د.عالي القرشي
تقتحم “فخاخ الرائحة” عالم شخصية طراد الذي يتكرر عليه النفي والإقصاء من فضاء الصحراء، إلى المدينة.. الى الضجر والقلق الى الهروب من هذه المدينة.. فتقحم القارئ في سردها الذي يتواثب بين حلقات الزمن طرداً وعكساً، ويتشاجر بإيراد الحكايات التي تتوالد من مواقف تتصاعد أحياناً، وتجبر على التصادف أحياناً أخر… لكن ذلك التواثب والالتواء يشكل بطلاً آخر آخر للسرد يتكون من هذا الحدث، وذاك،
ومن هذا الموقف، أو تلك المطاردة، لينجبس من علاقات عالم السرد، فيتراءى في ذلك الجسد الممزق، المعتدى عليه، الجالب للسخرية، المنفي بسببها، الذي يجعل الذات تنكفئ عليه، تسجنه، بل تلعنه وتسخط عليه، وما يصاقب ذلك من مواقف السلب، واغتيال الذات، واسترقاقها.. ويلحق بذلك اغتيال العلاقة بين الذكر والأنثى، فيخرج مابينها إلى النفي والضياع.. ذلك هو العالم الذي وضعتنا فيه رواية “فخاخ الرائحة”، ليوسف المحيميد، في مداراته.. يقيم تواشجاً وتواصلاً بين المنفيين.. وتسلطاً متتابعاً ومتآزراً من عالمهم الذي يغتالهم ليستعبدهم، وينفيهم ليبرأ من الالتصاق بنفيهم..
تبدأ الرواية بوضع الجسد الناقص، جسد طراد، أمام التعامل اليومي، كان يخفي نقص جسده، الذي كان يشي به ذله وانكساره مما جعله يتهيأ لأن يشكله موظفو الوزارة في هيئة مهرج يتسلون به في لحظات سأمهم وضجرهم.. إلى ان تأتي لحظة يسقط فيها أرضاً، فيلذ فيها لأولئك أن يكشفوا سر الشماغ الملفوف بإحكام على أذنيه، فيتمكنوا من ذلك بعد أن حاول أن يضم يديه على أذنيه دون جدوى، فيهتك السر المفضوح، ويظهر الجسد الناقص ليدخل عالم النفي والإقصاء والسخرية المرة فيؤول من كيان حي إلى تندر ساخر مقروناً بلوحة فان جوخ.. ومن تجارب النفي والإقصاء لطراد، ومحاولة مغالبتها، يفرح بأن ينال اهتمام امرأة، فيقع في حبائل الحب، ويظن أنه صاحب قرار وإرادة، فيمضي مع نداء جسده وجسدها، فيعتدي أخوه على الثمرة، وينزعه من هذه العلاقة، بدعوى عدم أصالة المرأة، فيرضخ لتهديده، فيقصي عن ثمرة جسده، فلا يلقاه إلا مصادفة وهو لا يعرفه، ولا يلقاه إلا أوراقاً في ملف ضائع..
أذن قُطعت، وعلاقة وئدت، وجسدان منفيان عن بعضهما، وجوس في الذاكرة، وتقليب في ملف ضائع، وحوار وتجاوب ومصادقة مع خصي، ذلك ما تبقى لطراد في رحلة الشقاء الجسدي والعذاب الروحي، ليحكي المحيميد من خلال ذلك اغتيال إنسانية الإنسان في تشكيلات متصاقبة.
• جسد يغتال بفعل الجوع، والحاجة إلى الزاد، والقيام بمغامرة السطو على القافلة.
• جسد يغتال بفعل طمع الطامعين في بيعه وتقديمه للأثرياء ليسخروه لخدمة بيوتهم، آمنين على نسائهم.. ضامنين وداعته.. ويكون الجوع هو الذي رماه، ورفاقه في كمين المغتالين..
• علاقة حب تغتال، وتقطع قسراً عن ثمرتها بفعل الحرص على النقاء وسلامة الأصل.. ثم ينشأ عن ذلك:
• تهكم، سخرية مرّة، مصادقة للرصيف، طلب الخروج إلى الجحيم..
• استعباد واسترقاق، حتى إذا جاءت الحرية لم يجد عملاً، فيتشبث بعمل الشاي والقهوة استبقاءً للحياة.
• ولادة مقصيّة، تشوه في الجسد، طفولة في ملجأ، اعتداء على هذه الطفولة، وقبلها خلعت عينه فور إلقائه أمام المسجد.
في هذه العلاقات التي تتكون في فضاء الضياع واستدعاء الذاكرة، يأتي سياق هذه الأحداث متماهياً مع حالة التشرذم والتمزق العاطفي، والتأزم النفسي التي يعايشها شخوص هذا السرد، يجمعهم نسب الحكي والذكرى، ويؤالف بينهم حنين التشرد، وشكوى الحال.. وكدت أن أؤاخذ هذا العمل بالجنوح إلى المصادفات، لكنني حين أمعنت في حالة الضياع التي سببها انتهاك الجسد، وجدت أن المصادفة أمر له وظيفته البنائية في النص، إذ اقتلع هؤلاء حين انهكت أجسادهم، وضاق تعريفهم، وكانت فضاءاتهم هي فضاءات الضياع، يلتقي توفيق طراد، ثم يعرف بعد ذلك أنه أبولوزة… يلقى طراد ملف اللقيط، وما به من معلومات عن مكان الالتقاط، والحال التي وجد عليها وهو مخلوع العين، فيمضي في التخيل لو كان طراد عبدالإله، ولو كانت صالحة هي صاحبته.. فيتماهى القارئ في قراءة هذا التخيل الذي أوحى الكاتب لنا بأن ما كان يتخيله طراد هو الأمر ذاته..
يتذكر طراد حكاية توفيق عن البستاني الذي يذكره طراد حين كان حارساً لبوابة القصر، وما كان يحكيه عن الطفل الذي جيء به من الملجأ ليتربى في القصر، ولكن النحس حال دون أن ينال ذلك النعيم، فعاد إلى جحيم الملجأ. ولكنه لا يتذكر ذلك.. ويصل الكاتب ذلك بغموض المدينة وغموض أعدائها.. (ص111) ومن الفضاءات التي يكوِّنها النص فضاء التباين بين: البادية والمدينة: فضاء الصحراء على اتساعه وغموضه يتجلى في النص معروفاً لطراد: “كنا أنا ونهار مثل سباع البر، نشم الطرائد عن بعد، وننقض عليها ببراعة. كنا نعرف الصحراء مثلما يعرف الواحد منا كفّه”ص 67″لكن لعنة المدينة التي لا تختلف عن الجحيم، انك تكافح ضد أعداء لا مرئيين، أعداء، لا يمكن أن نراهم بالعين المجردة، فهل يمكن أن نكافح ضد حطب جهنم التي تأكل أخضرنا ويابسنا؟؟”ص 112،111 وكان هذا يتسق مع التكوين النصي لشخصية نهار، إذ كان في البادية، فارساً، مقداماً بينما جاء إلى المدينة مختبئاً في عمامته التي تلف جسده الناقص.
• علاقة طراد وصاحبته وعلاقة بنت العطار: بنت العطار تختلق لها الأسطورة لتحميها من الألسنة، وتخرسها، فتحضنها شهوة القمر عن الشاب الذي كانت تخفي صورته لديها.. بينما يقصى طراد بسبب سطوة القبيلة عن حبه الذي ضاع..
• فضاء الهدف المعلن والفعل الخبئ: وهذا يتجلى على أنحاء منها:
ـ فعل الحج الذي تناقضه أفعال التسلط، والجشع.. فالمجلوبون يلبسونهم ثياب الإحرام.. حتى إذا نزلوا جدة كان بيعهم.. ورجال القافلة وآمرهم يترفعون عن تلويث أيديهم وهم حاجون بقتل نهار وطراد، ويستبيحون لأنفسهم تركهم مدفونين مقيدين في الرمال للسباع..
ـ كنز الحلواني، الذي برر به غناه الفاحش، حيث أشيعت حكاية عثوره على كنز، وقام بعرض تمثيلي لذلك.. بينما كان ثراؤه مما يقبضه من ثمن الرؤوس البشرية..
ـ تماهي ما سبق مع أفعال الخديعة: وذلك في خديعة توفيق بالشعراء، ليكون في قبضة الجلابة، ثم خديعته بالمخدر لتغتال رجولته.. وإزاء فضاء التباين هذا، كان هناك فضاء التوافق الذي أشرنا إليه سابقاً، في فضاء اغتيال الجسد، وفضاء الضياع، والموافقة بين تسلط الذئب والقط على الأذن والعين، وتسلط الإنسان على حرية الإنسان، ورجولة توفيق، وتسلط فكرة القبيلة على الحيلولة بين طراد وعشقه..
ويؤخذ على السارد تدخله أحياناً لكشف مثل هذه العلاقات، وذلك في مثل الجمع بين فخاخ الرائحة والتسلط على أعضاء الجسد، ومسألة الحج.. وغيرها..
إذ ان ترك ذلك للقارئ يحفزه على إعادة صياغة ذلك التلاقي، وعقد لقاء بين فضاءات أخرى لا يحددها السارد.
جريدة الرياض- الخميس- 2/10/2003م.
0 تعليق