ي. المحيميد وسحر القارورة

مايو 29, 2012 | القارورة | 0 تعليقات

سعد الحميدين
يأتي الفعل الإبداعي عند يوسف المحيميد ناصعاً في روايته الأخيرة “القارورة” ليؤكد ما ذهب إليه في تأسيساته الأولى التي تكونت من(قصص: ظهيرة لا مشاة لها – ورجفة أثوابهم البيض) ثم في روايتيه (لغط الموتى وفخاخ الرائحة). فمن القصّ إلى الرواية كانت النقلة سريعة ولكنها مدروسة بذوق يؤازره الذكاء المتكئ على موهبة الكاتب واستعداده الفطري الذي قاده بالتالي إلى السير بتمعن وأناة

حتى حفر اسمه ضمن اسماء سبقته في عالم هذا الفن الجميل الصعب وربما بزَّ أخرى. كانت لها أسبقية الحضور ولكنها كبت ولا أقول تعثرت.. ولكن عامل الوقت له تأثيره المفاجئ عند الإطلالات الأولى التي تقف عندها بعض الأسماء ولا تستطيع تجاوزها فيظل العمل الأول في الذاكرة أما الآتي الجديد فيحفر في مكانه علامة راوح حيث يتأتى ذلك من الانبهار باللمع الإعلامي الذي استقبل به العمل.. فخلب بصر المعطي الذي أخذ ينظر إلى فعله على أنه الأكمل من سواه من الأعمال الأخرى.. ويستمر على هجس ذلك الاحتفال.. مما يدفعه إلى تقديم أعماله التالية في إناء العمل السابق الذي خصص لعمل واحد فقط هو عمله الذي ظهر فيه وبرز من خلاله،
يستمر في تلقي الاشارات الموجهة إلى السابق ويظنها تمكن من الدخول إلى العمل الحالي فيعمل جاهداً في تقديم الصورة ذاتها وربما أقل وضوحاً في كل مرة يتكرر فيها العطاء.
المحيميد لم يبهره فعل الاستقبال وإن يكن أعجبه وسرّ به إلا انه كان بمثابة الحافز له على تقديم أوان وأعمال في اطباق أخرى مخصصة لكل عمل. وهذا ما جعل الاختلاف يبدو بين أعماله بتمايز مطرد من عمل إلى آخر بشكل تصاعدي تقف رواية القارورة على رأسه الآن من حيث الموضوع والتكنيك.. والرؤية.. ولمسات الجمال الموحي بالتطور الفني لديه.
– القارورة قصة فتاة/ فتيات. هي حالة بل حالات لا يخلو منها المجتمع الإنساني.
– “عملية نصب.. انتقام.. ردة فعل”.
– فتاة تقع في فخ غرامي بخدعة. حاكها فرد انتقاماً لكرامته التي يعتقد انه افتقدها.
“لم يشعر حسن العاصي بالإهانة والاحتقار مثلما شعر ذلك الصباح البعيد وهو يمسح حذاء الرائد، ويناوله كأس الشاي.. كيف حال الأولاد والوالد قال له الرائد؟ رد الجندي بفرح واطمئنان: بخيروعافية.. يطلبون رضاك. لم يكن يريد أن يضيف شيئاً. لكنه شعر أن مزاج الرائد كان رائعاً وسعيداً إلي حد ما.. سأله يا سعادة الرائد الكاتبة منيرة الساهي قريبتك يا طويل العمر؟ – كان يسأل بصوت صاف وجريء قبل أن يجد بطن الحذاء الذي يمسحه بإخلاص قبل ثوان وقد دفعه من صدره حتى انقلب على ظهره.. ويسع عملك يا عسكري.. لا تسأل عن أشياء لا دخل لك فيها.. عندك مناوبة جزاء خميس وجمعة.. نفّذ يا عسكري”.
كان الواقع جافاً على الجندي الضعيف.. ردد في نفسه : سأنفذ ما تطلب أيها الرائد ولكن سأفعل ما سأفعله حتى أقتل غطرستك. فيعمل جاهداً على انتحال شخصية ضابط في غياب الرائد في بعثة خارجية ويتوجه إلى منزله مخترقاً الحواجز بطريقته الخاصة وعبر الاتصال بأخته الكاتبة هاتفياً إلى ان يصل إلى قلبها الذي استوعبه كاملاً حتى استولى عليه.. ويحقق بعض رغباته حتى وصل إلى عقد الزواج ومن ثم الزفاف.. ولكن.. كان هدفه الانتقام ليس إلا..
أحداث الرواية جرت في فترة حرب الخليج الثانية وعبر تلك الأجواء التي صورها المحيميد تداعت صور كثيرة منها السياسي.. والتاريخي والاجتماعي.. والفنتازي في اطار فني جميل قارب الأحداث في روايات لشباب سعوديين متخذين من تلك الفترة مناخاً مناسباً لأحداث رواياتهم مثل (سعد الدوسري في الرياض تسعين. وابراهيم الخضير في عودة إلى الأيام الأولى) وها هي القارورة.. ولكن لكل منهم اجواؤه الخاصة.. وطريقة علاجه.. وعرضه وأسلوبه فهي أعمال تكمل بعضها.
وفي تعريف الرواية للناشر تأتي لغة مكثفة توحي بالاشارة إلى ان الرواية كتبت بلغة جذابة.. وجرأة على الكشف، وبعين تنظر إلى ما وراء الحجب.. وعبر خيال الراوي يدخل يوسف المحيميد إلى خفايا المجتمع، يقدم شخصيات قد تكون بيننا.. نعيش معها كل يوم.. تتعذب وتتألم داخل شرنقة الصمت والخوف.
لا يحق للإنسان أن يتعرض للخديعة إذ فوق الاحساس بالغضب الذي يمنع التنفيس فيه. وفوق الاحساس بالقهر بسبب الخديعة، عليه أن يتحمل مسؤولية كونه مخدوعاً. تلك هي حكاية منيرة الساهي، والحكايات التي تحكيها منيرة مما شاهدت أو سمعت.
– منيرة الساهي قارورة حفظت قصتها وروايتها في قارورة.. والرفق بالقوارير أمر حتمي ولكن القارورة أحياناً تدخل المعترك ويراد منها أن ترفق هي بالآخر وبنفسها. فقد تكون عاملاً صلباً في بعض الأحيان في هدم بناء كبير.
– الرواية ذات أبعاد وصور ملموسة لكل متلق حيث بامكانه أن يسبر غور كافة أبعادها دون عناء أو لهاث.. فكل طرقها معبدة وسهلة وغاياتها واضحة ومعالمها دقيقة حتى في أدق التفاصيل.. بحيث توحي بأن ناسج حياكتها.. أو صانع مصاغها أو اكسسواراتها صائغ وصانع ماهر دقيق فنان بارع لمَّاح يستصرخ صوره أن تنطق وتحدث المقابل بفصاحة ووضوح بحيث تنجلى له بكل صفاء وصراحة تصل إلى المخبوء وتقدمه على شكله المطلوب الذي تتقبله الأنفس وتطلب المزيد منه لتكتشف وتعرف، وذلك عبر شخصياتها المحدودة والتي لا يمكن التداخل بينها، إذ لكل شخصية دورها الأساس حتى ولو كان الدور الأساس لـ”منيرة” التي أخترعت القارورة.. أي القارورة التي اخترعت القارورة.. ولكل قارورة دورها في هذا العمل المتماسك حسب الحالات التي تتطلبها المواقف والأحداث الملتقطة بكاميرا حساسة تكشف الخافي وتعرّي الملفوف دون وقاحة أو ابتذال.. بل تهيئ للمشهد مسبقاً حتى ينال القبول الذي يفرضه قسراً واقع الحال المتأتي من ترابط الرواية وتوالي أحداثها المشوقة الدافعة إلى الجري لمعرفة النهاية وكيف كانت البداية. فيوسف المحيميد بعمله هذا يؤكد على أن أعمالاً أخرى لديه ولدى سواه سيكشف عنها في المستقبل مبدعون ومبدعات في الساحة الإبداعية متى ما كان المناخ مناسباً والذي يجعل الإبداع في مكانه الخاص به دون تأويل أو تحريض.

جريدة الرياض-الخميس-14/10/2004م

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *