروديا ، ويعمد إلى حجب حقيقة المحاكاة كما يفعل مع تسلل العنكبوت ، عدا اشارات ينثرها هنا وهناك في المتن ، تكون عند الانتباه إليها مفاتيح لكشف اللعبة في الرواية. إن قصة منيرة الساهي هي قصة غزوى معشوقة الجني الذي يستوطن حصان أخيها غازي، بعد أن اشتغل عليها المؤلف الضمني تغييرا وتحويلا لنزع مألوفيتها ، وما المحاكاة مفهوما سوى تحويل للمحاكى، وتحويل الحكاية الأصل في (القارورة) يتم عبر أربع استراتيجيات سردية 1 ) الإزاحة الزمكانية للحدث ، من زمن الشفاهة إلى زمن الكتابة ، العقد الأخير من القرن العشرين، ومن مكان غير معلوم إلى الرياض المتخيلة؛ (2) تغيير الأسماء؛ (3) تغيير زاوية الرؤية (الصوت والتبئير)؛ (4) فتح الخطاب السردي على حكايات أخرى غير حكاية منيرة الساهي ، ليساهم هذا الفتح ، من ناحية، في تمويه التشابه بين المحاكى والمحاكي ؛ ومن ناحية أخرى ، لتدعيم المكون الميتاقصي ، إذ يهيئ هذا الانفتاح المجال للتعليق الميتاقصي المضمر على الحكاية والرواية والتاريخ.
عندما تخرج الطفلة منيرة الساهي من مسابقة الحكي/القص فائزة بالقارورة ، جائزة من جدتها ، يكون المؤلف الضمني قد سل من الحكاية التي ترويها شقيقتها نورة ثيمتها الرئيسة ليبني عليها حكاية منيرة الساهي وحسن العاصي. تسلل المؤلف الضمني بالثيمة يسبق تسلل السارد على محور الخطاب في استهلالية الرواية ، ويقع قبل تسلل العنكبوت وتسلل حسن العاصي إلى حياة منيرة الساهي على محور القصة. إن تسلل حسن العاصي إلى عالم منيرة الخاص وإمطارها باتصالاته الهاتفية هو محاكاة لمطاردة الحصان المسكون العاشق لغزوى بعد هروبها إلى الصحراء بعد اكتشافه وجودها في الغرفة فوق الأسطبل، حيث يخفيها أخوها بعيدا عن أعين الحصان الذي يهيج و يرفع صوته بالصهيل كلما يراها. يطارد الجني العاشق غزوى مسخرا جسد الحصان لرغبته ، أما الجندي المراسل العنكبوت حسن العاصي فينتحل شخصية ووظيفة الرائد علي الدحال ليتسلل إلى منيرة الساهي على صهوة فرسه البيضاء من أفق الكتابة (26) ، عن طريق الهاتف الذي لم يتوقف عن الصهيل ليلة 13 يوليو 1990 ، وهي بمفردها ، في الفيلا الخالية من الآخرين عدا الخادمة. تكتب منيرة: كنت أتمنى لو لم أقطع جملتي…لو لم أتوقف ، وأضع القلم جانبا ، لأجيب على صهيل الهاتف ، هل كان صهيلا؟ ربما(25).
السؤال هل كان صهيلا واضح الدلالة من منظور هذه القراءة ، يضعه المؤلف الضمني في فم منيرة ليشير بمواربة إلى صهيل الحصان الجني عاشق غزوى، وليلمح أيضا إلى كيف أن الحكايات الشعبية تشغل حيزا في ذاكرتها. لكن ربما تكشف عدم تيقن منيرة من أن رنين الهاتف كان صهيلا بالفعل. لم يكن رنين الهاتف صهيلا ،لكن يبدو أن المؤلف الضمني وهو يكتب هذه الفقرة ، أو حتى قبل كتابتها ، كان صهيل الحصان الجني يدوي في ذاكرته ، فأراد بالصهيل أن يكون أحد الخيوط الرفيعة التي تربط النص المحاكي بالأصل ، لكون صهيل الهاتف، مثل صهيل الحصان في حكاية غزوى، يمثل النذير بالخطر المذكر الذي يتربص بالأنثى منيرة. تتضح رمزية الصهيل وعلاقته بالخطر حين يعود رنين الهاتف إلى كونه رنينا عندما يتصل حسن العاصي فجرا بعد الفضيحة: حين رن الهاتف قرب الفجر ، لم يكن رنينه صهيلا كما في الثالث عشر من يوليو الماضي، كان يشبه حشرجة امرأة عجوز توشك أن تدلف إلى حمامها كي تتوضأ (184).
لم يكن رنين الهاتف صهيلا لأن الخطر زال ، والخطر مرتبط دائما بالصهيل أو العكس في (القارورة). يقدم النص مثالا آخر عن هذه الارتباطية في وصف صوت صواريخ سكود القادمة من العراق أثناء الحرب بالصهيل أثناء عودة حمد الساهي الى البيت تتبعه غاسلة الموتي في سيارة ابن اختها: كانت تركب في المقعد الخلفي ، بينما عينا ابن اختها…تتابعان لوحة سيارة الأب…والمدينة تترقب صهيل صاروخ سكود آخر ، يطوي المسافات من فم البلد الشمالي (41). ومن فم البلد الشمالي تخرج شبكة عنكبوت أيضا ، حكاية تعيد كتابة تاريخ الكويت الدولة المستقلة لتصبح الفرع الذي انفصل عن الأصل ، ولهذا تجتاحها جيوش العنكبوت صدام حسين ، بطل قادسية القرن العشرين ، الذي يصبح بطل استرداد الكويت ، وبطل توزيع الثروة في عيون الملايين من العرب الذين يعلقون بحكايته الشبكة. وبعد عقد ونيف ، يجد العنكبوت العراقي نفسه في مواجهة الحكاية الامريكية عن اسلحة التدمير الشامل ، لينتهي الأمر به طريدا الى حين يلقى القبض عليه في “دحل” حسب الحكاية الأمريكية. هو التاريخ حكاية تتبعها حكاية ، وحكاية تنقضها حكاية ، وحكاية تعاد كتابتها كما تهمس الرواية بانفتاحها على غزو الكويت، وحكاية تتنصر على حكاية، وحسن العاصي يحقق انتصاره (الفضيحة) لأنه بطل الحكاية والسيناريو الذي تلعب فيه منيرة الساهي دور البطلة المخدوعة.
بعد تحدثها مع العاصي، عبر الهاتف الذي يملأ المكان صهيلا، تلقي منيرة بجسدها في حضن سريرها ، وترى وهي بين النوم والصحو علي الدحال (العاصي) يقف بجسد هلامي على مدخل الغرفة(28) بهيئة مخلوق نصفه العلوي جسد إنسان وجزؤه السلفي هلامي …كأنه عفريت المصباح السحري(28). بهذا الوصف تقوم حكاية منيرة بالتفاتة اعتراف أخرى إلى الحكاية الأصل ، وبالذات إلى حصان الأخ المسكون بالجني عاشق غزوى. يبدو توضيحا للواضح الإشارة هنا إلى أن الخطر الذي يداهم عالم الفتاتين يأتي من جهة الأخوين الغائبين عن مشهد الحدث في الحكاية والرواية: غازي في مكان لا تشير الحكاية إليه لما يشم الحصان(المسكون) رائحة غزوى فيخترق برأسه الصاهل أرضية الغرفة فوق الإسطبل , وصالح الساهي في دورة عسكرية في لندن.
الكتابة موهبة منيرة والاختلاف الأكثر أهمية من الاختلافات بينها وغزوى البدوية ، وبسبب الكتابة يرفس الرائد صالح الساهي الجندي حسن العاصي فيجئ الأخير على أفقها لينتقم من رافسه بشقيقته ، والإعجاب بكتابة شقيقة رئيسه هي الشبكة التي يغزلها للإيقاع بها ثأرا لكرامته المهدرة ، والكتابة عقد النكاح الذي يربط منيرة المخدوعة بالمخادع ، والكتابة وثيقة الطلاق/الخلاص الذي يحررها منه. عندما تفكر منيرة أن تمحو أي أثر للعاصي من حياتها ، تخطر ببالها فكرة تقطيع الوثيقة بالمـ(قص) . تبحث عن المقص ، ولما لم تعثر عليه تحرق الوثيقة بلهب الشمعة: فتشت بنزق في أدراج التسريحة عن مقص، تذكرت المقص في حكاية الرجل الذي ترك بناته الثلاث في الصحراء…الحكاية التي حصلت بسببها على قارورة الأسرار والحكايات الحزينة. ثم واصلت البحث دون جدوى ، لكنها وجدت نفسها تقترب شيئا فشيئا من لهب الشمعة الصغير المتأرجح(220). تقترب منيرة من الشمعة بعد يأسها من العثور على المقص ، وهنا تلمح يد المؤلف الضمني، في هذه اللحظة السردية القصيرة، وهي تقربها من الحكايات الثلاث التي تنتهي كلها بحدث (قص) ثم تدفعها بعيدا عنها، أي أنها تكتب ثم تمحو، على نحو خاص، امتداد جذور منيرة إلى حكاية غزوى.
لا تعثر منيرة على المقص لأن العنكبوت الميتاقصي قام بإخفائه لسبب أن استعمالها المقص في (قص) وثيقة الطلاق قد يعري تماما القرابة بينها وغزوى، التي تتخلص من الحصان المسكون بقذف مقصها في فمه المفغور انتظارا لسقوطها فيه ، وهذا ما لا يبدو متسقا، لو يحدث ، مع لعبته القائمة على الإخفاء. وإذا اقتضت شروط اللعبة الإفصاح، خصوصا فيما يتعلق بالتشابه بين حكايتيهما، فالكشف يأتي تلميحا وبمواربة وليس تصريحا، وهذا ما يحدث حين يسرد السارد العليم عن منيرة وهي تبحث عن المقص لتمزيق الوثيقة بوحي من حكاية الأب الذي يتخلص من بناته الثلاث في الصحراء بقص طرف شماغه الذي تتوسده ابنته الصغرى. تذكر منيرة لهذه الحكاية في هذا الموقف وسيلة المؤلف الضمني للتلميح إلى علاقة التشابه بين الفتاتين، دون التورط في فضح سر من أسرار لعبته، هذا ما أقصد تجليته بالتحديد بلفت الانتباه آنفا إلى قيام يد المؤلف الضمني بالكتابة ثم المحو.
إن اختفاء المقص يقتضيه اكتمال شروط اللعبة الميتاقصية واستمرارها الى النهاية ، وذلك لأن الصفة البارودية لأي نص تتخلق ، قبل كل شئ، عبر اشتغال المؤلف على توليد تضادية المشابهة والمغايرة بين النص المحاكي والمحاكى. بكلمات هتشيون، إن الباروديا…هي استكشاف الاختلاف والتشابه (25). فلو وجدت منيرة المقص وقامت بتقطيع الوثيقة فان ما ينتج هو نص على حد كبير من التطابق مع النص الأول، وفي هذه الحال، يغدو ادعاء النص الثاني بأنه باروديا مفتقرا الى القدرة على الصمود امام المساءلة والتفنيد النقدي. والمغايرة في حكاية منيرة تنشأ ، بشكل رئيس، خلال قيامها بالقص–القص/السرد الذي تفرغ منه قبل تفكيرها في المقص. السرد والكتابة هما أهم مكونات اختلافها عن غزوى، التي تواجه الحصان الجني بأدواتها الأنثوية عندما يقف اسفل الشجرة منتظرا سقوطها. تقذف ملابسها في فمه أولا ، ثم القدر ، ثم المقص الذي يقص/يقطع أنفاسه فيموت. وهذا يعني أن غزوى تقذف ،في جوف الحصان الى أن تقتله، بالأدوات التي تستخدمها في القيام بدورها المحدد والمرسوم من قبل المجتمع. أما مواجهة منيرة الساهي مع حسن العاصي، فهي مواجهة لغوية خطابية تتم على مرحلتين. في المرحلة الأولى تواجهه باللغة أو الخطاب الشرعي ، وفي الثانية تكون الكتابة السردية هي الأداة في المواجهة.
ما يبدو تدعيما للمغايرة بين الفتاتين وللمكون الميتاقصي في نفس الوقت أن منيرة الساهي ،الشخصية الروائية الخارجة فكرة من الحكاية الشعبية، تعيش بوعي تلعب الروايات التي تقرأها دورا كبيرا في تشكيله وتستعير لها أحلاما ورفاقا وعشاقا من صفحات الروايات والأفلام. تهرب من جفاف عالمها الحقيقي في العالم المتخيل في (القارورة)، ومن حكايات أخيها محمد عن كرامات المجاهدين الأفغان إلى نداوة وإثارية العوالم المتخيلة في الروايات المترجمة “فوق رفوف مكتبتها الصغيرة…روايات هنري ميللر ، وإيزابيل الليندي” ، و في السرير تتخيل حبيبها “الممثل حسين فهمي يضطجع قربها”(48).
لو كان حسين فهمي جيف دانيالز لخرج على منيرة من شاشة التلفاز كما يخرج جيف(في دور توم باكستر) من الشاشة الفضية ليقابل مايا فارو(في دور سيسيليا) في الميتافيلم( The Purple Rose of Cairo, 1985). في ثلاثينات القرن الماضي والركود الاقتصادي العظيم يلقي بثقله على الحياة في الولايات المتحدة الامريكية ، كانت دور السينما الملاذ الذي يلجأ اليه الملايين من الامريكيين هربا من حياة صعبة وكالحة بالغياب في الحلم بأيام وحياة افضل وجميلة كما في الأفلام التي يشاهدونها. هذه هو الواقع في نيوجيرسي الذي يصوره الميتافيلم الذي يتضمن فيلما يحمل الاسم نفسه. كل مساء بعد أن تنتهي نوبتها في المطعم الذي تعمل فيه نادلة ، تذهب سيسيليا إلى دار السينما لتشاهد الفيلم داخل الفيلم إلى أن تقع في حب بطله توم باكستر، ويقع بدوره في حبها بعد تكرر مشاهدتها للفيلم ، فيخرج إليها من الشاشة. لكنه يعود إلى الفيلم بعد أن يدرك تعذر استمراره في العيش في الواقع الموضوعي خارج الفيلم ، والذي لايعرف عنه أو عن الحياة أكثر مما يعرفه عنها من الفيلم الذي يعيش فيه، اذا صح التعبير. لما تعود سيسيليا في مساء تال إلى السينما تكتشف بدء عرض فيلم جديد(Top Hat) ، تغرورق عيناها بالدموع وهي تشاهد فريد أستير وجنجر روجرز وهما يرقصان ويغنيان ، فتفيق أثناء مشاهدة الفيلم من الحلم على الحقيقة ، لتعود إلى زوجها العاطل،
الرواية مثل الفيلم أو العكس، كل منهما يهب أوقاتا للهروب نحو أحلام تستعار لفترة القراءة أو المشاهدة وخوض بطولات وهمية بالإنابة (vicariously). في الفقرة السابقة عن عشق منيرة للروايات لما تزخر به من عوالم مثيرة تلبي إيهاميا حاجاتها النفسية والعاطفية ، يرفع العنكبوت الميتاقصي رأسه ليفرز في الخطاب السردي خيطا رفيعا من التعليق على قدرة الرواية على الإغواء بتقديمها عوالم تنافس العالم الامبيريقي(هتشيون ، 77). إلى مثل هذه العوالم المنافسة تهرب منيرة ،وربما يهرب إليها كثيرون من قراء الرواية. تلعب هذا الفقرة دور المرآة التي ينصبها العنكبوت الميتاقصي أمام الرواية (القارورة) لتتأمل صورتها باعتبارها مصدرا محتملا للإغواء، ويضعها (المرآة) أيضا أمام القارئ لتفضح صورة نفسه أمام نفسه وهو يقرأ هذه الفقرة بالذات، فمن المحتمل أن يلحظ أنه هارب مثل منيرة ، أو أنه يرى صورته في منيرة، وقد يكون ادراك هذا باعثا للتماهي معها. وقد يكون الاثنان أيضا ، منيرة المرأة من كلمات والقارئ كتلة اللحم والدم، مثل أولئك الناس المنعزلين ، غالبا وسط جماعات من الغرباء، يجلسون بإذعان ، صامتين ، منحنين كالأجنة تقريبا فوق حزمة صغيرة من الورق، في الواقع صغيرة إلى حد السخف (لينارد ديفيس , Resisting Novels,2). وربما يكون قارئ (القارورة) مثل ديفيس نفسه ، عاشق الرواية بامتياز، الذي تولد إحساسه بذاته من صفحات الروايات التي قرأها بنفس درجة تولده من عيشه في شقة من شقق الطبقة العاملة في البرونكس حيث تشكل وعيه(ديفيس ، 2). إن وضع خطة لكتاب يعني تخطيط هروب للقارئ (هتشيون، 53)، والروائيون مخططون بارعون لفرص هروب بمستوى عال من القدرة على الإغراء. يقول ذلك العنكبوت الميتاقصي في (القارورة) عبر منيرة عن الروايات التي تقرأها، ويقول ذلك أيضا بطريقته الملتوية عن (القارورة)،وأضيف ، عن أية رواية.
تعود (القارورة) إلى حكاية غزوى وتخفي عودتها ، أو كما ذكرت آنفا ، تستحوذ على الحكاية وتعيد كتابتها. عودة “القارورة” إيماءة اعتراف بواحد من أسلافها، ودعوة غير مباشرة ، من منظور ميتاقصي، إلى الالتفات إلى ذلك السلف لتوافره على مضامين ومحمولات ترميزية وثيماتية يمكن استثمارها في كتابة اعمال سردية تعالج هموم وقضايا معاصرة مثل قضايا القمع والاستبداد الذكوري الذي يطال المرأة. لكن العنكبوت الميتاقصي يحيك تهكما ونقدا مستبطنين للحكاية الشعبية ،كاشفا محدودية إمكاناتها للتعبير عن كل قضايا المرأة المعاصرة الأكثر عددا وتعقيدا من قضايا المرأة في زمن كانت الحكاية الشعبية فيه وسيلة تعبير وتعليم وتسلية ، وأحد أوعية حفظ الذاكرة الثقافية.
رجوع (القارورة) إلى الحكاية يشابه الى حد ما رجوع الفيلم الكوميدي الرومانسي
(Pretty Woman,1990) إلى حكاية سندريللا ليقلبها رأسا على عقب ، فسندريللا القرن العشرين ليست الفتاة اليتمية التي تعاني الاستغلال والظلم من زوجة الأب ، انما هى فيفيان وورد (جوليا روبرتس) التي تتسكع في هوليوود بوليفار ، والأمير هو رجل الأعمال ادوارد لويس(ريتشارد غير). على النقيض من (القارورة) التي لا تفشي علاقتها بالحكاية الأصل ، يشير الفيلم إلى سندريللا بإحالة تهكمية خلال واحد من حوارات فيفيان مع زميلتها في المهنة كت دي لوكا (لورا سان جياكومو)، حيث يرد اسم سندريللا محرفا ، اكتبه بطريقة الترجمة العربية للأفلام الأجنبية-(سندر/تبا/يللا(.
بالإضافة إلى خلوها حتى مما يدنو من التلميح الى غزوى بصفتها النموذج الأولي لشخصية منيرة كما يفعل الفيلم ولو بتحريف اسم سندريللا، لاتتضمن (القارورة) نقدا صريحا للحكاية يرد على لسان الروائي العليم، بل هذا ما يستنتجه القارئ بمقابلة ومقارنة الحكايات الشعبية الثلاث بالحكاية التي تغزلها العنكبوت منيرة الساهي من تفاصيل وخيوط فضيحة زواجها الزائف ، ومن قصص فتيات و نساء أخريات يتعرضن للاستغلال والعنف المذكر: صديقتها نبيلة التي يتحرش بها زوج أمها، الفتاة التي يقتلها أبوها غسلا للعار، فاطمة الحساوية التي يعدها معيض بالزواج ثم يتركها بعد أن تحمل منه سفاحا، حسناء مدمنة المخدرات، ميثاء قاتلة زوجها العجوز الذي تتزوجه قسرا. حتى المرأة ممثلة في العاملات بـ(دار الفتيات) تظهر في حكاية منيرة متورطة في إلحاق الأذى بالمرأة وإذلالها ، هذا ما يستشف من تحول جلد السجينات(فطور الكلاوي) الى فرجة ومصدر للمتعة للعاملات في الدار. هذه الصور السردية لمعاناة المرأة هي الحكايات (الخبيئة) المكبوتة التي تراها منيرة الساهي وهي تتخيل نفسها محلقة في الهواء أثناء حضورها في المحكمة، “لا أعرف كيف رأيت أنني أرتفع بالعباءة المنفوخة بالهواء وكأنها منطاد. أرتفع قليلا قليلا…ثم أعلو قليلا فأرى…سطوح المنازل..تمور بحكايات خبيئة. أعلو أكثر فأكثر ، فأرى أختي منى وزميلتي نبيلة، أرى فاطمة الحساوية ميثاء البدوية…” (199).
انفتاح حكاية منيرة على قصص هؤلاء النساء هو واحدة من الاستراتيجيات السردية التي يوظفها المؤلف الضمني لتعميق البعد البارودي الميتاقصي بكشف الكيفية التي تلتقي بها (القارورة) مع وتفارق الحكاية الشعبية، التي تومئ الى ثلاثة مصادر للخطر المحتمل على المرأة: الجن/الجني الذكر، العجوز المحتالة ، زوجة الأب الإمعة. لكن منيرة الساهي تسرد حكاية يتجلى الخطر فيها أكثر تنوعا في مصادره على نحو لا يبدو أن الحكواتي القديم كان قادرا على تخيله وبالتالي التهيئة والإعداد له ، على أساس أن من وظائف الحكاية الوعظ والتهيئة لغير المتوقع. وغير المتوقع، الذي لم يتوقعه المؤلف القديم لحكاية الجني العاشق بشكل خاص ، هو أن يأتي الخطر للفتاة والمرأة ، ليس من جني قادر على التحول الى حصان أو حيوان آخر، بل من إنسان يملك القدرة على التحول مجازيا إلى عنكبوت يغزل من الكلمات مصيدة ينصبها أمام فريسته المستهدفة. هذا ما يفعله حسن العاصي حين يعصي أمر رئيسه الرائد صالح الساهي و يتحول من عاص إلى دحال ، والدحال لغة المخادع و الصياد بالدواحيل ، والدواحيل المصائد التي ينصبها لاصطياد الظباء ، والظبية منيرة الساهي تسقط في الدحل الذي ينصبه الرجل العنكبوت وصياد النساء الغزاليات حسن العاصي، في غياب (سهو) أخيها صالح الساهي في لندن ، وغياب (سهو) أهلها لوجودهم خارج البيت.
شبكة العنكبوت حسن العاصي لفظية، قصة ملفقة ، دحل مصنوع من كلمات تروي حكاية إعجابه بكتابات(كلمات) الفريسة الظبية منيرة الساهي ، وتحوله من عاص إلى دحال هو تحول لغوي أولا ، يعاضد تحوله مجازيا إلى عنكبوت ويعزز صفتي المكر و الخبث فيه. هذا التحول في الأصل تدبير المؤلف الضمني الذي يلعب هنا لعبة ميتاقصية أخرى ليضفر خيطا ميتاقصيا آخر في نسيج الخطاب السردي في روايته، بطريقة تستدعي للذاكرة بعض الروائيين الميتاقصيين في تسميتهم الشخصيات في رواياتهم بأسماء تصفها كما تسميها ، محاكاة لروائيي القرن الثامن عشر (باتريشيا وو ، 94Metafiction ).
ولعل أقرب الأمثلة ما يفعله الروائي الجنوب افريقي جي. أم. كوتسي في روايته (Foe) المحاكاة البارودية لرواية (روبنسون كروزو) للروائي الانجليزي دانيل ديفو. لم يفطن محبرو المراجعات الصحفية العربية لهذه الرواية ،بعد فوز كوتسي بجائزة نوبل ، إلى أنه يلعب لعبة ميتاقصية على الكلمة فترجموا عنوان الرواية إلى (خصم ، عدو ) ، رغم أن (Foe) اسم شخصية في الرواية ، ما يعني بالتالي اشكالية ترجمتها ، وملاءمة كتابتها كما تنطق (فو) ، إضافة إلى عدم انتباههم إلى أن هنالك لعبة تجري على مستوى آخر ميتاقصي ، وأن كوتسي باستخدام هذه الكلمة يلغي المضاف إلى اسم دانيل ديفو ، أي يعيد الاسم الأخير للروائي ا(Defoe ) إلى أصله (Foe) بمحو الحرفين ((de، وكان دانيل قد حذفهما عندما أصبح كاتبا عام( 1695) تقريبا ليعلن انتسابه رمزيا ولغويا إلى طبقة النبلاء، فيما يبدو تبرؤا من أبيه الجزار ومن انتمائه الطبقي. شطب المضاف من اسم مؤلف (روبنسون كروزو) جزء من اللعبة البارودية النقدتناصية في رواية كوتسي.
لا تكتفي(القارورة) بالتهكم تلميحا إلى عجز الحكاية عن تهيئة منيرة لغير المتوقع، بل تتعدى ذلك إلى فضح إسهامها، على لسان منيرة نفسها، في وقوع الفضيحة التي تتورط فيها، فحكاية سليمان بن عافية ، بشكل خاص ، احد الأسباب التي تحول دون اكتشاف منيرة حسن العاصي على حقيقته. يرى القارئ منيرة وهي تفكر ثم تتوقف عن التفكير في فتح الحقيبة المملوءة بالحجارة التي يودعها لديها حسن العاصي أمانة إلى حين عودته مما يدعي أنها مهمة “لتخليص شخصية مهمة مفقودة في الكويت” (101). لو فتحت منيرة الحقيبة لاكتشفت زيف العاصي الجندي المتنكر في ثياب رائد. لكنها لم تفعل لأنها تقمع فضولها لمعرفة محتويات الحقيبة خشية أن تلاقي مصيرا مشابها لمصير “أخت التاجر الجوال ، التي تزوجت من الجني سليمان بن عافية” (102) وقتلها بعد أن تجرأت على فتح الغرفة رقم (40) ورأت جثث قتلى الجنى المعلقة.
الحكاية إحدى وسائل المجتمعات القديمة للمحافظة على ثقافتها وتوريثها من جيل لجيل ، ومن آليات الحفاظ على الوضع القائم بهيكليته وتراتبيته الطبقية وعلاقات القوة وتوزيع الأدوار بين الجنسين.
حكاية سليمان بن عافية تنطوي على موعظة عن خطر الفضول على المرأة لما قد يسببه لها من أذى وضرر قد يصل إلى حد القتل. تحمل الحكاية تحذيرا للأنثى من الفضول ، ليس بسبب الفضول لذاته، بل لما قد يؤدي إليه من نتائج تشكل تهديدا وزعزعة للوضع القائم. الفضول هو التعبير عن التوق للمعرفة، والمعرفة تنتج القوة ، وامتلاك المرأة للقوة يعني تمردها على الدور والمكانة اللذين حددتهما ورصفتهما ثقافة المجتمع.
بالنظر إليه من هذه الزاوية، يكون الفضول عند المرأة ، حسب التصور التقليدي، البداية و المحرض على الخروج على السائد الثقافي ، أو الخروج من حالة الاعوجاج بصفتها امرأة خلقت من ضلع أعوج كما تقول أم منيرة لإبنتها حين تنصحها بابقاء مشاعرها وانفعالاتها في داخلها. ورغم أن منيرة (ترتق) اعوجاجها بالكلام/الكتابة والبحث رغما عن أنف القبيلة: “أن أفكر وأبحث وأتساءل ، فهذا يعني أنني بدأت انبجس نحو الخارج” (71)، فإن إذعانها للموعظة في الحكاية وإن بدا غير منطقي ، فانه يبدو خلاف ذلك إذا تم اعتباره دليلا على أن (انبجاسها) للخارج لم يكن كاملا ، إذ لا تزال تحت هيمنة النسق الثقافي، لا تزال حسب اعترافها “الأنثى مهضومة الجناح”(70) كما يراها الآخرون ، التي تستقبل وهي مستلقية ولا تتمتع بأي قدر من الاستقلالية. يلمس فيما تقوله تبرير ونقد ذاتي لانخداعها بسهولة مفرطة ،لا تتناسب مع امرأة مثقفة، بما يسكبه حسن العاصي في أذنها من الكلام المعسول الذي يخلقها به من جديد حسب سردها.
بناء على الاقتراح أن ممارسة منيرة للكتابة هي بداية خروج لم يكتمل على السائد والرؤية التقليدية إلى المرأة، فان سردها/كتابتها لحكايتها يمكن اعتباره مرحلة جديدة من الخروج أو الانبجاس للخارج، اضافة الى كونها طريقة أخرى يوظفها العنكبوت الميتاقصي لخلق فرق آخر بينها وحكاية غزوى لتمويه العلاقة بالقصة الأصل، المروية بالضمير الغائب ، إلا أثناء مطاردة الجني لغزوى وقتلها إياه بالمقص، حيث تتكلم غزوى مع العبدة أو الحصان حين تطلب منه أن يفتح فمه.
قيام شخص ما بالسرد يعني امتلاكه لمعرفة كما يدل الفعل يروي/يسرد بالإنجليزية
(narrate) المتحدر من الفعل اللاتيني (narrare) من (gnarus ، معرفة). إن ارتباط السرد بالمعرفة يعني ارتباطه بالقوة والسلطة وتعبيره عن فاعلية الذات الساردة وقدرتها على أحداث تغيير، فالسرد فعل له القدرة على التغيير ، وبالذات تغيير علاقة السارد بالمسرود له (روس تشيمبر, Story and Situation 74). وليس ثمة دليل يبرهن على قدرة السرد على تغيير العلاقة بين السارد والمسرود له أكثر مما تفعله شهرزاد في توظيفها الحكاية للتأثير على شهريار ، فيتأجل موتها ليلة بعد ليلة، إلى أن تصبح أما لثلاثة أطفال ذكور بدلا من زوجة لليلة واحدة.
معرفة منيرة تجربتها مع صائدها العاصي ورصيدها الثقافي والمعرفي وقدرتها على الكتابة وتجارب النساء الأخريات، ومن تستهدف تغييره، في المقام الأول، ليس سوى نفسها، فمنيرة التي تكتب في مذكراتها أحداث وتفاصيل الفضيحة هي منيرة السارد/الفاعل في مواجهة منيرة المخدوعة/المفعول، هي السارد والمسرود له وعنه في آن. تنطلق في سردها من معرفة في اتجاه معرفة مأمولة تكون إجابة عن السؤال الذي تطرحه “على روحها” في بداية الرواية، وينقله السارد الذي يتسلل إلى داخلها: “لم حدث كل هذا؟(10). بتصوير منيرة وهي تواجه نفسها بالسؤال السابق يكشف المؤلف الضمني دافعية السرد في حكايتها، إذ لا يسرد أي سارد عبثا وبدون أي هدف، ففي كل موقف سردي ثمة “شخص ما يروي قصة ما لشخص ما في مناسبة ما من أجل غرض ما”(جيم فيلنNarrative As Rhetoric, 6,). ومنيرة تكتب وتسرد ، في الأصل، لنفسها لهدف اكتشاف ومعرفة لم وقع الخطأ, لتكون معرفة الـ(لم) هذه شرطا لبدء التغير في ذاتها وتجاوزها التجربة، لكن كتابتها أيضا إخراج للحكايات (الخبيئة) من الصمت والكبت الى فضاء التعبير الجمالي السردي.
القص الحكي والسرد، وليس القص القطع كما في الحكايات الثلاث، هو وسيلة منيرة للتخطي والخلاص من تبعات التجربة، و أداة لكشف وتعرية الذات وفضح مسئوليتها تجاه ما حدث، وفي الوقت ذاته لتطهيرها من نوبات الشعور بالذنب ومن الميل لتأثيم الذات وجلدها. وفيما يبدو مكملا لعملية تطهير الذات عبر الكتابة ، تدخل منيرة الحمام بعد انتهائها من الكتابة وحرق وثيقة الطلاق لتقف تحت حبيبات الماء فكأنها تريد ازالة آثار لمسات حسن العاصي عن جسدها. ولكن ما هو هام أيضا من منظور هذه المقاربة انه عندما تقول إن نرجسيتها كانت سببا في عدم اكتشافها خداع العاصي ، فإنها تضع إصبعها على مكمن العطب والخلل في الذات ويبدو ذلك بداية للتغير. لهذا يمكن قراءة انفتاح حكايتها على قصص تجارب النساء الأخريات على انه مؤشر إلى تجاوز الهم الذاتي الفردي إلى الهم النسوي الجمعي. بتجاور قصص أولئك الفتيات والنساء مع قصة منيرة مع العاصي يتشكل معرض من صور سردية تعرض معاناة المرأة وأشكال القهر والإستغلال الذي تتعرض له. يقوم هذا المعرض بوظيفة البديل أو المعادل لمعرض صورها التي تحيط بها، والموزعة في كل زاوية من جناحها حتى على سيراميك الحمام. بمقابلة هذين المعرضين، اللفظي والبصري ، يتضح ما أقترح أنه خروج من الذاتي والخاص إلى الجمعي والعام في حكاية منيرة، وذلك باستيعابها بعض قصص النساء اللاتي يعشن الصمت كما تقول في معرض سردها لقصة زميلتها نبيلة التي تتعرض للتحرش الجنسي من زوج أمها، لكنها تؤثر الصمت على الكلام تضحية من أجل “بيت كامل ، وأسرة مستقرة، إذ مجرد التلميح بذلك سيفجر أركان المنزل ، ويزلزل سكونه”
(30).
والقص أيضا أداة تستخدمها للاقتصاص من حسن العاصي عبر تحويله من فاعل/دحال/مخادع إلى مفعول، إلى موضوع للسرد، مسرود لا سارد كما في حكايته التي يختلقها عن إعجابه ويلعب فيها دور البطولة، و تحويله أيضا الى هدف لمقت القارئ في حال تعاطف وتماهي الأخير مع منيرة الساردة والمبئرة في حكايتها. خلال الحكاية لا يرى القارئ حسن العاصي إلا من منظور الساردة ، ولا يسمعه إلا عندما تشاء. يراه محتالا، ويراه فأرا ، كما تصفه ، عالقا بحكايتها المصيدة، وحشرة متشرنقة العيون بمصيدة قمصانها الحريرية:”بعد أن صرت أقابل خطيبي ، بدأت أتعمد أن ارتدي البيور سلك دون حامل الصدر، حتى تتشرنق عيناه مثل حشرة في مصيدة عنكبوت”(59). تطلق منيرة هذه الأسماء على العاصي أما في المرحلة الأخيرة من علاقتها به ، أي بعد انفضاح أمره ، أو أثناء نسج/تخطيب القصة (تحويلها إلى خطاب سردي). تمكن الكتابة منيرة من السيطرة على التجربة بمنحها شكلا فنيا، ومن ممارسة السلطة اللغوية على العاصي. الحكي بالنسبة لها فعل تقوية للذات وسبيل لتأكيد فاعليتها، وتبادل الأدوار بينها والعاصي. العاصي هو (البطل) في القصة وهي (البطلة) لحظة السرد ، صاحبة الرؤية، المتحكمة بعملية السرد وتحديد ما يسرد وكيف يسرد ومتى . ويمتد مجال سلطتها على القارئ الذي يصعب تصور عدم تأثره بما تقول وكيف تقوله حتى لو يقاوم ذلك ، خصوصا عندما يؤدي به التعاطف معها إلى حد تلقى الحكاية بسلبية مطلقة تمحو المسافة التي ينبغي وجودها بين القارئ والنص لمحاورته ومقابلته بالأسئلة. إن التلقي السلبي لحكايتها الشبكة يودي بالقارئ إلى التشرنق بها ، مثل تشرنق عيون العاصي في قمصانها المصيدة.
لكن اصطياد منيرة للعاصي بفخاخ جسدها (عيونها وصدرها) لا يجعل منها عنكبوتا بمعنى خالقة عوالم، وان يكن اصطيادها له بارتداء القمصان الرقيقة الشافة ذا صلة لغوية بشبكة العنكبوت والنسيج معا ، لالتقاء المفهومين (شبكة/نسيج و قماش/ثوب رقيق) تحت المظلة الدلالية للكلمة الإنجليزية(gossamer) التي تعني شبكة العنكبوت الطافية في الهواء(لعاب الشمس) والقماش الناعم الخفيف جدا. في القصة، إذن، تتوسل منيرة الساهي بملابس مصنوعة من نسيج عنكبوتي لإيقاد التهيج الايروسي في حسن العاصي، فيما يشبه التمهيد لتحولها إلى عنكبوت تنسج حكاية الفضيحة. بشكل بليغ الدلالة والأهمية لهذه القراءة، تصف منيرة كتابتها الحكاية بالنسج: “كنت أفكر قبل أن أوقف قلمي عن نسج المأساة ، كيف لقارورة أسراري أن تتسع لكل هذه الأحزان؟ كيف تستوعب دون أن تتفجر وتتشظى؟”
(186). إذن بالرجوع إلى تسلل العنكبوت إلى فراشها، يتضح كيف يمكن قراءة ظهوره في غرفتها على انه يشتغل رمزيا في اتجاهين مختلفين ، فهو ينذر باقتحام العنكبوت العاصي حياتها ، ويؤذن، وهل أقول يبشر، بتطورها وتحولها من كاتبة زاوية في جريدة الى عنكبوت ، الى خالقة عوالم – كاتبة قصة أو رواية- بعد خوضها التجربة.
لا تنسج العنكبوت منيرة مأساتها فقط، إنما مآسي نساء أخريات، تضاف خيطا بعد خيط ، ليجد القارئ نفسه عالقا بالحكاية ، وما أن يتوهم أن خيط السرد/النسج أوشك على الانتهاء ، حتى تدلي الساردة أمامه خيطا جديدا ليعلق به، حكاية أخرى عن امرأة أخرى ، أو سردا لتطور الحدث الرئيس، وان لم تفعل منيرة الساهي ذلك فان السارد العليم يغويه بفتح السرد على آفاق أخرى، من هذين الخطابين الداخلين في علاقة تكاملية تتشكل البنية السردية في (القارورة) ، وبهذه التكاملية تدعم (القارورة) ميتاقصيتها ، فكلما يتقدم السرد تبدو القراءة ، في بعد من أبعادها، استكشافا لحوارية وهيتروغلوسيا في الصيرورة ،والخطاب السردي في (القارورة) ذو بنية تعددية مركبة من حكايات شعبية وحكايات والمجاهدين وأحداث تاريخية (غزو الكويت وحرب الخليج الثانية ، وقيادة النساء السيارات)، والأغاني ، والأشرطة الدينية، حوارات/كلام الشخصيات، مذكرات منيرة الشخصية وما تحتويه من قصص النساء في (دار الفتيات) وقصص أخواتها وإخوانها وأبيها.
0 تعليق