محمد الدبيسي
فيما تمكن يوسف المحيميد في (فخاخ الرائحة) من استيفاء عناصر المكان الوراثي.. والاعتضاء بمعطياته في تجسيد الدلالة السردية، وإلحاحها على مقومات الفضاء المكاني لمد الحركة السردية بآفاق تكونها وتجليها، وعبر شخصيات مستلة من الهامش الاعتباري للحياة، تستعاد في حركة السرد تمكيناً فنياً ورؤيوياً لإنسانيتها، واستجلاء لمكامن توترها الاجتماعي،
في ترابط ونظام سردي متقن.. يأنس لاشتراطات التلقي، ومساحة استيعاب الذائقة، لتجربة حققت نجاحها الإبداعي ومعيارها الفني مستوفية شروط الرؤية الروائية، بوصفها موازاة جمالية تحقق عبر اللغة والحدث والشخصيات والحوار والمخيلة الجمالية، نسقاً يساهم في التعبير عن تجليات الكتابة، في توظيف سياقات الحوار والدلالة الفنية، لإثراء المشهد النصي، والتنويع في مسارات الحدث، وتنامي حضور الشخصية وكشف تداخلات علاقتها بالواقع وبناه، في حركة ارتدادية، تنبثق إشاراتها السردية الأولى في الطبيعة الشكلية لحضور (البطل) وتوالي تشكيل ذلك الحضور في فصول حياة متوترة، تتقاطعها المفاجآت القدرية..! زراعة في ابتدائها ذلك، سؤال إشكالي، لا تظهر إجابته إلا في السطور الأخيرة من الحكاية..؟
وفي الحبكة التي استنطق الروائي إمكاناتها، على نحو يؤصل رؤيته السردية، وتمكنه من خيوطها، محققاً من خلالها منجزاً فنياً تجلى في استظهار العناصر المضمرة في النسيج الاجتماعي المتعدد النماذج، والإفضاء بالمحددات العامة للمنظومة الثقافية والاجتماعية للمكان في هذاالنص.
أسوق هذا المهاد الاسترجاعي لفحوى ذلك (العمل) ورؤية الكاتب من خلاله.. وأنا أقلب الصفحة الأخيرة من رواية المحيميد الجديدة (القارورة) (المركز الثقافي العربي 2004م) التي بعث أولى إشارتها الرمزية في مقولة نيتشه (الحب وسيلته الحرب، وخلفيته العميقة، الحقد القاتل الذي يكنه كل جنس للآخر) ص7. وفي تواتر دلالة (القارورة) التي ارتسمت كتابة وتشكيلاً على غلاف الرواية محتلة (25%) من الفضاء البصري للغلاف بلون قاتم.. يتوسطه (طائراً أبيض في حالة تحليق..) لتتشكل بدءاً دلالة النص الموازي التي تنزع إليها الإشارة الرمزية للقارورة في وجدان التلقي، ويكشف عنها النص الروائي في صيغ وألوان متعددة!. ربما لا تلوذ بالمعنى الإيحائي للقارورة كخزائن أسرار حياة، وتجليات ثقافة مكان، يطبق الصمت والسكوت الملزم على كثير من قضاياه!. (المحيميد).. يراكم متواليات تجربته بحرص على طرق البنى الإشكالية في الواقع الاجتماعي، بما يعبر عن تطور نوعي في تجربته يتبدى في بنى المكان، وما يروق لخطه الفكري، وأدوات مقدرته السردية..! ففي العتبة النصية الأولى (القارورة) (لفظاً ورسماً) موازاة لتواتر إيحاء، يسعى النص لاسترفاقها واستثمار دلالاتها، كحالات يستدعيها المتن الروائي الذي تتموضع تيمة (الحب)..عنصراً بارزاً فيه.. ومواجهة لإحالاته النصية، وتمركزاتها في فضاء النص المرصود بتقنية التقاط واعية!. (فمنيرة الساهي) البطلة.. المرأة المثقفة والكاتبة الصحافية والاخصائية الاجتماعية.. التي تقاربها الرواية من منظور مختلف، غير ما أسست وجودها فيه الكتابة، (الصحافة) لتلين للممارسة الإنسانية (الحب) ليس كقضية محتمة، وإنما كحالة شعور وجداني يستفزه الجندي (حسن العاصي) ليؤسس من خلاله مشهداً وجدانياً، لا يتماس بشكل مقنع مع مرجعيتها الثقافية.. إذا ما سلمنا بمقولة (ريكور): (إن شخصيات المسرح والرواية هي كائنات إنسانية مثلنا)..؟ (حسن العاصي).. الجندي المراسل.. يصيره النص الروائي متحدثاً لبقاً ومحاوراً بارعاً..؟ لا تفضي به مرجعيته الاجتماعية والوظيفية إلى هذا المستوى من الصياغة النظرية المبهرة التي يسوقها الحوار النصي في الرواية..؟ فالصياغة النظرية لرؤية (حسن العاصي).. تكشف عن محاور ذكي، مؤسس على أفكار تقدمية ومواقف انفتاحية باتجاه الآخر..! يستثمرها النص في بنية الحوار، عبر وصف سجالي، لا تدعمه ظروف نشأة ذلك الجندي ..! ولا حقيقة موقفه المرتهنة بداهة لتلك الظروف، وتلك الطبيعة الوظيفية في وصفها الشكلي. (حسن العاصي) الذي يصله الصنيع السردي.. بميزة الساهي، من خلال حلقة (الرائد صالح الساهي) الذي يعمل لديه، وهنا تتمظهر تفاصيل العلاقة بينهما كقيمة وصيغة محصنة مرتبطة بواقع الحدث الروائي، ولكن غير متماسكة معه كناتج جدلي..؟
فعلاقة الجندي بالضابط.. وإن انتصبت كحالة تراتبية، مرتهنة لإلزامات وصفها الوظيفي تصل حداً في النص الروائي يمتهن فيه إنسانية الجندي بركلة يسددها الضابط إليه..؟ هذه العلاقة الإشكالية في بيئة عملية، تبدو متماسكة كأحداث وحوارات، تعبر عنها المشاهد بدقة ولكن بانحصاره واحتقانه بحسب التعبير السردي ذلك، بما يتجاوز الإطار النفسي الطبيعي لتلك العلاقة..؟ ليلي ذلك المشهد بؤرة التوتر الحدثي علاقة (منيرة بحسن) وعمق العاطفة الإنسانية المجردة، التي لم تكن بحاجة لعلة سببية التي يجذرها النص..؟ (منيرة الساهي) المرأة الواعية.. تلتزم مناخات حوارها بحسن، وشذرات العلاقة به التي كان أول مداميكها، تفتحه العقلي ومرجعيته الثقافية، وانشداد منيرة العاطفي لرجل بهذه المقومات، بما يناقض الواقعية التي يعرفها (فرتز شول) (بالموضوعية في التصوير المرآتي والفني والواقع) ليس في وثوقية الحدث ووجاهته وإنما بالرؤية السردية ومعالجاتها الفنية. وهنا.. يبدو المنحى الحدثي مقنعاً في مستواه الحواري، دون مرجعياته ومعطياته الواقعية..؟ فالهيئة الوظيفية التي ينتمي إلى منظومتها (صالح وحسن)، محكومة بتراتب معين وباشتراطات وآداب ومسلكيات مهنية حادة، أراد الكاتب، إجلاء بعض مظهراتها، وما تفضي إليه صرامتها التعاملية من مواقف؟ ولكن ليس بالمآل اللامنطقي الذي يفرز شخصية (حسن)..؟ إن هذه الإشكالية المأزقية التي ربما أراها وجيهة في النص، ترتهن لإقرار نظري نقدي يحدده (تودوروف) عندما يتحدث عن التأويل، الذي يراه (محكوماً بشرطين):
1- مبدأ الوجاهة Petinencd وهو المبدأ المبرر لوجود كل نص، أما إذا لم يكن النص خاضعاً لمبدأ الوجاهة هذا.. فإن المتلقي يبحث عنها عبر تحويلات معنية..
2- إشارات نصية داعية إلى التأويل سواء كانت تلك الإشارات تأليفية أو استبدالية.. (إن هذين الشرطين بحسب فريد الزاهي) ينبعان من العلاقة بين المتلقي والنص. ويفترضان أن ثمة ما يقبل التأويل الرمزي وما لا يقبله في النسيج النصي). ومبدأ الوجاهة.. الذي يسوق له (تودروف) سياقاً تفسيرياً يشير فيه إلى الموضوعية في التعاطي الكتابي..؟ والذي يشكل علي كمتلقي لإشكالية هذه (العلاقة) التي يصورها النص الروائي، ويحشد (حسن) لها إشارات نصية، وقدرات ذاتية، في أحد طرفيها، تنزع للتشفي والانتقام، الذي يقارب مجازياً عدم الوجاهة في استرفاق طبيعة علاقة عاطفية تجمع وبمبررات سردية وحوارية، على قطف وجدانية (الحب) كعلاقة اقتناعية من لدن (منيرة بحسن) والأخير هو الإشكال الموضوعي، الذي يجد المتلقي في مرجعيته النصية عدمية وجاهة في إقحامه بلغة حوار ثقافي، تنم عن وعي متجاوز لمرجعيته الموضوعية، كما يعرضها النص، ويفارق بها كناتج للمرجعية النصية ذاتها!. وهو ما يصطدم بمسألة التأويل التي لا تجد لها في النص سنداً موضوعياً يحدد اتجاهها!. فالمخطط الحركي للكتابة كما يحدده (برجسون) تواقيت رؤى إلزامية تعتمل في ذاكرة الكاتب، ليعيد إنتاجها بالكتابة، ويبدو هذا المخطط ملتبساً في إشكالية أفكار وموقف (حسن). ومنظومة الوصف الوظيفي (لحسن وصالح) من موقعها في واقع التعامل بينهما، لا يؤول إلى اصطفاء (حسن) كمعادل لعلاقة عاطفية تربطه بمنيرة!. (منيرة) العلامة البارزة في النص الروائي، كامرأة مقهورة تعاني فراغاً أسرياً وإحساساً ممضاً بانعدام قيمة ذاتها في محيطها الصغير..! ويبرر لها وضعها الثقافي، وقناعاتها القيسية، ممارسة حقها الإنساني، في ممارسة أجادت اللغة الروائية تجسيدها!. ممارسة تبدو كحالة هروب من ذلك الوضع الأسري، وتنفيس شعوري يعيد إليها الثقة بذاتها.. في إطار علاقة تصادمية بالمكان، ومحاولة الخروج من أطره الاجتماعية، المضادة بطبيعتها مع القناعة الذاتية لها..؟ ومرجعيتها الوظيفية، كأخصائية اجتماعية وما يوفره ذلك الرصيد من خبرات حياتية وإنسانية لم يكفل لها.. أن تكون منخدعة.. لا مخدوعة..؟ في اللعبة السردية..؟
منخدعة في حالة (حب).. تتساهي فيها، بالرغم من انفلاتها العضوي من الكل الاجتماعي، والنهاية التراجيدية التي تظفر بها من هكذا علاقة..؟
لتنكسر (القارورة) .. بفعل ارتدادي، يعيد ضمنياً الدلالة الرمزية للعتبة النصية للعنوان كنص موازٍ! لم يفت على الكاتب استثمارها دلالياً، في تقديم تفصيلي على لسان منيرة ذاتها: (قامت جدتي وأخرجت من خزانتها قارورة كبيرة على حوافها نقوش هندية.. وحروف غير مفهومة بلون فضي لامع.. احتفظت بالقارورة كي أملأها بأسراري وكانت أغلى صديقة وحافظة للسر وكنت أودع فيها كل ما يمر بي، وأفضي لها بكل همومي ومشاكلي) ص 21و22. فهذا الاستثمار الفني، للدلالات الرمزية للقارورة، التي يفك النص رمزيتها، تتضافر مع المحددات القيمية لشخصية (منيرة) لإثراء المضمون النصي الحدثي.. في محور البطلة، التي تنحني لمقتضيات الحالة الوجدانية (الحب) بإرهاصاتها وتفاصيلها التي حققها النص، كما لو لم تكن شخصية أنثوية بتلك المقومات الثقافية والنفسية!.
المكان:
يتمظهر المكان كأحيزة محددة بوصف سردي، لا يتكلف الإلحاح على تسميته بالرغم من استجلاء مشهده الاجتماعي ونظامه التعاملي، وبروز الشخصيات كمواقف تؤكده وتشير إليه كمكان مغلق.. وينزع الكاتب إلى الإمساك بخيوط السرد عبر علاقات حوارية، يفسر من خلالها أحيزة تكتنفها الفوضى ووطأة المسكوت عنه..؟ في تجذير لذلك المسكوت السكوني، كحالة استتار تلف مجتمعاً يحوي حواراً اجتماعياً حاداً ومتوتراً ويبرز عبر العلاقة الهاتفية بين (منيرة وحسن) كآلية تلاقي وتواصل يكتنفها الانغلاق والتخفي..؟ تحت وطأة موروث جماعي لثقافة التقاليد والرقابات الصارمة!. وهو ما بررته اللغة السردية، بصياغة تستجمع طاقاتها المباشرة والإيحائية بأسلوب تفصيلي لا يقدم المكان التجريدي، وإنما المحتوى المعبر عن معالمه ومناخاته (بينما هدرت محركات حافلات البلدة عبر طريق العليا بسائقيها البدو ذوي الشوارب الكثة، والشمغ الحمراء فوق أكتافهم، والطواقي المتسخة المائلة، أما أفران الخبازين الأفغان، فقد ضجت عند تقاطر العمال الباكستانيين والهنود بدراجاتهم الهوائية المزينة بورود صناعية، وهم ينسلون من الطرقات الضيقة، وشوارع الحارات الجديدة، بينما هبط من غرفهن العلوية في السطوح الخادمات الاندونيسيات والفلبينيات يمسحن ألواح رخام الروز البادرة، ويدعكن بالمناشف لمعة درابزين الاستنلس ستيل، ومن غرف سفلية يعلو صوت عبدالباسط عبدالصمد من أجهزة الراديو لدى الجدات النجديات.. وهن يسبحن منتظرات تسلل رائحة القهوة المبهرة بالهيل إذ تتقنها الطاهيات السيرلنكيات) ص9. لتبدو البنية الجمالية للمكان متوالية.. عبر الوصف والحوار، في بعد إشاري إلى سلبية الكائن الأصلي في المكان، المتواري عن الفعل الحياتي الحيوي والبسيط..! في تفاصيل وإشكالات اجتماعية وهموم ذاتية ومآزق علاقات حوار وتواصل وتفاهم عقلاني، يستنطق النص أغوارها.. وترامياتها النفسية!. المكان المغلق هنا.. كما لو كان مشهداً تخترقه انتقادات البطلة، التي ترزح تحت وطأة التهميش بحسب السياق الروائي، في مشهد تعبر فيه عن ما تظنه دفاعاً عن حقها الوجودي، المؤطر إلزاماً نصياً في أحداث اجتماعية كقيادة المرأة للسيارة، وحقها في العمل، وهي إشارات تتراح إلى إضاءة المكان الروائي ومحفل أحداثه!.
المكان المغلق هنا.. كما لو كان مشهداً تخترقه انتقادات البطلة، التي ترزح تحت وطأة التهميش بحسب السياق الروائي، في مشهد تعبر فيه عما تظنه دفاعاً عن حقها الوجودي، المؤطر إلزاماً نصياً في أحداث اجتماعية كقيادة المرأة للسيارة، وحقها في العمل، وهي إشارات إلى إضاءة المكان الروائي ومحفل أحداثه..
يستحضرها الكاتب بأحداثها وملابساتها المعروفة، متخطياً بها الحالة الوجدانية التي حصر بها (منيرة) بما يمكن وصفه بالارتداد للداخل، حيث يتجزأ الوعي، عبر لغة الحوار، ويستبدل إفضاء البطلة بالوصف المشهدي واستجلاء قضايا المكان ونسيجه الاجتماعي. على أن انزياحه للأفق المكاني، عبر تعدد الأصوات، وتجزؤ المكان إلى زوايا، يرمي إلى إبراز قدرة الكاتب، على تأثيث وتوثيق مناخه الجمالي، أو كما ينتقي رؤية تبرز أحد نطاقات الواقع الاجتماعي.. (ظل يحدق في الجدران ثم انتقل بصره إلى نقوش رائعة على سجادة إيرانية صغيرة، فنذكر موعده مع تاجر السجاد المتنقل في سوق الديرة..) ص34. فهذا الاستبطان الصياغي للمكان بالإحالة إلى أجزائه، يشد أجزاء المشهد النصي إلى البؤرة الحقيقية التي تتلمس رؤية الكاتب إضاءاتها، وكشف أنساقها المضمرة، وتصعيد وتيرة إحداثياتها عبر استراتيجية التوازي البنائي في تجذير الملامح العرفية للمكان وأنماطه المعيشية، كما يوفر مشهداً روائياً يفتح أفق التلقي باتجاه المضمر من الإلحاحات النفسية للشخصيات، والتي وظف المكان لها كمعطٍ يحفل بأشباهها ونظائرها وماهياتها. وهو ما يحقق تعرية لتلك المضمرات المتسعة بالسلبية والجدلية الحادة..؟ إنها بنية المكان الواقعي، المحالة بالتعبير الفني، إلى نبض استعادي حافل بالمتوازيات والمخبوءات في قعره النفسي وفي خفايا اختلاجاته.. التي يحقق لم لها النظام الاجتماعي الارتواء العاطفي، كما لم تحقق هي وعبر هذه الرؤيا المازجة بين المكان، والواقع الزمني، يضيء السرد الحركي مضمرات المكان بوعي انتقادي ضمني، يترك للحدث مسافة للتكون والتنامي الفني، مشيراً إلى تعدد الأصوات وانفراديتها بما يشبه العزلة الاجتماعية، والتقوقع على الذات، واستبدال الجماعي بالفردي الانوي، في إبراز شديد الإيحاء للتناقض المريع في العلاقات الاجتماعية في ذلك المكان المغلق.. والتكتلات الفردية التي تفرضها سلطة المكان ونظامه التقاليدي والاجتماعي.. ولذا تبدى المكان في الرواية ليس كوصف فوتوغرافي، ينقل الواقع بحرفتيه وأنماطه التقليدية في الوجدان العام، وإنما عبر عن صورة الواقع المكاني، المخزن في الذاكرة والمخيلة، وعالج منظوماته الفكرية والاجتماعية، عندما حفز شخصيات المكان، وشخصيات الراوي على الحركة المطلقة، وترك لوعيهم رسم مسارات تلك الحركة بما يعني تأسيس الوعي بطلاقة مفاهيمه على الواقع والحياة..
الشخصيات:
تمحورت الرواية على ثلاث شخصيات أساسية هي (منيرة الساهي، وشقيقها صالح وحسن العاصي) وأخرى ثانوية (الجدة، الأخ، الأب). وعلى الشخصيات الأساسية، يدور الحدث، ويتنامى رصيده السردي، عبر الأحداث الجزئية والحوارات. شخصيات استثمرت رمزية أسمائها، وارتبطت إيحائياً بمدلول الاسم، وكأنها استجابة لرموز النظام الاجتماعي ما بين (ساه وعاصي).. واتسمت شخصية (منيرة) بالديمومة، وطبيعة وجودها الإنساني، كما يعبر (برجسون) إنها (كائن شعوري ينحصر في التغير، وأن التغير ينحصر في النضج، والنضج ينحصر في أن يخلق المرء نفسه بنفسه على نحو غير محدود). ووفقاً لهذا المحدد الدلالي للنظرية البرجسونية، حاولت (منيرة) التعبير عن ذاتها من خلال المشهد السردي، وخلقت أفقها بنفسها استسلاماً لوطأة الشعور بالقهر، ومحاولة اختراق التابو الاجتماعي.. وممارسة (حالة الحب) وفعله..!.. بوقائع صاغتها الرؤية السردية، وبقدر تجاوزها لموضوعية الرؤية الفنية.. تنامى الحدث وتمحورت (هي)، كمركزية دلالية، تفضي بالمفاجآت وحالات التوتر والتشظي إزاء منظومات المكان واشتراطاته لا تنفك تعبر بمنولوج شديد التصريح عن احتقانها النفسي، ورغبتها في كسر النمط الاجتماعي المفاهيمي، منذ اختارت (القارورة) خزينة لأسرارها وهمومها وإحباطاتها!. وهو ما يشير إلى انفصالها عن المحيط الأسري وغربتها الذاتية.. إلى حين تفضي بتوقها إلى الخلاص من اشتراطات المكان الاجتماعي، وفي منولوج استعادي آخر تعبر وبحساسية موجوعة عن هذه الحالة.. (كنت أنثى مجرد أنثى.. مهضومة الجناح، كما يراني الناس في بلادي، أنثى لا حول لها ولا قوة كنت أتلقى فقط، كالأرض التي تتلقى المطر، وضوء الشمس والفأس).. (منيرة) التي يمنحها الخط السردي الحديث عن نفسها بعد أن كان يصف ويحدد نطاقها الاجتماعي السيري، تنتظر خلاصها في ثلاثة إقرارات اجتماعية (المطر وضوء الشمس والفأس). وهنا يبدو الإيحاء شخصياً لوضعية المرأة، عبر شخصية (منيرة).. ويرمز إلى تناص دلالي، في قولها (الناس في بلادي).. العبارة الموظفة بذكاء، تستدعي وعبر تقنية التناص في مرجعيتها الذهنية في التلقي الذي يستعيد قصيدة صلاح عبدالصبور الشهيرة (الناس في بلادي جارحون كالصقور) ليأتلف المنظور الرمزي، بالتلاقي العرفي بين الناس في (بلاد منيرة) (المكان) والفيض الدلالي لقصيدة (عبدالصبور).. وهو ما يشكل إطاراً دلالياً تتبدى دلالته عبر حركة المشهد السردي وفصوله المتعددة، مما يشكل البعد المحوري لمنيرة كبطلة، ونموذج سردي معبر عن نساء بلادها، في وجودها الروائي حيث تحلل اللغة السردية مواقفه وتعبر عن تشظياته النفسية من منظور بوحي!. تجاوز فيه لغة السرد، المحيط الاجتماعي المرتهن لصمته وسكوته المحض، الذي يمنح شخصية (منيرة).. مشروعية السرد في مشهد تصادمي داخلي، يتمثل في علاقتها السردية بحسن!.. أما (صالح وحسن).. فبالرغم من الوصفية السردية التي تبديا من خلالها، كعنصرين تحقق الرواية وعبر فضاءاتها المشهدية بنيتها الوظيفية، فقد تجاوزت العلاقة الضدية بينهما إطارها المهني، في إسقاط مناخ ذلك الإطار، على المناخ الاجتماعي وهو المسرب، الذي حقق محاولة إقناعنا بصيرورة بدهية لعلاقة (حسن بمنيرة).. التي وإن انبثقت طبيعية وفقاً لاشتراطات المكان.. عبر الهاتف..؟ إلا أن تناميها التشكيلي في آفاق الحوار الثنائي بينهما وتقنياته السردية القائمة على التكثيف الوصفي الدقيق، واستيعاب قضايا اجتماعية، وعرض قناعات ومواقف ثقافية وفكرية، ونزع غير مباشر إلى الإيحاء الأيروسي في مشاهد اللقاء..! في أسلوب صياغي استعاري، يجمع شتات المشاهد، في بعد دلالي ينحني لطبيعة الحالة الشعورية الوجدانية ومأزقها الاجتماعي، بما لا يتفق موضوعياً مع مفتتحها الإرادي والاستباقي لدى (حسن) الذي يثأر من (صالح) بهكذا علاقة.. التي كانت ستبدو طبيعية سيما وهي تتكون بتلك اللغة، وتقنيات السرد الذكية والمحتشدة بالإيحاء الفني المعبر والقدرة على تكنيك الحدث، وتسلسل حركة توتراته على مستوى ضبط سردي، يوظف المجاز اللغوي والوصف المشهدي الحسي وتفسير الموقف.. بقدرنا يصطفي منها الرؤية الجمالية!.. أما الشخصيات الثانوية، والتي استدعاها المسار السردي، لتحقيق العناصر الإنسانية الشخصية للمشهد الحكائي، فقد تبدت مشيرة إلى هذه الدلالة التي توخى الكاتب عبرها، تجذير رؤيته الثقافية.. وإلمامه الواعي بالطيف الإنساني للمكان، ومواصفات نظامه الاجتماعي!.. فالجدة، والأب والقاضي، ومحمد الساهي.. يتبدون كفاعليات ثانوية يستبطن الوصف النصي محتواهم القيمي والوجودي، ويمنحهم مساحة لتكوين حقول دلالية، من خلال مشاهد وصياغات تعكس أثرهم الدلالي، ويلتقط عبر التكنيك السردي مواقفهم، والتئامهم العضوي بأحداث النص وتحولاته، تحولات شكلت على المستوى الدلالي، فعالية نصية.. تندرج مع صيرورة الوقائع الحركية والنفسية، فيما كانت شخصية (محمد الساهي) مفتتحاً لسياق تفريعي في المسار الرئيسي للرواية (حالة الحب) تفريع مهم.. عرى الكاتب من خلاله الطبيعة السلطوية للمؤسسة الدينية، واستبطان بعض بنماذجها لسلوك نفعي شائه..! وحققتها بعض المشاهد النصية في إشارات رامزة، وبإيقاع لغوي يفضح الممارسة في انوجادها في الطبيعي في بنية النص، ليثير كوامن موقف اجتماعي لا يستطيع التعبير النظري عن اتجاهه وأهدافه..؟
وهو ما يحقق تمازج الرمزي بالواقعي، الملتقط بعناية عبر مشاهد وصفية.. نشخص حقيقة هذا المأزق.. وتستدعي حركية الحدث السردي.. ودلالته، في إبراز موقفها الفاضح لذلك المأزق؟ عند انتهاز (محمد الساهي) لأحداث حرب الخليج الثانية.. (واستغلاله لحقوق التجار اليمنيين.. ليجبرهم على بيع محالهم لصالحه).. ويبرز الكاتب من خلال هذه الشخصية، موقفاً جماعياً ضمنياً في ممارسات العناصر الاجتماعية واستغلالها الانتمائي للدين، وتلويث رمزيته بممارساتها. وإن كان استعاض عن الحوار في هذا المنعطف بالوصف.. لما يثريه الوصف من تجسيد صادق.. لهذا المأزق.. سيما وهو مرتبط بالبعد الإدراكي والوظيفي لثقافة الكاتب، والموظفة بمهارة.. تعيدنا إلى نضوج المخطط الحركي (البرجسوني) للكتابة لدى الروائي يوسف المحيميد..؟ اللغة الحدث!.. ربما كان من الطبيعي لهذه المقاربة.. أن ننطلق من قناعة بتلازم اللغة والحدث، كمحورين أساسيين في بنية العمل الروائي، يستجيبان لطبيعة الرواية الرؤية وينهضان بمحتواها وتلازمها العضوي، يبرر لي على الأقل مفهومي لذلك التلازم.. وبين الحدث كإشكال نصي سردي وموضوعي روائي.. تحدده رؤية الكاتب.. وبين اللغة التي تنهض في تجسيد ذلك الحدث ومعالجته، ونقله من ممارسة مجردة، إلى مدونة إبداعية ملتزمة باشتراطات ومعايير اللغة الفنية!.. من هنا.. بدت لغة الرواية في إطارها السيسولوجي، كمنحى دلالي تشترطه اللغة الإبداعية، متناهية في دقتها الدلالية.. يتراوح فيها التصوير المشهدي التفصيلي، وضبط البعد الدلالي للفظة في سياقها النصي وتبئيرها لتيمة النص الأولى (في حديث منيرة عن القارورة مثالاً). ومحايدة في تعبيرات الشخصيات، ووصفية بالجمالي وببعده الإيحائي المكثف (وصف الأمكنة) وإن شطحت في إخراج (حسن العاصي) من مألوفة الوصفي، إلى دال على ملمح ابتغاه المخطط الحركي للكتابة قبلاً..؟. فيما تنوعت الصياغات اللغوية لمشاهد النص، وأحداثه.. ما بين التعبير المجازي، واستثمار طاقات الجملة الفعلية بشكل كبير، في حقن الحركة المشهدية بإيحاء واضح ومع سكونية مكان المشهد الروائي واحتلال الصمت علامة فارقة في بنية شخوصه..؟.. مما حدا بالكاتب إلى الاستئثار كثيراً بخط الوصف.. مقارنة بالحوار.. وهو (وصف) يبدو منسجماً مع القضاء النصي، ومستوعباً لإمكاناته وطاقاته الكامنة.. ومعبراً عنها.. ومفصلاً لتلك الطاقات العضوية، وفق قوانين تفضي إلى تكوين التعبير اللغوي الذي يتسلل من الأبسط إلى الأعقد، ومن الوصف اللازم بالتوالي إلى التنامي.
ويحقق ارتباط اللغة بالحدث في (رواية المحيميد).. ضمانها عدم الانزياح للشعرية الطاغية التي تفقد النص الروائي.. أهم شروطه وهو التنامي الحدثي الواعي والمتجانس على مستوى التوالد الحكائي وتعرية التجربة الحياتية بأبعادها الذاتية والموضوعية!.. وهو ما ظهر في المستوى التخييلي الذي شكلته اللغة، لمغزى جمالي، يشير إلى رؤية الكاتب وتقصيه لأجزاء الحدث، والتقاطه باللغة الناقلة له.. والمشيرة إلى مناخاته. إن دلالة اللغة عند المحيميد.. وظفت بشكل يعبر عن دلالتها النفسية لدى الشخصيات، الذين يستبطنون عبر الكاتب المعاني النفسية والثقافية والاجتماعية في المشهد النصي!.. ولذلك ظل بمنأى عن أسلوب التفسير المباشر، إلى حيوية التخاطب الحواري، واحتواء لحظات الانفعال النفسي للشخصيات.. كمرحلة وعي، لا تنجزها إلا لغة الوصف، التي تحدد إفضاءات الموقف النفسي ومعالجته.. وتنامي حضور الشخصية الروائية.. في مستويات للاستبدال والانتقال والتحول، في فضاء كل شخصية، والتي ظلت بدورها محكومة بلغة تأخذ شكلاً بيوجرافياً يمكنها من الحديث المصاغ بطرائق تعبيرية تنفرد بها خطابات كل شخصية.. ليصبح مجال التداعي والتلاقي متنوعاً ومتعدداً في مواقع الرؤية السردية!.. فيها شكل المتلازمان.. (اللغة والحدث).. منظور قدَّم تلك الرؤية وموقفها الثقافي والاجتماعي، كما تحقق للكاتب (يوسف المحيميد).. في هذا العمل، الذي يراكم عبره تجربة خلاقة باتجاه إبراز التنويعات الموضوعاتية والطاقات والجمالية الممكنة كما تقدمها التحققات النصية في رواية القارورة..
____________
المجلة الثقافية- جريدة الجزيرة العددان 104/105 تاريخ 2/9مايو2005م
0 تعليق