قراءة نقدية في رواية ” القارورة ” للروائي يوسف المحيميد

مايو 29, 2012 | القارورة | 0 تعليقات

عواض شاهر العصيمي
الوصية:
” لا تضعي فيها الحي حتى لا يموت” هذا ما أوصت به الجدة حفيدتها منيرة وهي تهدي إليها القارورة. ولكن ما هي هذه القارورة التي جعلتها الجدة في مقام المكافأة لمن تحكي أفضل قصة حزينة من حفيداتها الثلاث، ومنيرة إحداهن؟ أين كان مكانها قبل أن تفوز بها منيرة نظير حكايتها الحزينة؟. ماذا كانت تحوي؟ ماهو شكلها؟

على اعتبار أن طبيعة الشيء سر قوته أو ضعفه:
كل ما يمكن أن نجمعه من معلومات حولها هو أنها كانت في خزانة خاصة بالجدة. وهي قارورة كبيرة. على حوافها نقوش هندية، وحروف غير مفهومة. لونها فضي لامع. بداخلها كرات صغيرة وملونة من الحلوى. هذا كل شيء عن القارورة التي أصبحت فيما بعد ” خزانة ” زجاجية وحيدة لأسرار منيرة وفضائحها ويومياتها التراجيدية. لكن بقراءة متفحصة بعض الشيء لملامحها وشكلها وما تحمل من علامات ورموز، بوسعنا الوقوف على طبيعتها وفهم المسار الذي وضعها القدر من البداية، في فلكه ليلتقي في نقطة محددة بالمسار الذي تتحرك فيه حياة منيرة الساهي. إنها أولاً، قارورة من النوع الأثري لكونها كانت من مقتنيات امرأة تقع بحسب تراتبية السلم العائلي في موقع الجدة، ما يعني أنها عاجلاً أم آجلاً ستؤول إلى مالك جديد من نفس العائلة، لو لم تفكر الجدة بتلك الطريقة الذكية في تحويلها إلى ملكية فرد من بيت الساهي تختاره بنفسها وبشروط معينة. وهي ثانياً، قارورة ذات ثقل سيميائي ثقافي معين ، نقوش، حروف، لون . وهذا يعني أن صفتي الرخص والركاكة اللتين تتسمان بها قوارير السوق، لا ينطبقان عليها من ناحية كونها تراثاً صارت في نظر العائلة، ونظر منيرة خصوصاً، ومن ناحية القيمة المعنوية التي تمتعت بها بفعل تحويلها إلى هدية لقاء عمل مميز. وهي ثالثاً قارورة تحمل بداخلها مادتها الخاصة، إثارتها الجمالية، إغواءها السري، بحيث ارتقت إلى مصف التحفة من جهة، وإثارة الشهية من جهة أخرى حيث تحوي ( كرات صغيرة وملونة من الحلوى ). بهذا المقدار من الأهمية للقارورة يصح لنا افتراض ارتقائها إلى مستوى الملكية الخاصة والأثيرة جداً ويؤكد ذلك ما قالته منيرة في صفحة 22 ( كانت أغلى صديقة وحافظة للسر، كنت أودع فيها كل ما يمر بي، وأفضي لها بكل همومي ومشاكلي دون أن تبوح لأحد ). وبهذا المقدار من الانسياح الذاتي لمنيرة داخل زجاجة، يمكننا أن نتساءل: من أين تنبع الهشاشة من الأساس؟ من امرأة توصف من منظور اجتماعي ذكوري بالقارورة؟ أم من قارورة رقيقة معرضة للتهشم عند أول اختبار يفوق قدرتها على المقاومة؟ لكن الطبيعتين التقتا فارتبطتا بعلاقة وثيقة إلى هذا الحد. هناك غاية مهمة تكوّنُ جوهرَ هذه العلاقة بين الطبيعتين، هي الكتمان. أن تكتم القارورة أسرار ” صديقتها ” منيرة، بينما تجتهد منيرة في تحريز وإخفاء القارورة في مكان آمن لا يصله سواها. هذا الكتمان المتبادل، هو في الواقع، القوة التي تستمد منها الطبيعتان القدر اللازم من الوقوف متماسكتين ضد الهشاشة. ضد الطبيعة المادية لكليهما. وهي الطبيعة الشرسة التي ظلت تهدد وجودهما معاً، غير أنها فيما يتعلق بمنيرة صارت أكثر شراسة وعنفا.
من الداخل – نظرة مكبرة:
لكن، لماذا نفحت الجدة لحفيدتها بعض البركة الأمومية، على صورة وصية قصيرة ومحددة المعالم ” لا تضعي فيها الحي حتى لا يموت “؟ عن أي حي كانت تتحدث وهي تمد لها القارورة/الهدية التي أصبحت لاحقاً القارورة/الصديقة؟

بدءاً، هل كانت طفلة السنوات السبع_ إن صحت الملاحظة_ تعي هذا التوجيه المقشب بملمح شعري فلسفي؟ عندما نرجع بالقراءة إلى مسافة سطور من أول ظهور لهذه الوصية في الرواية، أي تحديداً إلى الصفحة المقابلة، سنطلع على قبون ميت داخل القارورة، حشرته الطفلة ( آنذاك ) في فم القارورة لاعتقادها بأن القبون ، بما أنه يتغذى على العشب، والعشب ينمو مع الحكايات الحزينة، كما قالت جدتها، فإن النتيجة المفترضة هي أن هذا القبون يستبطن الإثنين معاً، العشب والحكايات الحزينة. إذن، يحق لها، من باب ملء القارورة بالحكايات الحزينة، أن تختصر البحث في قبون تظن أنه مكتنز بضالتها. لكن الجدة، لو تنبهت الطفلة إلى غايتها من الغرض الأساس لإهداء القارورة، ما كانت لتعطي حفيدتها تلك القارورة من أجل قبون، بل من أجل الغرض الذي نالت عليه المكافأة. بمعنى أن تحشوها بالحكي. والحكي الحزين بالذات، على اعتبار أن الهدية وضعت من أجل هذا الغرض. هل يعني ذلك، أن الجدة كانت بفراستها الثاقبة، تنفذ إلى زمن منيرة القادم فترى فيه تموجات مأساتها مع الدحال، ومقدار ما ستكون عليه من حزن وتعاسة؟ ربما، لكن الوصية من جهة أخرى قد تشير إلى أمر هام، هو أن منيرة التي تجيد الحكي، منيرة الضحية، تحولت، في نهاية المطاف، إلى قبون يسد فم القارورة، قارورة أسرارها في أول الأمر، ثم فضائحها بعد ذلك، ما يعني أنها، كمادة أساس للحكي، ماتت على نحو يشبه الطريقة التي مات بها القبون الحشرة. فالقبون ذاك، أدخلته عنوة بيدها في فم القارورة، فمات. أما هي فليس سوى الخديعة، عند اكتشافها للعبة، من أودى بها إلى نفس المصير. بمجرد أن تكتشف اللعبة، وتحكيها، تكون قد انتهت، ( وقد تحولت الحكاية إلى ما يشبه خبر الوفاة لشخص عزيز – صفحة 183 )، وبالتالي ليس أمامها كمصدر للحكي الحزين إلا أن يلتئم بعضها إلى بعض داخل قارورتها. لم يعد لديها شيء لتقوله أعظم من أن تنهي الفقرة الأخيرة من سيرتها بحرق صك طلاقها من الدحال، لتنتهي منيرة الساهي، المرأة المخدوعة. والمفارقة، أن ( كرات الحلوى الصغيرة والملونة ) التي كانت داخل القارورة لحظة أن تناولتها من جدتها، حل محلها مع الأيام، مع أيام الرائد المزيف، أوراق حزينة تحتوي مرارات تجربة قاسية. لكنها تجربة عاشتها ( قبل اكتشاف الجندي المراسل حسن العاصي ) بألوان زاهية، ومذاقات حلوة كان يتفنن في صناعتها الرائد المزيف علي الدحال.
من الخارج – الحرب دائرة:
الوقت الذي استدرجت فيه منيرة إلى خوض لعبة حب بدون علمها أنها مجرد لعبة من طرف الدحال، وأن هذه اللعبة ليست أكثر من وسيلة لإيقاع أكبر قدر من الألم والمهانة بأخيها الرائد المبتعث، هذا الوقت هو أيضاً كان شاهداً على حدوث مغامرة من نوع آخر، ومن وزن أثقل بكثير. اندلعت حرب الخليج الثانية، وانجرت المنطقة كلها إلى معركة شاسعة لم تخترها، ولم تستطع تجنبها. فكان أن تساقطت على مدينة الرياض، صواريخ سكود العراقية، وهي المدينة التي قبل الحرب، كانت تتمدد على رمال أوضاع اجتماعية وأمنية مستقرة . وكان أن انتصبت في أقطارها منصات صواريخ باتريوت، ووضعت في أعاليها صافرات الإنذار النعابة، وذرعت شوارعها آليات عسكرية وجنود يرتدون اللون الخاكي، لون الحرب والقتال. إذن، الجحيم كان على طبيعتين ، طبيعة فردية اقتصر سعيرها على منيرة الساهي دون سواها، وطبيعة جماعية تمثلت في الحرب العسكرية بكافة أسلحتها التقليدية. وإذا كانت الطبيعية الجحيمية في الخارج تجري في فضاء مفتوح وبقدرات تدميرية مختلفة، فإنها في الداخل، أي على المستوى الفردي المحصور في منيرة، تجري في فضا مغلق وكاتم للمشاعر والتشكيات نظراً للطبيعة الاجتماعية والثقافية المتحسسة من قضية وقوع امرأة في خديعة من هذا النوع بدعوى الحب. والتحطيم الكلي للخصم هو بشكل عام هدف حرب الخارج، وهو أيضاً نتيجة لعبة الداخل. وبقدر ما أصبح الزيف والخداع واستغلال الآخر ومحاولة الإيقاع به ليكون الطرف مهيض الجناح، بقدر ما أصبحت هذه الأشياء جزءاً من سياسات دولية ماكرة لتحقيق مبتغيات خاصة من جهة، فإنها كذلك غدت ممارسات فردية لنفس الأهداف من جهة أخرى. بمعنى آخر، لم يعد الكل محصناً من الخديعة. ففي منطقة مكتظة بمجتمعات ضعيفة التحصين من نواح كثيرة، ويخرج منها الطغاة والمستبدون كما يخرج منها الأفاكون واللصوص ، وتنتهك فيها كرامة الإنسان بأمر من زعيم، أو بإشارة من ضابط تحقيق، أو بدافع مرضي من شخص مختل عقلياً، أو بناسف ناري يتخصره إرهابي، أو بحكم قضائي غير نزيه، في مجتمعات من هذا النوع، لا أحد محصن من الخديعة والانتهاك والمصادرة.
السورُ، إذ يشبه البيتَ وساكنيه:
تتألف عائلة الساهي من الجدة المريضة، ( ماتت فيما بعد )، ثم الأب البسيط، صاحب دكان العود والعطورات متواضع الدخل، الرجل المطواعة، السلبي الذي لا يهمه ما يحدث من حوله، صاحب العبارات المأثورة ” الشيوخ أبخص ” ، ” الله يريد بنا خير ” ، ” الله يكفينا شر من فيه شر ” إلى درجة أنه لم يتحر بشكل حقيقي عن علي الدحال، الذي طلب يد ابنته منيرة، ( تزوجها لاحقاً )، ولم يتحقق من شخصيته، والمرة الوحيدة التي ذهب فيها إلى عمله ليقابله ويتعرف إليه لم تنجح، إذ سرعان ما صده عن الدخول شخص بهيئة مدير مكتب متحججاً أن الدحال في اجتماع منعقد تلك اللحظة. ثم هناك الأم بشخصيتها الضعيفة غير المؤثرة، والضابط صالح المبتعث إلى الخارج، والذي بسبب إهانته للجندي حسن العاصي قرر ذلك الجندي أن ينكل بكرامته عن طريق تمريغ قلب أخته بتراب الندم. ثم البنات الثلاث نورة ، منيرة ، منى ، مروراً بمحمد الشاب المتدين الذي سافر إلى أفغانستان وحارب مع ” المجاهدين ” ثم عاد إلى الرياض مدججاً بفكر تكفيري حاد. فهاهو في صفحة 160 يقول محدثاً أباه: ( إن دخول القوات الأجنبية يعد كفراً وموالاة لهم، فلا يجوز أن يدخل الكفار بلاد المسلمين، بل يجب أن نطردهم شر طردة! كما يجب القضاء على من يوالي الكفار من العلمانيين والحداثيين، ويجب أن نفضح هؤلاء النساء الساقطات اللاتي يطالبن بحقوق وقيادة سيارة، ويطالبن بأن تشيع الفاحشة بين نساء المسلمين، قاتلهن الله. ). غير أنه لا يرى في الاستيلاء على ممتلكات اليمنيين الذي عادوا إلى اليمن أثناء الأزمة، أية مشلكة ما دام أنه استولى عليها بمقابلات بخسة استغلالاً لأوضاعهم الحرجة. وأخيراً، الأبن سعد المنغمس في مغامرات عاطفية ساخنة تأخذه يميناً وشمالاً في تواريات غرامية تكاد لا تنتهي مع النساء. من خلال هذه التركيبة العائلية المتناقضة فكراً ومسلكاً، تشكل السور الظاهر لبيت الساهي، فشابه ساكنيه، وتفخخ بتآكلاتهم الداخلية حتى بدا كما لو أنه سقط وحل مكانه لاشيء. بيت يفتقر ساكنوه إلى الشخصية النموذج، يخترقه فكر جهادي متطرف، يرتع داخل غرفه نمط من الحياة متفكك وممل وغائب عن إيقاع الحياة الزاخرة بالتنوع الخلاق والجمال والحيوية الثقافية. ونظرة عامة لهذا البيت، يرتد منها البصر بانطباع مفاده أن الساكنين لابد تعرضوا لتحولات من كل الأنواع تقريباً، فكرية، اجتماعية، اقتصادية .. إلخ، بحيث غدوا أنموذجاً لطبيعة الحياة المعاصرة لإنسان المنطقة في الغالب. لكنها تحولات، كان منشؤها ومصبها بتأثير مباشر من عوامل مختلفة لم يكن للفرد ذلك الدور في التعامل معها من موقف قوة أو بوعي ناقد ومتفحص، وذلك بسبب ما يعانيه من قصور حضاري وثقافي في فهم طبيعة ما يتحرك حوله ويؤثر فيه. فالفكر الديني تغير لدى عديدين، وتحول من كونه فكراً متناغماً مع النزعة الدينية التقليدية في المجتمع، إلى كونه فكراَ متشدداَ يتبنى رؤى راديكالية في تصحيح مايراه انحرافاً في الأصول والعقيدة.

وعندما نعرج على منيرة نفسها داخل هذه التركيبة، نجد أنها، بما لديها من حضور ثقافي، استفادت من الحرية المتاحة جزئياُ للمرأة في الكتابة الصحفية، فامتشقت عموداً أسبوعياً في إحدى الصحف أسمته ” ورد في آنية ” ( لهذا الإسم دلالته ). لكن ذلك الحضور الثقافي ، لم يسعفها حينما احتاجت إليه في معرفة علي الدحال بشكل أفضل، بل لم يكن لديها الوعي اللازم لقراءة شخصيته وتحليلها حتى في حدود معرفة أين درس؟ ومن أية جامعة تخرج؟ وماذا كان تخصصه؟ لم تذكر الرواية أنها ناقشته في موضوع فكري ما ، أو ساجلته حول قضية ثقافية معينة لسبر غوره واكتناه حقيقته، بل زادت على ذلك بإن أهملت عمودها الأسبوعي، و انصرفت بلا مبرر عن دراستها الجامعية. لم تتنبه إلى العلامات التي تعترضها من وقت إلى آخر وهي محملة بالنذر والتحذيرات من الوقوع في الخديعة. وهذا، في تصوري، هو نتاج الثقافات السطحية الوجاهية المحضة، التي استشرت مع الطفرة، واستماتت في نيل بركة النظرة المجتمعية الباحثة عن الأبهة الشكلية والعز المحسوب بما لدى المرء من قدرة على تشكيل ذاته وفقاً لمطالب الرضى الاجتماعي من خلال ما يكتب، وما يشتري، وما يلبس ، وما يمتلك من عقار وأسهم وخادمات وسائقين وسيارات فارهة، لكنه، في المقابل، منضغط تحت سلطات اجتماعية وأخلاقية عديدة تجعله يضطرب في مسألة تفسير ذلك العجز البالغ في تهذيب الكبت العاطفي الذي يعيشه، وفي التعبير عن غرائزه بشكل صحيح. لذلك، فكأنما كان مجيء الدحال بتلك الصورة، ودخوله بتلك السرعة في البيت، وانسياحه العاطفي القياسي في قلب منيرة، كأنما كان بمثابة دليل على سرعة تهشم الرقاقة الثقافية التي تزملت بها لتحمي نفسها من نظرة دونية قد تنالها من الطبقة الاجتماعية المنتمية إليها. كأنما كان ظهور الدحال عقوبة ليس لها فحسب، وإنما للثقافة التي أنتجتها بتلك الهيئة. وللنمط الاجتماعي الذي، في التفكير والممارسة، شكل على منوالها الكثير من الـ ” منيرين ” و الـ” منيرات “.
عن الرواية بشكل عام:
لا أتصور بأن اختلال منطق الحبكة الموضوعية من ناحية غرابة بعض أحداثها، مثل توقف الأب عن البحث في شخصية الدحال والسؤال عنه، ثم القبول به زوجاً بلا تحفظ، ومثل تفويض الضابط صالح للجندي حسن العاصي (غريمه الخفي ) لاستلام رواتبه من البنك، وأشياء أخرى صغيرة ، لا أتصور بأن اختلال منطق ترابط الأحداث ناتج عن قلة خبرة أو عدم وعي من الكاتب بهذه المسائل، بل هو في نظري، انتباه محمود إلى اختلال المنطق الاجتماعي الشائع في مثل هذه الممارسات. فثمة أحداث تقع في المجتمع تشير إلى خلل في المنطق المتعارف عليه تجاه التعامل مع ( مسألة الزواج، مثلاُ ، حيث دخلت وسائط جديدة في اختيار الزوجة أو الزوج، مثل مكاتب التزويج، والانترنت، وأحياناً تتم المفاهمات بواسطة الطرفين مباشرة عبر الجوال بلا تدخل من الخارج، وهي عوامل ساهمت في تفتيت صلابة المنطق الداعي إلى طلب يد الفتاة مباشرة من أبيها وبدون وسيط تجاري ) فخفت ، بناء على ذلك، صوت القيم الاجتماعي على طهورية السمعة وعراقة النسب، كما هو مطبق في الزواج الذي يتم بوسائل تقليدية، وتخففت إلى حد ما ثقافة التقصي عن الخاطب. فإلى عهد قريب كانت كل قبيلة تحصر التزاوج بين أفرادها فحسب، وتستعيب تزويج فرد من قبيلة أخرى لإحدى بناتها، ثم مر وقت فأصبحت هذه الأشياء من الأمور العادية للغاية، وتطور الوعي الجمعي عند البعض ( القبلي ) إلى حد أن يقبل بتزويج ابنته لأي شخص من أي عرق مستوطن وليس فقط من أية قبيلة. وأيضاً لم تعد خافية جرائم الانتحال سواء عبر وثائق مزيفة، أو باصطناع مثال مقارب للشخصية الأصل، متجسداً في شخصية وهمية، ومثل هذه الأمور تروج لها ثقافة الفيلم السينمائي المعاصرة، كما روجت لها قديماً بعض الحكايات التراثية في التقنع بوجوه وهمية، والتحدث بلكنات غريبة لمآرب وغايات تختلف من حكاية إلى أخرى.
وفي الأجمال، أعتقد بأن الكاتب امتلك بشكل جيد عالم الرواية وسيره وفق نظام بنائي محسوب، إن على مستوى بناء الأحداث وموضعة الشخوص، أو على مستوى اللغة وتوزيع العناصر الفنية المشكلة في مجملها لمعمار الرواية التقني والفني. فالاسترجاع، والمونولوج، والديالوق رغم قصره، والتأمل، والوصف، كل هذه العناصر توازنت فنياً ومسارات الأحداث في موضوع الرواية، واتسمت بتعايش تبادلي واقعي لم تطغ فيه القيمة الفنية على المسرود الموضوعي. فالأسلوب أقرب إلى المباشرة ، إن لم يكن مباشراً بالكلية، وهذا النوع من الصيغ التعبيرية هو كما يقول تزفيطان تودورف ( الوسيلة الوحيدة لإخفاء كل اختلاف بين الخطاب الحكائي والعالم الذي يستحضره – نظريات القراءة – دار الحوار) وهذا الاختيار هو اختيار فني مرتبط بطبيعة ونوعية الموضوع، فمذكرات كشف الخديعة في العمل لا تستدعي صيغة خطاب حكائي متنفج ولا شعري بل واقعي متقشف ومباشر. وخلافاً لما عرف عن يوسف المحيميد من اشتغال لغوي يقارب الحد الشعري في قصصه القصيرة، نراه بهدوء كاتب مجرب يلتقط الحدث موازناً بينه وبين السياق اللغوي الذي يناسبه. نعم، هناك إغواء مكين داخل يوسف القاص يطغى أحياناً على إيقاع اللغة عند الروائي، لكن هذا الأخير سرعان ما يروض في داخله مؤلف ” لابد أن أحداً حرك الكراسة ” و” رجفة أثوابهم البيض” ليعود إلى حنكة ودربة الروائي الذي صاره. لكن أي عمل أدبي لا يخلو بالطبع من قصور هنا أو هناك، وهو هنا يكمن في الإسهاب الذي لالزوم له أحياناً، وفي اقتسار الصورة في مشهد ما، بحيث تبدو غير متجانسة والطبيعة الجمالية المفترضة للحالة، أو الخصوصية النفسية لأحد الشخوص. في توصيف بذلة عمل استلمها محمد الساهي من رئيسه يقول في صفحة 52(تلك التي تلبس بإدخال الرجلين أولاً، فاليدين ثانياً، ثم يقفل السحاب من الأمام منطلقاً من منطقة أسفل البطن حتى العنق) وكان يمكن اختصار ذلك في كلمة واحدة هي (الأوفرول) وهو أسم ذلك النوع من البذلات العملية. هي ملاحظات أحببت أن أسجلها في هذه الكتابة الانطباعية وإلا فإن العمل بشكل عام أعده إضافة سردية جادة في كشف بعض عوالمنا الاجتماعية ومظاهر التفكير البدائي في العلاقة بين الرجل والمرأة ، والرجل والرجل، والإنسان بشكل عام وسلطة التاريخ والمكتسب الإرثي بمكوناته الثقافية والاجتماعية ومدى انتساب هذا الأنسان لمنظومة فكرية تحتاج إلى الكثير من الغربلة والتشذيب لتصفو علاقته بزمنه الراهن وبمكانه وبذاته على نحو خاص. لكن هناك سؤال خطر ببالي وأنا انهي قراءة العمل، ثم أعود إلى صفحة 36 لأقرأ التالي: (لا أعرف لماذا لا أكتب بضمير المتكلم، أحياناً أشعر أنني بحاجة لأن أكتب رواية عن أبي وجدتي، وعن مأساة حياتي الغريبة، فأكتب بضمير الغائب، أتحدث عنه كأب فقط، أو كإبن أكبر للجدة المريضة، وعنها كجدة أو كأم، او على الأقل كامرأة نجدية حزينة) وهذا السؤال هو: هل يعني الكلام أعلاه أن الكاتب بصدد كتابة جزء ثان أو ربما ثالث عن عائلة الساهي بعد أن أنهى (جزءه) الأول الذي بين أيدينا في هذه الأيام؟
جريدة الرياض-

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *