فصول مختارة من رواية (نزهة الدلفين)

28 مايو، 2012 | نزهة الدلفين | 0 تعليقات

(30)
أمام مدخل السفينة الفرعونية تجمهر الركَّاب، رجل فرنسي طويل تعانقه فتاة بيضاء جميلة، يهصرها نحوه ويده تتخلل شعرها الأشقر، بينما تلقي برأسها على صدره، كان خالد ينظر ويعلِّق بخفوت، الأمر الذي جعل آمنة تلتفت حول مرمى بصره، فترى المشهد ثم تعود ببصرها نحو صديقيها.

انتظم صفُّ الركاب، تقدّمهم أحمد بيده ورقة الحجز، وخلفه آمنة، بينما خالد يلتصق بها من الخلف، يشمُّ رائحة شعرها المتحرِّر والمنساب كنهر عشوائي، بربطة كريستال أعلاه، حتى بدت كتلميذات الثانوية العامة، كانت تغزو أنفه رائحة الياسمين، كأنما كان لحظة ذاك في حديقة تضوع من أنحائها روائح الفلُّ والياسمين، كان يضع يده فوق كتفها كلما تحرَّكت أماماً، فتميل برأسها جانباً على كتفها صوب يده حتى تدعك بأذنها الصغيرة شعيرات ظهر كفِّه، كانت مثل حمامة أليفة تفتِّش بمنقارها ريش ذكرها الوحيد.
صعدوا من الدرج الخشبي الضيِّق إلى الطابق الثاني، توقفوا قليلاً لعدم وجود حجز على طاولة، مضى أحمد هابطاً الدرج، رجلان يحملان مقعداً متحرِّكاً لامرأة مسنَّة تمسح دمعها بظاهر كفها، وخلفهما امرأة أربعينية، كم هي الحياة جميلة فقط حين نقدِّر أعضاءنا، همست آمنة وأضافت، هذه القدم التي نمشى بها لا نتنبَّه إلى قيمتها إلا حين نرى قدماً معطوبة! قرَّب خالد فمه من أذنها هامساً: حتى اليد ونحن نستخدمها في تنظيف مؤخراتنا لا نتوقع أنها كانت في الأصل دلفيناً رائعاً فقد حياته حين فقد المحيط العميق بمياهه الداكنة! ضحكت آمنة بطريقة هيستيرية وهي تقفل فمها وتنظر في الوجوه التي استدارت نحوها.
أقبل أحمد مبتسماً، وأشار إلى أن عليهم الهبوط إلى الطابق الأسفل من السفينة، كانت طاولتهم ليست على الحافة حيث ماء النيل، وليست في الوسط تماماً، يفصلها عن الحافة طاولة جلس فيها شاب وفتاة، كان هناك أربعة مقاعد، اتخذت آمنة مقعداً بجوار الحائط المنتشرة عليه رسوم فرعونية، واتخذ أحمد مقعداً مقابلاً لها، بينما جلس خالد بجوارها، ألمحت إلى أنها لا ترى النيل من الجهة المقابلة لبعدها، وتضطر إلى أن تلتفت خلفاً، فيصطادها الشاب بنظراته المختلسة، كانت تفكِّر أن تنتقل إلى المقعد المقابل بجوار أحمد، لكنها تخشى عقوبة إضراب خالد بصمت أبدي، كما فعل وقت أن جاورها أحمد في التاكسي، كانت وعدته ليلة الثلاثاء الأسود أن تحفظ دلفينيها القرنفليين بعيداً عن بحار ومحيطات الفضوليين، كفَّت آمنة بعينيها السوداوين الساحرتين عن الحلم بالنيل، ونسيت لحظة أن انطلقت الفرقة الموسيقية بالأغنيات.
كانت المغنِّية ترتدي فستاناً لؤلؤياً مشدوداً حول جسدها، وبظهر عار وأبيض، جميلة كانت ولها ابتسامة جذّابة، غنَّت بمتعة وأرقصت معها الدلافين القرنفليه اللعوبة، التي تحب الرقص والمرح، الدلافين التي تزور النيل، الدلافين التي تنقاد بغبطة إلى النهر بعد أن ملَّت حياة المحيطات والبحار! هكذا حرَّكت آمنة يديها وهي تهزُّ الجزء العلوي من جسدها، تغني مع صوت المغنِّية العالي وتراقص خالداً الذي بدا مستمتعاً ويرقِّص دلافينه أيضاً في الهواء.
أما أحمد فقد كان مستمتعاً وهو ينظر نحوهما، قبل أن يقف بجوارهم النادل ليسأل عمَّا يشربون، طلبوا كأس عصير مانجو، وكأسين جوافة، كانت رائحة الجوافة تقود خالداً إلى طفولة منسيِّة في تبوك، حيث شجرة الجوافة التي تنمو في باحة الدار، ويهزُّ جذعها مع ابنة الجيران سلمى حتى تساقط ثمرة جوافة ناضجة. كان خالد يقاسم آمنة كل شيء، إصبع ورق العنب الملفوف، شريحة الطماطم، حتى كأس البيرة الذي وافقت عليه ثم تراجعت. في ذروة رقصها وهي جالسة أشارت المغنِّية نحوها كي ترقص أمامها، لكنها رفضت بهزِّ رأسها على الجانبين، قال أحمد إنها تلتقط بحدسها النساء العاشقات للرقص، إذ لم يكن على ظهر السفينة المسقوف سوى آمنة وشابة مصرية مع عائلتين تشتركان معاً في طاولة كبيرة، يضطرب جسداهما مع الإيقاعات السريعة.
انتبهت المغنِّية إلى جدوى الأغنيات الراقصة، فغنَّت لأحمد عدوية وبهاء سلطان وبعض الأغاني الخليجية: عشان أصالحك وارضى عليك، حاجات كثير لازم تعملها، ثم بدأت المغنِّية تشير بيدها نحو آمنة: أوم أقف وانت بتكلمني! وفجأة تركت مكان الفرقة الموسيقية، وأمسكت بيد آمنة التي تمنعت قليلاً، قبل أن يحرِّضها خالد، الذي رفض طلب المغنِّية بعدما حاولته أيضاً متذرعاً بأنه لا يعرف الرقص. رقصت آمنة تلك الليلة حتى فاضت دلافين من النيل، لا أحد يعرف من أين أتت كل هذه الدلافين على حواف السفينة ورقصت مع آمنة، كانت تطير وتلوِّح وتمرح، وكأنما كان النيل يخفي في جوفه العميق مئات الدلافين التي تنتظر لحظة متعة لا تأتي، كانت آمنة تهزُّ جسدها الرائع، صدرها الصغير بثمرتين لم يكتمل نضجهما بعد، خصرها الرهيف للغاية، ومؤخرتها المستديرة المتماسكة التي تضطرب مع إيقاعات الطبلة العالية، تنسف شعرها بطريقة أهل الخليج، وتضع سبابتها على أنفها، ثم يتماوج جسدها من الأعلى حتى الأسفل، لتجلس ثم تحثُّ جسدها على النهوض التدريجي كأفعى: أيوه.. يا عظمة! كان أحمد تخلَّص من حياء يحاصره، وصفَّق مع خالد كثيراً، وشجعا حبيبتهما طوال رقصتها الأولى.
كانت آمنة كما لو كانت امرأة سومرية وهو تنثر شعرها الليلي الكثيف على الجانبين، كأنها تحرِّك بشعرها الهائل الهواءَ والغبار فوق السفينة كي يرتبك هواء سامراء كله، ويجلب غيمات مكتنزة بمطر لا يتوقف، شعرك الأسود الوافر يا آمنة السومرية كاد أن يوقف قلبي! كان خالد يفكِّر قبل أن يعود من سامراء قبل الميلاد.
أشار أحمد للمصوِّر الذي التقط لهم معاً بعض الصور قبل دقائق، وطلب منه أن يصوِّر آمنة في رقصتها الأنثوية الرائعة، وما أن اقترب المصوِّر نحوها، وقبيل بوح الفلاش كادت أن تتوقف عن الرقص، إذ لم ترغب بالصورة دون أن تنتبه إلى أن كثيراً من العائلات تحمل كاميرات فيديو خفيفة وصغيرة الحجم، ومصوبة نحوها في ذروة الرقص الخفيف.
يدها كانت عالية، وعيناها تنظران نحو العدسة، عيناها تحملان المتعة والرغبة في قول شيء، بينما بدا ذرع المغنِّية في طرف الصورة، كانت خائفة وهي تتأمل صورتها، فاقترح أحمد أن يدفع للمصوِّر مبلغاً مغرياً مقابل الحصول على شريط النيجاتيف، وبعد أن وضعه في جيب بذلته الرسمية، أرعبها خالد بأن أكثر من كاميرا فيديو كانت تتابع رقصتها، وأن مقطعاً صغيراً من الرقصة سيتوفر في مواقع إنترنت خليجية بعد أيام معدودة، وأن فاطمة أمها ستصدم بابنتها بعد أن يصل المقطع إلى هاتفها المحمول: لا.. خالد حبيبي لا تخوّفني جذي! ضحك خالد بخبث وهو يقول بلهجة خليجية: ولا يهمك أطرِّش لك المسج أول ما توصل لحد موبايلي! ضحك أحمد بلؤم وهو يقول: هم طرِّشها لي، عندي واحد فنان تركيب صور، يركب رقصتها مع رجل أفريقي أسود! ضحكا بشدة، وضحكت هي بخوف.
رقصت الفتاة المصرية الصغيرة، ثم تلتها فتاة أخرى يظهر أنها تزوجت قريباً، إذ ناولت كاميرا الفيديو زوجها الشاب، الذي بدأ يلاحقها في رقصتها القصيرة، ثم حضر مغنٍّ شاب، يلبس بذلة بيضاء وربطة عنق حمراء، محاولاً أن يغني ويرقص معاً، لكن الساهرون حول الطاولات منشغلون بالثرثرة، قبل أن يعمّ الصمت والدهشة مع تغيير المغنِّي إلى الشاب ذي الملامح الريفية، الراقص بمظلة ملوَّنة ضخمة حول جسمه الرشيق، يدور ببراعة مع خبطات طبول ذات إيقاع صوفي حزين، كان يدور ويدور، مرة تبقى المظلة ذات الألوان حول خصره، ومرة حول وجهه، وثالثة فوق رأسه إذ تدور كمروحة، بل إنه يضعها فوق يده رغم ضخامتها ويدور بها على الطاولات حوله، ليلقى تصفيقاً حارّاً.

(32)
في اللوحة الجدارية في قاعة السفينة الفرعونية كانوا ينظرون بشموخ، أحدهم يقف، وآخر يجلس على العرش، وثالث برأس جدي، ورابع كعقرب أو كصقر، هكذا كانوا ينتشرون قرب طاولتنا، هكذا كان آمون وأخناتون ورمسيس وحوريس يقفون في المشهد دون أن يهبطوا نحونا على المقاعد، لا أعرف كيف أحسست فجأةً أن رمسيس الثاني هبط ببساطته وإنهاكه نحوي، وقال لي: يا ولدي يا خالد، أنت مثلي، أنا خرجت من تابوتي الملكي المزدان بأمتعتي الذهبية والفضية وبورق البردي المخطوط عليه تعاويذ وصلوات من أجل خلودي وبعثي، أنا خرجت من تابوتي مسروقاً تائهاً ليس عليّ سوى قماش كتَّان أبيض، وأنت خرجت من منزلك تائهاً أيضاً مسروق القلب ليس عليك سوى ثوب أبيض، أنا خرجت من مدافن طيبة والدير البحري حتى طرتُ إلى باريس بحثاً عن الخلود، وأنت خرجت من بلدة حقل وتبوك إلى دبي والقاهرة ولندن بحثاً عن الفناء، أنت خالد اسماً وتبحث عن الفناء، يا للمفارقة يا ولدي!
آه يا خالد لو كنت معي لحظة المعركة، لو صحبتني إلى قادش وبقيت معي في المعسكر قبيل المعركة، ورأيت كيف أمنت وجلست على عرشي حين خدعني رجلان حيثيان قدما نفسيهما كهاربين من جيش الحيثيين، وأكدا أن جيش العدو على بعد مائة وعشرين ميلاً، قبل أن يعتقل رجالي جاسوسين حيثيين اعترفا أن الجيش على بعد ميلين فقط، يا للخديعة يا خالد يا ولدي! تخيَّل! قبيل أن أهيئ جيشي كانت عرباتهم وخيولهم السريعة قد ظهرت كغيم متدافع من وراء الربوة القريبة، كانت سهامهم تمزق الهواء الثقيل، كانت غيمة جيشهم تهطل سهاماً مسنونة نحو جيشي، وكانت خديعتي الثانية أن فرَّ جيشي مذعوراً، فما كان منِّي، وأنا واهب الوظائف والعطايا، وموجد الذهب في صحراء النوبة، وصاحب اليد التي تجعل التراب ذهباً، إلا أن وقفت بجبروتي وعنادي وصرخت: أين أنت يا حامل درعي! لو كنت معي يا خالد! لو كنت حامل درعي في قادش، لشهدت قدرتي وعظمتي، ليس كما تراني الآن مرسوماً على الألواح يتسلى بالنظر إليَّ سائح مثلك!
كان رمسيس الثاني يقف أمامي بابتسامته الساحرة العذبة، ويتأملني ويمسح على رأسي، وتذرف عيناه اللازورديتان دموعاً من فضَّة، يقول إنه يدعو ليلاً ونهاراً أباه آمون، بعد أن أصبح وحيداً وأعزل، وقد تآمر جيشي ضدِّي وكذلك الأمم والممالك، وتكاثر عليَّ الأعداء من كل حدب وصوب، وكذلك أنت يا خالد لقد تآمر عليك الأصدقاء، وأنت وحيد وعاشق وأعزل، هكذا أحسست أنني إله الحرب واكتسحت أعدائي، وستشعر أنت أنك إله الحب وستقتحم قلب محبوبتك وجسدها، ستعرف أنك لاشيء، وأنت متذبذب ومتردِّد ووجل حيال امرأة واحدة، بينما ضاجعت أنا أكثر من خمس زوجات، وخمسين من المحظيات الجميلات، بل قل خمسمائة محظية، وأنجبت من الذكور والإناث ما لا أتذكَّر أسماءهم، بينما أنت قلق من أن تكون مسؤولاً عن طفل واحد!.
كأنما خالد قبل أكثر من ثلاثة آلاف عام بملامحه ذاتها يجلس بخجل وضعف أمام الملك رمسيس الثاني، يحني رأسه وينصت له، صحيح أن الملك كان نحيلاً ومنهكاً ومريضاً وقد عاد من رحلة علاج وترميم في باريس، لكنه يحمل المهابة في ابتسامته العميقة المتأملة، وهو يسأل: ما الذي جاء بك هنا؟ كان السؤال واضحاً ومقامراً، لينهمر خالد كالسيل، أنا جئت متعباً وعاشقاً، المرأة التي أحببت يحيط بها مائة رجل يعشقونها جميعاً، وتعشقهم جميعاً، يسهرون على خدمتها، كما سهر على علاجك مائة عالم في باريس! تخيَّل أيها الملك! أنت تهيئ باريس لجسدك المسجّى استقبالاً رسمياً، وأنا بجسدي الذي يضجُّ بالحياة والشهوة تتجاهلني لندن، فلست أكثر من شحَّاذ يتوسل ابتسامة امرأة، ويتخطَّف لحظة خلاء نادرة معها كي يعلِّق على عنقها الغضّ قلادة دلفين فضِّي صغير! صحيح أنك ملك عظيم، وأنا شاعر صعلوك، وصحيح أن الشعراء يتسولون على موائد الملوك، لكنني يا سيدي ومليكي رمسيس الثاني لست كذلك، أحاول أن أتعفَّف، فساعدني يا واهب العطايا، لا أريد شيئاً سوى حبيبتي الجالسة بجواري، أعطني حبيبتي وكفَّ بصرها عن غيري كي لا ترى أحداً سواي!
آه رمسيس، كان خالد اللحياني، الشاعر وخرِّيج الآثار، يتأمل اللوحة الجدارية أمامه بخدر، قبل أن تنساب من تحت الطاولة يد خضراء كالدلفين القرنفلي وتعتلي يده، تعتليها وتدخل أصابعها في فراغات أصابعه حتى يقفز ثلاثة آلاف سنة أماماً، ويتأمل آمنة بوجهها الملائكي، وعينيها الدعجاوين، وشفتيها الممتلئتين، وشعرها المنساب كالنيل، المعقود أعلاه بمشبك كريستالي لامع، وكأنما هو المنبع المائي الفضِّي، كانت تهزُّ رأسها أمامه: وين كنت؟ يبتسم بنعومة كائن حيّ وبجفني مومياء نصف مفتوحين: كنت هنا! تسأل بوجل: هنا وين؟ تزداد ابتسامته: هنا مع الفراعنة! قصدي معك في السفينة الفرعونية.

(33)
الأيدي ذات اللغة، الأيدي ذات التاريخ والمواقف والأسرار والكمائن، الأيدي التي تعطي وتبذل، والتي تأخذ في الخفاء، الأيدي الحاكمة التي تدسُّ ذريرة بيضاء سامَّة من الفضّة في أظفار الخدم حتى يفتُّوا الرمان للضحايا، والأيدي التي تدسُّ السمَّ حيث أخناتون يترنَّح، ويد ابن ميمون التي ألَّفت كتاباً عن السموم، ويد القاضي الفاضل التي تناولت الكتاب كهدية والتي ترجمته، الأيدي التي تخنق وتكمِّم الأفواه، والتي حملت خنجراً فطعنت في الكبد والسُرَّة حتى خرَّ الجنرال الفرنسي كليبر، ويد الحلبي ذاتها التي طعنت وقد أُحرقت أثناء التحقيق قبيل أن ينفق فوق الخازوق، الأيدي التي حملت البندقية وصوَّبت، والتي حملت الكاميرا وصوَّبت أيضاً، الأيدي التي حملت قلماً وكتبت قصيدة، والأخرى التي حملت قلماً أيضاً وصادقت على وثيقة إعدام، الأيدي التي حزَّت بالمشرط زائدة دودية لمريض، والتي حزَّت عنق ضحية ببغداد، الأيدي التي اخترعت قنبلة ذرِّية هي ذاتها التي تشرب كأس حليب ساخن صباحاً وتطالع السهوب الخضراء من النافذة المفتوحة في خريف بعيد، الأيدي التي وقَّعت اتفاقية مع عدو قبل أن تذبل وتصفرَّ وقت أن أشهرت أيد أخرى بندقية صوب منصة حفل عسكري، الأيدي الكهلة المتخشِّبة التي تنقذ الزوجات الشبقات في فروجهن، والأيدي الغضَّة التي تستمني، الأيدي التي تغسل الأطفال اللاهين في المغاطس والأيدي التي تغسل الأموال، أيدي البستاني التي تقصُّ الأغصان وتهذِّبها، وأيدي السيَّاف التي تقصُّ الرؤوس وتدحرجها، الأيدي الممدودة إلى أعلى تنتظر هبات الصليب الأحمر، والممدودة إلى أسفل تحفر قبراً، الأيدي التي تمسك يد صغير لتعبر به شارعاً مزدحماً صوب صفّه في مدرسة الروضة، والتي تمسك يده الوردية بحذر لتقذف به في قمامة منسيَّة.
الأيدي التي تصافح وتخنق وتحضن وتصفع وتصفح وتبوح وتفصح وتقبض وتكيد وتحيد وتنام وتطير وتتنفَّس وتكتب وتقطف وتلقف وتحذف وتأنف وتلوِّح وتكفِّن وتحفر وتحثو وتهيل وتعطي وتمنع وتكفُّ وتغلُّ وتفقأ وتجلد وتسجن وتعفو وتحمل وتحلم وتلكم وتهرش وتصفِّق. الأيدي التي تصفِّق للنادل وللراقصة وللمغنِّي وللإمبراطور ولأسماء الملوك والأمراء وللخادم ولحامل السيف وللسيف وللطير أيضاً.
الأيدي ذاتها التي ترسل ذبذباتها وتشهر قرونها كدواب صغيرة فوق مرتبة مخملية لسيارة كابريس، قبل أن تتعانق في زحام سيَّاح عرب وأجانب عند باب المتحف البحري، الأيدي التي ضاجعت بعضها عارية، واقترفت الإشارات ذاتها، العرض والقبول والإيجاب، حين ينداح إبهامه المبروم والمشهر في استدارة يدها المغلقة، أو لحظة أن ينوس إبهامها الناعم ويمسّد عِرْقاً أخضر بارزاً على ظهر كفِّه، ياللعِرق النابض بالحياة، كان صمتها يقول.
اليد الشرسة الغليظة التي انهالت كصخرة على ظهر الطفل ذي الثالثة، فانكفأ على سفرة الطعام، ونفق بعد أسبوع من المرض الغامض، اليد الراعشة إذ تمسك ورقة القصيدة على المنصة بعد أن طارت عينان دعجاوان سلبتا عقله وروحه. اليد التي صارت دلفيناً ومضت في نزهة حول العالم، لتمشي في زحام الأرصفة دون أن تتلاقح ذبذباتها الخاصة مع يد أخرى تتأرجح أثناء المشي.

(36)
في الصباح الأخير، كانا وحدهما تماماً، لقد رحل أحمد الجساسي مصطحباً معه دريدا وبارت، لكنه كان يحب كتاب “إنسان مفرط في إنسانيته” لنيتشه، أخذ معه أحلامه وحبَّه لآمنة وخالد ومضى لم يودعهما، ثمَّة أشياء غامضة وسرِّية، لا يعرف خالد عمّا إذا لم يودعهما معاً فعلاً، أم أنه تسلل في الليلة الأخيرة لغرفتها في الطابق الرابع وبذل في توديعها روحه، بل كان سخيّاً معها وهما يذرفان دمعاً باذخاً ولزجاً كل الليل. لم يعرف أحمد عما إذا كان سفره قبلهما بيوم سيمنح صاحبه الأمان النفسي ويجعله قادراً على سحب نفس عميق على كورنيش النيل، وترك الفرصة الأخيرة لهما في الفندق. بل حتى آمنة لم تكن جازمة منهما، عما إذا كانا يرغبان في جسدها، إذ يظهر أن أحمد يحمل على ظهره أحمال المحرم والخيانة وتعقيدات نفسية داخلية، في حين يبدو خالد كما لو كان يريد أن يقول لها إنني أعشقك بجنون، أريد أن أتأمل حلك عينيك وأدخل عتمتهما، أقصى أحلامي أن يضاجع دلفيني اللاهي دلفينك القرنفلي اللعوب، مع أنني اكتشفت سرَّ شفتيك الممتلئتين، ولابد أن خلف اسفنجهما بحر وسمكة تلبط تعد بمتعة لا حدَّ لها. هل يمضي أبعد؟ هذا هو السؤال الذي أحاط بهما وأشغلهما وهما يتفقان أن يجلب لها في غرفتها كيس الدبّ القطني، وقد استلمه من صديقتها المصرية سامية، وأخذه إلى غرفته، كي يكون ذريعة جديدة له، للذهاب إلى غرفتها النهرية.
لباب الغرفة عين سحرية يرى الساكن فيها دائرة ضخمة من الممر، كانت وراء الباب في الداخل تجس نظرته القلقه في الممر، وما أن فتحت حتى رمى الكيس من يده ودخل معها في غيبوبة من عناق، السماء لم تكن آنذاك هابطة، بل كانت روحيهما تحلقان في سقف الغرفة، كانتا تصطدمان بالسقف وهما تريان من علوهما الجسدين في عناق طويل، وسمكتين ورديتين تلاعبان بعضهما في ماء دافئ، اليدان ذاتهما وقد نسيتا كونهما دلفينين راحتا تهصران خصرها الرهيف، ثم تحملانها بخفَّة متناهية، كانت خفيفة وطائرة بجسدها الملائكي، كأنما كانت بجناحين رفرافين تطير في غرفة الفندق، وما أن حطت على الشاطئ كنورس، حتى انحنى بدوره لتظن في البدء أنه طائر يسعى لأن يلتقط الحبَّ، لكنه باغتها وهو يلتقط القبلات على ظهر قدميها الصغيرتين العاريتين.
كنت أحلم أن أبوس قدميك! قال لها، وانحنت بدورها عليه حتى غاب رأسه كاملاً في شلال شعرها الأسود المظلم، فهبط الليل، ورأى مالم يره أحد! كان كنسرٍ يمشِّط الغابات، ويتفحَّصها شبراً شبراً، قبَّل مفرق رأسها، وجبينها، وما أن مسَّت شفتاه عينها اليمنى حتى هربت بوجهها بغتة: لا! كانت مرتبكة وهي تقول له إن: بوسة العين تفرِّق حبيبين!
هل كان يتخيَّل ما سيحدث في النهار الأخير؟ أم كان يخطط ويدير اللقاء الأخير كما يأمل؟ كان يسأل نفسه ويحلم، يرى نفسه نائماً على سريرها الملكي، متراخياً تحت اللحاف ومغمضماً، بينما هي تجوس ردهات الفندق وتنهي مواعيدها مع الآخرين، تعود إليه وتطرق الباب بخفَّة فيفتح نصف نائم، ويهمس: نسيت أقول لك خذي كرت الباب معك! كنت أتمنى أن تدخلي وأنا نائم! أردت أن أسمع صوت معالجتك للباب لحظة دخولك، وأنت تدلفين إلى الحمام فأسمع صوت انسكاب الماء في حوض المغسلة، وعراك الفرشاة مع أسنانك الصغيرة كاللؤلؤ، ووقوفك أمام المرآة وتحريرك لشعرك المعقوص، كنت أنتظرك تندسين بملابسك الخفيفة تحت اللحاف، وتوقظينني بأن تدقِّين باب فمي، فأفتح وأنا نصف نائم، حتى يدخل ضيفي الرخوي الوردي في الدهليز، ويعانق ويتحسس ويتذوق ويذوب وينداح وينساب ويلهو ويخلو ويعدُّ حراس فمك البيض الواقفين كرجال صلبين من اللؤلؤ مسلحين بالشوق، كأنما هم حراس الشرف وهو الملك يتفقدهم واحداً واحداً على سجاد أحمر في فمك.
كان خالد يرى ويحلم: النهر يسيل على ضفاف الرابية ويدها الدلفين القرنفلي يقفز بخفَّة وريبة حتى يمس حوته المحبوس، فيتململ داخل الأزرق الكحلي، ويفتح عينه الوحيدة ناظراً بخبث عمَّن جاء يحرِّر سجنه، كان يتمدَّد ويستيقظ ويثب ويشمُّ الرائحة، كان كالقائد تفرِّق خطواته المحسوبة الحراس بدروعهم البيضاء الصلبة، كان القائد الحوت أخيراً يدلف الكهف الضيِّق المظلم ويبحث عن عشبته المفقودة، عشبة الخلود الأبدي، حتى يبكي خيبته وفقدها إلى الأبد! لم يكن سهلاً أن يبكي الحوت أخيراً بدمع ساخن وحارق، وترقص الدلافين ذات الأجنحة رقصتها الأخيرة، دلفينان كبيران يرقصان في الهواء حول الكعبين، وآخران قرنفليان صغيران يلهوان فوق ساحة الظهر اللامع. هكذا غابت الدلافين في غابة المتعة الأخيرة.

رجل تتعقبه الغربان: ملخص الرواية

رجل تتعقبه الغربان: ملخص الرواية

يظهر خيط السرد بطريقة جديدة، لا تبدأ بالحاضر، وحظر التجول في مدينة الرياض، أو أربعينات القرن الماضي، ورصد المدينة المحصَّنة بأسوارها الطينية فحسب، وإنما القفز بالزمن في مغامرة مختلفة نحو المستقبل، من خلال منظار روسي...

أكمل القراءة

تلك اليد المحتالة – مختارات

تلك اليد المحتالة – مختارات

لبس ما ظنه الرجل الجالس أمام النافذة حمامة بيضاء بأربعة مناقير وعُرف… كان قفازًا منفوخًا ليد هاربة من وباء، دفعها الهواء بخفَّة. هكذا اكتشف الرجل الوحيد في عزلته. طائرات كلما انفتح باب السوبرماركت الكهربائي عن...

أكمل القراءة

في مديح القاهرة

في مديح القاهرة

ذاكرة الدهشة الأولىقبل ثلاثين عاما تقريبًا، تحديدًا في يناير من العام ١٩٩٢ زرت القاهرة لأول مرة في حياتي وأنا في منتصف العشرينات. جئت لوحدي لأكتشف معرض القاهرة الدولي للكتاب في مقره القديم بشارع صلاح سالم. لا أعرف...

أكمل القراءة

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *