زينب عساف
هل يصح وضع عنوان آخر لرواية يوسف المحيميد، “نزهة الدلفين”، الصادرة حديثاً لدى “دار رياض الريس للنشر”: “أيدٍ تسبح على ضفاف النيل؟” على سبيل المثال؟ بالطبع قد يكون هذا العنوان أقل جمالية، وأكثر مباشرة، لكنه في المقابل قد يكون أكثر “أمانة” لفكرة الكتاب. إنه كتاب “اليد”، اليد التي تسبح في مياه ضحلة، معتمة، ولذيذة، وتفرّ أيضاً كسمكة مذعورة،
أو تضرب أبواب حوادث ماضية شكّلت بوصلتها. فلنأخذ البوصلة إذاً ولنتبع الراوي، الشاعر خالد الذي يمضي عطلة مع حبيبته الكاتبة الإماراتية آمنة المشيري وصديقه أحمد في مصر. يكتشف خالد دلفيناً وردياً، هو يد آمنة، ودلفيناً آخر هو يده. كان الدلفينان يلعبان ويتلاقحان كما يشاءان، لكن فجأةً يكتشف الدلفين الذكر أن دلفينه الأنثى لعوب، لا تنفك تدلف خلسة في يد أخرى عملاقة، لتعود بحركتها تلك يداً سمراء لفتاة ناعمة لا أكثر. من هنا تبدأ القصة، من لحظة خروج الدلفين من مياهه كي يصبح كائناً برّياً، تنزلق اللغة معه وتتزحلق الى الشك والغيرة والوساوس التي يصاب بها خالد متسائلاً عن العلاقة التي تجمع آمنة بصديقه الحميم أحمد، وعن السبب الذي يدفع دلفينه الوردي الى أحضان حوت.
ثلاثية الأنثى والذكرين ليست جديدة، لكن الجديد هو هذا الشك المتوازن، الذي يبقى في منزلة الأفكار المعذِّبة، من دون أن يفصح عن نفسه بفجاجة. شك يسبح في مياه هادئة، ويمسك بأيدٍ كثيرة، “الأيدي ذات اللغة، الأيدي ذات التاريخ والمواقف والأسرار والكمائن، الأيدي التي تعطي وتبذل، والتي تأخذ في الخفاء”. الشك في معنى ما، هو الخيط الذي يربط تلك الأيدي، ناسجاً أواصر القربى بينها، مانحاً خالد المبرر في مسألة وقوعه ضحية الخيانة.
هكذا تتشابك اليد التي دسّت السم لأخناتون الفرعونية في يد ابن ميمون الذي ألّف كتاباً عن السموم. أيضاً اليد التي طعنت كبد الجنرال الفرنسي كليبر، في يد الحلبي التي طُعِنت واُحرقت أثناء التحقيق. اليد التي حملت قلماً وكتبت قصيدة بالأخرى التي حملت قلماً وصادقت على وثيقة إعدام…
ولأن الأيدي نفسها هي التي “تصافح وتخنق وتحضن وتصفع وتصفح وتبوح وتصفح”، يحشدها الكاتب كلها كي تشكّل “بساطاً” منطقياً تسير عليه مرارة خالد، وإدراكه أن يد آمنة التي أمسك بها للمرة الأولى، عند زيارة متحف بحري، هي اليد نفسها التي مسّدت عرقاً نابضاً بالحياة على كفّ أحمد.
لفهم تحوّلات الأيدي وتالياً تحولات البشر، في وسعنا شطر الرواية عالمين: الحيّز المائي والحيّز البري الصحراوي، الأول يمتد من الإقامة القاهرية إلى شواطئ الإمارات (موطن آمنة)، ويسمح للأيدي الدلافين – البشر أن يسبحوا على هواهم، وأن يحملوا حزنهم بكثير من الخفة. هكذا يتحوّل هجر الأب لعائلته قصة أسطورية تقول إن الأم (زوجته الثانية) قد حوّلته طائراً ووضعته في قفص، كي تعيده ليلاً إلى طبيعته البشرية وتضاجعه. وهكذا أيضاً لا يأخذ العشق القاهري مداه، بل يبدو مرناً وغير مكترث، ومقتطع من حيوات أبطاله: آمنة مخطوبة في بلدها، وأحمد متزوج، لكن ذلك ليس له أي أهمية.
الحيّز البري الخليجي يبدو أكثر قسوة، يخنق دلافينه برمال صحرائه، لأن قصصه لا تتحمل أكثر من نهاية حتمية وواضحة. هكذا يموت الأخ الصغير إثر مرض غامض، بعدما وضعت يد الأب الضخمة يده الصغيرة في طبق الأرزّ الساخن، من دون أن يجرؤ أحد من أفراد أسرته على الصراخ في وجهه: أنت قاتل!
وهكذا يتبع رجلٌ امرأةً منقّبة لأن يدها البضّة أومأت له ذات يوم حار، قبل أن يكتشف بعدها أنها خدعته.
لغة المحيميد اللينة المطواعة تروي هرب المخلوقات البرية العطشى إلى مياهها، أو على الأقل تخيّلها لهذا الهرب، وإدراكها المرّ أن لحظة السباحة تلك تنتهي بها دائماً إلى برّها القاسي. لغة هذا الكتاب أيضاً لا تخلو من اللثغة الشعرية “المنقّبة” والتعبير الهادئ الذي يميز معظم أعمال المحيميد.
جريدة النهار اللبنانية- 2مارس2006م
0 تعليق