” فخاخ الرائحة ” : سيرة الإهانـــــة

28 مايو، 2012 | فخاخ الرائحة | 0 تعليقات

صدوق نورالدين
تعد “فخاخ الرائحة ” ( 2003 )، التوسعة الخيالية الثانية للروائي “يوسف المحيميد”.. في هذه التجربة يراهن على الإنساني في جوهره وعمقه بحثا عن إعادة ترميم الذاكرة من انفلاتات النسيان والفقدان.. من تم فإن “فخاخ الرائحة” كتابة للموضوعي بما هو الاشتغال عن/ بصدد قضية، إلى استجلاء مظاهرها وملامحها من زوايا مختلفة متباينة لا تحيل إلا على الأصل

، ولئن كانت الامتدادات حاصلة و كائنة .. على أن إنتاج معنى الإنساني و في شرطه الموضوعي السالف ، إخراج للتجربة من الإطار الذاتي المحض أو مما أصبح يساق ضمن التخييل الذاتي في الخطاب الروائي العربي المتداول ، وكأن الأمر يتعلق بأزمة موضوع ..ف” المحيميد ” الروائي في تجربته ، يحوز مرجعية حكائية قوية وفق ما تدل عليه هذه الرواية و المنجز الثالث ” القارورة ” ( 2004 )..واللافت أن هذه المرجعية تواكب بالصنعة الروائية التي تفترض انبناء أفق التلقي على المعرفة بآليات وميكانيزمات الكتابة الروائية.. ف” يوسف المحيميد ” ومن خلال تجربته القصصية والروائية ، يكتب بوعي تام ودقيق، وليس بتلقائية مفتوحة على الحذف والإضافة.. هذا الوعي، يفترض ـ كما سلف ـ ما يوازيه، وعي القراءة و التأويل .. على أننا في هذه الدراسة سوف نركز بالتحليل على ” فخاخ الرائحة “، باعتبارها الحلقة الوسط بين: ” لغط الموتى ” ( 2002 )، و” القارورة” (2004 )، مع الأخذ بعين الاعتبار كون التجربة مفتوحة على الامتداد و التشعب..

فخاخ الكتابة الروائيــة :
(1) يتشكل جسم النص من مقدمة و فصول دون اعتماد عتبة إحالية كما الحاصل في الرواية الثالثة ” القارورة “.. فالمقدمة في ” فخاخ الرائحة ” لا تحمل عنوانا، وهي توطئة أو مدخل من وظائفه تلخيص حكاية شخصية “طراد”.. الحكاية تستهل باستفهام عن المكان: “إلى أين؟”، بعيدا عن تلقي الجواب الواجب تحديده نحويا بالتعيين.. وعنه يتناسل سؤال ثان بإضافة نداء عبارة عن نكرة مقصودة: ” إلى أين يا عم؟”، حيث الجواب المبهم العام: ” لا أعرف “، وتم يسترسل النص..على أن ما توحي به المقدمة، كون “فخاخ الرائحة” رواية استعادية بالأساس، يتداخل فيها التذكر بالحلم، الأمل وبالتالي الفقدان.. فالزمن في هذه الرواية كما اللغة ، خاصتان يتأسس وينهض عليهما بناء الرواية .. وأما الفصول فتحمل عناوين عبارة عن جمل اسمية ، بعضها شعري خالص، كمثال: سر الغناء الحزين، طفولة مستباحة وشهوة القمر .. وأكاد أقول بأن كل فصل ينتج:
1 / وحدة حكائية مستقلة ..
2 / يوسع حكاية سابقة ..
3 / تتخلق ضمنه حكاية جديدة ..
بيد أن مجموع هذه الحكايات هو ما يؤلف النص الروائي “فخاخ الرائحة”، مع العلم أن الفصل الأخير اكتفاء ، يختصر الرواية و يؤشر على نهايتها : ( اكتفى ، يكتفي ، اكتفاء )..
(2) إذا كان جسم النص انبنى شكليا وفق الوصف السابق ، فإنه حكائيا توزع على ثلاث حكايات صغرى هي ما يؤلف الحكاية الكبرى، أو الحدث الروائي.. هذه الحكايات تتداخل وتتقاطع بعيدا عن أن يفهم تلقيها في ضوء اعتبار كل حكاية تتفرد وتستقل بذاتها.. من ناحية ثانية فإن كل حكاية ترتبط بشخصية تكاد تكون المرآة للأخرى، وكأن المتعدد لا يحيل على إلا الواحد. ومن جانب ثالث فإن هذه الحكايات تحوي خلاصات شبه شاملة لما مس وعلق وارتبط بالشخصية.. وأما الملاحظة الرابعة، فتتجسد في الاسم العلم، ذلك أن شخصيتين: طراد ( أبو لوزة )، عم توفيق ( حسن )، يتم تغيير اسمهما، إما من العلم إلى الكنية: طراد/ أبولوزة، أو من الاسم العلم إلى الاسم العلم: توفيق/ حسن.. في حين نجد الشخصية الثالثة (ناصر) تبقى نكرة بما هي الخلفية الإحالية على الناصر (جمال عبد الناصر)، حيث تسرد سلبيات حكمه من وجهة نظر إحدى الشخصيات الثانوية ..
فالتعدد الاسمي يرتبط بالفضاء الذي يحل فيه، كما نوعية المهمة المقدم عليها، وهو بالتالي نزع للهوية الشخصية، لما يشكل الحرية نحو ترسيخ ظاهرة الاسترقاق.. وسنرى بأن التعدد الاسمي في: “القارورة” يستغل لتأكيد التحايل .. فأما الشخصيات الثلاث، حسب حكاياتها فهي شخصية طراد ( أبولوزة ):
” عمل عاملا و بناء ، في قصور المربع ، ثم حقر نفسه و هو
يعمل جنبا إلى جنب مع رعاع المدينة ، و تحول إلى عسكري
فشعر بذاته ، وقت أن عمل حارس بنك أولا ، قبل أن تسند
حراسة البنوك إلى شركات مختصة، ويفقد عمله.. ثم حارس بوابة
قصر قبل أن يطرد منه..ثم جرب أن يكون شحاذا..” ( ص117)
ثم العم توفيق ( حسن ):
” حكيت له في ليال طويلة عن حكايتي منذ الهروب و الشتات
من أعين الجلابة، حتى الوقوع بأيديهم، وتنقلي معهم، ومروري
بسوق شندي، وبربر، وميناء سواكن على البحر الأحمر، وسكني
في محلة المظلوم، وبيعي لأبي يحي الحلواني، وخصائي، وعملي لدى
العطار و ابنته خيرية ، و سفري إلى هنا ، و عملي في القصور خادما
وسائقا وبستانيا .” ( ص / 110 )
و تتعلق الحكاية الثالثة بالطفل اللقيط ” ناصر عبد الإله” .. وهي حكاية نتعرف على تفاصيلها منذ عثور “طراد” على الملف الأخضر، وشروعه في قراءته/قراءتنا نحن له، إلى أن تحقق انتزاعه من يده من لدن “ناصر” نفسه ـ كما توحي الرواية ـ وقد تحول رجلا، وبهذا الانتزاع تنتهي الحكاية:
” ليس لك أب غير سن مخلوعة ، ليس لديك أم سوى خصلات
شعر ناعمة ، لا إخوة لك و لا أخوات سوى أناس مثلك عابرين
ومتوحشين ومأزومين، تخلدهم معك صور التقطتها مربية مصرية
عابرة .” ( ص / 76 )
إن الناظم الأساس لهذه الحكايات كونها:
1- تبدو شبه مستقلة، في حين أن الروائي وحد بين الشخصيات في سياق عملها داخل أحد القصور، حيث احتضن الطفل اللقيط ” ناصر” ليترك لحاله من جديد..
2- تحيل جميعها على موضوعة الفقدان، متجسدا في الوظائف المشتغل فيها، إلى فقدان عضو من الأعضاء الجسمية..
3- تنشد الحرية وتتطلع إلى ما هو إنساني، وهو ما أوحت به الرواية عقب صدور قانون العتق..
(3) تحوي ” فخاخ الرائحة ” ومنذ صفحاتها الأولى، علامات دالة لما سيكون/ سيصير الحكي عليه.. فالتلقي الحصيف يرتهن إلى طرح السؤال :لماذا؟ وكيف؟.. الارتهان يرتبط بشخصيات الرواية، والتحولات الحكائية التي تخضع لها.. من ناحية ثانية، يحكم مستوى التلقي الانتظار المتوقع.. وتم تكمن اللعبة الروائية الدقيقة البناء..
إن شخصية “طراد” ومنذ البداية متبرمة، رافضة للفضاء المديني الذي تحيا وتعيش فيه.. التبرم يعود في جوهره إلى انتفاء الانسجام.. ذلك أن “طراد” يفقد إحدى أذنيه.. وهو الخبر الذي يطول تأجيله إلى ختام الرواية.. فإذا كان “العم توفيق” يحكي حكاية محنته، فيما “طراد” يتلقاها (ونحن كذلك)، فإن العم يتوقع منه حكاية أذنه (ونحن على السواء).. ذات الأمر يمس “الملف الأخضر” المعثور عليه..
” ـ أذنه مقطوعة يا شباب .” ( ص / 15 )
“..على فكرة أنا ضروري أعرف حكاية أذنك، بعدما أخلص..” (ص/29
” بمناسبة أذنك اليسرى، أنت لم تقل لي كيف فقدتها؟” ( ص / 66)
إن قاعدة التأجيل من الخاصات الأسلوبية المعتمدة في الكتابة الروائية ل “يوسف المحيميد”.. وهو ما سيطالعنا في الرواية الثالثة “القارورة”..
على أن الفخاخ في الرواية استدراجات لما سيقع.. ومن تم فهي متنوعة بتنوع الشخصيات، ولئن كان الإيقاع الهدف الأساس.. فكما تقع الشخصية، كذلك القارئ، وتم يبحث النص عن توسعة وامتداد..
” ..كان الجوع يقطعنا، إلى أن وقعنا في الفخ!” ( ص / 26 )
” فشم رائحة التراب الغريبة.” ( ص / 62 )
” تسللت رائحة نفاذة وقوية جدا إلى رأسي مباشرة.” ( ص / 65)
” يقول لصاحبه، إنه يشم رائحة الإبل والرجال. ” ( ص / 68)
إن قاعدة التأجيل السابقة، تجعل الحكاية تنمو ببطء.. وإذا كان الأمر في “فخاخ الرائحة” ـ كما سلف ـ يتعلق بثلاث حكايات:
أ ـ حكاية طراد..
ب ـ حكاية العم توفيق..
ت ـ حكاية ناصر عبد الإله..
فهذه على امتداد الرواية تفعل ظهورا في نوع من الترتيب، وليس على المتلقي سوى إدراك ذلك، للوصول إلى الحكاية الكبرى ..
فطراد تحكى حكايته/ يحكي حكايته، فيما يتلقى حكاية العم توفيق المتميزة على مستوى لغتها الحكائية، وهو الفارق بينها والسابقة، كما اللاحقة بما هي حكاية ناصر عبد الإله التي تطالعنا باعتماد البعد الوثائقي التالي:
1 ـ محضر عثور..
2 ـ تقرير طبي..
3 ـ محضر تسمية..
إذا كان الفقدان خاصة الحكايات الثلاث ـ كما سلف ـ فالتماهي يجعل كل شخصية صورة من/ عن الثانية ..

بلاغة الصورة الروائية :
تمثل الصورة الروائية في “فخاخ الرائحة” بالاستناد إلى مكون الوصف، حيث تتأسس المشاهد وتتوالى في تناوب حكائي ..واللافت أن السمة الشعرية تبدو بارزة في هذه الرواية بالذات، بحكم أن وقائع وأحداث يتحقق استذكارها واستعادتها في مظهرها الطبيعي الصافي.. وكأن الوصف يؤاخي بين ملامسة التحديث متمثلا في فضاء صالة السفر حيث تفعل الذاكرة بالاستعادة، مثلما في الأمكنة كالإدارة وغيرها.. والطبيعي لما يتم الاستماع إلى حكاية العم توفيق، فتوازي براءة الحكاية عذرية الطبيعة..
إن مكون الوصف في “فخاخ الرائحة” يطالعنا على امتداد جسم النص.. فقد نقف عليه وسط الفقرات المشكلة لبنية النص:
” هناك ، في مبنى الوزارة الضخم ، مشطت قدماي الممرات كلها
حاملا دلة القهوة النحاسية اللامعة ، و بيدي اليمنى فناجين صينية
مزركشة ، أقف بباب المكتب و أصب القهوة رافعا الدلة عاليا
وأنا أشعر بالمتعة، دائرا على الضيوف بقهوة توقظ الرأس.”( ص/11)
في هذه الحالة يمتزج الوصف بالحدث السردي، دون أن يشكل وقفة الصفر المحايدة.. إنه متنفس الروائي و السارد، والبداية الجديدة للمتلقي، وقد يتسم أحيانا بالطابع التأملي الفلسفي:
(حضور سؤال الموت):
” على الرصيف المبتل بمطر خفيف خارج صالة محطة الحافلات
وقف متأملا السماء التي بدت قريبة جدا ، إلى درجة جعلته
يلوح بيده ، كأنما سيلمس تضاريس السماء الداكنة ، هل
كلما اقتربت السماء من أحد ، عنى ذلك أن نهايته اقتربت
و أن غيمة تشبه الراحلة ستصعد ؟ ” ( ص / 18 )
يحيل وصف المفتتح المتعلق بالفصول على موضعة المتلقي في سياق البنية السردية التناوبية.. هذه الموضعة، وبقدر ما تلعب دور التحديد المركزي لفضاء الحكاية الكبرى الموازي زمنيا للحاضر (الرياض)، ومنه تنثال الاسترجاعات التي قد تعود إلى ستين سنة (الحديث عن السودان)، فإن دلالتها المرجعية تكشف عما كانه المجتمع وما صار إليه.. بمعنى آخر، فالمرجعية في عمقها تحديثية:
” بدأت الصالة تدخل طائعة في العتمة والهدأة، بعد أن
تخففت من أرتال المسافرين الذين تقاطروا على بوابة الحافلة
الذاهبة قبل دقائق، رغم ذلك، كان ثمة مسافرون جدد
تقاطروا من البوابة الرئيسية، بينما آخرون اتخذوا مقاعد
في الصالة منذ وقت مبكر، فوضعوا رؤوسهم على حقائبهم
وغطوا في نوم عميق و حالم .” ( ص / 17)
على أن الوصف لا يطول الفضاء والمكان، وإنما الشخصيات سواء أكانت رئيسية أم ثانوية، فيكتمل بذلك مشهد التفاعل بين الفاعلين ودائرة تحركهم:
” طفل في الخامسة تتصدر قميصه الزيتي كلمة إنكليزية
يطلق ضحكة صاخبة، ويرفع بيده سكينا، أمامه طاولة
فوقها قالب حلوى مغطى بدريم ويب أبيض، تحفها شموع
رقيقة جدا، تطاير دخانها الأبيض بعد أن أخمدت توا.. خلف
الطفل يصفقون مبتهجين.” ( ص / 74 )
وينتقل وصف الشخصيات من بعده الواقعي إلى الأسطوري، نموذج: حكاية خيرية ابنة العطار.. وهو ما يكشف درجة التلقي والتأويل الاجتماعي لما يعد حكايات وأخبارا متداولة ..
ولا تنحصر بلاغة الصورة الروائية على مستوى الفقرة الواحدة، وإنما تتحدد ضمن بنية الجملة، حيث يصل التكثيف ذروته:
” ذات مرة ، و الليل في أوله ، و الهلال في الأفق مثل
حاجب رقيق لامرأة نائمة ، تهادت رائحة الإبل وكأنها
قطيع في الصحراء..” ( ص / 68)
” ..يشتتان الليل الأسود بحكايات الصحراء و المعارك
و النساء ..” ( ص / 68 )
مما سلف يتضح بأن بلاغة الصورة الروائية تتحدد في مكون الوصف حيث:
1- يمتد ليشمل الفضاء والمكان والشخصيات..
2- يتمظهر على مستوى الفقرة كما الجملة ..
3 – يتراوح بين الواقعي ، الفلسفي و الأسطوري ..

مستويات اللغة الروائية :
يمكن القول بأن “فخاخ الرائحة” تعد محفلا يعكس مستويات لغوية متباينة، بالنظر إلى تداخل وجهات النظر.. وفي هذه التجربة بالذات نقف على التمييز بين السردي والحكائي ولئن كان ذلك يبدو عصيا.. فالسردي يطالعنا منذ البداية، الاستهلال، حيث الدخول إلى جسم النص للتعرف على الفضاء، إلى عرض الشخصيات.. ويتحقق السردي بالرهان على ضمير الغائب
“هو” (طراد):
” ـ إلى أين ؟
سأله موظف التذاكر وهو منهمك في ترتيب الأوراق
النقدية حسب فئاتها في الدرج..” ( ص / 9 )
يحق القول بأن السردي يمثل مهيمنة على مستوى الرواية.. وأما اللغة الحكائية فتبدو قريبة من المألوف في حكايات ألف ليلة وليلة، كما التداول الخبري البارز في السرود القديمة.. وهذه في “فخاخ الرائحة” تتخذ من أسلوبية الاعترافات مرجعها الأساس، وتمثل في حالة تدفق العم توفيق بالحكي وفق ضمير المتكلم..
” أنا يا سيدي رحت في الغابات، كنت أمشي في الليل
وسط الأحراش، وأنام في النهار، حتى لا أقع في أيدي
الجلابة..” ( ص / 27 )
واللافت أن الروائي ميز بين السردي والحكائي على مستوى ترصيف الجمل مستغلا بياض الصفحة. وقد لا يحدث التمييز فيندمج السردي بالحكائي في بنية لغوية واحدة.. على أننا لا نقف على التمييز في هذه الحالة فقط، وإنما في الاعتراف المعبر عنه بضمير المتكلم من طرف “صالحة” ، وهي تنصب فخ الحب ل “عبد الإله حسن عبد الله ” (ص : 52 / 53)..
ويظهر المستوى اللغوي الثالث في اللغة الإدارية المسكوكة التي ميزت رصفا بالخط الأسود المضغوط.
وتتجلى في:
1 ـ المحضر : أ / محضر عثور ( ص / 34 )
ب / محضر تسمية ( ص / 36 )
2 ـ التقرير الطبي ..( ص / 35 )
3 ـ التبليغ عن الولادة ..( ص / 38 )
هذا المستوى نتعرف عليه في سياق تقليب “طراد” لأوراق الملف..
أما اللغة الدارجة فتصادفنا على نمط جمل موظفة في الصيغة السردية أو الحكائية، وفي أثناء الحوار المباشر المتبادل بين الشخصيات (على ندرته):
“على فكرة أنا ضروري أعرف حكاية أذنك بعدما
أخلص.” ( ص / 29 )
“وش الحيلة؟ وش الدبر ياخوي؟” ( ص / 86 )
” ـ فينك يا بولوزة؟ الجماعة سألوا عنك، يا بدوي!
” ـ ماشي ياعم.. الباب مفتوح، بقى أقفله وراءك وأنت
جاي!” ( ص / 119)
وأيضا في الأغنية المعتمدة الشعر الشعبي أو الزجل ( ص / 107 )..
إن المستويات المرصودة، تجلو حوارية لغوية تعبر عن مستوى الوعي الذهني والفكري سواء في تلقي الأشياء أو تأويلها والتعبير عنها من لدن الشخصيات.. ومن تم فهي حوارية قصدية ذات غايات اجتماعية، لارتباطها بمحنة الطبقات الدنيا المنزوعة الحرية والحلم.. وسياسية، للتمييز الطبقي الملغى بإقرار الأمر الملكي بعتق العبيد..
وحتى تفي اللغة قصدها ودلالتها، استغل بياض الصفحة على مستوى الكتابة، لتأكيد التمييز الراسخ و المضمن، حيث تشكيل الصفحة بمثابة متنفس لتجديد عملية التلقي..
” فخاخ الرائحة ” من سوق الذاكرة إلى صوغها:
تنبني “فخاخ الرائحة” ـ كما سلف ـ على قاعدة التذكر والاستعادة.. من تم خضعت لدائرية البناء الزمني.. فالنص يستهل بالسؤال: “إلى أين؟”.. بالتالي فهو مكاني، لولا أنه يطرح بسقوط العتمة واللوذ إلى الهدوء.. كأن الأمر يتعلق بانفتاح الدائرة، فيما الانغلاق تحقق برجعة “طراد” وقت طلوع الفجر.. فالرواية وفق هذه تتأطر في خروج، أي رغبة في السفر تتحدد مساءا.. وفي العودة، حيث العدول عن السفر فجرا.. فعمر الرواية ليلة واحدة، وهو ما يوافق ـ إلى حد ما ـ كمها.. إلا أن الوقائع والأحداث المصاغة تتجاوز الستين سنة..
” قبل ستين سنة أو أكثر ، كنت في قرية
أم هباب .” ( ص / 25 )
على أن الزمن في “فخاخ الرائحة” غير محدد بدقة، والعكس يطالعنا في “القارورة”، ذلك أن الانبناء على التذكر والاستعادة يفضي إلى التكثيف، التأجيل، البطء، والترتيب المرتهن لفهم الشخصية وتأويلها لماجريات الوقائع.. لذلك جاءت الإشارات الزمنية عامة، وفق النمط التالي:
” ذات ليل ، بينما كنت أجثو على ركبتي كي
أقضي حاجتي .” ( ص / 42 )
” ذات عصر صيفي حار و دبق ” ( ص / 50 )
” ذات مرة و الليل في أوله .” ( ص / 68)
” ذات صباح قررت أن أغادر القصر إلى الأبد .” ( ص / 108 )
إن التذكر والاستعادة يقودان إلى ممارسة التمييز النقدي فيما يتعلق بما يجدر أن يساق، وما لا يرقى إلى ذلك.. من تم فالحذف هيمن على الرواية، سواء أتم وعيه من طرف الشخصية أم العكس، وحتى لا يفهم بأننا حملنا النص ما لا طاقة له به/ عليه..
” بعد شهور شفيت من جرحي العميق .” ( ص / 79 )
” بعد سنوات من قص الأغصان الزائدة .” ( ص / 106 )
ذلك أن من وظائف الحذف الأساسة الاختصار والتلخيص ، بالإبقاء على ما هو مفيد..
إن إنتاج وعي بالزمن في “فخاخ الرائحة”، يستند إلى الرهان على ما هو نفسي أصلا.. فالحالة النفسية للشخصيات لا تتطلب وتفترض دقة زمنية محددة، وإنما تراهن على كشف و تجسيد النفسي في مسار انكساره كأمل، حلم وتوق للانعتاق، إذا ما ألمحنا لخاصة الفقدان.. من تم فإن الدائرية المشار إليها سابقا، تحيل على الانغلاق الذي يطبع المجتمعات التقليدية، حيث مهما ادعت نهج قواعد وأسس التربية المدنية (حرية، حقوق، ديمقراطية، تسامح)، فإنها تظل وفية لميراث الاستبداد ومرجعيات التسلط.. لهذا فإن مكون الزمن في “فخاخ الرائحة” يحسن أن يقرأ في:
1- بعده النفسي..
2- كدائرية إحالية على ما هو موروث ..
3- وككشف موضوعي لما ساد ويسود..
تداخل النصوص / الأجناس :
إن التداخل القصدي للغات ، يفضي إلى ضم نصوصي يخدم المعنى المنتج في الرواية ..
فالأخيرة ـ كما المتداول ـ الجنس المفتوح على التفاعل و نصوص قد تكون من طينة الأدبي الحكائي ، أو الأدبي في مستواه الشعري الخالص ، أو مما ينتمي لخارج الأدبي.. وإذا كانت “لغط موتى” صيغت على نمط أدب الرسائل ، كتجارب عربية و عالمية معروفة ، ف ” فخاخ الرائحة ” احتفت بضم نصوصي أجناسي من داخل الأدبي يتمثل في :
1 / أدب الاعترافات : و نمثل عنه بالوقائع والأحداث المصاغة على لسان العم توفيق وطراد..
2 / اليوميات : و يعكسها المؤلف الأخضر المعثور عليه ، حيث تدون صفحات عن شخصية ناصر ، يتلقاها بداية طراد ، و من خلاله نتعرف عليها ..
هذان الجنسان ـ إذا حق ـ يندرجان في أدب السيرة الذاتية ..و مادامت الرواية كتابة إنسانية لسيرة إهانة ، فإن الضم يخدم سياق المعنى ..
3 / الحكاية : و تبرز في الحالة التي يتحول فيها القول من السردي إلى الحكائي ، و هو ما ميزه الروائي كتابة ، مثلما أدرجه ضمن جسم النص دون تمييز ..
4 / الشعر الشعبي : و نقف عليه من خلال المقطع التالي :
” حبيبي اكتب لي
و أنا اكتب ليك
بالحاصل بي و الحاصل بيك
الحاصل بي أنا شوق و حنين
أقيم الليل آهات و أنين
أذكر جلوسنا على الربى
نتساقى كاسات الصبا
أبسم إليك تبسم معاي
على صوت الناي
و أنا يا مناي
طول حياتي بغني ليك ” ( ص / 107 )
و أما من خارج الأدبي ، فنقف على نصوص لا ترقى لأن تشكل أجناسا أدبية تامة المواصفات بحكم:
أ ـ لغتها ..
ب ـ القصدية منها ..
و من هذه نجد :
1 / المحضر ..
2 / التقرير ..
إن الضم الذي جئنا على رصده ، يؤكد عدم صفاء جنس الرواية ، و قابليتها لاحتواء الأدبي و غيره في حوار تتفاعل فيه النصوص و الأجناس في حوار متكامل ، بعيدا عن فقد الرواية خصوصياتها المميزة لها ..
عود على بدء :
يمكن القول في ختام هذه الدراسة ، بأن ” فخاخ الرائحة ” تمثل نقلة في التجربة الإبداعية الروائية ل ” يوسف المحيميد ” ..فمن حيث الموقع ، فهي الثانية بعد ” لغط موتى ” التي تجلو ـ كما رأينا ـ تشكل الجنس الروائي..بمعنى آخر ، إنها فاتحة مشروع الكتابة الروائية.. على أن ما يليها رواية ” القارورة ” التي تؤسس ـ كما سنرى ـ راهنية الخطاب الروائي مجسدا في طبيعة المادة المتناولة ، إلى ظرفيتها ..
إن القول بالنقلة لا يتحدد ـ فقط ـ في مسار التجربة ، و بعدها الفردي الخالص ، و إنما أيضا في مستوى التفكير في الكتابة الروائية ، المستوى المضيف بجدارة.. ذلك أن ” فخاخ الرائحة ” ركزت أساسا على موضوعة ” الحرية ” انطلاقا من تناول ظاهرة الرق والعبودية المفروضة كرها واختيارا في وسط تتحكم فيه عادات وتقاليد اجتماعية صارمة .. وإذا كان ” المحيميد ” أسهم في خلق/ تخليق الرواية وفق وحدات حكائية ثلاث، فإن كل وحدة تتكامل معها دون أن تقصيها، مادامت بنية الرواية واحدة، وتنتج معنى كذلك..
إن ” فخاخ الرائحة ” لا تكتب التاريخ ، ولا تعيد تمثله التمثل الساذج، وإنما تركز على الأسلوبية الروائية كقاعدة ومتكأ للتخييل وإنتاج القول الذاتي المفارق والمخالف لما ساد وهيمن على امتداد مرحلة من مراحل الكتابة الروائية العربية..
بيد أن ترسيخ هذه الأسلوبية، وما حفلت به من تداخل لغات إلى ضم نصوص، يفترض التمكن من صنعة كتابة الرواية، وهو ما تجلوه أصلا ” فخاخ الرائحة ” كما رأينا و” القارورة” كمــا سنرى ..
بالإضافة للسابق فإن ” فخاخ الرائحة ” تمثل موقفا مضادا للتحديث، والذي تبرز معالمه وتجلياته في المدن، مادام لا يوازى بالحداثي العقلاني فكرا وتصورا ، وهو ما عبرت عنه بعض شخصيات الرواية.. على أن من يشغل فضاءات المدن بالخدمة أناس غرباء معظمهم من آسيا أو مصر، وهو ما يضفي على الرواية سمات ومظاهر تغريبية، وكأنك هنا، حيث تمارس وجودك الذاتي وتعلن هويتك، ولست كذلك، وهو ما نصادفه على السواء في ” القارورة “..
تبقى ” فخاخ الرائحة ” رواية متميزة تصورا وكتابة ..

جريدة الرياض- العدد 13604 في22سبتمبر2005م

رجل تتعقبه الغربان: ملخص الرواية

رجل تتعقبه الغربان: ملخص الرواية

يظهر خيط السرد بطريقة جديدة، لا تبدأ بالحاضر، وحظر التجول في مدينة الرياض، أو أربعينات القرن الماضي، ورصد المدينة المحصَّنة بأسوارها الطينية فحسب، وإنما القفز بالزمن في مغامرة مختلفة نحو المستقبل، من خلال منظار روسي...

أكمل القراءة

تلك اليد المحتالة – مختارات

تلك اليد المحتالة – مختارات

لبس ما ظنه الرجل الجالس أمام النافذة حمامة بيضاء بأربعة مناقير وعُرف… كان قفازًا منفوخًا ليد هاربة من وباء، دفعها الهواء بخفَّة. هكذا اكتشف الرجل الوحيد في عزلته. طائرات كلما انفتح باب السوبرماركت الكهربائي عن...

أكمل القراءة

في مديح القاهرة

في مديح القاهرة

ذاكرة الدهشة الأولىقبل ثلاثين عاما تقريبًا، تحديدًا في يناير من العام ١٩٩٢ زرت القاهرة لأول مرة في حياتي وأنا في منتصف العشرينات. جئت لوحدي لأكتشف معرض القاهرة الدولي للكتاب في مقره القديم بشارع صلاح سالم. لا أعرف...

أكمل القراءة

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *