إلى أين يا ذئب؟

مايو 28, 2012 | فخاخ الرائحة | 0 تعليقات

ياسين رفاعية
يمزج الكاتب العربي السعودي يوسف المحيميد في روايته الجديدة “فخاخ الرائحة” بين الواقع والفانتازيا، يستلهم الحياة الدونية لأبطاله، المساقين إلى حياة الألم والأوجاع والأوهام والأحلام، ويظل الحلم وحده منجاة من الواقع القاسي، والجارح لبشر، كأن الله خلقهم لعذاباتهم، وكأن الحياة بالنسبة لهم مجرد جحيم عليهم التعايش معه، من ذل وقهر وسقوط على أعتاب الذين منحهم الله جنة الدنيا،

وقد يمنحهم أيضاً جنة الآخرة، فمن يدري.
رواية تشدك منذ الأسطر الأولى. فـ”طراد” هو الصورة الأولى واللحظة الحرجة التي لا تستطيع أن تغلق عينيك عليها، فهو الذي “ضاقت بقدمية الشقيتين الطرقات، ولفظته المكاتب الفارهة، وشرّدته الجهات والوجوه والمنازل، هو ابن البراري والوهاد الفسيحة” قادته أقداره أن يصبح خادماً أو ماسحاً أو عبداً. وهو الذي كانوا يعيرونه بأذنه المقطوعة، بل هو ابن قبيلة، والقدر وضعه هنا أمامه.
الرواية بأكملها تكاد تكون ساعات أو يوماً واحداً، في محطة للسفر يتذكر طراد حياته الصعبة، وهمومه وخوفه من الآخر، وإحساسه أن هذه الحياة ليست له، بل لهؤلاء المتنعمين بالجاه والمال الذين يكتشفون في لحظة ما أنه رجل بأذن مقطوعة: أذنه مقطوعة يا شباب… فانخرطوا في ضحك هائل، لدرجة أن أحدهم استلقى على طاولة المكتب، ثم صرخ الآخر بين دموع الضحك: قد يكون فان غوغ… هاهاها. وعلق أحدهم: تخيّل طراد عنده حبيبة، ولا يفك الشماغ حتى وهو في الفراش!! هاها.
ولقصة الأذن المقطوعة فيما بعد مأساة أين منها أي مأساة أخرى، بل ان طراد يحاول نسيانها بالمرة، وبأنه ولد من بطن أمه وهو مقطوع الأذن.
الرواية تتنقل بين راو معلوم وآخر مجهول، بأسلوب يشعر القارئ بالتجاوب معه والتفاعل مع الأحداث كما لو أنه يراها على الشاشة.
السوداني وطراد الراوي يُدخل في النص راوياً آخر يتعرّف إليه طراد أنه السوداني الذي خُطف صغيراً وبيع في سوق للرقيق الذي يروي حياته لطراد: بعد أيام عرفت أنني صرت مخصياً، وأنني سأستخدم ضكري فقط للبول! تخيّل يا طراد خدعوني هناك بشحمة مشوية حتى وقعت في فخ الجلابة، وهنا خدعوني بكرة قطن صغيرة غرزوها في أنفي فغبت عن الوعي، في المرة الأولى بعت إنسانيتي برائحة شحمة وصرت عبداً، وفي الثانية بعت رجولتي برائحة قطنة وصرت خصياً!! قاتل الله الرائحة كلها، لو لم أملك أنفاً يا طراد، لو أنني فقدت أنفي مثلما فقدت أنت أذنك اليسرى. بمناسبة أذنك اليسرى، لم تقل لي كيف فقدتها… من جز أذنك بسكين أو بشفرة حلاقة؟.
وفي غمرة المحاولة في الانتصار على قسوة الحياة، يدخل طراد ورفيقه إلى وهاد الصحارى، ملثماً، ينتظر القوافل ليسطوا عليها ويسرق ما يستطيع سرقته إلى أن وقع في براثن أمير حج ألقى رجاله القبض عليهما بالجرم المشهود وهما يحاولان سرقة أحد الجمال من القافلة، وكان حكمه عليهما دفنهما بالرمال إلا رأسيهما… وكان إعداماً غير مسبوق في التاريخ، إذ في ليلة لاهبة هاجمهما ذئب جائع، وأول ما نهش رفيقه الذي كان مليئاً بالشحم واللحم، وفي هذا المشهد المريع الذي هو صلب الرواية وقوتها: “كانا يهجسان معاً، وينضح العرق من عنقيهما ووجهيهما في سكون الصحراء، قبل أن يتناهى إلى سمعهما عواء بعيد وطويل، كانت الرياح تهب من مساء خريفي وتدفع الرائحة الآدمية إلى كل جهات الصحراء الأربع (…) الرائحة تزحف كأفعى فوق الرمال، والعواء يتأرجح مع الهواء ويقترب شيئاً فشيئاً، فيزداد رعبهما وينضحان مزيداً من العرق لتمعن الرياح في نقل الرائحة الآدمية إلى أخطام الذئاب السارحة في البراري والوهاد. في البعد لمحا ذئباً في الظلام يهرول، ثم يتوقف ويتشمم بخطمه الأرض، يقف ويمط رأسه عالياً ثم يعوي، مشى نحوهما بعجل، إلى أين يا ذئب، وأي معركة ستدخل معهما؟ أي معركة تلك وهي غير متكافئة، بين حر وطليق، وبيده الأسلحة كلها، وبفمه الخناجر الرهيفة، وبقوائمه النبال المسنونة، وبين سجناء الرمال الذين لا يملكون أيديهم ولا أرجلهم ولا قوتهم، لا عصا ولا حجراً يدفعون بها الأذى؟ اللعنة عليك يا سرحان! أي لؤم تخبئه بين عينيك اللامعتين، وأي نذالة تلك التي تجعلك تصارع أعزلين من كل شيء، إلا من صراخهما.
إلى أن يدخل الذئب وكانت تسبقه رائحته وأنفاسه، كان أيضاً متوجساً، وكأنما شم رائحة آدمية، عاجلته بزعقة قوية جداً ترددت أصداؤها داخل الكهف الصغير.
ويتذكر طراد هنا كيف قضى ذات يوم على هذا الذئب بعد عراك طويل، وكانت القوى متكافئة… أما الآن… لم تعد الحكاية ذاتها، فيداه اللتان أوثق بهما خطمه صارتا مغلولتين في بطن الرمل، وكذلك يده الشجاعة التي تشهر الجنبية اليمنية هي أيضاً مغلولة إلى ظهره مدفونة بالرمل، وهل رأيت يا نهار (رفيقه في هذه المحنة) موتاً وهلاكاً أكثر بؤساً من ذلك، أن يتفنن عدوك في قتلك، أن يقتلك ببطء شديد، أو يتلذذ وهو يلتهم وجهك عضواً عضواً وكل مرة تصرخ بكل ما تملك من لسان لم يأت الدور عليه بعد كي يلتهمه بشراسة ولؤم.
ذلك المشهد الرهيب الذي يلتهم الذئب كل وجه رفيق طراد حتى يشبع… ولا يتقدم منه إلا بعد نوم لساعة أو أكثر فيصحو وبعد هو شبعان من فريسته. لكنه يأبى أن يترك طراد هذه المرة سوى بعد أن نهش له أذنه اليسرى بالكامل، وتركه مع نزفه ورعبه وخوفه إلى أن تم إنقاذه من بعض قوافل الصحراء. بهذا المعنى، ركز الكاتب على فكرة “فخاخ الرائحة” كعنوان لروايته الثانية بعد “لغط موتى” ومجموعتين قصصيتين: ظهيرة لا مشاة لها، و: رجفة أصواتهم البيض. إلى جانب نصوص: لا بد أن أحداً حرّك الكراسة. على أن “فخاخ الرائحة” ستكون الخطوة البارزة نحو كتابة روائية أكثر تميّزاً، فإذا ركزت هنا على الصراع بين الذئب والانسان، أو بالأحرى على الصراع بين الحياة والانسان، فإن في الرواية أكثر ما يلفت للنظر إن في الأسلوب أو اللغة أو استقطاب الواقع المتردي الذي يعيشه ناس ما تحت الرصيف أو على جنباته.
“فخاخ الرائحة” رواية قاسية بكل المعايير، استطاع كاتبها أن يسطرها لنا بقلم مزيج من الألم والمعاناة واندحار الحياة ببشر لم تكن لهم فرصة جيّدة، فأصبحوا فريسة لذئاب أقوياء ولشريعة الغابة التي لا تعرف إلا أن الحياة للأقوياء دون غيرهم، أما من تبقى فهم العبيد والمخصيون والدراويش، والذين لا أحد معهم، لا الله، ولا المجتمع، ولا البشر.

جريدة المستقبل – الاثنين 13 تشرين الأول 2003 – العدد 1424

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *