رواية الحواس: دلالة العنوان ومحافل التخييل في “فخاخ الرائحة”

مايو 28, 2012 | فخاخ الرائحة | 0 تعليقات

خالد الدهبية
سأحاول أن أتوقف في هذه الدراسة عند مستوى من مناص “(Paratexte) رواية يوسف المحيميد “فخاخ الرائحة”(*) في مسعى لاستثمار ما يمتلكه من معطيات على مستوى القوة الدلالية والتداولية للنص. وسأهتم اساسا بعتبة العنوان الى جانب تناول بعض عناصر المحفل التخييلي (المسرود، السارد، الشخصيات)، الا ان ما أبغي لفت النظر بدءا إليه يتلخص في التركيز على دراسة نص الرواية،

وتجنب اسقاط المفاهيم والغرق المجاني في لج النظريات. واعطاء الأولوية للتحليل النصي يعني بالنتيجة امكانية استثمار أي مفهوم مهما كانت مرجعيته المنهجية والنظرية.
1 – العلبة السوداء للفخاخ والروائح:
يتشكل عنوان الرواية من مركب اضافي يجمع بين اسمين أولهما جمع نكرة وثانيهما مفرد معرف. وكان لهذا المركب بحكم علاقة الاضافة التي تجمع بين طرفيه وتحوله من ثم الى معرفة ان يحيل على شيء معلوم الدلالة بشكل محدد لولا فجوة التركيب البلاغي التي ولدها الانزياح اللغوي الناتج عن الجمع بين شيئين مختلفي الطبيعة (فخاخ+ الرائحة)، مما سيغلف العنوان بغموض دلالي يجعله منفتحا على تأويلات متعددة، مع ارتهان صوابية كل تأويل بقدرته على ردم هذه الفجوة وازاحة التوتر الدلالي، وملاءمته لأن يكون مفتاحا لفهم الرواية.
ان الصياغة الشعرية للعنوان، وهي تعبر عن انتقال المؤلف الواقعي الى وضعية القارئ الاول لنصه، ربما تعكس رغبته في تجنب التدخل المباشر (السافر) في الجهد التأويلي للقارئ- مهما كان نوعه- بعدم اختيار الاسلوب التقريري في العنونة. الا انها تظل معطى من معطيات التأويل المحلي يؤشر على أشياء شتى منها التأكيد من الناحية النوعية على أدبية النص الذي يتهيأ القارئ لمواجهته، ومن ثم انفتاحه على مستويات متعددة من الفهم، وربما الايحاء بصلة ما ممكنة بينه وبين مرجعه، فقد نفترض انطلاقا من اعتبار العنوان نواة للنص ان خصيصته المجازية تنسحب على الرواية ككل، فيكون المحفل التخييلي فيها مجازا يكني عن واقع موضوعي، وبالتالي يقوم الميثاق الروائي (le) Pacte Romanesque بإضفاء التخييل على حقائق معيشة، وعلى مرجع حقيقي يحيل على مجتمع وفترة تاريخية معينين.
ان تركيب العنوان – مضاف الى عنصري: العربية المتداولة ، وعلاقة التضمن المتبادل ما بين العنوان ونص الرواية- يهيئ لنا أفقا لفهم مفردتي: “فخ” و”رائحة”، فنحصر معنى الاول في الشرك والمصيدة والأحبولة، مقصين بذلك معاني معجمية أخرى، فالفخ في النوم دون الغطيط، وهو ايضا ان ينام الرجل وينفخ في نومه، مثلما يدل على وصف بالقدار حين نقول امرأة فخ وفخة. كما نحصر معنى الرائحة في النسيم طيبا كان أم نتنا، متجاوزين معنييها المحتملين: مطر العشي، ومؤنث الرائح أي الذاهب في الرواح (وقت العشي).
ولا تنجلي دلالة العنوان بوضوح اكبر إلا بالوقوف عند صلة التناقص (Textualite) ما بينه وبين الرواية، يتتبع مواقع توظيف مفردتي مركبه في نسيجها، وهو ما يسمح لنا بكشف طبيعة العلاقة الانسانية ما بينهما، ومعرفة من منهما الرحم ومن المولود.
فاستخدام مفردتي مركب العنوان في طيات الرواية مؤشر على كونه جاء لاحقا لكتابتها، مما يجعله يلعب دور الايحاء والاغراء لدفع المتلقي الى قراءة النص بحثا فيه عن تفسير له، ينبني كل من الفخ والرائحة على فعل تواصلي تربط شبكته بين عناصر ثلاثة، هي:
– المرسل: ناصب الفخ/ واضع الرائحة.
– المرسل اليه: الواقع في الفخ/ متنسم الرائحة.
– الرسالة: الفخ/ الرائحة.
وهذا يدفع بنا الى طرح اسئلة تخص هوية المرسلين والمرسل اليهم وطبيعة الرسالة. وإذا كان الفخ ليس واحدا، فان جرد مواطن استعمال اللفظين يصل بنا الى ان الرائحة كذلك هي جمع بصيغة مفرد; فليس هناك رائحة، بل روائح يجمع بينها في الغالب الخدع فلا تكون الرائحة بالنتيجة هي النسيم الطيب، بل أداة للاصطياد والايقاع بالآخر.
2 – روائح سيرة العبودية:
1 – 2: رائحة الطعام – خطة الاسر:
يحكي العم توفيق لطراد قصة عبوديته، بدءا من هروبه وهو طفل في الثامنة من قريته ام هباب خوفا من الجلابة الذين كانوا يخطفون الناس لبيعهم عبيدا، ليعيش مع آخرين في منطقة الحصاحيصا عيشة البؤس، قائلا: “كنا مثل البهايم نعيش على عشب الأرض(…) الى ان وقعنا في الفغ” (ص26). ولأن تعبير الفغ ملغز، فان السؤال لابد ان يقع حول معناه، كما يستدل من قول توفيق: “تسأل من الفخ ، اسمع ياسيدي” (ص27)، فيأتي الجواب هكذا: “كنا مجموعة لا نجد شيئا نأكل، فجأة نقل لنا الهواء رائحة طيبة، رائحة حلوة، رائحة طبيخ لذيذ، قمنا ومشينا في صف متتابع باتجاه الرائحة، وكلما نمشي زيادة تكون رائحة الطبيخ قوية(…) اذا ما اعترض طريقنا دغل أو جذوع وشجر، لا نستدير حوله حتى لا نضل عن الرائحة (…) هذا الدخان العظيم يدفعه الهواء نحونا فتطير رائحته رؤوسنا” (ص27). ورغم استشعار أفراد المجموعة للخطر، وتقريرهم الهجوم جماعة، فانه سيقع اصطيادهم، والذي سيحز في نفس توفيق اكثر هو ان الطعام نفسه كان مزيفا; اذ تم خدعهم بشحمة تشويها النار بدل ان يكون لحما(ص28).
2 – 2: رائحة الاغنام- وسائل الإخفاء:
يوضح توفيق الاساليب التي كان الجلابة يستعملونها لتجنب كشف أمرهم من قبل الدوريات الأجنبية التي تراقب السفن في البحر الأحمر. فمثلما كانوا يضعون علما اصفر للايهام بأن سفينتهم مصابة بالوباء، أو يوزعون ملابس الاحرام على من سيعرضونهم للبيع عبيد- مستكثرين ان تكون احرامات جديدة او حتى نظيفة، اذ هي مستعملة ومتسخة (ص30)، وصورة أخرى للشحم المشوي – ايهاما بأنهم مجرد حجاج، إذ كان وقت الرحلة موسم حج، فانهم كانوا يحملون معهم اغناما للتضليل، بحيث اذا اقترب “الخواجة بكشافه المشغل، كي يتفحص حمولة وبضائع السفينة، تصدمه رائحة روث المواشي على السطح، فيتراجع(…) مؤكدا ان كل شيء تمام”.(ص30)
2 – 3: رائحة البنج- طقوس الإخصاء:
يشرح توفيق كيف سيتم اخصاؤه بعد بيعه، فيقول عن تبنيجه: “تسللت رائحة نفاذة وقوية جدا الى رأسي مباشرة حتى رأيت الجدار يهتز” (ص56)، لينتهي به الامر الى كره كل الروائح، فيقول: “في المرة الاولى بعت انسانيتي برائحة شحمة وصرت عبدا، وفي الثانية بعت رجولتي برائحة قطنة وصرت خصيا! قاتل الله الرائحة كلها”.(ص66)
4 – 2: رائحة البراز- بلاغة الألم:
يتذكر توفيق اليوم الاول من عبوديته، بعد ان اشتراه النخاس ابو يحيى، اذ لم يستطع ان يجد الراحة لانه كان جائعا، ونام عند الفجر واقفا لضيق الغرفة، ليصحو على “رائحة براز عنبر، بعد ان عالجه البطن، وهو يقعي بين كيسين باعد ما بينهما، وفعلها مثل كلب ضال” (ص64)، التغوط بهذه الصورة ليس إلا الصيغة الأشد اختصارا للتعبير عن معاناة العبيد، ولقول ما قد تعجز عن توصيله بلاغة أخرى.
3 – روائح نسائية:
3 – 1: عطر الانثى – سلطة الترويض:
رائحة العطر النسائي قوة قد يقاوم الرجل سحرها، فيستطيع ان يصمد أمامها ولو الى حين، كما هو حال سائق التاكسي- الأب المفترض لناصر- فقد “ركبت معه نساء كثيرات(…) ولم يفكر فيهن، رغم ان رائحة بعضهن تدوخ رأسه، ورغم ان بعضهن يتكلمن بغنج ويقمن بحركات موحية ولافتة، لكنه حسم الامر بانه يبحث عن المال لا عن إهداره” (ص50) فالرائحة هنا تقع في السياق الاستبدالي (Paradigme) نفسه لكلام وافعال الاغراء الجنسي الذي يضعف أمامه اغراء المال، حيث سيروض السائق فيعشق احدى زبوناته، وتنتصر “تلك الرائحة الزكية، رائحة العطر النسائي الحادة التي أدارت رأس أبيك يا ناصر اللقيط” (ص85)، كما قال طراد، وليسقط هذا الحب بعد ذلك تحت ضغط قيم مجتمع تقليدي.
3 – 2: العطر علامة طبقية
3 – 2- 1 : عطر الانتماء الزائف:
في رحلة انتقال الطفل ناصر من دار الايتام الى قصر العمة مضاوي، وبالنتيجة من عالم الحرمان الى عالم الغنى، سيلاحظ اشياء هي علامة دالة على احساسه بالفارق الاجتماعي ما بين هذين العالمين; مثل ممسك باب السيارة الداخلي المذهب، ورائحة احدى وصيفات صاحبة القصر فقد كانت “لها رائحة جميلة (…) رائحة تشبه الحدائق والزهور الصباحية” (ص100) الرائحة في هذه الحالة متشيئة; لا تعدو أن تكون مؤشرا اجتماعيا، يفتقد أي مدلول جنسي; فمتنسمها مجرد طفل، وما يشمه هو جزء من العالم الذي يحلم به، ومن تحملها هي جزء من الديكور الطبقي لصاحبة القصر، فرائحتها ليست دليل انتمائها الطبقي الفعلي، انها رائحة بدون أنياب.
3 – 2 – 2: عطر الاستجابة الشرطية
يشير هذا النوع الثاني من الروائح الطبقية الى عطر مائز. فالسائق أنور ينتظر سيدته واقفا عند باب السيارة وقتا قد يطول، “وما أن، يشم شذى عطر نسائي نفاذ وفاتن حتى يسارع الى فتح الباب الخلفي دون ان يلتفت ناحيتها” (ص94)، فهو لا يحتاج لرؤيتها، وانما يكفيه ان يشم رائحة عطرها ليتعرف شرطيا عليها. فهذه الرائحة كسابقتها مؤشر اجتماعي بدون معنى جنسي، فالسائق كلب مروض على الانتظار، وفتح الباب للسيدة، لا يعني له اغراء الرائحة النسائي أي شيء، لأنه غير موجه له الا في حدود دلالته الاجتماعية، وما عليه الا ان يقوم بدوره، بإذعان المقهور، وإلا يطرد.
3 – 2 – 3: الديرمان – رائحة “في درجة” الصفر:
لا يملك توفيق هو يتذكر هذه الرائحة ان يكره صاحبتها، كما لن يحب هذه الرائحة، بما انها جزء من مسار استعباده، فهو يستحضرها حينما يصف أم الخير مديرة منزل نخاسه، قائلا بانه كان “في فمها زمام ذهبي، ومن فمها الواسع ذي الاسنان الذهبية تفوح رائحة غريبة، عرفت فيما بعد انها كانت رائحة الديرمان” (س64) . هكذا تظل أم الخير رغم علامات اختلافها وغرابتها مملوكة لا يشعر ازاءها توفيق بأي احساس عدائي، وهي التي اعتنت به مثل أمه (ص64)، وخففت عنه حتى لا يخاف من الحجام الذي سيقوم بإخصائه لا تملك رائحتها اغراء او سلطة، ولا تولد مشاعر كراهية، ولكنها تذكر بلحظة فارقة في تاريخ توفيق سيتحول فيها من سيد الى عبد، ومن رجل كامل الرجولة الى خصي: لا هو ذكر، ولا أنثى، كائن تحت الدرجة صفر.
4 – روائح مركب النقص:
4 – 1: رائحة القوافل- سيرورة العقاب الأول:
يبين طراد كيف كان وصديقه نهار يسرقان القوافل، ف-“يكمنان في ظلام الصحراء خلف تلة أو صخرة(…) حتى يشم طراد رائحة القافلة(…) يقول لصاحبه انه يشم رائحة الابل والرجال”(ص68)، فيلبدا قبل ان يهجما. فطراد اللص يعتمد بالدرجة الاولى، وهو في لحظة الكمون على قوة شمه والتقاطه للرائحة، ليعول في وقت التنفيذ على قوة التسلل والتستر ومهارات أخرى، وان أخفق فيها حلت به المصيبة، وجاء أوان الجزاء، مثلما حصل ذات ليلة حين “تهادت رائحة الابل(…) حتى شارفت الرائحة الصخرة، وغزت أنف طراد” (ص68). ولكن قوة الشم صاحبها- هذه المرة- ضعف السمع عندهما؛ فـ”لم يتناه الى مسمعيهما صوت غناء حرس القافلة” (ص68)، فتمكن احدهم من الانتباه الى أمرهما، بعد أن خذلت نهارا حذاقته في السرقة، فقبض عليهما، وكان حكم أمير قافلة الحجاج أن يدفنا حتى الرقاب أحياء، ويتركا في عراء الصحراء، وسيكون طراد مع لحظة أولى في مسار شعوره بمركب النقص، فقد معها سطوته بعد إهانات كللت بالتبول على وجهه، البول تلك الرائحة الاخرى غير المعلنة.
4 – 2: رائحة العرق- سيرورة العقاب الثاني:
سيلتحق طراد بعد القاء القبض عليه برائحة من خدعتهم الروائح، فيقول عن نفسه- بعد ان عددهم- “أنا (…) رائحة الابل غررت بي” (ص71)، ويسترجع هذا الحدث لأنه كان وراء الفاجعة الكبرى في حياته; حينما قطع الذئب أذنه اليسرى، متسائلا بعد سرده بنفس تركيبي اسماء الضحايا والروائح التي أضلتهم: “هل الرائحة ذاتها التي تشبه طفلا يقود هؤلاء العميان في ظلام الدروب، هي التي قادت الذئاب العمياء في صمت الصحراء، وهي تقطع درب الشفح تهرول صوب رائحة العرق والخوف؟ (…) عرق يكشف الرائحة الآدمية، عرق يفضح الفرائس لدى الحيوانات الجائعة الضالة” (ص86).
رائحة العرق كانت ما أدل ذئبا عليهما. جاء لكي يشبع جوعه بأكل نهار ثم ينام عند رأس طراد قبل ان يستيقظ مذعورا ويقضم أذنه اليسرى، بعد ان سقطت عليه دمعة حزن ورثاء من عينيه. هكذا سيتولد لدى طراد مركب نقص سيصاحبه بقية عمره. حاول اخفاء سره، وتحمل اهانات الآخرين له بسببه، دون ان يحمل نفسه مسؤولية، ولو جزئية، لما وقع له، فالرياح هي التي كانت “تدفع الرائحة الآدمية الى كل جهات الصحراء” وتجعل “الرائحة تزحف كأفعى فوق الرمال”.(ص88)
5 – روائح آخر سلم الترتيب:
5 – 1: رائحة السمك- سرقات بدون عقاب:
كانت المربية المصرية جمالات في دار الايتام تستولي على وجبة السمك- لحبها له- وتحرم الاطفال منها، مبررة ذلك للاخصائية الاجتماعية بكونهم لا يطيقون “رائحة الاسماك” (ص76)، لتبقى الرائحة تعبيرا عن شيء غائب، وطعام لا يصل الى الفم سواء أكان شحما ام سمكا، بل يتغذى بكذبة تتستر عن سرقة تظل بدون عقاب.
5 – 2: رائحة العوادم – هلوسات الحنين:
حينما صدر القرار الملكي بعتق العبيد، تم تمتيع توفيق بالحرية- الحرية التي لا يستطيع الطائر بعدها ان يطير، بعد ان جاءته في آخر العمر- فخرج الى الشارع ضائعا يمطره الحنين الى بلدته وطفولته المسروقتين، فيهجم عليه الماضي ليغيب الحاضر، وتحل صور الأول محل أشياء الثاني في هلوسات حنين الشيخ الذي لم يكن يرى “في الشوارع غير ضفاف نهر النيل، ولم تكن رائحة عوادم السيارات غير رائحة طيور النهر”.(ص107)
6 – تركيب سريع:
لنا أن نستخلص كيف أن عالم الرائحة في الرواية مشدود الى الخديعة، والسرقة، والاغراء، فهي قوة سلب تجذب الشخصيات نحو مسار تراجيدي تعبره، فتفقد حذرها الأخلاقي، أو قوتها، أو حقا من حقوقها.
7 – التناظر السردي وبنية الواحد المتعدد:
تقوم بنية السرد في “فخاخ الرائحة” على التنضيد (Enfilage) ; اذ تم الربط بين محكيات مستقلة عن بعضها البعض، اختار السارد عرضها بأسلوب التناوب (Alternace) بحيث يقدم جزءا من المحكي، ثم يوقفه لعرض جزء آخر. وهذا ما يطلق عليه تودروف بالتفتيت (Deformation) المؤقت للاحداث الذي يتم به زخرفة نظامها التتابعي.
ويجمع المتن الحكائي بين ثلاثة خيوط سردية. يمثل كل واحد منها مسار شخصية من شخصياتها الرئيسية:
* الخيط الاول: يخص شخصية طراد التي ينقسم مسار حياتها الى قسمين، كان طراد في أولهما يترصد القوافل في الصحراء الى ان قبض عليه يوما من طرف قافلة حجاج عاقبه أميرها بدفنه وصديقه نهارا حيين، فتركا فريسة للخوف والجوع والموت البطيء، قبل ان يأتي الذئب ليفترس نهارا ويقضم اذن طراد، فيبدأ قسم ثان من حياة هذا الأخير سيعاني فيه عقدة أذنه المقطوعة، محاولا اخفاء سرها على الناس متحملا نظراتهم التهكمية، وهو يتقلب بين عدة مهن (حارس عمارة، معد قهوة ثم مراسل في احدى الوزارات). وستدفعه شماتة الآخرين به الى التفكير في الهرب بترك الرياض الى عرعر، حتى لو كانت في نظره لا تختلف كثيرا عن الجحيم، ليظل طيلة الرواية في محطة السفر منتظرا، قبل ان يعدل في النهاية عن الرحيل، ويتوجه الى بيت صديقه توفيق.
* الخيط الثاني: وهو محكي توفيق الي يبدأ من لحظة فراره من قريته أم هباب بالسودان خوفا من الجلابة، الى أن يقع في أسرهم ويرحل الى الضفة الاخرى من البحر الأحمر، حيث سيباع عبدا، يتم اخصاؤه قبل ان ينتقل للعمل في قصر العمة مضاوي، ويجد نفسه- وهو شيخ- بعد صدور القرار الملكي في المملكة العربية السعودية بتحرير العبيد، ضائعا في الشارع، ممتهنا مهنا عديدة منها مراسل وعامل قهوة حيث يعمل طراد.
* الخيط الثالث: ويتعلق بمحكي ناصر الذي ينقسم الى مادتين، معطيات اولاهما ثابتة في وثائق رسمية يضمها ملف اخضر عثر عليه طراد في محطة السفر، فدفعه ضياعه وفراغ لحظة الانتظار الى الاطلاع على محتوياته، التي تظهر ان ناصرا طفل لقيط وجد متروكا في صندوق وقد اقتلعت عينه، فكبر في دار حضانة ستأخذه منها السيدة مضاوي بنية تبنيه قبل ان تعيده اليها بعد ان ظهرت عليها بوادر الحمل.
اما ثانيتهما فهي محك افتراضي تخيل فيه طراد كيف بدأت قصة ام ناصر مع ابيه سائق سيارة الاجرة الذي سترفض أسرته أمر زواجه من امرأة ليست من مركزه الاجتماعي القبلي; مما سيدفع بالأم الى التخلص من الطفل بعد حملها.
وهذه المحكيات الرئيسة قائمة على الاسترجاع، فطراد يستحضر، وهو في المحطة، ماضيه انطلاقا من تجربة حاضره الذليل التي دفعته الى التفكير بالابتعاد عن عالم الناس والذهاب الى أي مكان حتى لو كان جهنم، فقد يكون الجحيم أرحم.؟ وفي لحظة من استرجاعه لهذا الماضي ستظهر صورة توفيق، ليتناوبا على سرد ماضي عبوديته. اما محكي ناصر فيقع من خلال السرد الخالص ووثائق الملف الاخضر (محضر العثور، التقرير الطبي، محضر التسمية والتبليغ عن الولادة).
وتتعدد الاصوات السردية; بحيث يتبادل أكثر من سارد الحكي، ليقدموا جميعا حكايات تقوم في بنيتها العميقة على برنامج سردي متشابه مبني على الاقتلاع: فطراد وتوفيق كلاهما مقتلع من مكانه الاصلي (البادية- الصحراء) وضائع في المكان الجديد (المدينة)، فيتعزز بذلك نسق التحفيز (Motivation) القائم على التناظر بين الشخصيات وتجربتها المريرة التي يجليها الاثر الجسدي العنيف: قطع أذن طراد، واقتلاع عين ناصر، واخصاء توفيق، إلا أن الذي يستحق الوقوف عنده من بين هذه الشخصيات الثلاث في المنظور السردي، هو طراد; فهو الصوت المركزي الذي يمارس وظيفة الفعل من حيث هو شخصية من شخصيات الرواية، كما يضطلع بوظيفة التصوير، باعتباره ساردا، سواء لما يتصل بمحكيه الذي عمل فيه على تأجيل لحظة سرد الحدث المؤثر في مساره ككل، نعني لحظة قطع أذنه اليسرى، أو ما يتصل بمحكي غيره، فيتحول- مثلا- فيما يرجع لمحكي ناصر الى وظيفة المتحري الذي يملأ فراغات القضية المطروحة أمامه بافتراضات يسعى بها الى بناء الحقيقة، اذ حاول ان يطابق بين ما يوجد بين يديه من معطيات تضمها وثائق الملف الاخضر، وما بامكانه ان يضيفه (أحداث العلاقة ما بين الوالدين المفترضين لناصر) انطلاقا من تجربته الخاصة.
كما يصبح طراد المسرود له (Narrataire) الذي يتلقى محكي توفيق مباشرة ويدفعه باسئلته التي يطرحها الى سرد ماضيه.(8) ويتحول الى وضعية اخرى يتلقى فيها محكي ناصر، تجعله في موقع القارئ الفعلي (Lecteur Concret) حين سينكب، وهو في المحطة، على قراءة أوراق الملف الأخضر المتضمنة لجزء هام من وقائع حياة ناصر.
ومثلما تعددت صيغ التمثيل والاصوات السردية في الرواية، تنوعت أنماط السرد، فاذا كان السرد الواقعي هو المهيمن على جل المحكيات، فقد تم توظيف السرد العجائبي عند تفسير غياب سيف أخ طراد عن طريق الاغراب (Singularisation)، وذلك عبر وجهة نظر مغربة تعبر عن تفكير الطفل طراد الذي كان يعتقد بصحة ما يقوله الناس ان سيفا اختفى بسبب اختطافه من قبل جنية لها شعر طويل، وانه صار ملكا عظيما في احدى ممالك الجن(ص42)، وحين سيكبر سيعرف ان اخاه “اختطفته” امرأة جميلة يسمونها “ذباحة” لسلبها العقول.
ومن وجهة النظر المغربة ذاتها يقتنع توفيق- وكان وقتها صغيرا في أول ايام عبوديته- بما سيفسر به حمل خيرية بنت العطار بجعل القمر هو المسؤول عن هذا الحمل، لأنها “غامرت في ليل اكتمال القمر، ونشرت ملابسها الداخلية فوق حبل الغسيل” (ص80)، ولن يعرف الحقيقة إلا بعد أن انتقل بطلب من سيده يحيى الذي اشتراه أول الأمر الى بيت العطار لتقديم المساعدة له، حيث رأى مع خيرية صورة الرجل (ص84).
إذا كان الوعي الذي تعبر عنه وجهات النظر المغربة طفوليا، فان اللاواقعية ليست بالضرورة صفة طفولية، فطراد سيظل- حتى في كبره- يفهم العالم بشكل غير موضوعي يتمركز فيه حول ذاته، وكأنه طفل كبير.
8 – الشخصيات: ذاكرة الاعضاء وعنف التسمية:
تمثل شخصيات هذه الرواية حالات قابلة للتحليل النفسي بامتياز، ويبدو طراد شخصية يوافقها النموذج النظري عند الفرد ادلر (ت1973) الذي يرجع علة الامراض النفسية والعصبية الى مركب الدونية، بخلاف تركيز فرويد (ت1939) على الجنس. وهكذا فهو يؤول كل المواقف الفردية بوصفها ردود فعل تعويضية (Reaction de compensation) على مشاعر بالدونية ناتج عن نقص عضوي فعلي; هو بالنسبة لطراد اذنه اليسرى، فبعد قطعها شعر انه فقد كرامته، وبانه لم تعد له قيمة فحتى حين خاطبه موظف التذاكر بـ”ياعم” رأى بانه لو كان عرف أمر أذنه اليسرى التي يخفيها بطرف شماغه لكان شتمه امام الناس جميعا(ص10). ومن الطبيعي ان تتولد عنده حساسية خاصة تجاه المتسبب في توليد هذا النقص، وهم الذئاب في عالم الحيوان، والحجاج في عالم البشر، فلم يعد يتحمل رؤية الذئاب حتى وان كانت مرسومة; فلما رأى صورتها في لوحة معلقة في صالة المحطة، أغمض عينيه، وهو يلعن من رسمها(ص22)، بعد ان كان في صغره يتماهى مع الذئاب، فان اصطاد ارنبا أو كسب بهيمة يوزع اعضاءها كما تفعل الذئاب (ص42). وكان يصادقها فيتركها تأكل من طعامه او ما تبقى منه بعد أن يخلفه ويمضي، وترعاه هي في البعد. بل انه يشعر انه حين كان في الصحراء، كانت الكائنات تصادق (الرمل والدحول والوديان والشجر وحتى الذئاب.ص86).
ولن يتغير موقفه من كل هذه الكائنات إلا بعد أن صادق نهارا (ص87)، وبعد أن فعل الذئب به وصاحبه ما فعل، فأصبح يكره الذئاب، ويماهي بينها وبين أصناف البشر الذين لا يستحقون منه سوى الشتم كالشرطة؛ لأنهم “مجانين” لا ينتظر منهم إلا أفعالا كقطع اليد او الاذن، والحبس (ص20).
وطراد في كثير من هذا يفتقد الى الموضوعية، فلا يجعل لنفسه مسؤولية فيما وقع له، ويتقبل جزاء جنايته. وقد يفسر انعدام موضوعيته بكون مركب النقص يمتص الطاقات النفسية، ويحول توجيهها من الوعي، مما يولد سلوكات غير منضبطة; كالاضطراب في المواقف النفسية، التي تنشط فيها المحتويات الانفعالية، بحسب ما ذهب اليه ك.ج يونج (ت1961) انطلاقا من فرويد.
ومجمل شخصيات “فخاخ الرائحة” تعاني مركب الشعور بالنقص وعقدة الاخصاء الفعلي او الرمزي، فكل الشخصيات الرئيسية تحمل اثرا جسديا هو عنوان معاناتها النفسية والاجتماعية الذي يجعلها الى حد ما، تمثيلا لشخصية واحدة: فليست عين ناصر المقتلعة، واذن طراد المقطوعة إلا الوجه الآخر لإخصاء توفيق. فهذه الآثار الجسدية هي الحروف التي كتبت الفترات الحاسمة في تاريخ القهر الخاص بكل شخصية، والتي يمكن من خلالها قراءة هذا التاريخ. تماما مثلما يمكن لناصر ان يقرأ ماضيه في أعضاء جسمه التي يحتفظ بها في كيس صغير يتضمنه الملف الأخضر الذي ضاع منه في محطة السفر (خصلة شعر أسود وسن طفولية)، فليس له من ذاكرة إلا ذاكرة أعضائه، كما جاء في الرواية (ص76)، واذا كان الأثر الجسدي رمزا للعنف الموجه تجاه هذه الشخصيات، وللتحويل الذي خضعت له في شخصيتها ومسار تكوينها النفسي والاجتماعي، فان عنف التسمية لا يقل أهمية في بعده الدلالي عنه فالاسم الجديد تعبير عن المصير الجديد. فاسم طراد يوافق وضعه حين كان في الصحراء يطارد القوافل، أما وهو في المدينة يعمل حارس عمارة، أو معد قهوة في ادارة، فلم يعد إلا مجرد ذكرى، ولذلك يناديه صاحبه بـ”زول” (ص59)، او يدعوه “ابا لوزة” (ص109، 110)، ينسب هو نفسه الى أمه (ولد خزنة، ص20)،في لحظة احتقاره لذاته أمام منظر المعلم التركي بائع الشاورما الذي كان في تمام صحته واكتماله الجسدي.
ويستطيع الآخر القوي بسلطة القانون، او بسلطة الوضع الاجتماعي ان يغير اسماء من هم في قبضته كما يريد. فالاسم الحقيقي لتوفيق هو حسن (ص62، 63)، وسيتغير اسمه لإكمال طقوس تعميده عبدا؛ اذ سيقرر أبويحيى بان اسماء الاطفال الين استجلبوا ليباعوا عبيدا لا تصلح (ص63)، ولذلك سيعطي لكل واحد منهم اسمه الجديد ايذانا بانتهاء صفحة في تاريخه، فانتقل توفيق من عهد حسن الحر الى عهد آخر هو عهد توفيق العبد الذي لن يكون بعد تحريره إلا العم توفيق- ولم يسترجع اسمه- وكأنه لن يكون أبدا حرا، بل سيستمر “عبدا” بوضع اعتباري يستحق فيه الاحترام لسنه، ولاختياره التزام حدود نفسه، فهو سيظل يحمل رمز عبوديته معه الى نهاية عمره، بعد أن تحول بفعل الاخصاء الى كائن لا هو ذكر ولا هو انثى. وقد ذهب بعيدا في التعبير عن هذا التحول بتعريض اللغة للعنف الذي يتعرض له الجسد والاسم معا; فعبر عن شعور توفيق بأنه لم يعد رجلا بتغيير الوضع الاملائي لكتابة العضو الجنسي (ضكر بل ذكر؛ ص66) حين لم يعد سوى مبولة فقط (ص67).
أما ناصر، فهو بحكم انه وجد لقيطا، فقد وضع له محضر تسمية أعطي فيه اسماء بنا على تقرير اداري جاء بعد الاطلاع على كشف المواليد الذكور وكشف الامهات الموجودين عند الجهات المختصة، ولذلك فان اسمه لن يتغير، ولكن لن يفلت من اللعب به، فالمربية المصرية جمالات لكرهها له ولجمال عبدالناصر لقبته بعبدالناصر (ص97)، وسخرت صديقتها منه واصفة اياه بموشي ديان في اشارة لعينه المطموسة (ص98)، كما مازحته بثينة وصيفة العمة مضاوي بردها عليه بعد أن أخبرها باسمه- وهو الذي ينطق الصاد ثاء- “ناثر ايش؟ “(ص100).
وتتواصل سلطة التسمية عبر الرواية بوصفها ايضا تعبيرا عن ادلوجة خاصة; فالسائق السابق للعمة مضاوي أنور عبدالنبي سيغير اسمه الى عبد رب النبي; “فليس من الجائز والمشاع ان نعبد نبيا، اذ المعبود هو الله سبحانه” (ص94). أو بوصفها تعبيرا حتى عن مزاج خاص، كحال زهرة التي يدعونها زهيرة(92).
9 – الفكاك من “فخاخ الرائحة”:
تشكل الحواس في الرواية لعبة فنية، وهي بتناظرها تصبح مجازا، أكثر منها حقيقة. حواس خادعة، او هي بالأدق المدخل الى الخدع، والطريق الى تحقيق الخديعة. فالروائح فخاخ بمصائر متناظرة لشخصيات متناظرة: فتوفيق ناصر آخر “يعرف أمه، لكنه غير متأكد من أبيه”(ص39)- لعل سيدها الحاج احمد أبوبكر اغتصبها، او احد النخاسة..- وهما وجه آخر لطراد. عالم ممن جرحت أرواحهم بعد ان تلطخ كمالهم الجسدي، فيهم الاعور والمخصي ومقطوع الأذن، وفي خلفية باهتة ادريس السيد الجار الكسيح الذي كان يسكن قطية من قطاطي قرية توفيق، او الشيخ المقعد والد أم ناصر المفترضة (ص52)، وبقية الاشياء كعنبر وجوهر، عالم فقراء يعودون الى ماضيهم- مثلما عاد ناصر لاسترداد ملفه الاخضر- وكان العودة الى الماضي شرط لتحرير الحاضر وتجنب الذهاب الى الجحيم. فهل يكون كرسي المحطة- سرير الطبيب النفسي- الذي مر منه طراد وناصر قبله، كافيا لذلك؟
ـــــــــــــــــ
مجلة نزوى- العدد 40
* الروائي السعودي يوسف المحيميد، (فخاخ الرائحة)، رياض الريس للكتب والنشر، بيروت- لندن، ط1، يونيو 2003.
** ناقد من المغرب

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *