قراءة في رواية ” فخاخ الرائحة “

مايو 28, 2012 | فخاخ الرائحة | 0 تعليقات

د.عبد العزيز المقالح
1- حديث العنوان
في الرواية كما في الشعر عناوين محايدة لا تجعلك تشعر أنك معها أو ضدها . وفي الرواية كما في الشعر أيضاً عناوين مثيرة وصادقة لا تفرض عليك أن تكون ضدها أو معها وحسب ، وإنما تدفعك إلى البحث عما وراءها، إلى ما تشير إليه أو حاولت أن تختزله

في هذه المساحة الضيقة من الكلمات القليلة المسماة بالعنوان والذي قد يوهم القارئ لأنه نافذة مفتوحة على الغلاف ليطل من خلالها على تفاصيل الداخل ، وما يحفل به من مسرودات مثيرة وصادقة ، وأساليب تعبيرية يشكل العنوان الحلقة الأولى منها.
و”فخاخ الرائحة ” عنوان رواية الصديق يوسف المحيميد ، واحد من العناوين التي تصدمك وتستدرجك إلى القراءة الجادة حيث تمضي حذراً من فخاخ عديدة تنصبها الرائحة لشخصيات الرواية ، ومغموراً بموسيقى لغة روائية تعتمد الإيجاز والدقة في السرد وفي الحوار- إن وجد – مؤكدة على أن الكلام كالوقت من ذهب ، وأن الثرثرة لا تخفى وراءها شيئاً ذا قيمة .
وقبل أن أغادر حديث العنوان وجدتني أتساءل ترى من الذي نصب الفخاخ لاستدراج القارئ إلى هذه العوالم المثيرة التي تكشف الحجاب عن مرحلة من التاريخ الحديث لإنسان الجزيرة ، هذا الذي ابتدأت حياته مع الصحراء وانتهت مع المدينة ، و بينهما ، وبين القديم والجديد بين الرمال المتحركة والرمال المتجمدة الساكنة ، كان هذا الإنسان وما يزال يبحث عن نفسه حائراً متسائلاً مبهوراً وساخراً ، شجاعاً وخائفاً ، غير قابل لتناسي ماضيه القريب وصلته القديمة بالإطار المحدد للمكان والزمان .
حديث المكان : “فخاخ الرائحة ” رواية مكان يمتد من قلب الصحراء من الجزيرة العربية إلى صحراء السودان . وتذكرني الإشارة إلى مدينة “الفاشر” الوارد في الرواية بـ “دارفور ” المنطقة التي لم يكن الروائي يدرك أنها ستصبح حديث العالم وموضع اهتمامه غير المتوقع ، وهي في الوقت ذاته رواية زمان يبدأ من أواخر سنوات الجوع التي لفحت صحراء الجزيرة إلى بداية الثراء، ومن بداية ثراء العبيد وصيدهم إلى مرحلة التحرير. وكما أن حديث المكان – في الرواية – لا يسير وفق الأساليب التقليدية. فإن حديث الزمن كما سوف نرى لا يسير أيضاً وفق أساليب تسلسل الحدث وتعمل على ترتيبه . وإذا كان بعض الدارسين قد أشار إلى أن المكان يشكل لبعض الروائيين غير المتمرسين مصيدة آسرة بما يضمه من فضاءات وظلال ومن طبيعة صامتة ومتحركة ، ومن سكون وفوضى ، فإن الروائي المتمرس يعرف كيف يفلت من أسره، ثم كيف يوائم بين المكان الحقيقي والمكان التخيلي عبر رؤية تمنح الرواية بعداً فنياً خلاقاً، كما فعل يوسف المحيميد في هذا العمل الروائي الذي تحول فيه حديث المكان إلى إطار فني ، تداخلت معه المرويات السردية بالحديث عن أشياء الصحراء من رمال وأشجار وحيوانات تشكل الطبيعة المألوفة للصحراء ، وأشياء المدينة كالقصور، السيارات، الأحياء، السكينة ، الحدائق ، الطرقات … الخ .
وبغض النظر عن المشكل الذي يطرحه المكان على الرواية ، فإنه يخلع عليها من جمالياته ومن إمكاناته التاريخية والحديثة ما يشكل إطاراً فنياً متنوعاً يكسر النمطية الروائية ، ويمنحها أفقاً لا محدود من التجدد والمغايرة. فضلاً عن دور مكوناته الأساسية في تشكيل الفضاء الدلالي الذي ترسمه الأحداث، وتجعله يلعب دوراً بارزاً في البناء الروائي ذاته ، سواء كان المكان حقيقياً أم متخيلاً ، قريباً أو بعيداً ، وذلك من خلال ما يقيمه من علاقات وثيقة بين شخوص الرواية والواقع ، وما يكشف عنه كذلك من مواقف حميمية أو رافضة تجاه أماكن بعينها أو أجزاء من هذه الأماكن.

2- حديث الزمن:
إذا كان المكان هو الذي يحدد أبعاد الفضاء الروائي كما يذهب إلى ذلك نقاد الرواية ، فإنه –أي المكان- هو الذي يرسم بالسرد منظوره الواقعي أو المتخيل. أما الزمن فهو الذي يضبط إيقاع المواقف ، ويرسم تسلسل الأحداث في الرواية، واقعية كانت أم خيالية، تقليدية أوحديثه ، فالزمن عنصر جوهري في الأعمال الروائية حتى وأن بدا في الرواية الحديثة عرضة للتشظي والتهشيم كما هو الحال مع رواية (فخاخ الرائحة ) للروائي يوسف المحيميد، حيث يتقدم الأمس على اليوم ، والماضي على الحاضر ، وتبدو زمنية الرواية لعبة فنية شديدة المتعة والإثارة .
الزمن في هذه الرواية يقفز من النهاية إلى البداية ، أو بعبارة أخرى يجعل النهاية بداية ، والبداية نهاية في فصول ومقاطع استرجاعية تعطي للروائي قدرة هائلة على التقدم في مسار الزمن في ذهابه وإيابه ، في تهشيم بنيته المتسلسلة التي كانت تشبه النهر في جريانها . وهي طريقة في التعامل مع الزمن سلكها عدد من الروائيين ولم يبرع فيها سوى القليل منهم ، وأزعم أن يوسف المحيميد، واحد من هذا العدد القليل الذي حقق نجاحاً في تهشيم الزمن واللعب على مفارقاته الغريبة أو الغرائبيه.
تبدأ الرواية زمنها المتشظي والمقلوب من صالة سفر حيث كان أهم شخوصها “طراد ” قد وصل بحياته المملة الراكدة في المدينة التي يعمل فيها إلى درجة من اليأس ، جعلته يلقي بنفسه إلى هذه الصالة ليهرب من المعاناة الحادة التي بدأت معه من زمن الصحراء ، ورافقته في زمن المدينة “سأذهب فوراً إلى مكتب التذاكر وإذا سألني الموظف إلى أين ، أقول له إلى جهنم ” . وطراد لا يردد هذه العبارة اعتباطاً وفي حالة انفعال مؤقت كما قد يتوهم القارئ لأول وهله، وإنما يعكس ما يعتمل في صدره من ضيق ونفور ، وما تختزنه ذاكرته من مخاوف وإحباطات . وقد لا نتبين مدى الصدق في هذه العبارة إلاَّ بعد أن نكون قد قرأنا بقية فصول الرواية ، واكتشفنا أبعاد المسلسل الطويل من المواجع المتلاحقة ، وما تركته إذنه المقطوعة التي قضمها الذئب ذات مساء مرعب من شعور بالخجل والانكسار .
بين زمن الصحراء وزمن المدينة اختلاف كبير ، زمن الصحراء راكد جامد ، وزمن المدينة يتحرك ولكن ببطء ، هكذا تقول الرواية –ومن هنا، فقد تكون مشكلات شخوصها – وطراد بخاصه – ناتجة عن هذا الاختلاف،وعن المتغيرات المتسارعة في المدينة التي تجعل ناسها الوافدين يعيشون تداخل الأزمنة والحالات ، ولا يستطيعون أن يكونوا شهوداً على عصرهم لأنهم على هامش الحياة الاجتماعية وربما خارج هذا الهامش ، وواقع زئبقي رجراج كالذي أمضى فيه طراد جانباً من حياته بعد أن هجر الصحراء أو هجرته . واقع كهذا لا بد أن يجعل الشخص المقيم تحت معطياته في حالة دائمة من الشك والريـبة والحيرة ، والبحث عن زمن آخر حتى لو كان زمن الجحيم !
هل من زمن واقعي محدد لهذه الرواية ؟ سؤال تجيب عنه خلفية بعض الوقائع ، مثل ازدهار المتاجرة بالعبيد ، وإخضاع بعضهم للخصاء ، ثم نقلهم إلى الجزيرة العربية للعمل في المنازل كخدم وسائقين قبل أن تصدر قوانين إلغاء الرق ، وكيف واجه بعض هؤلاء الأرقاء مشكلة الحرية عندما وجدوا أنفسهم أحراراً ، ولكن دون إمكانات تجعل الحرية مصدر فرح إنساني واعتزاز . هذه الإشارات وغيرها توحي بأن الأربعينيات والخمسينيات وأوائل الستينيات من القرن العشرين هي المساحة الزمنية لهذا العمل الروائي الذي لم يفقده الإيغال في الخيال المحسوب واقعيته ، واستحضاره العميق لمشاهد ساخنة وطازجة لمرئيات الحياة بمعناها المحسوس والملموس .

3- زمن الشخصيات:
تكاد رواية “فخاخ الرائحة ” تتمحور حول شخصية واحده هي “طراد” البدوي الهارب من الصحراء ، لكن هذه الشخصية لا تستأثر بالمشهد الروائي كاملاً ، بل تترك مساحة واسعة لثلاث شخصيات أخرى هي “نهار” الشخصية الثانية ، قاطع طريق في الصحراء ورفيق طراد أتحد معه بعد صراع عنيف في نهب المسافرين والسطو على القوافل ، وقد لقي حتفه بعد فشلهما في اعتراض قافلة حجاج ، والتهمه ذئب جائع وهو موثق بالجبال ، ومدفون في الرمال مع زميله طراد الذي نجا بإعجوبة بعد أن فقد أذنه التي سبب له فقدها حالة من الشعور بالنقص لازمه إلى نهاية الرواية . الشخصية الثالثة العم توفيق السوداني الذي اختطفه الجلابة، وألحقوه بقطيع من الرقيق ثم باعوه عبداً بعد أن قصوا عضو ذكورته ، فعمل في عدد من منازل الأثرياء خادماً ثم سائقاً، وبعد إلغاء الرقيق أصبح منبوذاً لا عمل له . أما الشخصية الرابعة ، ناصر عبد الإله فلقيط ألقت به أمه الخائفة من العار في محل للقمامة ، وكادت القطط تلتهمه لولا أن أدركته يد العناية بعد أن فقد إحدى عينيه بخبطه من قطة جائعة . وفي دار الحضانة الاجتماعية حيث أمضى سنواته الأولى قبل أن تتبناه إحدى السيدات النبيلات ، وينتقل إلى القصر الفخم الذي كان العم توفيق يعمل فيه سائقاً ، لكن الأقدار لم تكن رحيمة به سوى لوقت قصير، ثم وجد نفسه في دار الحضانة مرة ثانية لمخالفته تعاليم القصر ، فقد تبول في الحديقة مضطراً ، ونسي أن له حمامه الخاص ، ولم تشفع له توسلاته ولا دموعه الغزيرة .
أشهد أن الروائي يوسف المحيميد أعطى لكل شخصية وزمنها ما تستحقه من عناية ، وإن كان طراد بوصفه الروائي والسارد لبعض المشاهد قد نال نصيب الأسد، وبفضله تعرفنا على الصحراء القاسية المترعة بالخوف والشجاعة والدم وانتظار المجهول. طراد منذ طفولته وهو يطارد الجوع والوحوش، وإذا كان إنسان الصحراء قد نجح في التصالح مع الحيوانات المفترسة، فقد كان من الصعب بل من المستحيل عليه أن يتصالح مع الجوع هذا الوحش الداخلي الذي ينهش الأحشاء بلا رحمة، ويدفع بصاحبه إلى ارتكاب الصعاب، وإلى أن يقدم حياته ثمناً لإسكات هذا الوحش الداخلي. ولم يكن طراد مهتماً بإطعام نفسه وحسب، وإنما إطعام والديه العجوزين أيضاً بعد أن فقد أخاه الأكبر في حادث يشكل أجمل غرائبيات الرواية، وقد جاء الحديث عنه على النحو الآتي: “تفتقدني أمي خزنه ليوم أو ليومين، وحالما تراني تعاتبني على غيابي وحدي في الصحراء، وتعتب على كيف لا أجلب لهم مما أكسبه في البراري، وأبي شيخ كبير، طاعن في السن، شحيح البصر، ولم يعد هناك سوى سياف أخي، بعد أن فقدنا أخي الأكبر سيف، الذي خطفته ذات ليلة جنّيِة لها شعر طويل، ومدعوجة العينين، يقولون إنه خرج ليقضي حاجته في الجوار، ثم عشقته الجنّية وطارت به فوق جناحها، وهناك من قال إن أخي سيف صار من أهل الأرض، حتى أنهم أكدوا أنه صار ملكاً عظيماً في إحدى ممالك الجن آه يا أخي، ألا ترسل لي من قبائل الجن، أو من بنات حرسك امرأة تعشقني وتهيم بي، وتنقلني من هذا الجحيم إلى ملكوت الأرض. قد لا تسمعني يا أخي لكنني أقسم لك أنني أبقى وحيداً في الصحراء، في أخر الليل، أقضي حاجتي أكثر من مرة في الليلة، وألتفت حولي باحثاً عن جنية تعشقني وتطير بي، لكنني لا أرى سوى الذئاب وهي ترعاني في البعد، وتحذرني في نفس الوقت “.
طراد إذاً، ليس شخصية روائية عادية، إنه بطل دراما عنيفة تمت فصولها الأولى في الصحراء بكل تضاريسها وهمومها وأساطيرها، وبالشجاعة التي يتحلى بها ساكنوها، والعطش الذي يشوي أكبادهم، والرمال التي تملأ أفواههم. نقاء، براءة، واعتماد على العضلات، صراع عنيف بين الإنسان والحيوان، وأحياناً بين الإنسان والإنسان. حياة جمعية مفرغة من كل معنى ذاتي، وأزعم أنه ليس كالرواية وسيلة ناجعة لكشف هذا العالم المجهول الذي لم يستطع الشعر الذي ولد على جوانب الصحراء أن يقول للناس عنها ما تستطيع أن تقوله الرواية. وتبقى إشارة أخيرة وهي عن الرائحة وفخاخها المنصوبة دائماً لإصطياد الإنسان سواء كانت رائحة الشواء أم رائحة المال أم المنصب، ولو لم تقع شخصيات الرواية في شباك الرائحة لكان زمنها مختلفاً وحياتها مختلفة أيضاً.

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *