نزهة الدلفين.. الغموض حافزا لعلاقة حميمة مع القارئ

28 مايو، 2012 | نزهة الدلفين | 0 تعليقات

مصطفى الولي
– يرى عدد كبير من النقاد والمشتغلين على النظريات الأدبية، والرواية تحديداً، أن الغموض النسبي في التشكيل الروائي، المتضافر مع عنصر الدهشة الممتعة، يشكل واحدا من محفزات الترابط الحميم مع المتلقي- القارئ.
نزهة الدلفين ، للأديب يوسف المحيميد (منشورات رياض الريس، 2007) رواية مدهشة بامتياز. وبدءاً من العنوان، الذي لم يجر اختياره اعتباطاً، تنفتح علينا الرواية كاشفة، وبسلاسة، عن عالم إنساني مركب، يدخلنا إليه الكاتب، ثم يطلقنا داخله أحرارا ، لنجد أنفسنا أسرى لجماليات الحكاية التي جاء بها السرد.
تتفرع الدهشة في نزهة الدلفين إلى جانبين، الأوَل فنّي يتّصل بالشكل، إذ حوّل الكاتب اليد/الأيدي إلى كائن كامل، هو الحيوان البحري المسالم والجميل، الدلفين. أمّا الجانب الثاني، الذي يتصل بالمضمون، فهو الحدث الروائي، الذي بناه الكاتب على كشف جريء، حين قدّم شخصيات عمله في واقعة إنسانية، ليست مألوفة في الوعي الجمعي، قلْ ليس مألوفا الاقتراب منها، نقصد هنا حالة الحب التي تتفاعل داخل ثلاثة أرواح، وفي اللحظة نفسها: أحمد وخالد وآمنة.
كان الرجلان يحبان بعضهما بعضاً كثيرا، كانا صديقين، وهما كما يظهر يحبان المرأة معاً، كلٌّ بطريقته، أحدهما يطلق خيول أحلامه، والآخر يرعى عقله أينما ولّى (ص 11).
كانا محمّلين بالشك، أحدهما تأكل الغيرة أطرافه كل ليلة، والآخر يبدو كما لو يخشى على قلب صديقته مرة، وعلى قلب معشوقته مرة أخرى… أمّا هي فكانت تلتبس عليها المسائل كثيرا، ولا تعرف أيهما تعشق وأيهما تحب كصديق (ص 75).
ناقد، مولع بعلم النفس، من الدوحة، وكاتبة من الإمارات، وشاعر من تبوك في السعودية، مولع بعلم الآثار وبالعالم البحري ومخلوقاته وأسراره.. هؤلاء هم شخصيات رواية نزهة الدلفين ، الذي هو بطل الرواية ومحرّك أحداثها، تارة في الواقعة الروائية، وتارة أخرى داخل النفس الإنسانية، في تداعياتها وتخيلاتها وأحلامها ورغباتها. إنّه اليد التي تكثّف في حركتها وانزلاقها ودفئها وارتجافاتها المشاعر المتدفقة كالشلال. حين خرجوا ثلاثتهم من الفندق تجاه النيل، سار أمامهما أحمد الجساسي كأب، أو كدليل، وهما يسيران خلفه بخطوتين أو أكثر.. كانت يده كالدلفين الأحدب الخجول، الذي يفضّل المياه الضحلة المفتوحة، ويسبح ببطء وتلذذ، وكلما التفت نحوه السائر أماما كالدليل، تخلص الدلفين ذو البطن القرنفلي الفاتح من مياه يدها وقد احمرّ خجلا ملتقطا أنفاسه المتسارعة… هل كان دلفينها يحب اللهو واللعب مع الناس (ص 18).
تتعدد أصوات السرد الروائي.. ولكلٍّ من الشخصيات الثلاثة صوته.. الكاتب أيضا له صوت خاص به. لكن القارئ سيجد تداخلا في السرد بين الشخصيات، إذ إن الفقرة الواحدة يشترك فيها أكثر من طرف، ولعلّ البناء الدرامي للرواية، وما يتسع له من دفق في التداعيات، جعل من تلاحق السرد وتداخله ضرورة تقنية يقتضيها الشكل الفني للرواية. ومما جاء لتعريفنا بآمنة نقرأ: أمها جاءت من مدينة بهلا (صوت الراوي) كانت أمي جميلة جداً، قالت آمنة وهي تقاسم خالد التيجاني رغيفا (آمنة والراوي)، ولكن إخوتي جعلوا منها ساحرة (عودة إلى آمنة)… (ص 22).
للرواية فضاءات كثيرة، وإذا كانت مدينة القاهرة، نهر النيل وحي الحسين والمتحف البحري والفندق وتكسي الأجرة، هي الأمكنة الزاخرة بتفاصيل الحدث الروائي، فإن الفضاءات البعيدة تستدعى من ذاكرة الشخصيات، وفي لحظات دفق بالمشاعر، فتتداخل الأمكنة انسجاما مع تداخلات السرد وانتقالاته المفاجئة والمدهشة. يأخذنا الكاتب من خلف ستار شخصياته، التي أوكل لها القسط الأكبر من السرد، إلى الإمارات والرياض فتبوك والدوحة، ويستدعي السرد مدنا عربية أخرى، رام الله وبغداد وبيروت، لتشكل الفضاء الواسع، وإن كان بعيدا، لما تهجس به الشخصيات من هموم، وما يتفاعل بدواخلها من أفكار وأوجاع. فهذه الأمكنة، ليست مسرحا للحدث الروائي، لكنها كالعمارة التي يسكن الحدثُ شقةً فيها، أبوابها تبقى مشرَعة على الجوار، الأشقاء.
ببراعة سلسة ومنسابة يمضي بنا الكاتب، من تبوك ومدينة حقل، إلى الفضاء الفلسطيني الطافح بالمعاناة المتواصلة: أهدى خالد إلى صاحبه محمود الفلسطيني مجموعته الشعرية الأولى، رغم أنه لم يعد يعرف عنه شيئا منذ تهجيره القسري مع أسرته إلى عمان غداة حرب الخليج الثانية… كانت قصيدته تتجه نحو التفاصيل اليومية الصغيرة: الزعتر البلدي وزيتون نابلس… لأكثر من خمسين عاما كانت أم محمود تحتفظ بمفتاح بيتها في رام الله، إذ أخرجه محمود مرتبكا ذات عصر من خزانة خشبية عتيقة، وأراه لصاحبه خالد مؤكداً أنه سيأخذه معه إلى بيتهم في رام الله….جنود إسرائيليون يحومون في دورية على الحدود في سيناء، جندي يتشمّس فوق دبابته ويدخّن سيجارة الصبح… هكذا كانت أعينهم الصغيرة مشدوهة بغرابة، وهي تترصّد الحياة اليومية على الساحل الغربي لخليج العقبة (ص 66-67).
الزمن في نزهة الدلفين لا يسير من الماضي إلى الحاضر بتسلسل عادي، كما هو في الواقع وفي التاريخ، بل جاء كقفزات ينقلنا معها الكاتب إلى مطارح جديدة وبعيدة عن حركة السرد السابقة. ولعله وشى لنا بهذه التقنية، عندما كتب: هكذا هي يوميات القاهرة متقطّعة ومتصلة بخيط لا مرئي، كما لو كانت رواية لميلان كونديرا، متناثرة الأنحاء كالشظايا، لكن رؤيتها عن بعد تكشف خيوطها الخفيّة (ص 113).
لم يخضع السرد في الرواية لمبدأ السببية، حيث منطق الوقائع يحكم تسلسلها، إنّما جاءت الأحداث دون منطق داخلي. لقد كان اهتمام الكاتب منصبّاً على االكيفية التي يعرض بها الأحداث ووضعها بين يدي القراء. وإذا توقفنا حيال الفقرة السابقة يمكننا أن نطابق الانقطاع والاتصال والتشظي، كما جاء وصفه لرواية كونديرا، على المحيميد ذاته في رواية نزهة الدلفين ، فالزمن الأساسي للحدث ليس أكثر من أيام قضاها الثلاثة معاً ى(أحمد وآمنة وخالد)، بينما ونحن نتابع الحدث -العلاقة الإشكالية- نجد السرد وقد سحبنا إلى الماضي، ونحو فضاءات بعيدة عن القاهرة مكان الحدث الذي قامت عليه حبكة الرواية.
في واحدة من النقلات المفاجئة، تتحول اليد، التي خلق منها الكاتب دلفيناً، وحوّل أيدي شخصياته الثلاثة إلى محيطات لمغامرات الدلافين العاشقة، اليد ذاتها، يد الإنسان، إلى يد تقتل. أبو أحمد هو من قتل ابنه بضربة واحدة، لأن جمال شقيق أحمد مدّ يده اليسرى نحو صحن المكبوس، وما كادت أصابعه الطاهرة تلتقط حبّات الأرز الهندي الساخن حتى انهالت على ظهره قبضة أبي الضخمة… بكينا جميعا، ولم نعرف لِمَ قتل أبي شقيقي الأصغر، هل لأنه غامر بالأكل قبل أن يبدأ هو، وذلك جناية في حق أبوّته وسلطته، أم لأنه أكل باليد اليسرى يد إبليس (ص 103).
هنا لم تعد اليد دلفينا زلقا ناعما رشيقا، يلعب لعبة الحب بإدهاش ممتع، بل تحوّلت إلى قاتل بلمح البصر، وهو ما يضعنا عند وقفة وصفية زاخرة بالمعاني والدلالات، وعلى امتداد صفحتين: الأيدي ذات اللغة، الأيدي ذات التاريخ، الأيدي التي تعطي وتبذل، الأيدي التي تأخذ في الخفاء… الأيدي التي حملت البندقية.. الكاميرا… القلم.. وقلماً يصادق على وثيقة الإعدام.. واخترعت قنبلة ذرية… ووقعت اتفاقية مع عدو… الأيدي ذاتها ضاجعت بعضها بعضا عارية، واقترفت الإشارات نفسها، العرض والقبول والإيجاب… (ص 139- 140).
تصل الرواية إلى نهايتها، ويستعد الثلاثة للعودة الى بلدانهم، غير أن الحدث الإنساني في دواخل نفوسهم يتواصل، والإشكالية لم تجد لها حلاً، ولو أن المرأة (آمنة) اختارت خالد عشيقاً وأحبّت أحمد صديقاً. لكنهم توجهوا، كل على حدة، في اتجاهات مختلفة. وهو ما يجعل مغزى الرواية يفيض بالأسئلة، عن الحياة والحب والصداقة والحرية والتملك، فضلاً عن انطوائها على مواقف نقدية عميقة لحالتنا الاجتماعية والسياسية والثقافية، وفي عموم البلدان العربية.

* كاتب فلسطيني
جريدة الرأي الأردنية- الجمعة 25/4/2008م

رجل تتعقبه الغربان: ملخص الرواية

رجل تتعقبه الغربان: ملخص الرواية

يظهر خيط السرد بطريقة جديدة، لا تبدأ بالحاضر، وحظر التجول في مدينة الرياض، أو أربعينات القرن الماضي، ورصد المدينة المحصَّنة بأسوارها الطينية فحسب، وإنما القفز بالزمن في مغامرة مختلفة نحو المستقبل، من خلال منظار روسي...

أكمل القراءة

تلك اليد المحتالة – مختارات

تلك اليد المحتالة – مختارات

لبس ما ظنه الرجل الجالس أمام النافذة حمامة بيضاء بأربعة مناقير وعُرف… كان قفازًا منفوخًا ليد هاربة من وباء، دفعها الهواء بخفَّة. هكذا اكتشف الرجل الوحيد في عزلته. طائرات كلما انفتح باب السوبرماركت الكهربائي عن...

أكمل القراءة

في مديح القاهرة

في مديح القاهرة

ذاكرة الدهشة الأولىقبل ثلاثين عاما تقريبًا، تحديدًا في يناير من العام ١٩٩٢ زرت القاهرة لأول مرة في حياتي وأنا في منتصف العشرينات. جئت لوحدي لأكتشف معرض القاهرة الدولي للكتاب في مقره القديم بشارع صلاح سالم. لا أعرف...

أكمل القراءة

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *