سلمان زين الدين
القارورة, في اللغة, إناء يجعل فيه الشراب والطيب أو الرّطب والتمر, أي بعض ما يدخل الجسد عبر الفم والأنف, فيفيد ويمتع. غير أن “القارورة” (المركز الثقافي العربي, بيروت – الدار البيضاء, 2004) الرواية الجديدة للروائي السعودي يوسف المحيميد تحيل إلى دلالة مختلفة تتعلّق بما يخرج من الإنسان من هواجس وأسرار وأحزان وفضائح…
وللوقوف على هذه الدلالة, يقول الكاتب على لسان بطلة روايته وراويتها الأساسية منيرة الساهي: “قامت جدتي وأخرجت من خزانتها قارورة كبيرة, على حوافها نقوش هندية, وحروف غير مفهومة, بلون فضي لامع… احتفظت بالقارورة كي أملأها بأسراري, كانت أغلى صديقة وحافظة للسر, كنت أودع فيها كل ما يمر بي, وأفضي لها بكل همومي ومشاكلي…” (ص 21 و22).
وعليه, القارورة المفردة إناء ينضح بالطيب والطيبات, أما القارورة الرواية فمستودع لأسرار بطلة الرواية وهمومها ومشكلاتها, التي هي نتيجة لهموم المجتمع ومشكلاته. فيوسف المحيميد حين يكتب أسرار الشخصية الرئيسة في روايته إنما يضيء جوانب من مشكلات المجتمع, وبعضها قضية المرأة وموقعها فيه وخضوعها لسلطات الرجل والعادات والتقاليد والمؤسسات الدينية والدنيوية, والتناقض بين ما يطفو على السطح وما يعتمل في قاع الهيئة الاجتماعية, وسيطرة الأفكار المتطرفة, والاصطدام بين قيم الفرد وقيم الجماعة الذي ينجم عنه انكسار الفرد وبقاء الجماعة على حالها.
هذه المشكلات تطرحها الرواية من خلال حكاية منيرة الساهي الكاتبة الصحافية التي تقع ضحية خديعة ينزلها بها جندي انتقاماً من أخيها الرائد علي, ويكون عليها ان تدفع ثمن صراع ليست هي طرفاً مباشراً فيه, ففي مجتمع ذكوري تُعتبر المرأة الحلقة الأضعف لا بد من أن تقع عليها صراعات الذكور باعتبارها تابعة للذكر وغير مستقلة عنه. من هنا, يقوم حسن العاصي الجندي المراسل عند أخيها الرائد صالح الساهي بالتخطيط للانتقام منه مستغلاً سفره في بعثة تدريبية, فيرمي شباكه حولها موهماً إياها بحبّه وبرغبته في الزواج منها, منتحلاً اسماً آخر ورتبة أعلى, وممارساً شتى الأكاذيب لينسج خديعة تنطلي على منيرة الساهي, فتعيشها بكل جوارحها. وحين تستيقظ منها تكون قد دفعت ثمناً باهظاً من مشاعرها وسمعتها وموقعها الاجتماعي.
وإذا كان لكل مسمى من اسمه نصيب, فإن حسن العاصي يعصى رئيسه في العمل, فيقرر الانتقام منه بواسطة أخته, ويعصى القيم والعادات والتقاليد فيتوخى ضروب التدليس والغش والخداع للإيقاع بفريسته غير عابئ بالنتائج. أما منيرة الساهي فهي, على تنوّرها وأفكارها التنويرية وممارستها الكتابة الصحافية وقيامها بوظيفة أخصائية اجتماعية, تسهو عن أحابيل حسن العاصي, وتغرق في وهم حبه ساهية عن الإشارات التي أرسلها لها القدر لتنتبه إلى ما تغط فيه, وتبقى مخدّرة في ذلك الحب متعامية عمّا يدور حولها ويُخطط لها.
ولعل الفراغ الأسري والعاطفي الذي كانت تعيشه في أسرتها التي ينصرف كل من أفرادها لشأنه جعلها فريسة سهلة لذلك الرجل العنكبوت. كأن منيرة الساهي, المتعلمة, الكاتبة, الأخصائية الاجتماعية لا تريد الوقوف على حقيقة حسن العاصي والاستيقاظ من غيبوبة وهمها حتى أيقظتها منها فضيحة مدوية. ولذلك, ما فتئت ترتع في حبها المزعوم, وأعرضت عن الرسائل التي تلقتها مستمرئة الغرق في كذبة كبرى, لم تربط بين الاتصال الهاتفي الأول الذي تلقته منه وشكّل الطعم الذي ابتلعته وبين عنكبوت يدرج تحت وسادتها ويقيم شبكة باحثاً عن فريسة يصطادها, فإذا بها فريسة العنكبوت المهاتف. لم تفتح الحقيبة التي أودعها عندها حسن العاصي, ولو فعلت لوقفت عند حقيقته. لم تنتبه إلى أن السيارة التي أقلَّها فيها هي سيارة أخيها المسروقة, لم تسأل صديقتها التي انتحل العاصي اسم عائلتها عنه. لم تستفد من حكايات بنات الدار التي أطلقت عليها كأخصائية اجتماعية… وهذا, يجعلنا نتساءل عن قدرة الروائي على تقديم شخصيتي الخادع والمخدوع بطريقة مقنعة تتوخى الصدق الفني. فإذا كان حسن العاصي, الجندي المراسل, الأب لستة أولاد, يمتلك الحافز للانتقام بعدما أهان الرائد صالح كرامته, فأنى له أن يخدع امرأة متعلمة, كاتبة, وأن يظهر بمظهر التقدمي, الليبرالي, صاحب الأفكار المنفتحة, وهو القروي الشرقي في نشأته وتصرفاته؟
ومن جهة ثانية, إذا كانت منيرة الساهي قابلة للسقوط بين براثن أول عاشق يطرق بابها بحكم الفراغ العاطفي والأسري الذي تعيش, فهل يمكن أن تنخدع بسهولة بهذا العاصي الذي تفصله عنها هوة كبيرة في الثقافة والموقع الاجتماعي؟ لعلها كانت تشك في قرارة نفسها به, غير أن خوفها من الحقيقة جعلها تعرض عن شكّها وتسهو عن كل الإشارات التي تلقتها.
وعلى رغم الخديعة التي عاشتها البطلة, تصرّ غداة اكتشاف الحقيقة المرّة على الانفصال عن الزوج الخادع ضاربة بتوسلاته عرض الحائط, وتحرق صك حريتها بعد الحصول عليه لتغطّ في نوم عميق, ربما تنهض بعده لتبدأ من جديد.
هذه العلاقة بين الخادع والمخدوع, بين المنتقم والمنتقم منه إنما هي نتاج القهر الذي تمارسه الهيئة الاجتماعية على أفرادها, فتجعل كلاً منهم جلاّداً وضحية في آن, يظلم من هو دونه, ويقع عليه الظلم ممن هو فوقه. فحسن العاصي ضحية رئيسه وموقعه الاجتماعي, وهو ما كان لينتقم لولا تلك الركلة التي سددها رئيسه إلى صدره لمجرّد سؤاله عن صلة القربى بالكاتبة منيرة الساهي. وهذه الأخيرة ما كانت ضحية العاصي لو لم تكن شقيقة جلاّده بمعنى ما.
وهذا القهر تمارسه الهيئة الاجتماعية بمؤسساتها المختلفة على أفرادها, فيمارسونه بعضهم على بعض, ويؤدي إلى ازدواجية على مستوى الفرد والجماعة, والى تقيّة يمارسها الفرد والجماعة, فتعرّي الرواية التناقض بين ما يطفو على السطح وما يعتمل في القاع الاجتماعي, سطح المدينة يبدو هادئاً, تقيّاً, مؤمناً, والقاع يزدهر بالرعب والخوف, وتمتلئ الدهاليز والأقبية والأنفس بالدسائس والعذاب. ثمة حياة علنية للمدينة, وحياة سرية, فالأعماق غير السطح.
وعلى مستوى الفرد, تظهر الازدواجية في سلوك محمد الساهي شقيق منيرة الذي يتطرّف في التعبير عن معتقده الديني وعظاً وتبشيراً وتكفيراً, ويغتنم في الوقت نفسه فرصة خوف التجار اليمنيين خلال حرب الخليج فيسطو على محالهم بأبخس الأسعار. إنها الازدواجية بين ما نعتقد ونقول من جهة وما نفعل من جهة ثانية. وتعرّي الرواية بعض المؤسسات المدينية من خلال الأفراد, فالقاضي يتمسّك بالقشور ويعرض عن الجوهر حين يطلب إلى شقيقه المدعية أن يجبرها على قص أظفارها الطويلة, ويحكم لمصلحة الخادع على حساب المخدوع حين يقضي بإعادة المهر الى الزوج مع انه لم يكن قد دفعه أصلاً.
هذه التعرية لمظاهر القهر التي يقوم بها يوسف المحيميد في “القارورة” يصطنع لها شكلاً روائياً دائرياً, فهل تراه يلمح بهذا الشكل إلى الحلقة المفرغة للقهر يدور فيها القاهر والمقهور, فيغدو القاهر مقهوراً والمقهور قاهراً من دون التمكن من كسر هذه الحلقة؟ من هنا, تبدأ الرواية نصيّاً من حيث انتهت وقائعياً ثم تروح تسرد الوقائع التي أدّت إلى مثل هذه النهاية في حركة عكسية بين مكان السرد وزمان الأحداث, فكلما أوغل السرد في حركته إلى الأمام عادت الأحداث إلى الوراء حتى تلتقي البداية والنهاية في نقطة واحدة هي نقطة اكتمال الدائرة وإقفالها. ولعلّ طغيان السرد على الرواية وضآلة الحوار إشارة إلى غياب الحوار عن المجتمع الذي تتناوله الرواية. أما اعتماد صيغة المتكلم في السرد على لسان بطلة الرواية التي وقعت عليها الخديعة فيجعل عملية السرد نوعاً من تفريغ القهر بقوله وسرده ووضعه في القارورة. وهنا, تصبح الرواية/ القارورة متنفساً وموضعاً لحكايات الرواية تضعها فيها كي تعيش عملاً بوصية جدتها التي أهدتها القارورة, وحين تعيش الحكاية تعيش البطل. ولم يفت المحيميد أن يضمّن روايته بعض القصص القصيرة لشخصيات أخرى وقع عليها القهر, وهي قصص استُطرد إليها أو جرى استدعاؤها بفعل تداعي الأفكار أو التذكر, غير أنها لا تنبو عن السياق العام للسرد.
وتجدر الإشارة إلى أن السرد يتم بلغة جذابة, سلسة, مرنة, تتوغل إلى داخل الشخصية تارة, وتخرج إلى الأماكن الخارجية طوراً, ويغدو معها المكان وسطاً إنسانيا ينطوي على أوجاعه ومشكلاته. وبهذه التقنيات جميعها, تفوح “القارورة” بطيب الرواية وشراب الأدب ورُطب السرد وتمر اللغة, فيطيب الشم والشراب والأكل, ويتحقق الانتعاش والمتعة والفائدة.
0 تعليق