أحمد الواصل
.. تواجه الشخصيات نفسها وشروط البيئة الاجتماعية في هذه الرواية*، التي تكونوا فيها سواء بشكل لاحق ممن أتوا بمرجعية صحراوية أو ريفية إلى من يتكونون في المدينة إذ أول اعتماد تقبله المدينة هي هدر أصوله البدئية بالمعنى المجازي بعد تصادمها كما في مشكلة والدي ناصر لتكون المدينة انتماءه وهويته كما لتقابلهم أي الأبطال الثلاثة ببعضهم
بين ناصر كأول تشكيل مدني أفقده نسب التعريف كما يظهر في مسألة (ال) التي تعني شيئاً لدى شخصية طراد العشائرية الثقافة /ص: 37، 39بينما ما لم تكن عند توفيق تحمل أي معنى حيث غير اسمه من حسن إلى توفيق كما سلف.
.. في أسلوب الرواية طغى الراوي حاملاً أنفه إذ استطيع ان أوثق 14موقعاً لتسجيل روائح المدينة، الصحراء والريف للتعبير عن أرضية احتكم إليها الراوي في اسمها وفي جغرافيتها كفضاء:
1- وقد تضمخ شاربه الكثيف برائحة المايونيز/ ص21.
2- رائحة الطبيخ/ ص27، متكررة في: رائحة الشحم/ ص66، رائحة الشواء/ ص:
85.
3- رائحة روث المواشي على السطح/ ص30.
4- رائحة عطور بعضهن تدوخ رأسه/ ص50.
5- رائحة التراب الغريبة/ ص62.
6- رائحة الديرمان/ ص64.
7- رائحة نفاذة وقوية جداً إلى رأسي/ ص65، متكررة: رائحة قطنة/ ص66، رائحة المخدر/ ص85.
8- رائحة القافلة التي تتهادى من مسافة أميال عدة/ ص68.
9- رائحة الإبل والرجال/ ص68.
10-رائحة الأسماك/ ص76.
11- رائحة العرق والخوف/ ص86.
12- الرائحة الآدمية إلى كل جهات الصحراء الأربع/ ص88.
13- رائحة حيوان البر/ ص88.
14- رائحة الحدائق والزهور الصباحية/ ص100.
.. أترى كانت تلك السرديات المتعلقة بالرائحة وأخرى مذكورة بالأسماء مثلاً لا حصراً: “علمني كيف أعد قهوة بالقرنفل، وشاي النعناع والزنجبيل والقرفة../ ص 23″أو في مقطع آخر: “المصنوعات الجلدية والعقاقير المستوردة من كردفان، وبعضها بالبهارات وحطب الصندل الهندي../ ص60” محاولة لربط الزمن والجغرافيا، الذاكرة والنسيان لخيال الروائي..؟ أو هي ملاذ الذاكرة لتبعث الحياة في عالم الرواية (العيد، 1998)..؟
اللعب الأسلوبية:
– احتل نطاق نصوص الرواية كبنيات كتابية ضمير الغائب والمتكلم كما لو كان بأسلوب التجريد البلاغي بين طراد حين تذكُّره حياة الصحراء ومواقع تعلو فيها المناجاة كانفعال في حالة توفيق وفصوله أما ما يجعل الراوي بضمير الغائب الذي يستعيره طراد حين حديثه عن ناصر حيث تخيل قصة والديه: جسد ناضج كثمرة أو تأمله سيرة ناصر عبر صوره في فصل: طفولة مستباحة.
– الأزمنة المختلفة قد تسمح بسهولة مهاراتية للتنقل بينها إذا ما سيطر على جغرافيا الأبطال، لكن أن تذهب الأزمنة مختلفة والجغرافيات كذلك ما يسبب إرباكاً لأدوات الرواية في نسج جمالياتها ما تتحوَّل حالة النقل القسري بين الجغرافيا المختلفة والزمان المختلفة حالة كسر سلبية تربك القارئ وخيط تتبعه المتوتر حيث ما كسبه من التصاعد الميلودرامي فيها بين أن التنقل أخذ شكلين هنا ما يخف وطأة حيث استقلالية الفصل بزمانه وجغرافيته، وآخر صادم كما لو كان سوطاً على عرق متوتر:
1- في الحالة الأولى: قصة توفيق في ريفه أم هباب: رحلة العذاب الأبدي، رجولة مسلوبة، شهوة القمر، رحلة الأحلام الشائكة واكتفاء أو إلى صحراء طراد: عراك طويل، عراك مع الحرس، سجناء الرمل.
2- في الحالة الثانية: من تخيل حياة سائق التاكسي وصالحة والدا ناصر إلى طراد في صالة السفر متلصصاً على الملف الأخضر/ ص56، النقل المفاجئ بين طراد ونهار حين واجها أمير الجماعة المتوجهة للحج ثم يتنبه إلى طابور صالة السفر/ ص 70.النقل المفاجئ لحياة ناصر من الراوي بضمير الغائب كما في: طفولة مستباحة إلى ضمير المتكلم: الخطيئة والعقاب.
.. إن الانتقال المفاجئ ** إذا لم يحقق ببراعة يخلف المتعة الناقصة الممكن حدوثها إذ غلب الارتباك لا اليسر في الانتقال ما أخفى عامل الدهشة تماماً. ربما ذلك يعود لمشغلين في ذهن الكاتب ككتابة في جهة وأخرى مخيلة وذاكرة الراوي المتنافستين وحقوق مستوى الأبطال إذ أسجل التوتر والحرارة بمسحة أسطورية لدى المرويات المتعلقة بطراد بينما تنضح بالهدوء والسكينة مرويات توفيق في حين لا أرى سوى سيطرة تامة على مرويات ناصر التي نالها ما لطراد من ميزات، فلا عجب أن يلتقي الأبطال كلهم في قصر مضاوي الحارس أبولوزة – طراد، والسائق/ المزارع – توفيق، والصبي المتبنى – ناصر لكنهم كلهم تتابعوا في ترك فضاء القصر بين إذعان قسري للأول والثاني ورهن مستقبل الثالث لرواية أخرى!
– مسألة ربط المتشابهات عبر التداعي اتضحت في خطاب توفيق بارعة إذ لشخصيته المتزنة ما جعلها تستوفي شروطها البلاغية: “في المرة الأولى بعت إنسانيتي برائحة شحمة وصرت عبداً، وفي الثانية بعت رجولتي برائحة قطنة وصرت خصياً/ ص66″، كذلك في المقطع الرائع والمدين بالحجة الاستنتاجية: “هل نحن الكنز؟ الكنز الذي عثر عليه أبويحيى، الكنز الذي جعله يحرق عربة الحلوى، ودكانه وسط البلد، ويشتري بأثماننا أراضي وعقارات، وينشئ مخططات جديدة في البلد؟.. ص: 84” بينما اختل ذلك للشخصية المتوترة طراد في مقطع: “آخ يا توفيق، أنت غررت بك الرائحة../ص71.
– الحضور الثقافي بشكليه الموروث المحلي المختلف جغرافياً بين صحراء الجزيرة العربية بالنسبة لطراد: الذئاب، الحنشل والشلفح أو شرق القارة الافريقية السودان بالنسبة لتوفيق: الشهاب، القنيطة والجعليون.. أو بشكله العربي سيرة الرئيس جمال عبدالناصر والإسرائيلي موشى ديان في فصل: الخطيئة والعقاب. أو الأوروبي عبر الرسام الهولندي فان جوخ/ ص15، 118.أو الممثلة الراحلة: سعاد حسني: جسد ناضج كثمرة دون أن ننكر شخصيات مصرية جمالات موظفة دار الحضانة الاجتماعية، والخادمة الفلبينية لمباي إلى النادل البنغالي يعقوب حتى الاريتيري المغتصب توفيق في السفينة إلى غمر لفح توراتي مستعاد في العقلية السامية في علاقة الرجل بالمرأة المبدوءة بالإغواء منها لا إغرائه: “كما أسموها لم تغو أباك عبدالإله/ ص37”.
– الاعتناء باللهجة كشاهد إثبات في مناخها الحجازي في المدينة المنورة عند خيرية: “يا واد يا توفيق، تعال هنا!/ ص82: أو المناخ النجدي الحوار المتأزم نفسياً بين طراد ونهار: “وش الحيلة، وش الدبرة يا خوي/ ص 86على أن تجليها المهجَّن الذي يعطي وجهاً تكون خلال العقود الأخيرة لأغنية وليدة المثلث الجغرافي الهجين: الحجاز، نجد، جنوب الجزيرة الغربي ذي الصلات الحبشوية بأن منذ الاستشهاد بأغنية: “يا صاح أنا قلبي من الحب مجروح” لمحمد عبده/ ص53.
.. يمثل هذا الجنس بين أطراحه في أرجوحة جنس العنف عبر الاعتداء والاغتصاب، وجنس الرغبة عبر مواجهة أخلاقية المجتمع الهشة غير المتفق عليها في صالح فئات مجتمع القانون والمدنية لا العشائرية وذوي الشرهات الأخلاقية.
– استدراج الأسطورة لتمييع أو مواجهة الواقع المدين أو المدان:
1- أسطرة حكاية سيف وذباحة: بعد أن فقدنا أخي الأكبر سيف، الذي خطفته ذات ليلة جنية لها شعر طويل، ومدعوجة العينين، يقولون انه خرج ليقضي حاجته في الجوار، ثم عشقته الجنية وطارت به فوق جناحها، وهناك من قال إن أخي سيف صار من أهل الأرض، حتى إنهم أكدوا انه صار ملكاً عظيماً في احدى ممالك الجن.. ص42.
2- أسطرة حكاية خيرية والقمر: “لم تكن ابنة العطار جريئة ولا متهورة، لكنها لم تصغ للحوادث والعبر التي يرويها الكبار، لم تلتفت إلى الجنون الذي يمكن أن تجلبه إلى أهلها وبيتها إن هي غامرت في ليلة اكتمال القمر../ص80.
3- أسطرة حكاية الحلواني والكنز: “سألت العمة خيرية عن سر الكنز، فقالت: إنت عارف كان فيه ناس قبلنا، يعني كدا من قرون بعيدة، ناس أغنيا مرة، عندهم ذهب ومجوهرات كثيرة، لما خافوا عليها من الغزاة واللصوص اللي كانوا بيهددوا بلدهم، راحوا ودفنوا كنوزهم تحت الأرض.. بعض الناس – أهل البلد – لما حفروا الأرض ليبنوا منازلهم عثروا على كنوز، مثل أبويحيى الحلواني/ ص83.
.. ثمة موقعان يحيلان لأساطير وربما ذاكرة ثقافية متقادمة للعقل الحضاري السامي كما في حكاية عبدالإله وصالحة: ولم يصغ لانتفاض الصغير الذي علمه الحب، وأراه الحياة الجديدة./ ص 57ما يشار إليه من دور للمرأة في تحضر البشر – الذكر أي: ما حدث لأنكيدو وشمخة في الملحمة البابلية (ص 197الماجدي، 1998)، أو في حكاية عراك طراد ونهار: ساعات طويلة، وأصابهما الكلل، اكتشف كل منهما، انه يصارع فارساً صلداً، ومقاتلاً شجاعاً، وقررا أن يصبحا صديقين ص/ 87مثلما تذكر الملحمة البابلية عن لقاء جلجامش وأنكيدو: تصارعا وخارا خوار ثورين وحشيين، حطما عمود الباب وارتج الجدار، كلاهما بطل عظيم.. (ص: 204، الماجدي 1998) ولي الحذر في المقارنة بين القصتين لاختلاف الهدف على أن النهاية متشابهة لموت نهار بالميتة البشعة على يد الذئب/ ص 113المعادل له أنكيدو (ص: 228وما بعدها، الماجدي، 1998)، فإن هدف جلجامش البحث عن الخلود الأبدي بينما طراد عن مفاتيح المدينة التي دخلها: “دون ان يعرف أسرارها ومكائدها، دون أن يرى عدواً واضحاً ومحدداً كي ينازله منازلة الشجعان.. ص/117”.
– مزالق تحرير النص: المتضحة عبر طريقة تحرير الحوار الذي ينعطف بشكل واسع ومنفصل حين المناجاة أو القص مثلاً كلام توفيق/ ص26، أو صالحة/ ص: 52، 53، أو أن يذوب في ثنايا نصوص الفصول ربما هنا السبب الأرجحة بين الضمائر التي تروي بين صيغها المتكلم والغائب إلى أن نكتشف حواراً ليس له علاقة بشخصية صاحبه من ناحية صيغة الكلام ولهجته ما يبرر حضور هاجس الكاتب المعنى بقضية الفدى المعتلة حتى الآن فيما كان فان جوخ حقيقة أو حسب تحليلها قطع أذنه لداء في سمعه أم لإرضاء حبيبته/ ص: 118، الأمر الآخر هو طريقة استخدام علامتي التعجب والاستفهام بتثنيتهما في مقطع كأنما واحدة منهما بحسب الجملة المعنية بالتعجب والاستفهام لا يكتفي بها.
– السخرية التي اتخذت شكل الكوميديا السوداء أو الموقف المعتمد على البديهة في سرد توفيق لقصة خماسي أي: تشبير الصبي من أذنه حتى كعب رجله حينها: “تفقد طراد بشكل آلي أذنه اليسرى، فانتبه إليه العم توفيق وتابع: لو ما كان عنده أذن يقيسوه من الناحية الثانية وضحكا طويلاً/ ص 28″أو السخرية السوداء المعتمدة على التأمل ذي المرارة حين افترس الذئب نهار أمام طراد حيث أوثق رباطهما قافلة الحجيج ودفنوهما حتى رقبتيهما دون اعتبار لزعيق آلم أشجار العوشز وعلى تضرعات كائنات الصحراء من زواحف وطيور. .. إذن، تعطي المدينة نموذجها ناصر اللقيط المتصالح مع نفسه – ضمن ثقافة العيب، هذا اقتراح غير منجز – فهو المهدور الأصل والاعتراف لأصلين غير المجديين نفعاً في مدينة تورط فيها اثنان ليشهدا: طراد وتوفيق ثم ليتخذاه وجهة لهما لأجل الدخول في المدينة أي التحول من القبيلة إلى المواطنية في حالة طراد وكذلك من رق البيع والشراء إلى العتق في حالة توفيق (عبدالكريم، 1997) وعوالمها بعد فترة طويلة من مرارات التحوُّل من أطوار تسبق الدخول في المدينة لكن هل استحق كل ما عانياه في مدينة تحمل شقوقها المتوترة في تطور أفقي شكلاني وارتباك في تطور أخلاقها عامودياً مشدودة لما فقدت ومستوحشة لما ستنال..؟
.. هل نرى في ذلك فلسفة المدينة عبر الوصية التي تقول بأن: “لا نبعث بالروح، إن لم نعبر جحيم المدينة بالجسد؟” (الكوني، 2003).
.. كأن المسألة تحتم خسارة أو تضحية كما في حال الثلاثة كلهم: أذن طراد، خصي توفيق وفقء عين ناصر لأجل الولوج إلى المدنية بعد الانسلاخ من الحالة الأولى أو دفع ثمن فقدانها لكل منهما الصحراء – الفوضى لطراد، الريف – المجتمع الأمومي لتوفيق أو التحدي الأول لأخلاقية المجتمع المتحدر من مكونات عشائرية أو أقوام انتقالية لتنتج إنسان المدينة أو قربان الخطيئة الدائمة بين صيغة مرضي عليها أو تصادم حرامات الأخلاق المنتقلة أو قيد التحضر!
.. إن زمن السبعينات كانعطاف تاريخي مسح التاريخ العربي بكثير من محاولة استبقاء استراحات المحارب خاصة في اشكاليات الدول العربية نحو التنمية الاجتماعية والآمال الاقتصادية ما أعطى الأخلاق فسوحات نفس لم توشك أن تبلغ مداها إذ لم تكن تعرف أنها موعودة بتأزم فكري نتيجة انهيار أقنعة اختبأت وراءها سياسات النفس القصير أو اللاعقلانية (شرابي، 2000) والعجز تجاه العثرات طالت كل المجالات الحياتية والمصيرية أعتقد ان ناصر – البطل القادم لزمن قادم أتفاءل له بقدرما أتشاءم في خضم الآتي!
.. أريد أن أشكر يوسف الذي ردم هوة خطيرة في مسار روائي يكاد بنوعية – أشدِّد عليها – أن يتكون ويمد جسوره لأجل شفاه أخرى تروي وتكتب ليتكاملوا، وكي لا تكون يتيمة من يوسف المحيميد.
————-
* فخاخ الذاكرة/ رواية، يوسف المحيميد، شركة رياض الريس للكتب والنشر –
2003.- فن الرواية العربية: بين خصوصية الحكاية وتميز الخطاب، يمنى العيد، دار الآداب1998.
** يحدث هذا في التلحين عند مواهب كبيرة لكن تحمل تعليلها، مثلاً النقل المفاجئ من الجو الرومانسي المعتمد على مسافات نصفية نغمياً ثم فجأة تدلف بربع النقلة مبلبلة وتيرة الأولى: “على شان ما ليش غيرك” فيلم: نغم في حياتي – 1974، لفريد الأطرش ( 1915- 1974) كأنها مسألة هوية مرتبكة في اطارات مستعارة لا أصيلة، بينما تأخذ منحى التوظيف الاستدراجي عند محمد عبدالوهاب ( 1902- 1989) من جو تلحينه القصيدة السينمائية فيلم: دموع الحب – 1935، الراقصة الايقاع التانغو والنغم المرافق لها: “سهرت منه الليالي” ثم نقلة إلى مناخ الموال عبر مقامية شديدة الجذب: “أما رأيت حبيبي..؟”.
– إنجيل بابل، خزعل الماجدي، الأهلية – 1998.
– منازل الحقيقة، ابراهيم الكوني، دار الملتقى – 2003.- النظام الأبوي، هشام شرابي، دار نلسن – 2000، ط:4.
جريدة الرياض-العدد12897 في 16 أكتوبر2003م.
0 تعليق