(1)
في صباح بارد من أواخر فبراير 1991م كانت السماء بيضاء صافية، وخالية من ضجيج طائرات إف15 المقاتلة، لحظة أن استيقظت المدينة بعينين متعبتين، وترك الحمام البلدي مخلفاته اللزجة على أجهزة صفارات الإنذار فوق المباني الحكومية، بينما هدرت محركات حافلات خط البلدة عبر طريق العليا بسائقيها البدو ذوو الشوارب الكثة، والشمغ الحمراء فوق أكتافهم، والطواقي المتسخة المائلة.
أما أفران الخبّازين الأفغان فقد ضجّت وقت أن تقاطر صوبها العمال الباكستانيين والهنود بدراجاتهم الهوائية المزيّنة بورود صناعية، وهم ينسلّون من الطرقات الضيّقة، وشوارع الحارات الجديدة، بينما هبطت من غرفهن العلوية في السطوح الخادمات الأندونيسيات والفلبينيات، ليمسحن ألواح رخام الروزا الباردة، ويدعكن بالمناشف لمعة درابزين الاستنلس ستيل، ومن غرف سفلية يعلو صوت القارئ عبدالباسط عبدالصمد من أجهزة الراديو لدى الجدّات النجديات، وهن يسبِّحن منتظرات تسلل رائحة القهوة المبهّرة بالهيل، إذ تتقنها الطاهيات الهنديات والسيرلانكيات.
وحدها، منيرة الساهي- البنت الثلاثينية- بقيت مستلقية في فراشها الوثير، عيناها مصوّبتان تجاه السقف، تنظر بعينين جامدتين تشبهان أعين الموتى، وهي تتأمل فضيحة البارحة، وتسأل روحها، لِمَ حدث كل ذلك؟ ِلمَ مارس معها كل هذا الخداع؟ وأدار لعبة الزيف طوال هذه الأشهر؟ كيف جاء باسم مزيّف؟ ووظيفة مزيّفة؟ وصفات وأهل وأصدقاء وعالم هائل من الزيف؟.
استوت على سريرها ببطء، وخطت مستندة الجدار، لتجذب ستارة نافذتها الوردية المزيّنة بورود بيض ضخمة، فترى الشارع بعرباته النائمة بصمت، قبل أن تصفع أشعة الشمس واجهات البيوت الإسمنتية، المزيّنة بحجر منحوت. المدينة تتثاءب بعد نوم منهك، وقد صمتت صفارات الإنذار، وتوقفت السماء عن جحيم صواريخ “سكود” السوفيتية ومضادات “باتريوت” الأمريكية، دون أن تتوقف عربات الجيش وناقلات الجنود عن التجوال ليلا، كانت عيناها الرائعتين قد تضخمتا بفعل البكاء والنشيج المرّ طوال ليلة البارحة. هي والمدينة تتشابهان إلى حد بعيد، للمدينة قلب، ولها قلب أيضا. للمدينة شجر يشبه شعر امرأة حزينة، ولها شعر يشبه شجر مدينة قانطة. للمدينة عيون تتلصص بها، ولها عيون تتأمل بها. هي استيقظت بعدما غادر المدعوّون مكان الحفلة، مخلفين ورائهم الصمت والطاولات وبقايا الأكل والنمائم والتهكمات، والمدينة صحت بعد أن غادر المحاربون الأمريكيون بذخائرهم وبنادقهم الآلية الخفيفة، ولباسهم العسكري، تاركين المدينة تتنفس بهدوء وتأمل عميقين.
غادر العسكر المدينة، وغادر هو أيضاً حبيبته، فترك العسكر المدينة، وفقد هو عينيها الواسعتين بنظراتها المحرّضة. كان عسكرياً حمل سلاحه وبقايا الزيف في عينيه، بينما فتحت منيرة الساهي قلبها وستارة غرفتها سريعا، فسقط بين قدميها الحافيتين الطريتين عنكبوت ضخم بأرجل مزدوجة ومتخشبة. كان آخر العناكب المتسلقة سقف الجبس في غرفتها، تلك العناكب والشبث التي ترعرعت في غرفتها طوال أشهر. من خلال زجاج النافذة الموثق الحوافّ بشريط لاصق، منعا لتسلل غازات السلاح الكيماوي المحتمل، نظرَتْ إلى عامل النظافة البنغالي ببذلته الصفراء يلمّ بمكنسته ومقشته ما تساقط من أوراق ومنشورات وعلب معدنية وعلب سجائر وحكايات ودسائس ومؤامرات صغيرة.
كانت سيارة أبيها الجي إم سي الحمراء تقف بكسل وهزيمة تحت شجرة السِّدر الضخمة، وعامل النظافة البنغالي يلمّ ما تساقط حولها من بكاء. كان أكثر من شعر بالهزيمة والذنب والفشل هو أبوها. لم يكن قائد أم المعارك في بغداد تنتابه لحظة هزيمة وخزي لحظة انسحبت جيوشه من الكويت كتلك التي أغرقت حمد الساهي ليلة البارحة، بعدما تكشّف زيف خطيب ابنته المحظيّة، الكاتبة الصحفية اللامعة، التي فقد بسببها الأهل والأقارب وقد تصدّى لهم حين طالبوا أن تحذف اسم القبيلة من اسمها عند النشر، مقترحين أن تكتب باسم مستعار، لكنها رفضت بصلابة، ووقف أبوها بجوارها فرحا بشجاعتها وصلابتها.
لمحت منيرة عبر زجاج نافذتها المظلل قمرا خابياً مهزوما في سماء المدينة، رأت فيه أحلامها الموؤدة، وحبّها الذي ملأت به الطرقات والمحلات والمطاعم والمقاهي، من شارع التخصصي وحتى شارع العليّا، مروراً بشارع التحلية، ومن المطعم الصيني، ومطعم مكسيم اللبناني، وحتى مقهى روما، وحلويات باتشي، وقد كانت تجلس بجواره في سيارته، إذ يتسللان في الشوارع المتحفزة، الشوارع التي تنتظر أنين صفارة إنذار، وصاروخ سكود ضال يبدّد العتمة. يده الضخمة بشعرها الكثيف تحتوي يدها الناعمة الصغيرة المزيّنة أظافرها بصبغ وردي خفيف، وخاتم محفوف بفصوص الألماس، تقرّب يدها الأخرى، وتضعها فوق يده، ثم تعمل أناملها بمهارة في شعيرات ظهر كفه، حتى يتأوه بعمق، وينقل يده متوّجة بيدها إلى ناقل السرعة في سيارته الجيب الشروكي البيضاء.
في ليال مضت وقت أن يطلبها للخروج من دار الفتيات حيث تعمل، تتردّد كثيرا، إذ يجب أن تبقى مع زميلاتها في نوبة ليلية، يرعين الفتيات الضالات اللاتي قد يتعرضن لصاروخ طائش، كما أن حظر التجوّل يجعل المدينة موحشة في الليل، لا شيء سوى عربات الجيش وهي تتجوّل ثلاثا ثلاثا، وبعض السيارات من نوع جيب يقودها جنود أمريكيون، وأحيانا مجندات أمريكيات بشعورهن المعقودة في الخلف مثل ذيول فرس بيضاء.
– أنتِ عارفة أن معي إذن تجول!
كان يقنعها بجولة سريعة يقطف فيها قبلة من شفتيها النحيلتين، ويمرّر يده في أنحاء جسدها ودهاليزه، كأنما يمرّر جسده في جهات المدينة الأربع.
– عارفة، حتى أنا معي، لكن ما أقدر!
رغم ذلك، كانا يختلسان أوقاتا سريعة، ويلوذان مثل خفاشين في قسم العائلات بمقهى مركز الخزامى، قرب مطعم النخيل في شارع العليا، يطلب لها فنجان “كوبتشينو”، ويتردّد إزاء القائمة كل مرّة، لكنه يحسم الأمر بقهوة تركية، ينظر نحو عينيها الساحرتين لدقائق، ثم يأخذ كفيها معا، ويبدأ في لثمهما تباعاً ببطء وخدر، بينما هي مستمتعة ودائخة، ويختبرها بسؤال عن الفرق بين قبلة بطن الكف وظهره، فلا تعرف، ليشرح لها:
– يقول كتاب تراثي أن قبلة ظهر الكفّ معناها أحبك، أما قبلة بطن الكف فمعناها أريدك!
ذات مساء سألها فيما لو لم يكن برتبة رائد، ولم يكن أعزبا، بل متزوج ولديه أطفال، وعمله بسيط ومتواضع، هل تستمر في حبّه، والاقتران به؟ قالت له بصرامة: لا! ثم عادت وسألته:
– ليه تسأل؟
– أبدا، كنت أتأكد من حبّك!
ثم دخلا في نوبة صمت طويلة، قبل أن يقرقر جهازه اللاسلكي الضخم على الطاولة، ويلتقطه بعد أن يسمع نداء على ف3، ويخبره أنه على رأس العمل!
في غرفتها نزعت منيرة الساهي شريط اللاصق الورقي المتدلي من حواف النافذة، وسحبت زجاجها بقوّة، وضجّ صوت إطار الألومنيوم، متبوعا بالغبار: “انتهت الحرب الآن!” تنهدت، ولم يكن واضحا أيّ حرب تعني، حرب الصواريخ، وعاصفة الصحراء، أم حرب قلبها وعواصفه التي انطلقت بشغف العاشق لتحصد اليباب!
كانت منيرة قد فرغت للتو من قراءة الصك الصادر من المحكمة، والذي أعادها إلى ما كانت عليه قبل أغسطس 1990م، عزباء كأن لم يقتحم وحشة قلبها أحد. وظلت لثوان تتأمل أحداث الستة شهور، التي فاقت عمر الثلاثين عاما، تلك الشهور التي كسبت وخسرت فيها حبّا خاطفاً وعاصفاً، كما لو كان حرب نجوم، وفقدت فيه مشروع درجة الماجستير في علم الإجتماع، بعد أن ألغت الجامعة عقد مشرف الرسالة الدكتور محمد شاهين، الأردني من أصل فلسطيني، بسبب موقف الأردن وفلسطين من غزو الكويت، ومعارضتها دخول القوات الأجنبية إلى المنطقة. كما خسرت قلبها الرفراف، وثقتها بالناس والكائنات، حتى قطتها السيامية سوسو، بدأت تدرس أفعالها وردود أفعالها، وتحاول تفسيرها، بل وصل بها الأمر أن صارت تدرس العناكب التي ظهرت في سقف غرفتها منذ الثالث عشر من يوليو الماضي، وما تدبّره بخيوطها من كمائن لطريدة ضالة وضعيفة، تطنّ بشغف وسذاجة حتى تقع في الكمين، لتنهال عليها العناكب كما يليق بفريسة تتشرنق في الفخّ.
كانت منيرة قد تركت الكتابة الصحفية أيضاً، بعد أن هاج أخوها العائد قبل سنوات من أفغانستان، وأرجع كل ما حدث لها من خديعة إلى كتاباتها الصحفية، في زاوية “ورد في آنية” التي تكتبها كل ثلاثاء بجريدة المساء اليومية، وحمّل الأب مسؤولية عبثها، ورعونته وضعفه في إلجامها وكسر أنفها:
– المرة تحتاج كسر خشم!
وقال أنه سيطحن حَبَّ رأسها الذي لم يُطحن بعد، لدرجة أنه حاصر أباه وقد شكك بعذريتها، وأن لم تكن كذلك، فلتثبت وتقبل بأول طارق باب!
لم تعد تخرج من المنزل أبدا، ما عدا عملها في دار الفتيات الذي قاتلت لأجله، شرط أن يأخذها أخوها محمد إلى العمل، ويعيدها ظهرا إلى المنزل، دون أن تعمل في ورديات مسائية، لتدخل غرفتها وتقفل بابها، وتقفل الستائر الورديّة المزينة بورود بيض ضخمة، وتشعل شمعة تبثّ رائحة الفلّ، ثم تسحب من أسفل السرير أوراقاً بيضاء مشغولة الحواف بنقوش ورود صغيرة، لتكتب عليها بقلم أزرق ناشف، ثم تطوى الورق جيداً، كمن تعلم أن يلف سجائر تبغ رخيص، فتدسّها في فم قارورة عتيقة، على سطحها نقوش هندية فضّية، طارت معظمها بفعل لمس يديها طوال سنوات بعيدة.
(22)
ذات مغرب اتصل بي، وقال انه سيذهب غداً لتخليص شخصية مهمة مفقودة في الكويت! ثم أضاف بلهجة استعراضية بكائية وجنائزية: إدعي لي حتى ارجع سالم لعيونك! بكيتُ كثيراً ذاك المساء، ونحن معاً نجوس طرقات الحيّ الجديد الذي نعيش فيه، لدرجة أنه اختار مكاناً شبه مهجور في نهاية شارع مترب، وأوقف السيارة، وأطفأ نورها الخافت، ثم استدار من جهة الباب الآخر الذي أجلس بجواره، وفتحه ليعانقني وهو يبكي بعمق، ويستلم شفتيّ بنهم وقسوة، ولم أشعر بيده إلا وقد تسللت نحو صدري، مستغلا بلوزة الستريتش المطاطية، ومحرّضا بأصابعه المدرّبة حلمة صدري، مما جعلني أدخل في خدر لذيذ ومدهش، استيقظت على أثره وقد حاول أن يجرّد ملابسي الداخلية، فدفعته مثل لبوة شرسة، فانسلّ كهرٍّ جبان ومرتبك، وقد عدّل غترته المائلة، والتقط عقاله إذ سقط على الأرض المتربة، وصار ينفخ الغبار العالق به، وهو يستدير نحو مقعده، ليفتح غطاء مؤخرة سيارته الجيب الشروكي، ويأتي إلى باب السائق، وهو يحمل حقيبة دبلوماسية ثقيلة، ناولني إياها محرّصاً بأنها حقيبة مهمة للغاية، فيها أسرار عمله وحياته الخاصة، قال لي: لم أجد من أثق به سواك، إذا لم أعد فمن حقك وحدك أن تفتحي الحقيبة.
بكيت ليال طويلة حتى جفّ الدمع، كنت مثل صحراء ترفل بالأنهار العذبة ذات أزمان، حتى جفّت أنهارها، وكفّ الغيم عن زيارتها، فصارت تضج بالعواء طوال ليلها، لكن لا دمع ولا مطر يغسلها. بعد أربعة أيام تذكرت حقيبته الدبلوماسية الثقيلة، أحضرتها وجعلت أتحسس ظهرها. كنت أسمع صوته داخلها. أراه ببندقيته الكلاشينكوف التي يفتخر بها. أراه يطلّ من الأنفاق على مشارف الكويت. أراه يشير بيده التي يتباهى في خنصرها خاتم خطوبتي، وقد ألبسته إياه في مساء جمعني معه وأبي، وأخي سعد الأصغر. أراه بيده ذات الخاتم الفضي يشير إلى كتيبته بأن يهاجموا من وراءه. أراه قائداً ذكياً وفارساً شجاعاً وعاشقاً نبيلا. أراه ينام مثل طير ويحلم بي.
هل أفتح الحقيبة الثقيلة؟ القدر يقول لي لا! لم تنته المأساة بعد، وتذكرت على الفور خرافة الجنّي سليمان بن عافية، وقد كانت تقصّها عليّ أمي في أمسيات الطفولة الباردة والموحشة. لن أكون مجنونة مثل أخت التاجر الجوّال، التي تزوّجت من الجني سليمان بن عافية، وعشقها كثيرا، وجعلها ترفل في قصر بأربعين غرفة، وضعها كلها تحت تصرفها وإمرتها، ماعدا الغرفة رقم أربعين، قال لها لا تفتحي هذه الغرفة أبداً، إياك أن تغامري بذلك. كانت الحقيبة في يدي تشبه الغرفة الأربعين في قصر الجنّي.
راحت ذات مساء إلى الغرفة الأربعين، وهي مسحولة بالفضول وحب الاستطلاع، وضعت المفتاح الغريب داخل القفل وأدارته، فانفرج الباب، ورأت الجثث المعلقة من كلاليب حديدية، كأغنام رؤوسها إلى الأسفل. صعقت للمفاجأة، ووضعت سبابتها في الدم الطري على الأرض، وتذوقته. حاولت أن تزيح أثر الدم عن سبابتها، ولم تستطع، حاولت أن تنـزع جلدها، فاضطرت إلى أن تلفه بقطعة قماش، وتذرعت حال عودة الجني بأنها جرحت إصبعها بالخطأ وهي تقشّر الكوسة والبطاطس. فَهِم أنها غامرت وفتحت الغرفة ورأت ما نهاها عنه. فأمر أن تتحول إحدى رجليها إلى رجل حمار. ثم أخذها إلى مشارف بيوت بدو، وتركها تلقى مصيرها الجديد.
لا، لن أكون أختك أيها التاجر الجوّال، بل سأبقى أخت صالح، ولن يدفعني الفضول إلى أن أفتح الحقيبة الدبلوماسية الثقيلة. سأقتل الفضول وأدفنه في مفازة لا يصل إليها أحد، حتى لا تتحول رجلى الناعمة الجميلة إلى رجل حمار أو بغل أو بقرة. وربما لا يكون حبيبي ورائدي عليّ شبيه الجنّي، ولا يملك قوى سحرية تجعله يأمر بأن تتحوّل رجلي إلى رجل حمار، لكنه قد يغامر بأن يشلّ قدمي بحفنة رصاصات من بندقيته، في لحظة غضب وانفعال وشهوة قتل تكرّسها لعبة الحرب القذرة.
لا أعرف كيف تذكرت إبن أخت غاسلة الموتى، التي غسلت جدّتي، وكيف وضع أمه في الصحراء، بعد وصية أوصاه بها شيخ فقيه، وقد أمره بأن لا يلتفت وراءه لحظة أن يترك جسدها مسجى على الرمل، مما أوقعه في لعبة الفضول، تماماً كما وقعت أنا في لعبة الفضول مع الحقيبة الدبلوماسية، أما هو فقد هاجمه الفضول وولع الكشف حتى أدار رأسه للوراء فشرخت صاعقة جانب وجهه، وبقيت أثراً إلى الأبد، يتعلم منه ألا ينساق وراء رغبة الكشف وآفة الفضول. بيتما أنا لا أعرف أي صاعقة قد تلحق بي حالما أفتح حقيبته الدبلوماسية الثقيلة. بالفعل كانت ثقيلة للغاية، كأنما هي مملؤة بالحجارة! يالك من جندي مراسل ذكي وفطن للغاية! كيف لم يسعفك ذكاؤك لأن تصبح رائداً أو عميداً أو فريقاً حتى؟ كيف لم يفوضوك فعلا لأن تضع خطة الهجوم على الكويت لتحرّرها بأفكارك المذهلة؟ ليس بالضرورة أن يخطط ذوو الرتب العالية، فقد تمتلك فكراً عسكرياً رائعاً وخادعاً وأنت مجرّد جندي مراسل! أم أن كويتك هي أنا؟ وأرض معركتك جسدي فحسب؟
بعد أكثر من أسبوع عاد شامخاً كمن عاد من معركة شرسة، على وجهه أثر ضرب عنيف، تباهى به على أنه من أثر معركة التحرير! كنت صدّقت ذلك، بل وشعرت أنني سأكون زوجة فارس شجاع، ومقاتل بارع، سأجد في حضنه الحماية والدفء والحب! لم أكن أتوقع إطلاقاً أنه لم يغادر المدينة، بل حتى لم يغادر أقبية المدينة، إذ يقضي فترة حكم عسكري صدر ضدّه نتيجة غيابه المتكرّر، وقت أن نكون معاً يقودني في الطرقات، يحاورني كما يليق برائد عسكري، ويداعبني كما هو حال العشاق الوالهين، ليتجاهل بذلك أوقات عمله وواجباته العسكرية، ليس كقائد معركة، بل كجندي مراسل!
بالفعل كنت أتمنى كثيراً أن أفتح الحقيبة الثقيلة، التي لم أعرف ما بداخلها حتى هذه اللحظة، هل وضع فيها أحجاراً كي يغريني بفتحها والتجسس على محتوياتها، أم أوراقاً مزوّرة عنه، وعن أهله، وعن الحرب التي يخوضها معي؟ كنت مثالية أكثر مما ينبغي، وعاطفية كثيراً، وكنت أكبح شهوة الفضول كي لا أكون زوجة سليمان بن عافية، ولا ابن أخت غاسلة الموتى!
(25)
قضت منيرة الساهي، سنتين ثقيلتين خانقتين في البيت، بعد أن أنهت دراسة علم الاجتماع في الجامعة، ولم تكد تصرف فصلا دراسياً واحداً كمرشدة اجتماعية في مدرسة أهلية، حتى قرّرت الاستقالة، وقد حاصرتها مديرة المدرسة مدام ثروت السورية بالطلبات والإهانة، كانت تأمرها بترتيب طاولات وكراسي الصفوف مع العاملات الفلبينيات، حتى بصقت على طاولة المديرة وصفقت الباب خلفها. كل ذلك طار من الذاكرة، رغم أن القارورة تحفظ الحكايات المؤلمة، ولكن أغرب ما جاء في وظيفتي كأخصائية اجتماعية في دار الفتيات بعد أن بقيت أربع سنوات في بطالة محترمة، هو اليوم الأول لي في الوظيفة، فهو يوم لا ينسى، إذ اصطحبتني المديرة مع زميلاتي إلى الفطور، كانوا يسمّون جلد البنات الصغيرات فطور كلاوي، وقد قلت همساً لزميلة ونحن نمشي في الممر أنني لا أحب الكلاوي ولا الكبدة، لكن زميلتي لكزتني في خاصرتي وجسدها السمين يرتعش ضحكاً: ” يا خبلة، هذي كلاوي طازجة تعجبك! ما أحد يفوّتها”.
كنتُ آنذاك في بداياتي الصحفية، إذ أكتب مقالا أسبوعيا تحت عنوان “حُبّ وحبر”، مما جعل مديرة الدار تتردّد في قبول أوراقي:
– أنتِ صحفية، وما أضمن فضولك!!
* كيف يعني؟
– عندنا حالات لا يمكن الكتابة عنها!! تعتبر أسرار عمل!!
* أصلا الصحافة لا تنشر مثل هذه الأمور!!
– أعرف، لكن لازم تفهمين!!
* إنشاء الله!!
كان الممر طويل يشبه بطن أفعى ميتة، محفوف بجدران ذات نوافذ ضيّقة وموصدة بالحديد، وما أن نقف عند باب حديدي موثق برتاج وأقفال، حتى أنظر خلسة إلى حارستين ضخمتين، أتحوّل قربهما إلى امرأة ضئيلة للغاية، كنت أنظر نحو زنديهما، فأتذكر حارسي المصباح المرعبين، وما أن تفتحان لنا الباب، ونمشي بخطى تكسر هدأة البلاط البلدي المهشم، حتى نتوقف ثانية عند باب آخر، وهكذا حتى نفذنا إلى صالة واسعة، جدرانها عالية، تترامى في أطرافها أجساد نساء ضئيلات مغمورات بالسواد، تتكيء كل واحدة منهن على الأخرى، وهنّ يحتمين ببعضهن، دون صوت أو حركة أو نفس، كم كان الصمت مطبق وخانق، ونحن نقف على مقربة من دواب تشرف على المذبح!! لم تمض دقائق قليلة حتى علا صوت الحارسة عند الباب:” الشيخ وصل”!!
سألت زميلتي بجواري:
– أي شيخ؟
* الذي سيشرف على تنفيذ الحكم!!
– والفطور؟
* أي فطور؟
دخل الشيخ بلحية وقورة، ومشلح بنيّ خفيف، يتبعه مندوب من الشرطة، وآخر من الهيئة، لكزت زميلتي:
– ليه يفعلون ذلك قدّام الجميع؟
* هذا أصل الشرع!!
– ليه؟
* حتى يتأدبن ويتعظ غيرهن من النزيلات ياغبيّة!!
قالت ذلك بحنق من قد تفقد متعة فطور الكلاوي والكبدة!! قرّرتُ أن أصمت وأتابع ما يحدث، ثم جاء صوت الشيخ يكسر حدّة السكون، طالباً البدء بأسماء المحكوم عليهن بالجلد، فعلا صوت آخر: “هيلة بنت ….، تناول مسكرات وهروب من الأسرة”. بزغ جسد ضئيل ومتعثر بالعباءة، حتى وسط الصالة عالية السقف، بدأ السوط يحكي حزنه الأبدي، وهو يعلو مغمضاً ومضطرباً ثم يهوي وسط صفير الهواء الذي يبكي لفرط سخطه، وما أن ينبس صوت مخنوق خلف السواد، محاولا التملص من يدي نزيلة أخرى تقبض عليها حتى يهدّد صوت رجل آخر، إن لم تكبت ألمها وصوتها، فسيضطر أن يعيد الجلد والعدّ مرة أخرى!!
تعلمت في قاعات الجامعة دراسة المجتمعات وأصول العقاب، ودراسة النفس البشرية، أعماقها وتحوّلاتها، وسيكولوجية المخطىء، وأشياء كثيرة لعلماء طارت أسمائهم ونظرياتهم في هذه القاعة الضخمة! كيف يا ربّي أصرف العمرلأستوعب النظريات في قاعات عديدة، وأطيّرها في ثوان في قاعة واحدة! وكما لو كنت أطيّر كطفلة عابثة طائرات ورقية إسودّت بفعل كتابات ونظريات وأفكار لرجال وكهول صرفوا العمر في معامل ومختبرات وطاولات بحث! لتمزّقها شهقات سوط سريع وعابر ومغمض:
– حرام هذي الإهانة والعذاب!!
نطقتُ مرغمة، وأنا مذهولة بما يجري، فوجدت زميلتي تضغط على معصمي:
* لا تهمّك أيّ واحدة منهن!!
– ليه؟
* دقايق وتغيرين رأيك!
– كيف؟
لم تجب، وبعد أن نفض الرجال الثلاثة أيديهم وخرجوا سريعاً، وانغلق الباب الضخم ورائهم، ضجّت الصالة بالضحك المتواصل الهستيري، وقد رمت الفتيات العباءات السوداء على الأرض، وانطلقن في ثرثرات مشوبة بالضحك، وهنّ يتعانقن بسخرية مع اللاتي كانت أجسادهن تضطرب كطيور تحت السياط!!
كنت أنظر بدهشة، كأنني بلهاء تفتح فمها مذهولة، وقد تقاطرت الفتيات نحو قاعة الطعام المجاورة للصالة، ليكملن الأكل والثرثرة باستمتاع لا نظير له:
– هنا، قدّامك عجائب!
* كيف؟
– أقصد هذي النوعيات صار عندهن مناعة ضد الجلد والسجن والعقاب!!
في الإدارة نظرت نحوي المديرة بانتباه وتحدٍ كمن سيختبر قدرتي على التحمّل:
– هاه منيرة .. كيف كان فطور الكلاوي؟
* عادي!
أضافت زميلتي الأخصائية مداعبة وهي تتقوّل على لساني:
– تقول عادي، بس لو فيه زيادة شطة!
ضحكت المديرة بشغف نادر، وهي تحوّل نظراتها نحوي، وتنصحني أن أتحمّل مثل هذه المواقف، التي ستصبح مع الوقت عملا يوميا رتيبا!! بعدها تلقيت تدريباً مضنياً على فتح الملفات واستلام الحالات الجديدة المحوّلة من الشرطة والهيئة، ثم بدأت بعد شهرين الإشراف على العمل الاجتماعي في الدار، بعد أن طارت المعارف الطريّة في إفطار اليوم الأول، ذاك الإفطار الذي تكرّر مراراً في الأيام التالية!
كنت أخرج ظهراً من عملي صوب البيت، وأتأمل من مقعدي الخلفي في سيارة الفورد الشوارع والعمارات ومنارات المساجد ومحلات الباعة، أطالع النساء العابرات على أرصفة الأسواق، فأتذكر وجبة الإفطار شبه اليومية في الدار، كنت أقارن هذه الأنفس والذوات العابرة، وأرى الرجال المطمئنين أمامهن، بالبنات القانطات في الدار، وهنّ يغسلن الحزن والإحباط في النهار، ويكنسن العتمة والحنين في الليل، حنينهن إلى بيوت مطمئنة في جوهرها، وليست بيوت مطمئنة في الظاهر والخارج، وفي باطنها الحزن والعذاب والخراب!
(41)
أما أنا فقد تحمل لي الأيام ريحاً طيبة، كما تقول دوماً الأبراج، إذ سيزعق أخي محمد بلحيته الطويلة في وجه أبي، وشماغه الأحمر المعطر برائحة دهن العود يكاد ينزلق من على رأسه نحو الخلف، ليعيده كل مرة بيد مرتبكة وغاضبة، بينما رذاذ فمه المتطاير يملأ وجه أبي، وعربدة وجهه المنفعل تجلد صمت أمي: إذا كانت سليمة تقبل بأول خاطب! إن كانت محافظة على شرفها تثبت لنا، وتتزوّج أول شخص يدق هذا الباب. سيشير إلى باب الصالة، وهو في ذروة هيجانه.
ستمرّ الأيام رتيبة وبطيئة، وسيأتي زميل أبي في سوق العود والسجاد، وهو يحمل معه مهري وأعوامه الستين، سيأخذني وأنا أسمع عزاء من حولي: أصلا أنت الآن عانس، وعمرك فوق الثلاثين! سأقنع نفسي بذلك، وسأسكن فيلا جديدة في حي النخيل، وسيخصص لي سائقاً فلبينياً وسيارة لكزس جديدة، وسأنتظره ثلاث ليال يمرّ خلالها على زوجاته الثلاث، وفي الليلة الرابعة سأقصّ عليه الحكايات، ليست حكايات القارورة، بل حكايات مفتعلة وكأنه شهريار الذي يخصّني، لا ليغمد سيفه ممتنعاً عن قتلي، بل لكي يسنّ سيفه المثلوم، ويقتل رغبتي الثلاثينية المتأججة قبل أن يخلد إلى شخير يصادر سكون المدينة! سأبكي لوحدي وأنا أسمع من حولي يتهامسن: بنت دلع ونعمة، يعني وش ينقصك؟ لا شيء ينقصني. سأضع بنتاً تملأ وحدتي وفراغي. سأكتب كل ما مرّ بي، وما سيمرّ بي. سأكتب ما حلمت به. وما سأحلم به. سأرى شاباً نحيلا درس هندسة الديكور في إيطاليا في محل ديكورات، سيحضر إلى منزلي بعد ثلاث سنوات من زواجي، كي يضيف إلى جدران المنزل لمسة فنية مذهلة، ويضيف إلى جدران جسدي لمسة توقظ فتنته وروعته. ستلمع جدراني بضربات فرشاته الرائعة، وسأغوص في أعماقه تماماً، وسيغوص هو بي. سأقضي معه ثلاث ليال متتالية، وسأخلد في الرابعة إلى جوار زوجي الستيني. سأبكي في الصباح وأنا أشعر بجريرتي تأكل أصابعي. سيبرّر لي الشاب جريرتي باسم الحبّ، وباسم الرغبة، سيعرّفني على فنون عصر النهضة الأوروبية. سيغطي جدران الصالة باللوحات الزيتية المقلدة، هذه لوحة الحصاد لفان جوخ، وهذه لوحة الصيّاد لبول كلي، وتلك لوحة امرأة تجلس على الشاطئ لبابلو بيكاسو، والتي سيعلقها على مدخل النساء لوحة لفنان اسمه كليمنت. سأكون في غاية السعادة وقد وثقت به كثيراً، لكنني لن أكف عن نواح الداخل الذي سيقضي على جمالي. والذي يتبدّد حالما أرى عينيّ مهندس الديكور اللتين أقبلهما طوال الليل، على سرير غرفتي الأخرى. تلك الغرفة التي سأقترح على زوجي الستيني أن أخلد فيها خلال الثلاث ليالي، التي أبقى فيها وحيدة، حتى لا أتذكره فيها وأشم رائحة العود في ملابسه. في غرفتي الجديدة تلك سيزين حبيبي جدرانها بورق ليموني مريح، وسنضع فيها جهاز التلفزيون ذي التسع والعشرين بوصة، وفوقه جهاز الفيديو. سنسهر كل ليلة على فيلم جديد، حتى ننتهي على فراش وثير، بمفارش ومخدات أمريكية راقية.
سأحصل على وظيفة عليا، سأكون مسؤولة عن أكثر من أربعين موظفة. سيقضي زوجي الصيف مسافراً إلى المغرب والقاهرة بحجة الفحوصات والعلاج. بينما لا يحق لي السفر إلى الخارج دون محرم، أو دون موافقة ولي أمري على السفر لوحدي. سأسافر وحدي بتوقيع موافقة مزوّر، من زوجي الستيني، سيتقنه حبيبي مهندس الديكور العائد من إيطاليا. سنسافر معاً أسبوعاً رائعاً إلى ماربيا في أسبانيا، وسأترك صغيرتي عند أمي وأختي منى! سنزور في سنة لاحقة إيطاليا، وسأرى الجامعة التي درس فيها خمس سنوات هندسة الديكور. سنـزور الحي الذي سكن فيه. سأتعرف على كثير من المتاحف. سأعود من سفري هذا لأجد أمي دخلت في غيبوبة، سأبكي كثيراً ووجهي يلتصق بزجاج غرفة العناية المركزة. سأبكي أمي وقد غادرت دون أن أسمع صوتها وأعانقها. سأعانق أخي سعد وأبكي لساعات طويلة. كم كان مؤلماً أن أخاصر حبيبي في شوارع روما، وأقبله قدّام كل تمثال في ميادين روما، بينما أمي تسقط أخيراً وحيدة بين يدي أختي منى وصغيرتي. سأعتذر من حبيبي بأدب، وأتجاهل اتصالاته المتكرّرة، وأنسحب منه شيئاً فشيئاً، وسألتحق بدورة تحفيظ القرآن في جامع الأندلس المجاور للمنزل. سأتحوّل إلى شابة نشطة من جديد، أطوف الأنحاء وأدعو البنات الضالات. سأوزّع الأشرطة الإسلامية. سأسلبس قفازات سوداء في يديّ، وجوارب سود في قدميّ، وسأضع النقاب الإسلامي على وجهي. سيقف معي أخي محمد بفرح وحماس شديدين. سألقي محاضرات عن ماديات المجتمعات الغربية والانحلال الخلقي فيها، وسأخلع لوحات الفنانين الكفار من جدران المنزل. سأعلق بعض الآيات القرآنية مكانها. سأحاول أن أجذب أختي منى الضالة إلى طريق الهدى، لكنني سأفشل مراراً، وسأكفّ عن ذلك بعد أن تهاجمني ساخرة، وهي تكشف عن معرفتها بعلاقة مهندس الديكور بي، وسفره معي أكثر من مرّة. سأكتشف أنه بعد أن فشل في الإتصال بي، تعرّف على أختي منى، التي ستلتحق بدورة تشكيل في معهد شيفلد، وستتبعها بدورة فن الخزف. ستتعلم الرسم على الجدران، وتتعاقد مع العديد من مؤسسات الديكور. ستطير شهرتها وبراعتها في تصميم الخزف على الجدران. سيقع يوماً اسمها بين عينيه: منى الساهي! سيتصل بها بحجة عقد عمل في قصر جديد تحت الإنشاء، وسيلتقي بها في الموقع، ثم سيعرف أنها مطلقة ووحيدة في قصر واسع، ليس لديها سوى ولد في السادسة. سيعرف أنها أختي، وسينتقم منّي بعلاقة جامحة معها، حتى وإن حاولت أختي منى أن تخبئها، ستفضحها عيناها اللامعتان، وهما تتوهجان بحبّ عنيف. سأقول لها يوما: حتى لو أخفيت عني وقوعك في الرذيلة، تفضحها عيناك! ثم اقترحت عليها أن تتزوّج منه، وأن تستر على نفسها وتريح ضميرها. ستبكي أختي أمامي في نشيج يفاجئني، لكنها لن تقول لي شيئاً.
سأفتح عينيّ ذات صباح، وأبحث عن زوجي الستيني، وقد غاب عنّي قرابة أسبوع، دون أن أملك السؤال عنه في بيوته الثلاثة الأخرى، سأتجاهل الأمر، حتى أبحث عن القارورة القذرة، التي جمعت فيها فضائحي التي كنت أسميها أحزاني، لكنني أراها الآن قارورة الرذيلة، فأقرّر أن أتخلّص منها، لكنني لا أجد للقارورة أي أثر، سأصرخ بالخادمة الإندونيسية، وأنا أهبط من درج قصري مرعوبة، لكنها تخبرني أنها لا تعرف ماذا أتكلم عنه، سأفتّش كل أجزاء البيت، لكنني لن أجد القارورة مطلقاً، ولن يعود زوجي الستيني، سأتخيّل أنه عثر على القارورة العتيقة، ذات النقوش الهندية الممحوة، سيرتجف وهو يظن أنها مخزن لعمل سحري يربطه بي ويفصله عن زوجاته الثلاث، سيحاول أن يخرج من فم القارورة الضيّق بعض الأوراق دون جدوى، سيقرّر أن يهشم زجاجها، دون أن يعرف بكائي ذات طفولة وأنا أرفض تخليص القبّون البرّي السجين داخل القارورة بكسرها، ستتطاير شظاياها داخل سيارته، وسيقرأ سيرتي وهزائمي وخديعتي وصك طلاقي وعلاقتي مع مهندس الديكور، وسيبكي أنه وقع بدوره في خديعة كبرى، سيحاول أن يتذكّر ليلتنا الأولى، وهل كنت بكراً أم لا، سيقرّر أن يرقبني في زاوية الشارع متخفياً في سيارة مؤجرة، سيبحث في محلات الديكور عن شاب دارس في إيطاليا، سيقتني مسدساً صغيراً، سيقرر……ألخ.
يا إلهي، ما هذه الحياة الشائكة!
قالت ذلك منيرة الساهي وهي تتخيّل حياتها المقبلة، ثم أخمدت صوت الإستيريو، وسحبت ستارة النافذة، وطالعت في الشارع حيث ترقد سيارة الجي إم سي الحمراء بسكون. وما أن عادت إلى طرف السرير بقميص النوم القصير جداً حتى تناهى إلى سمعها حمام القماري البلدي وهي تنوح وتنقر زجاج النافذة.
0 تعليق