صورة التآخي بين الحب والحرب

29 مايو، 2012 | القارورة | 0 تعليقات

الدار البيضاء: صدوق نورالدين
” سأكتب كل ما مربي، وما سيمر بي.. سأكتب ما حلمت به..و ما سأحلم به..” (ص 213 ) بدءا يمكن القول بأن الرواية الثالثة للروائي “يوسف المحيميد”، قد جاءت لاستكمال مشروعه الروائي منذ فتحه البكر ” لغط الموتى ” ( 2002 )، دون أن يفهم من السوق كون:
“القارورة” ( 2004 ) بمثابة جزء ثالث..

على أن خاصة الاستكمال، تكمن في فرادة الاستمرارية والتميز، حيث نجد الرواية تفرض على متلقيها قاعدة التناول النقدي التي تعود في الأساس لثراء المعنى وغناه..فالمادة لا تعد مغرقة في الماضي وإنما قيمتها تتحدد في راهنيتها، ومدى آثار ذلك على المسار والتوجه السياسي والفكري.. بيد أن ما يعضد طبيعة الاختيار، الجرأة والموقف في/ وعلى التناول النقدي لما أعتيد اعتباره اللامساس، وبخاصة في القضايا الاجتماعية والسياسية..
إن ثراء المعنى وغناه، يسهم في توسيع الخيال الروائي بحثا عن المقارنة والتنويع، وإدراكا لبلاغة الصورة الروائية الشاملة، ولن يتحقق ذلك سوى بالمعايشة والتدوين والالتقاط السريع لتفاصيل مما يرى إليه البعض ك: “لامعقولات” حياتية تقع خارج الكتابة والتدوين، فيما الأصل كون هذه ال “لامعقولات” هي ما يمنح الرواية جدارة القوة والوثوقية والتأصيل ..
ف “يوسف المحيميد” في “القارورة”، يؤسس لكتابة خارج الإطار الذاتي الشخصي، باعتبار أن ما درج عليه الروائيون العرب، الامتياح من معين الذات، إلى التنويع على ذلك في اللاحق من بقية الآثار الروائية، وكأن الكتابة في عمقها وجوهرها سيرة ذاتية كبرى، وإن جنست تحت: “رواية”..
1- الرواية .. و كتابة الرواية :
1 / إن المتلقي الحصيف لرواية “القارورة”، يحس وبمجرد الانتهاء من تلقيها، بأنه لو قيض للرواية الاستمرار لما كانت انتهت، إذا ما نظر لثراء وغزارة النص..ف “القارورة” في اعتباري النص المفتوح على احتضان متن واسع من الحكايات الموازية التي تفعل بالحضور لتغذية وتعضيد الحكاية الأساس.. على أنه وبالإضافة إلى اعتبارها الديوان الموسع للحكايات، مما يؤطرها في جانب ضمن المدونة التراثية، دون أن يفقدها بعد الكتابة الحداثية الرصينة والمنطقية، وبخاصة على مستوى التقديم والتأخير والترتيب، فإنها تحوي أجناسا لا تصرح بها كالسيرة (ليس نص القارورة سوى السيرة الذاتية لاسم علم متخيل هو “منيرة الساهي” ..) واليوميات والمذكرات، حيث إن ماجريات الحياة اليومية تكتب وتدون ويحافظ عليها في “القارورة”.. هذه التي تحيل بالرمز والإشارة على الحكاية في شموليتها:
“.. سامحيني يا أمي إن قرأت يوما مذكراتي هذه.” ( ص / 72)
” ذات مساء ـ تكتب يومياتها..” ( ص / 96
ومثلما تحوي أجناسا فإنها تحتضن كتابات من خارج الصيغة الأدبية، كالمذكرة الإدارية والتقرير القضائي.. إن سيرة “منيرة الساهي هي سيرة مجتمع ثابت تقليدي محافظ، تتفاعل فيه وقائع وأحداث اجتماعيةتحاكم باسم الأخلاقي ، دون تحقيق الإنعتاق نحو مجتمع الحرية والمسؤولية..
2 / إن قراءة “القارورة” بمثابة وعي بمستوى إنتاجها الخيالي والجمالي.. بمعنى آخر فالرواية تفصح من داخلها عن صيغة إنتاجها.. ومن تم يتآخى الوعي الإبداعي بالنقدي الذي يضمر سلطة الكاتب باعتباره المؤلف (وأنا هنا لا أفرق بين الذاتين: ذات الكاتب وذات المؤلف).. و الواقع أن هذه الدرجة من الوعي، وعي الكتابة من داخل الكتابة، لا تتحقق وتتم إلا في الحالات التي يتم فيها اختيار الفاعل كمدير للأحداث ودافع بها، إلى أثره/ تأثيره على السواء.. ف”منيرة الساهي” :
1 ـ صحافية تدون زاويتها (فخها) تحت عنوان “وردة في آنية”..
2 ـ تخوض في بحث اجتماعي يندرج في علم الاجتماع..
3 ـ وهي قارئة نهمة للآداب العالمية..
هذه المعطيات تجعلنا نقف على شخصية مثقفة تحدق صنعة الكتابة والتأليف، وتسهم بالنقد والتعليق (وهو الوعي الناقد “خلفه المؤلف”)، وفق ما تجسد في الملفوظ الإبداعي :”القارورة” حيث يلعب النقد وظيفة تلخيص الرواية واختصارها..
” كانت منيرة قد تركت الكتابة الصحفية أيضا ” ( ص / 14)
” ( لا أعرف لماذا لا أكتب بضمير المتكلم، أحيانا أشعر أنني
بحاجة لأن أكتب رواية عن أبي وجدتي، وعن مأساة حياتي الغريبة ، فأكتب بضمير الغائب ، أتحدث عنه كأب فقط، أو
كابن أكبر للجدة المريضة، وعنها كجدة أو كأم، أو على
الأقل كامرأة نجدية حزينة.” ( ص / 36 )
إذا كانت شخصية ” منيرة الساهي ” صحافية ودارسة وقارئة، بمعنى الشخصية الأنثوية المثقفة في الوسط المحافظ التقليدي، فذلك لأن ما يطولها الفقدان والنسيان ضمن المحيط الذكوري.. ومن تم فجرأة ممارسة الكتابة، إعلان للذات وقوة حضورها.. إنه التأمين و التحصين الذاتي خارج البيت.
وهو بالطبع ما يلفت نظر الرجل ويثيره، وقد كان الجندي “حسن العاصي” (الرائد علي الحال):
” ..ربما هذا ما جعلني أنصرف إلى عالم الكتب و القراءة
والبحث..كنت لا أجد الأمن الوجداني، وأتعرض للإهمال
والنسيان من الجميع في البيت، أو لحالات اقتحام جسدي ممن
هم خارج البيت ..” ( ص / 69 )
على أن دلالة الانبثاقة المتعلقة بالتمكن من الحكي، كما صنعة الكتابة، وليدة السؤال الموجه من الجدة، في صيغة طلب استفهامي:
” ـ من تقص قصة حزينة لها عندي هدية !” ( ص / 16 )
فالدعوة إلى القص على نمط اختبار وامتحان، وهي مشروطة بالحزن كإعداد وتهيئة للقارئ وكتواز وما سيتم نسجه في هذه الرواية.. ومادام التركيز يقع على شخصية “منيرة الساهي”، فإن حكايتها الحزينة تأتي في الموقع الثالث عوض الثاني، إذا ما تم الاحتكام لعامل السن.. فالمفروض هو:
أ / 1 ـ حكاية نورة..
2 ـ حكاية منيرة ..
3 ـ حكاية منى ..
إلا أن الترتيب أصبح هو التالي :
ب/ 1 ـ حكاية نورة ..
2 ـ حكاية منى ..
3 ـ حكاية منيرة ..
والملاحظ أن صبغة الحزن تبرز قوية في الحكاية الثالثة (ملاحظة: يرد حرف النون في الأسماء الثلاثة) ومن ثم كوفئت عليها بهدية هي “القارورة” الجامعة لحكاياتها ويومياتها التي تعرفنا/ نتعرف عليها.
” ضعي فيها الحكايات الميتة كي تعيش !” ( ص / 23)
” كنت أفكر كيف لقارورة ناعمة هندية غامضة
على سطحها ، أن تزحم بهذا العالم ، هل علي
أن أكتب عن كل ذلك ، أليس الحال حبيبي
جزءا من هذه الحرب ، أليس الحب هو حرب
بصورة أو بأخرى ؟
كنت دائما أسأل..” ( ص / 92)
” برغم أن القارورة تحفظ الحكايات المؤلمة” (ص/ 123)
إن صيانة “القارورة” لهذه الأوراق، جعلها خاصة وذاتية.. لكن ضياع “القارورة” كما توحي الرواية، تحويل للخاص إلى عام، وتم تنوع التلقي وخصوبة التأويل.. ف “القارورة” وفق السالف، يتجاور فيها نصان: النص الإطار، وضمنه تحكى قصة كتابة الرواية.. والمؤطر حيث من خلاله نتعرف على الحكاية المختزلة ضمن ثنائية: حب/ حرب..
أسئلة الكتابة الروائية :
إن ما يقود إليه السابق ، إثارة أسئلة الكتابة الروائية في “القارورة”.. وهي أسئلة وليدة المظهر التجريبي الذي خضع له/ إليه النص.. فقد يبدو بعد التجريب بسيطا وعاديا، لكنه في الجوهر اكثر تعقيدا، إذا ما تم إمعان النظر في الصيغة بهدف تفكيكها.. من هذا المنطلق أعتبر قراءة المتن الروائي ل “يوسف المحيميد”، عملية تفترض قارئا واعيا للفعل الروائي، بغية الإحاطة بآليات الكتابة وإنتاج المعنى الروائي..
عتبة الرواية:
يتشكل بناء النص الروائي “القارورة” من فصول تحمل أرقاما وليس عناوين، كما الشأن في “فخاخ الرائحة” ( 2003 ).. من ناحية ثانية، تستهل “القارورة” بعتبة عبارة عن قول فلسفي ل “نيتشه”، لا يتم ضبط إحالته المرجعية.. واللافت أن: “فخاخ الرائحة” تفتح بمقدمة هي جزء من الرواية ..
إن عتبة القول الفلسفي، تختزل الرواية في ثنائية: حب/ حرب.. هذه تعمل على توجيه القارئ وتحديد قصديته.. خاصة وأن المعنى المنتج في الرواية يتأطر في سياق هذه الثنائية دون أن ينفصل عنها..
من ثم تعيد الرواية إنتاج ذات المعنى في نوع من التكرار على امتداد النص..
” أليس الحب هو حرب بصورة أو بأخرى؟”(ص/ 92)
“.. ذات حرب و حب ” ( ص / 162)
فالعتبة وفي هذه الحالة من حيث وظيفتها:
1/ التمهيد للنص ..
2 / التأطير له ..
3 / توجيه القارئ..
الاستهلال :
من أين تبدأ الرواية؟
و أين تنتهي؟
ألمحنا سابقا بأن الرواية تتشكل من فصول هي عبارة عن أرقام.. هذه تمتد من1 وإلى: 41..
فالبداية أو الاستهلال يضعنا زمنيا في: 1991..هذا التاريخ يجسد نهاية الرواية وليس بدايتها..
و “المحيميد” يحدق بكفاءة خاصة الإرجاء، حيث يرتب المادة ترتيب الخيال الروائي، فيما على الناقد إعادة لملمة الأوراق، وهو ما نقف عليه في “فخاخ الرائحة” أيضا ..
لقد كان السؤال: “الكاتبة منيرة قريبتك يا طويل العمر؟” ( ص / 166 )، البداية الفعلية للرواية ..
حيث خيض في الرهان على أسئلة التحدي والوصول.. حدد هذا زمنيا في: 1990.. فيما الرواية تستهل ب: 1991.. بمعنى آخر: إن عمر الرواية سنة كاملة.. سنة تؤاخي بين الحب و الحرب..
على أن الملاحظ ـ كما سلف ـ التكرار المستمر لهذا البعد الزمني:
” كيف اقتحم عزلتي ومملكتي الخاصة ليل الثالث عشر
من يوليو 1990..أي بعد سفر أخي بثلاث ليال.” (ص/ 99)
” تذكر أنها في مساء الثالث عشر من يوليو، تلقت
اتصالا ليليا ساخنا من قارئ..” ( ص / 163
” بدأ حسن العاصي يسلك الخط السريع إلى قلب منيرة
في الثالث عشر من يوليو 1990 ، أي قبل سبعة عشر
يوما من انطلاق المدرعات وناقلات الجند من البصرة
صوب الكويت ..” ( ص / 168 )
و هو تكرار وظيفته:
1 / الامتداد بالنص ..
2 / توسيع بعده التخييلي ..
3 / تمتين بناء النص ..
خاصات روائية :
يتشكل النص الروائي “القارورة” من خاصات هي المتكأ الأساس لتناسل المعنى الروائي.. من هذه الخاصات: العرض، الاختزال، التوازي والإعداد.. على أننا لا نذهب إلى القول بأن هذه الخاصات تنفرد بها “القارورة” وحسب، وإنما نسوق تمظهراتها كما تجلت في هذه الرواية..
1 ـ العرض: يرتبط العرض بالشخصيات الفاعلة في النص.. وبالذات الرئيسة منها.. ولقد تم بناؤها وفق الصورة التي يوجد عليها المجتمع كبنية تقليدية محافظة: الأب (حمد الساهي)، الجدة، الأخ (محمد الساهي)، إلى الأخت (منيرة الساهي) محور النص في علاقتها ب (حسن العاصي).
مع الإشارة إلى بقية الأخوة والأخوات، حسب القيمة الاعتبارية الممنوحة لهم.. واللافت تغييب الأم إلا من إشارات عابرة، إلى استحضار شخصية (صالح الساهي) بهدف التوثيق الزمني لبداية الرواية، والإبانة عن كون “حسن العاصي” يشتغل إلى جانب الرائد “صالح”، حيث يقع الاحتيال عليه، كما على أخته “منيرة”..
و تتميز شخصية ” محمد الساهي ” بالسمة الأصولية، وفق ما يتمثل في رفضها للمستجدات التحديثية والحداثية، ومقاومتها لكل ما يعد خارجا عن المنظومة الدينية..
إن الغاية من العرض:
1 / الكشف عن الفاعلين في الرواية بالتدرج..
2 / تبيان دائرة تحركهم وتفاعلهم..
3 / رصد العلاقات القائمة بينهم..
2 ـ الاختزال: إن مكونات العرض السابق، يتم توسيعها باعتماد الاستحضار والتذكر وسرد حكايات موازية.. على أن اللجوء إلى الاختزال الروائي جعل نص “القارورة” يفعل/ يتفاعل انطلاقا من مكان مغلق هو الغرفة التي تقيم فيها “منيرة الساهي”، والتي تعد مستقر تدوين هذه السيرة/ اليوميات/ المذكرات، وصيانتها في ” قارورة ” إلى حين الإفصاح عنها.. ذلك أن ما يتلقى، يقرأ، يخلف أثره، ويخلق هذا الأثر، التقليب في أوراق “القارورة”.. إنها الحكاية، وحكاية الحكاية كما سلف..
وإذا كان الاختزال ينحصر في الغرفة، فإن وجهة النظر تركز من حيث الرؤية على ضميرين:
المتكلم والغائب، حيث ثقل الضوء يقع على “منيرة الساهي”.. إنها مبتدأ الحكي ومنتهاه، بحكم القصدية المتوخاة من رمزيتها: من الأنثوية إلى الدلالة الاجتماعية..
على أن المستوى الثالث من هذه الاختزالية، يجلوه الزمن المنحصر في سنة كاملة، حيث إن كتابة الحرب تتوازى بكتابة قصة الحب.. وأعتقد بأن النص لو انحصر في التدوين للحرب والتوثيق لها، لما اكتسب أفق تلقيه الواسع.. فالاختزال المرصود الهدف منه:
1 / التحكم في بناء النص ..
2 / امتلاك القدرة على الامتداد به..
3 / الرهان على الاستحضار والتذكر والاستعادة ..
” وحدها منيرة الساهي ـ البنت الثلاثينية ـ بقيت مستقلة في فراشها الوثير، عيناها مصوبتان تجاه السقف
تنظر بعينين جامدتين تشبهان أعين الموتى، وهي تتأمل
فضيحة البارحة، وتسأل روحها، لم حدث كل ذلك ؟” (ص/10)
” كنت أتمنى لو لم أبق وحدي في البيت ليلة الثالث
عشر من يوليو 1990 ، لو كان سواي هنا لما حدث
كل ذلك .” ( ص / 24 )
” تذكر أنه في مساء الثالث عشر من يوليو، تلقت
اتصالا ليليا ساخنا من قارئ..! “( ص/ 163)
3 ـ التوازي: أعتيد في بعض النصوص الروائية بناء النص على نمط وحدات حكائية صغرى قد ينظر إليها بشكل مستقل، لولا أن قصدية تلقيها تتحقق بوضعها في السياق العام الشامل للحكاية الكبرى الكامنة في النص.. وكأنها تخلق توازيا وما يدرج ويساق، مما يستدعي الحس المقارن..
وثم تلعب ثقافة الروائي ودقة متابعته ورصده، دورها في تجذير النص وتأصيله ضمن البنية الاجتماعية المنتمى إليها..
تحفل “القارورة” بوحدات حكائية صغرى وظيفتها الأساس خلق التوازي والتنويع على الثابت كمعنى.. من تم نقف على كم واسع من الحكايات التي نمثل عنها بالتالي: حكاية نبيلة، ميثاء، فاطمة، حسناء وغنيمة (ملاحظة: لمجموع الأسماء دلالات قوية)..
هذه الحكايات الصغرى في مجموعها تنتج/ تعيد إنتاج حكاية “منيرة الساهي”، و “الدحال/ الدجال”.. إنهن جميعا نتاج مجتمع تقليدي محافظ يكرس دونية الأنثى ويعضد القيم الذكورية..
ويمكن القول بأن “يوسف المحيميد” في تحديده للجانب الدراسي الأكاديمي ـ إذا شئنا ـ ل:
“منيرة الساهي”، والمندرج في عالم الاجتماع، إلى المهنة المتمثلة في مرشدة اجتماعية بدار الفتيات أسهم في توثيق ولملمة العناصر الفاعلة في/ وعلى الإضافة للرواية..
4 ـ الإعداد: إن “القارورة” باعتبارها رمز الرواية أصلا، تصاغ وفق ضمير المتكلم أنا.. لذلك فوظيفة الضمير التعريف بالسيرة (سيرة منيرة الساهي)، وبالتالي إعداد القارئ لما حصل وانتهي إليه.. وكأن الجواب يتحقق بصدد السؤال: “وماذا بعد؟”..
فالإعداد ينتهي إلى ترسيخ قاعدة مضاعفة الحد من حرية المرأة ، وتسييد سلطة الرجل.. إنها بالتالي، قاعدة الانهزام والفجيعة المرة، حيث انغلاق المجتمع، وتوسيع دائرة محافظته، وانعدام مسايرته للتحولات الراهنة، أمام هول المد/ الامتداد الأصولي الذي عكسته في الرواية شخصية: “محمد الساهي”..
“لم تعد تخرج من البيت أبدا، ماعدا عملها في دار الفتيات
الذي قاتلت لأجله، شرط أن يأخذها أخوها محمد إلى العمل
و يعيدها ظهرا إلى المنزل ..” ( ص / 15 )
“ستمر الأيام رتيبة وبطيئة، وسيأتي زميل أبي في سوق العود
والسجاد، وهو يحمل معه مهري، وأعوامه الستين.”(ص/ 212)
إن الخاصات المرصودة والممثل عنها، أقوى حضورا من سواها، ونشير إلى أن جانبا من بلاغة الرواية أضطلع عليه في الرواية الثانية “فخاخ الرائحة”..
2- ” منيرة الساهي ” : الدلالة و الرمز
1 / إن استقراء السياقات التي أفضت إلى الاشتغال على مادة الرواية: “القارورة”، يقتضي التلميح إلى حصيلة متداخلة هي دوافع وعوامل استلزمت تدوينها والتأريخ لها، ليس التاريخ الصرف كوقائع وأحداث، وإنما الكتابة الأدبية في جنسها الروائي المتعدد المفتوح..
من الناحية السياسية، فإن حقبة التسعينات شهدت تراجعا سياسيا عربيا تمثل وفق الكامن في الرواية في احتلال العراق للكويت، وما ترتب من اختلالات في العلاقات العربية، كما الغربية، والغربية الأمريكية (من الآراء التي ترى بأن الغرب واحد)، علما بأن هذه الاختلالات نواة لما سيصبح عليه الوضع العربي لاحقا من هشاشة وعطالة فظيعة للسياسي كقيم مدنية ديمقراطية نبيلة.
على أن ما تولد عن هذه العطالة اختراق المد الأصولي، وما خلفه من تداعيات دولية وعربية، حيث اعتبر الدين ملاذا وخلاصا، والحضارة العربية واجهة جديدة للصراع الحضاري، بعد انهيار المدين الشيوعي والاشتراكي، وهو ما سيستدعي أغنية الديمقراطية المستوردة المفروضة، والتي سيترتب عنها لاحقا نتائج بعضها سلبي في دول، وإيجابي ـ إلى حد ما ـ في أخرى..
بيد أن انهيار القيم الاجتماعية، وهيمنة ظاهرة السوق الاستهلاكي، قاد إلى تحويل هذه المجتمعات إلى تحديثية عوض أن تكون حداثية، واستفحلت الظاهرة بالرهان على الصورة ليس كثقافة ومعرفة، وإنما كتبديد للزمن، الشيء الذي نتج عنه تراجع القراءة والثقافة في أغلب الدول العربية.
هذه السياقات متباينة ومتقاطعة، دوافع لإنتاج قول روائي تخييلي تتحكم فيه ثقافة الروائي، ومدى متابعته للمستجدات الحاصلة.. وأعتقد بأن اختيار الروائي لفاعل نسائي أنثوي في “القارورة”، ينتمي لمجتمع تقليدي محافظ تتعضد وتتقوى فيه الظاهرة الروائية، بعد هيمنة جنس الشعر، ما جعل النص محفلا ثريا مثريا للحقل الدلالي الرمزي..
2 / تتمثل الدلالة الفكرية ل “منيرة الساهي”، في كونها كاتبة مثقفة أكاديمية وصحافية.. وبالتالي إنها التجسيد الأعلى لوعي النخبة الذي لا يمكنه المسايرة بسهولة، والانقياد كذلك.. إلا أن هذه الدلالة في الرواية تعيش زمن انهيارها وسقوطها، وكأن الروائي يلمح إلى ضرورة إعادة النظر والتفكير في الوعي النخبوي السائد..
” ..كان أبطال دستيوفسكي أقرب إليها وأحب من
أي شيء آخر.. كانت مهووسة بهذا الكاتب، لدرجة
أنها ترى أنه نبي ..” (ص/ 49)
“.. ربما هذا ما جعلني أنصرف إلى عالم الكتب والقراءة
والبحث..” (ص/ 69)
وأما الدلالة الاجتماعية فتجلوها المهمة التي تقوم بها “منيرة الساهي”، بصفتها مرشدة اجتماعية وهي النافذة التي تتيح لها تمتين قوة البحث، والخوض في ممارسة علم الاجتماع، برصد العادات والتقاليد المحافظة، وهي مهمة لم تتخل عن مزاولتها رغم سقوطها..
إن الدلالة الاجتماعية بقدر ما تكشف وعي المحافظة والتقليد، فإنها تعكس صعوبات الانتقال والتحول نحو تكريس حرية فاعلة، حيث مطالب المرأة تظل حاضرة فارضة لنفسها..
” لم تعد تخرج من المنزل أبدا ، ما عدا عملها في دار
الفتيات الذي قاتلت لأجله ..” ( ص / 15 )
” ..هل الدحال ، أو الدجال ، يتقن خيوط اللعبة
بهذه المهارة ..” ( ص / 69 )
” كيف اقتحم عزلتي و مملكتي الخاصة ليل الثالث
عشر من يوليو 1990 ، أي بعد سفر أخي بثلاث
ليال ..” ( ص / 99 )
من حيث الجانب النفسي ف “منيرة الساهي” كانت بداية، وانتهت نهاية إلى عزلة واغتراب فرضته التقاليد المحافظة الصارمة، والتي لا تصدر في الرواية عن شخص الأب، وإنما الأخ المتشدد الرافض لقيم الحداثة والتحديث ..
” كنت امرأة حديدية وأنا أضبط رغباتي، وأطرد
طيور الفضول المحلقة في سمائي، مانعة أصابعي من أن
تضع حبوبا لطيور الفضول تلك، وولع الكشف عن
أسرار خطيبي، وحياته الزائفة ..” ( ص / 141)
ويتجلى البعد السياسي في كون قصة الحب المراوغ والمحتال، تتوازى وحرب الخليج التي بانتهائها يأفل نجم قصة الحب، ليعلو المد الأصولي متمثلا في شخصية “محمد الساهي” العائد من أفغانستان وهو ما يبين عن مظهر تشاؤمي وانتقال معاق نحو مجتمع الحرية والديمقراطية ..
” منذ أن عاد محمد بن حمد الساهي في سبتمبر 1986من
أفغانستان، وهو لا يكف عن سرد حكايات الحرب
ضد الشيوعيين ” ( ص / 48 )
” ..إذ ما أن يدخل عائدا من الثانوية، حتى يمر قلقا
هائجا قلاب التلفزيون ويقفله، أمام عيني أخته منيرة
وأخيه الصغر سعد ..” ( ص / 50)
” ذات حرب وحب ” ( ص / 162 )
إن استقصاء دلالات “منيرة الساهي” لا تكتمل سوى بالإشارة إلى الفاعل (الدحال احتيالا والعاصي حقيقة)، والذي يعكس وعيا متدنيا ساقطا مادام يراهن على المكر والاحتيال بحثا عن إيقاع ضحاياه، إذ وفي الختم سيخرج منتصرا من هذه القصة المختلقة.. لذلك فالعلاقة:
منيرة الساهي ــــ الدحال :
1 / غير متكافئة على المستوى التشخيصي والوعي الفكري..
2 / لا تصنف ـ كما المعتاد ـ ضمن نفس التركيبة الاجتماعية ..
3 / و بالتالي فإنها علاقة صراع يتفوق فيها الوعي الأدنى عن الأعلى ..
3 / تبقى رواية “القارورة” إضافة قوية للرواية العربية، إضافة قادمة من الخليج، حيث يتطلع التلقي الموضوعي والحق لما يمكن أن يوسع فضاء التخييل الروائي..

جريدة الصحراء المغربية- العدد6084 في سبتمبر2005م

رجل تتعقبه الغربان: ملخص الرواية

رجل تتعقبه الغربان: ملخص الرواية

يظهر خيط السرد بطريقة جديدة، لا تبدأ بالحاضر، وحظر التجول في مدينة الرياض، أو أربعينات القرن الماضي، ورصد المدينة المحصَّنة بأسوارها الطينية فحسب، وإنما القفز بالزمن في مغامرة مختلفة نحو المستقبل، من خلال منظار روسي...

أكمل القراءة

تلك اليد المحتالة – مختارات

تلك اليد المحتالة – مختارات

لبس ما ظنه الرجل الجالس أمام النافذة حمامة بيضاء بأربعة مناقير وعُرف… كان قفازًا منفوخًا ليد هاربة من وباء، دفعها الهواء بخفَّة. هكذا اكتشف الرجل الوحيد في عزلته. طائرات كلما انفتح باب السوبرماركت الكهربائي عن...

أكمل القراءة

في مديح القاهرة

في مديح القاهرة

ذاكرة الدهشة الأولىقبل ثلاثين عاما تقريبًا، تحديدًا في يناير من العام ١٩٩٢ زرت القاهرة لأول مرة في حياتي وأنا في منتصف العشرينات. جئت لوحدي لأكتشف معرض القاهرة الدولي للكتاب في مقره القديم بشارع صلاح سالم. لا أعرف...

أكمل القراءة

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *