أحمد الواصل
(1)
.. عادة ما نختم مساء يوم الجمعة بحالة تأهب في المنزل أو قضاء وقت قليل خارجه، إما لمشاوير ضرورية وإما لالتزامات عائلية، لكن أحب الروائي يوسف المحيميد، أن نجتمع هذا المساء في مقهاه المفضل: «صانع القهوة» الذي عادة ما اختاره للقراءة وللكتابة أو
للقاء الأصحاب والأصدقاء، فجمَع بعضاً من ممثلي الثقافة الجديدة، من الشعراء كالشاعر علي العمري الذي يحضر مجموعته الشعرية الثالثة لتصدر مطلع العام القادم، ومن المشتغلين في السرد حضر القاص سعيد الأحمد وعبدالواحد الأنصاري ومنصور العتيق أحد صحافيي الملحق الثقافي في صحيفة الاقتصادية، والأستاذ تركي الماضي نائب رئيس الشؤون الثقافية في صحيفة الجزيرة والأستاذ مشعل العبدلي أحد المشاركين في موقع جسد الثقافة، وصار في زاوية منتحية من المقهى توقيع أولى نسخ رواية: «نزهة الدلافين – 2006» (شركة رياض الريس) ليوسف المحيميد، فقد تميزت تلك الزاوية من المقهى بإضاءتها الهادئة والحضور المتآلف سواء بأمزجة دخان الشاي المغربي ونكهة الكابتشينو أو بإلقاء ورقة (المرقمة: 2) كتبتها عن تجربة يوسف المحيميد السردية من القصة القصيرة أو أدب الرحلات أو الرواية أو النصوص المفتوحة.
.. أعطت تلك الورقة فرصة لإدارة الحوار فتنامى وذهب إلى أقاصيه، فحكى منصور العتيق عن التجربة الأدبية السعودية وعلاقتها في حال الطباعة الخارجية من شكلها الفردي بعلاقة المركز والهامش، وأضاف علي العمري بأنها ستظل موصومة على عكس مثال تجربة «جماعة كركوك» في العراق التي طرحت نديتها حتى لثقافة الآخر فيما تمنى أن تتخلص تجربة المحيميد من انتظار الشرعية الأدبية عبر المركزية الثقافية، وتكلم سعيد الأحمد عن إعاقة التجربة الأدبية عن التنامي أو حتى الاعتراف بها في المجتمع وبناه المؤسسية، سواء في تأسيس مجلة أدبية أو حتى جماعة فنية.
.. علق الأستاذ تركي الماضي على سوء التعامل في الصفحات الثقافية مع الانتاج الأدبي الجديد من شعر أو رواية أو قصة قصيرة، وعن إدعائية بعض أساتذة الجامعة بدخولهم «التجربة النقدية» من باب الدراسة والاختصاص لا محاولة قراءة النصوص الأدبية شعريها أو سرديها لاكتشاف المميزات الاسلوبية والفنية، وهذا ما جعل تجارب أدبية سعودية كبيرة مهملة من قبل مثل: عبده خال أو رجاء عالم أو المحيميد نفسه، ورأى ذروة هذا السوء في السلوك الثقافي أن كتب أحد أساتذة الجامعة مقالاً على مقال علق على كتاب قبل أن يتوفر على قراءته!.
.. لم تتجاوز الساعة من بعد شرب القهوة والشاي، أثناء قراءة الورقة التي تلتها تلك النقاشات الجادة والمستوعبة لبعض إشكالات الأدب والنقد في انعكاسها بالسلب والإيجاب ثقافياً.
.. انفض نادي الجمع من زاوية مقهى «صانع القهوة» وبقي بعضنا ليكمل الأمسية: علي العمري، منصور العتيق والمحميد كذلك كاتب المقالة، وكان الحوار اتخذ طابعه الثقافي في بعده السوسيولوجي والأنثروبولوجي، لتكن مسائل كبيرة عن أزمة الخطاب الديني المؤدلج وتاريخ الجزيرة القديم، وهذا ما فتح الحوار على قضايا أسئلة وجود الإنسان، الهوية والمصير..
.. كان الحوار بدا ينال في ذروته نهايات ما بين التشاؤم المطلق من علي العمري والحيرة التاريخية من منصور العتيق، فتحدثت عن صيغة تفاؤل محتملة بمصطلح: «الوعي اليائس» الذي قرأته مرة للمفكر الإيراني داريوش شايغان..
(2)
وهج بصيرة السرد
.. عندما نتأمل هذا المقطع السردي: «لا أعرف كيف تذكرت فجأة الخادمات الأندونيسيات حين يقدمن لأول مرة من أجل العمل في دول الخليج، وكيف يشعرن بالوحدة القاتلة، وهن يذهبن إلى النوم في غرفهن العلوية في السطوح. لم أعد الآن معتقلاً أو منفياً بل تحولت إلى عامل أو خادم أو سائق بنغالي أو أندونيسي يقيم لدى أسرة انجليزية». وهو من: «النخيل والقرميد – 2004» ليوسف المحيميد، فسيكون مدخلاً مناسباَ لاكتشاف بعض مزايا التجربة السردية له، سواء في القصة القصيرة أو الرواية. فالمزية الأولى: هي تاريخ المرحلة السردية الثانية له، والثانية: تفعيل مفهوم «البصيرة السردية» الذي أطلِقُه على المرحلة الثالثة من أجيال السرد، في الأدب العربي السعودي. إذ أرى أن الهم الأكبر، كما انه المستحوذ على العدة السردية لكاتبنا، هو هم الاسلوب اللغوي الشخصي، فهو المعتنى في صراع تتوازى فيه طائلة الشخوص وحراكها إلى جانب نازلة السرد وتقنياته.
.. تتيح لنا لحظة إمعان بصر في عناوين تجربة المحيميد السردية، عبر ذلك الهم المعد مدخلاً مشروعاً عندما نتقرى عنوان أول مجموعة قصصية له: «ظهيرة لا مشاة لها – 1989» في التوازي المتوهج بين: «البصيرة السردية» والاسلوبية الشخصية كذلك نراه في التالية: «رجفة أثوابهم البيض – 1993» بيد أن تلك الورشة السردية بين نوازع البصر وممكنات السرد تجنح إلى مواطئة أدبية تتمظهر في إفلات السياق السردي – من داخل التجربة لا خارجها – نحو ظهور ملازم أو كشاكيل سردية، توحي بذلك الصراع الذي يحفظ طزاجة الحوافز وتطلعات التجربة إلى آفاق مستقبلية السرد عبر نصوص «لابد أن أحداً حرّك الكراسة – 1996»، المسجلة لعناء سردي بالغ تظهره اللغة المشحونة بين «تقشفها وتكثيفها معتمدة على المسح البصري» كما في شهادة مهمة كتبها عن تجربته (حقول – 2 سبتمبر 2005)، وهي الأثناء نفسها الشاهدة تمخضاً سردياً نحو نص الرواية – ليس بمفهومها البسيط – بل نحو استحضار شمولي، ربما عن وعي مترصد حوافزه وتطلعاته كما ذكرنا إنما يتكئ على عدة سردية نضجت – أو في طريقها إلى ذلك – تحمل تأسيس مفهوم «البصيرة السردية» والاسلوبية الشخصية، واضعة في بالها ذلك التحول السردي لجيل أدبي مفارق في سياق تجربة أعم، تجربة الأدب العربي السعودي، فالمحيميد يقف على عتبة تحول ليس وحده بل هناك مجايلوه – مجايلاته: رجاء عالم وعبده خال، نورة الغامدي وليلى الجهني وآخرون، الذين تتفاوت فيما بينهم – هن درجات العدة السردية في مفاهيمها الاسلوبية ومقدراتها الإبداعية، فحين يسيطر الحدث السردي وزمنيته على خال والغامدي، يتملك الفعل السردي وتقنيته لدى عالم والجهني بالإضافة إلى المحيميد.
.. اتبعت رواية المحيميد الأولى: «لغط موتى – 2003» (المكتوبة بين 1995 – 1996) اسلوب «الميتا سرد» أي: باتخاذ السرد ذاته موضوعاً، حيث نواجه مع بطل الرواية – أو كاتبها – همومه المؤرقة بين احتمالية عجز كبرى، تتحول إلى الحافز المضمر، في أمرين: الواقع الافتراضي الذي تغرف منه حالة الفعل السردي للشخوص وحراكها إزاء الأمر الثاني في بصيرة السرد وتقنيته.
.. ربما ذلك ما يتركنا له، من حيرة نقدية، لكن سرعان ما ينزع الفعل السردي لدى المحميد نفسه إلى جعله ترسبا أوليا في ارضيته السردية ، وهذا اول رهان على نفاذ سردي رائع، حين يمضي الفعل السردي في تحقق وفعالية ظاهرة بين «طباقية سردية» (أي: تعدد حكائي متناغم) لحكاية توفيق وطراد، وهما بطلا روايته الثانية: «فخاخ الرائحة – 2003»، وما كانت حكاية ناصر سوى جنين سردي احتيالي جعل من حكاية توفيق فرعاً على الحكاية الأساس لطراد، ثم جاءت حكاية ناصر «تنويعاً سردياً» خلاقا أدار الفعل السردي صوب تحققه الأجدى.
.. لن يترك، المحيميد، تلك الأرضية في ترسبها السردي الأولي عرضة لقوة الذاكرة السردية التي من المحتمل أن تكون حيلة السارد لتبديدها، صوب مأزق اشتباه تكراري، إذا ما تصاعد التنازع بين «البصيرة السردية» والاسلوبية اللغوية، بل كان خيار المغامرة متاحاً إلى تلبس الحيلة الشهرزادية العتيقة، في صيغة مطلب الجدة النجدية الحزينة من بين حفيداتها الثلاث: نورة ومنى أو منيرة الساهي، التي سيعنى بها المحيميد في مساحة سردية مفاجئة عندما يتقمص ضميراً حكائياً مؤنثاً ليعادله سردياً بين شهر زاد المهددة بالقتل والمرأة النجدية الحزينة، فالشهر زادات سوف تتوالى بين منى ونورة ثم منيرة التي تسلمت عنكبوت الحكايات، وهذا الرمز السردي البارع تجلى في الرواية الثالثة: «القارورة – 2004»، فإذا ما كانت الأرضية السردية قويت بفعل ترسبات تقنية الميتا سرد في «لغط موتى» وطباقية السرد في «فخاخ الرائحة» كان إغواء «البصيرة السردية» على أشده لدى المحيميد في قارورته التي سيتمخض عنها تلك الأثناء، زمن الفعل السردي، كتابته لمشاهداته بين أمكنة عدة كانت متوناً سردية عبر الذاكرة البصرية مباشرة في أزمان متفرقة بين مدن عربية (كالكويت، البصرة – 1980، الدوحة 1987 – 2002، القاهرة – 1991 وبيروت 1997 – 2001» أو أوروبية (لندن ثم نورج 1998 – 1999). حملها عنوان كتابه: «النخيل والقرميد – 2004» الذي يعزز من وجود تراكم سردي اتضحت معالمه في مرحلته الأولى بصدور نصوصه السردية عبر كتاب: «لابد أن أحداً حرّك الكراسة، ومرحلته الثانية بصدور نصوص مشاهدات سردية (سيرة) عبر كتاب: «النخيل والقرميد»، التي تؤالف بين اليوميات والمذكرات في رصد سيري بديع وموح.
.. إذا كان عدم اقتصار الفعل السردي في التنامي عبر جنس الرواية فقط، فهو تنام سردي بالنوع أولاً واختيار نص الرواية أو القصة أو أدب الرحلة (السيرة) درجات منه بالتوازي والمماثلة، وهذ ما عزز فضاء «البصيرة السردية» في المجموعة القصصية: «أخي يفتش عن رامبو – 2005» لتحويل أبطال المجموعة إلى عينات سردية تتمتع (ليس تعاني فقط» الهامش الاجتماعي بقدر توظيفهم كحالات مخبرية لفنية السرد ونزوعه كما بين استثمار الشخوص وحراكها كذلك السرد وتقنيته.
.. إن الفعل السردي سوف يتجه صوب منطقة «سردية تركيبية» جديدة، حين تحمل لغة السرد هموم الاسلوب الشخصي، وهذا الهم الأولوي عند المحيميد دوماً، يتنامى مكرساً عبر رمزية سردية بالغة الشفافية وتصفو في تلك السيرورة البنيوية للنص السردي لا التوالي الزمني، فهي التي جعلت من النص الروائي الجديد يتحرك بين قاهرة المعز ومصر الفراعنة بين الثلاثي خالد اللحياني، أحمد الجساسي وآمنة المشيري كذلك يتحرك في هوايات واختصاصات أبطالها بين علم الآثار والشعر أو بين علم النفس والكتابة الصحفية، فلحظة اعطاء الشخصية اسمها وصفتها المنسوبة هو إيحاء قيمة المكان الحاضر بين التاريخ الماضي والمستقبلي، وهو الحس الخليجي من الانتماء المختلف ما بين خالد اللحياني «السعودية» وأحمد الجساسي «قطر» وآمنة المشيري «الامارات» الذي يقع في اختياره خارج بلد المولد إلى بلد الثقافة «أو السياحة» كمصر أو بريطانيا، وهو خروج المحيميد نفسه من معاينة امتداد النمط ما بين رواياته إلى اقتراح متجاوز لنص «القارورة – 2004» السابق نحو تقاطع يدوّر لغة تفاعل العناصر السردية ما بين «لغط موتى – 2002» و«فخاخ الرائحة – 2003» لمنح الرواية تلك «السردية التركيبية» بين الزمن والمكان من جهة ومن أخرى بين الإنسان في بلد المولد وبلد الثقافة (أو السياحة).
.. إن كل ذلك يفتح التساؤل النقدي المشروع، إذا ما كان يرى سيرورة سردية صوب تحققات أخرى ما بين عدة سردية قائمة – قابلة للنقض دوماً -، وبين ذلك الصراع في توازيه أو تصاعده بفن السرد، سواء لمصلحة البصيرة أو الاسلوبية، وهذا ما نتطلع إلى كشفه عبر أي نص سردي جديد توافينا به التجربة الأدبية عند يوسف المحيميد لاحقاً.
جريدة الرياض- العدد13730 في 26 يناير 2006م
0 تعليق