انور محمد
كأنَّه كلَّما جثا الاستبداد فوق صدر الديموقراطية، كلَّما فقَّست الديموقراطية رواية. وهذا ما أثمر عن رواياتٍ لعبد الرحمن منيف، وإلياس خوري، وهاني الراهب، وصنع الله ابراهيم، وخيري الذهبي، روايات حاولت أن تعيد للحياة شيئاً من عُذريتها. إذ بعد ثلاثِ مجموعاتٍ قصصية؛ وثلاث رواياتٍ صدرت اثنتانِ منهما في عامٍ واحدٍ 2003: (لغط الموتى) عن دار الجمل في ألمانيا، و(فخاخ الرائحة) عن دار الريس في بيروت،
والثالثة (القارورة) عن المركز الثقافي العربي في كلٍّ من بيروت والدار البيضاء .2004 تجيءُ الرواية الرابعة للكاتب السعودي يوسف المحيميد «نزهة الدلفين» لتضيف؛ بل لتؤكِّد أنَّ هناك صوتاً لافتاً في الرواية الخليجية. صوت يكتب بانفعالٍ، بحسٍّ شعريٍ حيّ، وبأسلوبٍ ساخرٍ فيه شيءٌ من طفليةٍ إنَّما ذكية.
ثلاثةُ مثقفين خليجيين؛ أحمد الجساسي من قطر، وآمنة المشيري من الإمارات، وخالد اللحياني من السعودية، يلتقون في القاهرة ـ المكان الذي استأثر بعقل يوسف المحيميد فأثاره/ استثاره؛ أرهبه، أرعبه حين خرجت آمنة وأحمد من الأمسية الشعرية لحظةَ كان خالد يلقي قصائده، فيَكادُ يسقط قلبه، فهو يحبُّ آمنة، و ها هو أحمد صديقه يسرقُها منه.
الرواية تقوم على الشكِّ، شكّ يثير خالد: لماذا خرج أحمد وآمنة من (الآتيليه) وتركاه يقرأ قصائده كما لو كان يطحن حجراً، فبرحيلهما وجدَ نفسه كأنَّه يقرأ أمام مقاعد خشبية فارغة. فَيَصَّعَدُ الصراع عنده: هل يخونانه، وأحمد يعرف أنَّ خالدَ يحبُّ آمنة؟ ثمَّ لماذا جلس أحمد متقصِّداً في المقعد الخلفي بسيارة الأجرة مع آمنة، مما اضطر خالد للجلوس في المقعد الأمامي بجانب السائق؟
نقد للحياة
يوسف المحيميد في «نزهة الدلفين» و إن كان سرده يقوم على حدثٍ عادي، لكنَّه يمارسُ من خلاله نقداً للحياة بإحساسٍ عميقٍ بالسخط الاجتماعي والسياسي، وبعدائيةٍ عنيفة تجاه الماضي التقليدوي. فنرى عنده شخصياتٍ مأزومة تكشفُ عن صراعاتها النفسية/صراعات خفية فيها مُخاتَلة؛ يوسفُ مخاتِلٌ وقاسٍ وهو يسرد، يُصِّور متعرجات حياة شخصياته الروحية وأشكالها. قلنا: الحوادثُ/ وليس الأحداثَ تجيء في الرواية عرَضية، فأبطال روايته لا يروحون إلى المغامرة، كما لا يذهبون إلى الفاجعة، ربَّما خوفاً من سطوة المستبدِّ، فمشاريعهم وإن صرَّح السارد ببعضها، إنَّما هي مشاريع مخنوقةٌ بالعجز وبالظلم الذي يمارسه عليهم الطاغية الذي يسكن أعماقهم فيقيِّدهم. فآمنة المشيري تحكي أنَّ أمَّها «فاطمة» تزوجت من أبيها بعمل السحر ـ سحرت له، فأحبَّها وتزوَّجها /تزوَّجها ضرَّة، ثمَّ هامَ وهامَ بها، ولا أحد يعرفُ عن أخباره شيئاً. وخالد ـ وإن كان يُرمِّز فلا يجد غير خاله ليغرز فيه خناجره؛ هذا الخال الذي صار أحد أثرياء «تبوك»، فتحوَّل من سائق شاحنةٍ صغيرة إلى صاحب أسطولٍ بري، بعد أن قام بنقل جثث الجنود الأميركيين الذين سقطوا قتلى في حرب الخليج الثالثة بسياراته (البرَّاد)، وكأنَّه ينقل خضاراً وفواكه، فأثبت «الخال» أنَّه أكثر من ذئبٍ فأثرى ما أثرى.
لكنَّ خالد الذي فاجأته مظاهرةٌ في أحد شوارع القاهرة يطالبُ فيها المتظاهرونَ بالإفراجِ عن «أيمن نور» صاحب أو رئيس حزب الغد، صار يتخيَّل وعلى الفور بشراً يمشون في طرقات وشوارع «تبوك»، فيباغته أحمد الجساسي بالقول: أنتَ لا يُمكن أن تتظاهر!. فقبل سنةٍ رفضتَ توقيع بيانِ مطالبة بإطلاق سراح زميلك. ما يدفع خالد ليُسائِل نفسه كمن يجد تبريراً لجُبنِه: أليسَ بقاء لساني مثل عظم بائدٍ داخل فمي هو سجنٌ كبير، أليس العالم كلُّه مجرَّد سجن مزيَّن بأشجارٍ وبيوت ومدارس وعربات وشوارع وجرائد وخطب؟؟.
غير أنَّ أحمد الجساسي ينسى أنَّه (سلفيٌ)، وأنَّه كان سيصيرُ قيادياً في حزب الإخوان، لولا أن وشى به زميله/أخوه في الحزب بأنَّه (ضبطه)يسمع المنكرات «صوت فيروز» في غرفة السكن الجامعي فطردوه من الحزب، ليكتشف بعد هذه الحادثة نفسه في جاك دريدا، وباشلار، وبورخيس، و كونديرا. وصار يقرأهم بشغفٍ ليتأكَّد أنَّ الحياة هي في مكانٍ آخر.
كلُّ هذا والكثيرٌ من الحكايات الأخرى تجيئنا في الرواية على شكل عملياتِ تذكُّر؛ ذكريات، أخبار؛ رسائل الكترونية وهاتفية، تداعيات، استرجاع، إرجاع، وصف، توصيف. إنَّما مغمَّسة بماء السرد، وفي لقطاتٍ سينمائية مقرَّبة وكأنَّ يوسف يكتب بمجهره، فيفرجينا مشاعره الساخرة الساخطة بمخيلته اللفظية فيسحرنا، صورةٌ فيها اجتراءٌ على الشكل التقليدي ـ فهو في (نزهة الدلفين) ينقلب على عبودية السرد التقليدي، إذ يكتب بحرية فيجمعُ التصوير مع التحليل إلى السخرية، ولو أنَّها في بعضٍ من فصول الرواية تجيءُ فاقعةً مثل ـ النكتة ـ الحلم/المنام الذي رأى فيه الرئيس مبارك أن يده لامست «نانسي عجرم» فطلب من المفتي أن يُفسِّرَ له المنام، فلما علم المفتي من الرئيس بأنَّه لامس جسدها في مكان عارٍ منه قال له: أعطني يدك (يا ريِّس) لأبوسها.
فردوسٍ شهواني
طبعاً هذا يكشف عن شبقيةٍ، عن فردوسٍ شهواني يريد انُ يذهبُ إليه «المحيميد» في روايته ـ إنَّما ليس فيه إباحية، بل دغدغة وإثارةٌ للغرائز. فشخصية الشاعر خالد التي تعيش في تبوك وفي بلدة (حقل) حيث لا حياة عاطفية و لا اجتماعية ـ ثقافية كما في القاهرة حيث وجد نفسه فيها، فاكتشف قلقه، سأمه، ضجره، وحدته. وكذلك اكتشف فرحته ولذَّته حين صارت يده تلامس يدها ـ أي دلفينه يلامس دلفين آمنة، التي تحوَّلت إلى موضع غيرة ونزاعٍ بينه وبين صديقه أحمد الجساسي، فصارت يده تتبارك، تتعاشق، تثاغي يدها. ولعلَّ حاسَّة اللمس من أكثر الحواس استعمالاً في الرواية بين شخصياتها الثلاث، فكانت تكشف عن اضطرابهم وقلقهم وتوجُّسهم، فهي مثلما تكشف عن تزييف كلِّ واحدٍ منهم لاندفاعة غرائزه “الليبيدية” نحو الآخر خاصة خالد وآمنة حين يداهما تعترك، تتضاجع سواء في القاهرة أو في لقائهما السابق في لندن عندما شاهدا معاً فيلم (التايتنيك).
يوسف المحيميد كما القنَّاص يلاحق طريدته ـ يقنص لحظة السرد عند شخصياته التي غادرت القاهرة إلى الشارقة، وتبوك، والدوحة. غير أنَّها لحظة ذهنية، مع أنَّ بوسعه أن يُقيم مشابكاتٍ/اشتباكاتٍ درامية. فصراعُ العواطف واندفاعة الغرائز؛ فيها فرصةٌ ثمينةٌ له ليكشفَ أكثر عن تلك اللحظة الواقعية التي تستبدُّ بالسرد، فتصير مثل الخيال/مثل أسطورةٍ لا تعرف مدى ما أصاب عقلها من جنونٍ ومن عقل.
جريدة السفير اللبنانية- العدد10903 في 22/1/2008
http://www.assafir.com/Article.aspx?EditionId=843&ChannelId=18996&ArticleId=2017&Author=انور%20محمد
0 تعليق