لندن: مودي بيطار
يختار يوسف المحيميد ثلاثة مشوهين ليكتب رواية لا علاقة ظاهرة لها بالسياسة، طراد الذي فقد أذنه وناصر الذي فقد عينه وتوفيق المخصي يلتقون ليصوروا ضعف الفرد المطلق في عالم بارد لا رادع إنسانياً فيه. “فخاخ الرائحة” الصادرة عن دار رياض الريس للكتب والنشر، بيروت، تجمع الواقعية السحرية والرمزية، وتستعين بالمجاز لتتمرد على السلطة والأشكال الموروثة للإنتماء.
منذ فقد طراد أذنه بات أضحوكة القبائل وخسر حقه كفرد عادي في الانتماء والحماية. كان قاطع طرق، لكن القبيلة لم ترذله إلا عندما شكَّت في روايته عن الذئب الذي التهم أذنه عندما كان دفيناً حتى عنقه في الرمال. أنكرته فبات نكرة وتنقل بين أعمال هامشية اكتفى منها بالقليل من دون أن يحصل عليه: “لا أبحث عن الجنة (…) أريد فقط مكاناً يحترمني، لا يذلني ولا يعاملني كالكلاب” الصفحة34. نلتقي طراد الباحث عن هوية أولاً في محطة لا يعرف فيها وجهة سفره. يريد فقط الهرب من ذل “المدينة الملعونة”، لكن اللوحة بأسماء المدن لا تقدم إلا النشابه الذي يراه في وجوه المدرِّسين والموظفين والسيارات والنساء والشوارع “وأي شيء في هذا البلد” ص33. يعرف أنه يهرب من جحيم إلى آخر لكنه يبحث عن بداية جديدة. عندما يعثر على ملف طفل سفاح تركته والدته قرب مسجد يجد شقيقاً لروحه يجدد إحساسه بالمأساة. كان ناصر نتيجة علاقة لم تنتهي بالزواج لرفض أهل الشاب “ابن القبائل” فتاة وضيعة “لا أصل ولا فصل لها”. تلتهم قطة عين الطفل الذي ينشأ في ميتم ويتعرض للاعتداء الجنسي ويفقد حقه في الحياة الكريمة بسبب القبائل. “اللعنة على آفات القبائل وأعرافها” يقول يوسف المحيميد في الصفحة 57، ويهجوها لأنها تتبرأ من أفرادها لأتفه الأسباب وتثير فيهم الخوف من رفضها فيتخلون عمن يعلمهم الحب. تتناوب قصتان في “فخاخ الرائحة” وتتقاطع معهما قصة اللقيط الذي يدل التاريخ في ملفه على أنه بات في العشرين من عمرة. قسوة المحيميد في تشويه شخصياته تبرز رغبته في إدانة مجتمع يقولب الفرد فيه ولا يسمح له بالحد الأدني من الإدراك والمشاركة. الكاتب السعودي لا ينقل الكاريكاتير الشهير بحذافيره عن القرد الذي لا يسمع أو يرى أو يتكلم لأنه ينتقد الجماعة ورموز السلطة، على أنه يضيف توفيق المخصي ليرثي رجولة مفقودة في العالم العربي باتت تقليداً مفضلاً بعد هزيمة 5حزيران (يونيو) 1967. كان اسمه حسن وخطف من السودان طفلاً واعتدي عليه ثم خصي وجعل عبداً. كل طراد وحسن الذي استبدل اسمه بتوفيق يتهكمان على المتظاهرين بالتدين الذين يؤمنون أنه ذريعة كافية لتقرير مصائر الناس وإن فضح زيفه. يقول توفيق: “اخذوني من حضن أمي وسرقوني ثم أدخلوني هذه البلاد بحجة الحج” ص110. طراد يروي كيف هجم وصديقه نهار على قافلة ليسلباها لكنهما فشلا ووجدا نفسيهما دفينين في الرمل حتى الرقبة. قال زعيم القافلة إنه لا يريد تلويث يديه بدمهما وهو متجه إلى الحج، لكنه تركهما فريسة للوحوش فالتهم الذئب وجه نهار حتى مات ثم اكتفى من طراد بإذنه. “أي حجّ!”. يقول طراد ثائراً: “وأنت قتلتنا ببطء وعذاب ماله مثيل؟”.
تبرز الواقعية السحرية والأسطورة خصوصاً في فصل “عراك طويل”. فمرحلة قطع الطرق التي عاش فيها طراد وحيداً وطدت وحدته مع الطبيعة في تكرار لفلسفة شرقية شهدناها في أفلام ومسلسلات تلفزيونية أمريكية عن أنواع القتال الدفاعي عن النفس. عندما تحالف مع نهار “كل الكائنات تخلت عنهما” وأدى ذلك إلى موت صديقه وفقده أذنه.
يصوّر المحيميد المعركة مع نهار صراع جبابرة استمر ساعتين من دون أن يتغلب أحدهما على الآخر. شقيقه سيف نام على وسادة صنعتها فتاة من الجوّالين فمرض ثم اختفى ليعود ويحمل أباه إلى الجبال حيث تركه للأسود والذئاب. اقتنعت الأم بأنه تزوج من الجن وبات ملكاً عليهم، وواظب على حفر الرمل بحثاً عنه في مملكته تحت الأرض.
للواقعية السحرية التي بدأت في أدب أمريكا اللاتينية أكثر من معجب في الخليج، لكن المحيميد يبدو كأنه يعترف أنه بالغ في حكاية ابنة العطار. يشيع أن هذه حملت من القمر الذي يتسلل إلى جسدها عندما تنشر ثيابها الداخلية ليلاً، لكن توفيق يرى صورة شاب في غرفتها فيدرك أنه هو والد طفلها لا القمر!
يتماهى طراد مع ناصر فور عثوره على ملفه الذي يحمل صوراً ووثائق تؤسس صلة عاطفية فورية من جانب واحد. “اللعنة على هذا البلد الجحيم”. يقول طراد في الصفحة 35، فهو “مثلك تماماً، كلنا ضائعان في هذي المدينة الغريبة” ص37. وإذ يقول :”لا عليك أيها الحبيب” في الصفحة 39 يعيد القارئ قراءة الصفحات ليتأكد من أن الشاب ليس ابنه. طراد يفقد مكانه بين القبائل ويرفض في المدينة “الجحيم” التي “لا يعرف أسرارها ومكائدها (ولا) يرى عدواً واضحاً ومحددا كي ينازله منازلة الشجعان” ص117.
المشوهون الوحيدون الثلاثة يعيشون من دون أمل ظاهر، ولأن حاول طراد إخفاء أذنه المقطوعة وبدا توفيق رجلاً عادياً، أبقى ناصر عاهته مكشوفته ولم يحاول سترها بنظارتين سوادوين كأنه يصفع العالم بها ويتحدى مسؤولية الآخرين الأخلاقية. الفتى أعطى فرصة وحيدة عندما جيء به إلى القصر الذي عمل فيه طراد حارساً وتوفيق سائقاً وتقاطعت طرقهم من دون أن يعرف أحدهم الآخر.
ضحكت الحياة للفتى لكي تؤكد وحشيتها فحسب بدلا من أن تعطيه فرصة حقيقية وتواسيه. خطأ واحد كان كافياً لكي تغضب منه صاحبة القصر وتعتبره غير أهل للنعمة التي اسبغتها عليه وتعيده إلى الميتم. كان أفضل له البقاء فيه. فالتجربة كانت إنتقالاً من الجحيم إلى النعيم ثم العودة القاسية إلى الأول التي أقنعته بأن العالم غابة لا رحمة فيها. توفيق لم يعرف ماذا يفعل بحريته عندما صدر قانون تحرير العبيد. “كنت مثل طير يفتح له باب القفص فلا يطير” الصفحة108.
فتح الأبواب لا يعني الخلاص، والمواجهة بين الذئب وطراد ونهار تكثف مجاز الرواية كلها عن هشاشة الوضع البشري وشر الإنسان. لغة يوسف المحيميد طرية سلسة، لكن الأصوات تختلط أحياناً فتضيف إلى طراد وتوفيق صوت راوٍ آخر متداخل. وينتقل الكاتب والقارئ بسهولة بين السرد والمونولوغ، الغنائي أحياناً، على أن المفردات العامية تعصى على القراء غير الخليجيين.
* جريدة الحياة- عدد 14752 في 14 أغسطس 2003م.
0 تعليق