مأزق العامل – الذات في رواية « فخاخ الرائحة »

مايو 28, 2012 | فخاخ الرائحة | 0 تعليقات

إبراهيم الحجري
عرفت الرواية العربية الجديدة تحولات عميقة في مسارات البناء والرؤيا، وذلك في أفق موجة التجريب التي تداهم الأعمال الإبداعية بصفة عامة، حيث انساق الروائي مثله مثل غيره من صانعي النص الإبداعي إلى توسيع أدوات انشغاله وتخصيب رؤاه وشحذ معانيه ومتخيلاته متمثلا لروح العصر وتفاصيله وأسئلته ومراعيا حدود التقارب والتباعد الأجناسي وفواصل الانفتاح والانغلاق بين أنواع النصوص والخطابات

شفاهية كانت أو كتابية، لكن هناك تيارا من الروائيين طفا على سطح اللحظة الراهنة بقوة، وفضل أن ينجرف كليا مع موجة التجريب هاته ضاربا عرض الحائط بأغلب المقومات الأساسية للكتابة الروائية، لتسود كتابة روائية غريبة عن القارئ وبعيدة عن متراكماته القرائية، وصادمة لتمثلاته الشكلية والمضمونية، فقد تعود القارئ العربي أن تشده في الرواية متعة السرد ولذة الحكاية، مثلما ألف أن تستهويه عوالم المسرود بكل تجلياتها: الزمن المتراكم ” الحكي الكرنولوجي .. البطولة الإيجابية .. الشخصية المثيرة بملامحها وأدوارها الثيماتيكية وبرامجها السردية وفلسفتها المستوحاة من تفاصيل الواقع المعاش المخصب بالتداعيات والمعطر بنفحات التخييل، الأمكنة والأزمنة المتقاطعة مع اليومي والنابعة من تجلياته .. كل هذه المكونات والدعامات الأساسية اعتبرت في عرف التوجهات الروائية الجديدة توافه وأشكالا متجاورة ليتم، بشكل تراكمي سريع، اكتشاف طرق جديدة ووسائل حديثة في ضوئها تشكلت كتابة روائية جديدة تراهن على المغايرة والبحث الدؤوب عن أشكال وقوالب غير مطروقة سابقا حتى أن المهتمين استشعروا لحظتها كأنما الكتابة بشتى تجلياتها أضحت مهووسة بهذا التنقيب الهيستيري عن اللامعروف واللامطروق وكأنما الرؤيا عندها كلها أصبحت تنحصر في لذة الاكتشاف ” التجريب “، فخلق ارتجاج في أفق التلقي وحدثت فجوة ضخمة بين الرواية ومتلقيها، إلا أننا نع ذلك لا ننكر أن جيلا من الروائيين العرب ظل وفيا للكتابة الروائية ومقوماتها الأساسية مع تطعيمها بوصلات وحقن تجريبية من داخل التجربة وليس من خارجها، فاتخذت معهم التجربة الروائية نكهة أخرى مزجت بين حلاوة السرد وطراوة المعنى ومرارة اليومي وتبدل الحياة في إبدالاتها وإكراهاتها المبتذلة، دون أن ننسى إمكانياتها الكبرى في تقصي هموم الذات اليومية وانشغالات الإنسان المعاصر وأسئلته المعقدة، أضف إلى ذلك كونها تنسج محكيها من تفاصيل الواقع المخضب بالمتخيل الواسع للروائي فتصبح الرواية المدخل الأساس لفهم منطق الحياة وما يجري في العالم، والروائي يوسف لمحيميد من جملة هؤلاء الذين يتفانون من أجل الرقي بالجنس الروائي شكلا ومضمونا بما يستجيب ومتطلبات العصر من أسئلة راهنة وموضوعات مستجدة تشخص وضعية الإنسان العربي وإشكالاته الداخلية وحاجاته النفسية العميقة في ظل المتغيرات السريعة التي يعرفها العالم وتحت ضغط السياقات الحضارية والتحديات الثقيلة التي تطوقه.
رواية ” فخاخ الرائحة ” عمل ممتع وعميق ومؤلم في نفس الآن، فهو يستضمر انكسارات الشخصية العربية ويبوح بجروحها الثخينة الثاوية خلف الظلال والقشور .. رواية تكشف المستور وتزيح النقاب عن النقاط الملتمعة داخل الذوات المستغورة للأبطال والشخوص .. تقول على ألسنة رواتها وعواملها وسارديها وشخوصها الرئيسية والثانوية ما لم يستطع أن يقوله الفرد في حياته العادية .. إن متاهة الحكي داخل هذا العمل الروائي يقود القارئ صوب متاهة حقيقية ويستدرجه نحو كمين الاعتراف بالهزيمة أمام وحل الإحباطات الذاتية الصادرة عن الشخصية الخارجية الآتية / النابعة من المحيط القذر. تصبح الرواية معتركا لوصل الالتحام بين الكاتب والمكتوب والمتلقي، يجمع هؤلاء كلهم وعثاء البوح الصريح عن أحاسيس دفينة مشتركة، عن تفاعل الذات مع الواقع والجماعة، عن التفاصيل الصغيرة التي لا ينتبه إليها الفرد غالبا في الحياة الاعتيادية عما تهجس به الخلايا والذاكرة والمسام. ساحة المسرود في هذه الرواية يعري نواقص الفرد ومعايب الذات وتصور الهاوية التي تنزلق إليها الشخصية العربية خصوصا، في إطار الهزائم المتنوعة التي تحيط به والإكراهات اليومية التي تعوي في واقعه مثل الذئاب الجائعة، إن الشك الذي تتمظهر به الدلالة في رواية ” فخاخ الرائحة ” يتيح للمهتم إجراء دراسة سيكولولجية عميقة لوضعيات الشخوص التي تؤثث فضاء المحكي وتعمره برامجها السردية وتمثلاتها الفكرية والفلسفية انطلاقا من الوسائط العلائقية التي يفرزها الخطاب الروائي خاصة وأن المقول السردي في غالبيته ينبني على التداعي والتذكر والاسترجاع (Back– Flash) واستنطاق المشاعر والأحاسيس الداخلية القصية كما أنه يحدث أن نجد عبر هذه الرواية الثرة شكلا من أشكال كتابة الاعترافات والسيرة واليوميات، وهذه الأشكال كلها تضمن إضاءة غربية لملامح الشخصية وتكشف ظلالها الداخلية المعتمة التي تنفلت أحيانا من الرمزي والتعبيري لتصلنا بالمباشر والتقريري.
ويتناغم ذلك مع وحدة الموضوع وانسجام قلة المعطيات والشخوص ثم توازي المكونات وتعالق الأحداث، حيث يتفاعل الكل ليجعل هذا النص الروائي سيرة لانطفاء الشخصية العربية وتسرب الوهج خارج أنفاقها وردهاتها ومسالكها، إن النص، بحق، يمثل مرآة نرى من خلاله ملامحها ونرصد معايبنا ونشخص مكامن الخلل في التصورات والمفاهيم والرؤى، ففي الحياة اليومية المعاشة قلما ننتبه إلى سلوكاتنا وهفوات تصرفاتنا اتجاه أنفسنا واتجاه الآخر، ولكننا عندما نقرأ ذلك في رواية أو قصة أو نشاهده في فيلم أو لقطة أو صورة نحس بالحرج والذنب ونستطيع أن نقوم تلك السلوكات والتصرفات كظواهر مستقلة لا علاقة لها بنواة الشخوص وإن كانت إفرازا لعملها. تريد الرواية أن تقول وتصرخ كم نحن في المتاهة والهامش والجحيم .. كم نحن مغبونون في هذا العالم الذي وجدنا فيه قسريا، وكم أن الحياة صغيرة جدا ولا تستحق أن تعاش. تقلنا من عالم الوهم إلى عالم الحقيقة / الجحيم الذي لم يعد للشخوص فيه من مهرب سوى الجحيم نفسه، الجحيم الآخر الذي عتبته الموت، إن المحكي هنا قاس جدا على المتلقي لأنه يضعه في صميم الفخ الذي يتهرب منه باستمرار. يصبح الحكي معبرا لورطة الانتقال وجسرا لمعرفة قيمة الذات في آن واحد، الانكسارات واحدة والهزائم متماثلة والأفق غائم والحياة موت أشد شراسة من الموت الفيزيفي، موت يعادل انكسار الذات وخواعها وانفراغها من محتواها الإنساني.
تشكل العنونة باعتبارها مجموعة من الدلائل اللسانية التي تأتي عادة في بداية النص من أجل تعيينه، مشيرة إلى محتواه العام وقاصدة إثارة الجمهور المستهدف2، باعتبارها عتبة أولى لاقتحام النص الروائي ومفتاحا من المفاتيح النافذة لفك شفرات المتن وسبر أغواره وحل ألغازه المستغلقة. إنه يضع المتلقي بين كفي النص ويتيح له وضع افتراضات والتقاط مؤشرات قوية واحتمالات قصوى لطرق أبواب الدلالة وتصور شكل تمظهرها وتوهم العناصر التي تؤثث فضاء المتن الروائي وتؤسس لمنطق تحولات المعنى طيلة تفاصيل مساحة السرد، و ” فخاخ الرائحة ” مقولة دلالية مواربة تتشكل من مفردتين هامتين: ” فخاخ ” وهو اسم جمع يحيل على تعدد الكمائن المنصوبة سواء في متاهة الكتابة السردية أو مسار الشخوص في منطق الحكي، والفخُّ مقولة تبعث على الخوف والتوجس وتشير إلى مقاصد وغائيات المقول الروائي، إن الفخ مكيدة مدبرة – مع سبق الإصرار والترصد – لصيد محتمل وكائن.
أما المقولة الثانية ” الرائحة ” فهي وإن كانت اسما معرفة مبهما وغامضا، لسنا ندري عن أية رائحة يتحدث العنوان؟ أهو عطر أم قذارة؟ إلا أن الموشر الهام هو كون هذه الرائحة مؤهلة لفعل الإثارة وجرّ الضحية إلى الفخ وقادرة على تحقيق فعل الاستدراج صوب الشرك المنصوب، من هنا يمكن أن نقول إن الرائحة ستتعدد بتعدد الفخاخ، فلكل فخ مثيراته وغواياته وروائحه، ولكل رائحة طريقتها في اقتياد الضحايا صوب المتاه، أليس القارئ هدفا لفخ التلقي؟ أليستْ ….. الحكي رائحة تستدرج المتلقي لاقتراف خطيئة القراءة ؟؟.
يكشف فعل القراءة انطلاقا من الوضعية البدئية: عن تواجد شخصية طراد أمام شباك بيع التذاكر بمحطة حافلات، مثلما يكشف أيضا عن وضعية نفس الشخصية وهي ما تزال بهذا الفضاء نفسه ( المحطة )، إذن فالبداية سفر والنهاية سفر أو لنقل استعداد للرحيل، ليبدو أن عمر الرواية ( الأحداث ) الحقيقي قصير جدّاً لم يتجاوز لحظات وقوف طراد بالمحطة ثم سحبه للتذكرة فجلوسه في كرسي الانتظار ثم ذهابه لأخذ سوندويش وإجراء مكالمة هاتفية، لكن عمرها المجازي يرحل سنين إلى الخلف عبر تقنية السرد الاستذكاري ليحفر في السير والأنساب واليوميات والاعترافات. وبين فعل إقبال طراد على موظف التذاكر الذي تجسده الوضعية البدئية وفعل إجرائه لمكالمة هاتفية للعم توفيق كما كان يسميه الرواة والذي تشخصه الوضعية الختامية، بين كوة شباك التذاكر وكابينة التيلفون تنام مأساة كل هذه الشخوص بما فيها الشخصية الرئيسية، بين هذين الفضاءين المتقاربين تكمن الجراح والشروخ التي لا تلتئم، إذْ تصلنا أحداث الرواية هذه انطلاقا من مفكرة طراد أو الكراسة التي عثر عليها أو من خلال مارواه له الآخرون من سيرهم. تصبح المحطة كفضاء استراتيجي في الحياة الاجتماعية والإنسانية، بؤرة مركزية تنجذب إليها كل الأفضية الواردة في المتن، ومركزية هذا الفضاء له أكثر من دلالة، فبالإضافة إلى كونه جسراً للعبور إلى أفضية أخرى مجاورة أو بعيدة، وفضلا عن كونه مقر تلاقح الأمزجة والحكايات وتفاصيل الناس العابرين، فهو أيضا محج الغرباء والمُضامين والمهزومين والهاربين من جحيم الأوطان، وأزمات المرابض الأصلية الجهنمية:
سافر تجد عوضا عمن تفارقه وانصب فإن لذيذ العيش في النصب3
إن طَرَّاد لم يغادر المحطة إلا ليعود إليها لتظل هي الملاذ والفكر والقصد حتى وإن كان غير عليم بالوجهة التي سيتخذها هربا من الجحيم – كما سماه -، وحتى إن كان في الأخير عزم على التجول في جحيمه للمرة الأخيرة قبل أن يغادر، هل نقول إنه يعشق مأساته؟.
تطلعنا الرواية على آلام تفاصيل الحياة التي تختزلها من خلال شخوص متعددة تشخص عراكها المرير مع المثبطات وقساوة الطبيعة والناس، وقد حرص يوسف المحيميد من خلال كتابته أن يتدرج في تفصيل بوحه عن الشخوص حسب أهمية المحكي وتبعا للإمكانيات التي تبيحها جهات التبئير السردي4 ( Focalisation )، حيث إن الرواة يتنازلون عن منبر السرد كلما كان ذلك ضروريا أو كلما تعلق الأمر بأسرار لا يمكن أن يعرفها إلا الشخص ذاته، لذلك فتعدد الرواة طريقة ذكية انتقاها الروائي لإضاءة جيدة وناجحة لحياة الشخوص وعتمة مساراتها السردية ودواخلها المثخنة بالجراح والمآسي والنقاط السود وتنقسم الشخوص داخل رواية ” فخاخ الرائحة ” حسب نوعية تمظهرها إلى قسمين: شخصيات رئيسية تلعب أدواراً أساسية في عملية الحكي وتفعيل الأحداث، وينبني على تواجدها المتن الروائي ونخص بالذكر ( طراد، توفيق، ناصر )، وشخصيات ثانوية عرضية تظهر ثم تحتفي، تظهر لتلعب أدواراً محددة في مسار الأحداث ثم تعود أدراجها لتعاود الظهور بعد مدة إن اقتضى المسار السردي ذلك أو تتوارى بالمرة إن انتهت صلاحيتها. إنها تحيى مدة قصيرة وتموت، تبرعم فجأة مثل دوم الخلاء ثم تصفر وتذبل تاركة المسار للشخصيات الأساسية كي تستكمل حياتها، وهذا النوع من الشخوص يظهر فقط ليضيء طريق الشخوص الأساسية أو يضيف إلى مسار السرد بريقا آخر من التجدد والتحول والتوهج والاشتعال، كأن يصنع عقدة الحكاية أو يخلق فرعا جديدا من الأحداث أو يحكي سيرة شخصية من الشخوص الرئيسية أو يكشف جانبا من جوانب المتاهة السردية أو يشكل عاملا من العوامل المعيقة أو المساعدة، لذا فهذه الشخوص – أقصد الفرعية – تنسحب دون أن تخل بالنظام العام للسيرورة الروائية بعد أن تكون قد فعلت فعلها إيجابيا أو سلبيا في تحريك عجلة السرد وإضفاء الفاعلية والحيوية في سبله المتاهية. وتتعدد هذه الشخوص الثانوية كعادتها في أي عمل روائي، مثلما تختلف أهميتها وأدوارها وحجم المساحة التي تشغلها في الرواية طبقا للصلاحيات المنوطة بها والأدوار التي خصها بها الروائي ويمكن أن ندخل في هذا الإطار ( موظف التذاكر – بداح – عامل النظافة – المدير – بدر – جواهر المرأة الشابة – الطفلة – الرجل العجوز – خزنة – المرأة الممتلئة – توفيق العبد – أحمد الحاج أبو بكر- الصبر زين – بخيت – ولد حليمة – سيف – جنية – نهار – صالحة – سلمى – الرجل الإيريتيري – حسن – رزق – عنبر – جوهر – أم الخير – خديجة – عبد الإله – جمالات – أبو يحيى – العطار – خيرية – زهيرة – أم كلثوم – زهرة – أنور عبد النبي .. ) ونلحظ أن بعض هاته الشخصيات يظهر بلا ملامح ولا حتى أسماء، كأن يشار إليها بصفات تلازمها أو خصلة أو انتماء، أو فعل تقوم به .. كما أن السمة الطاغية التي تغلب عليها هي كونها – في غالبية الأحيان – تشكل بالنسبة للشخوص الأساسية عنصرا معيقا لمساراتها السردية بل إن بعضها يمثل بحق سر تعاسة الشخصيات الأساسية المذكورة سابقا، ويجسد سيفا ذبح حقها في الحياة والحلم والطموح، وحتى بعض الشخصيات التي كشفت عن نوايا حسنة في البداية، تأكد فيما بعد أن فعلها ذاك لم يكن سوى مجرد فخ وخدعة وإغراء حيث كشرت عن أنياب التواطؤ ونصْل الغدر، ونجدنا مرغمين هنا على توسيع مفهومنا للشخصية، فلم يعد بمستطاع داخل هذا المتن كما هو الشأن بالنسبة للعديد من المثون الروائية الجديدة، اعتبار الكائنات الآدمية وحدها شخوصا روائية، بل غدت الشخصية مجرد علامة يمكن أن تكون شيئا جامدا أو فكرة مجردة أو حيوان أو عنصر مجردا / غير مرئي، فكم مرة لعبت هذه الأشياء أدوارا أطاحت بشخصيات آدمية وغيرت مساراتها السردية وحولت وجهة التركيز الحكائي داخل هذا النص الروائي، إن الشخصيات النمطية هنا صممت بعناية واتخذت رغم دورها الثانوي أهمية قصوى في بناء العالم الروائي. إن تشكل بنية هذا النص الروائي قد تمت بإحكام موثوق جيدا مما جعل كل شيء في العالم الروائي دالا، وحتى ما هو هامشي في هذا التصميم دال في إطارهامِشِيَّتِه.
وإذا أردنا أن نبحث عن البطولة بمعناها المتداول في نصنا هذا فإننا سوف نصادف صعوبات شتى، فمن جهة هناك تعدد الشخوص المرشحة لنيل هذه السمة، وفي جهة أخرى لن نجد هناك بطولة بالمعنى الحقيقي، إذ ليس هناك في الشخصيات من استطاع أن يتغلب على العوائق التي اعترضت مساره السردي، فكل من ( طراد وتوفيق وناصر ) شخصيات مهزومة في واقع الرواية كأنما سلط عليها قدر محتوم جعلها ترفل في النقائص وتنعم بجحيمية حياة قاسية مرة لا ترحم. إن تيمة الهزيمة هي المقولة المسيطرة على أبعاد النص كما أن للشخوص الرئيسية سمتين مشتركتين هي الإحساس بالنقص والمعاناة من ظلم الآخر في شتى تجلياته، وبتأملنا جيدا لفحوى المتون الروائية هنا وتقصينا للمقولات الدلالية المتواردة حشويا نستطيع أن نقول إن البطولة الحقيقة ضمنية وغائبة ويمكن استجلاؤها تبعا للقدرات التأويلية للمتلقي، فهل نقول إن البطل في الرواية هو الذئب لأنه استطاع أن يقهر البطل الحقيقي ( طراد ) بكل قدراته وإمكانياته أم نقول إن البطل هو الرائحة باعتبارها العنصر الأساسي الذي قاد الشخوص الرئيسية إلى فخ الهزيمة والاندحار ومشجب النقائص أم نقول إن فعل القطف كمقولة ترددت كثيرا عبر تفاصيل المتن الروائي هو بطل هذه الرواية؟ لا نكاد نجزم بأن النص تعمد أن تظل الرؤية حائرة والتمييز صعب، وهذه الخصيصة هي سمة من سمات التجريب في هذه الرواية، لذلك سنتعامل مع شخصية طراد كشخصية محورية أو العامل – الذات، على اعتبار أنه محور التلاقي والتعالق بين كل معطيات النص وهو بؤرة التصدع ومركز التوترات، تنطلق منه الأحداث وتعود إليه، يروي أحيانا ويُروى عنه، يفعل وينفعل، يغيب ليحضر، مشارك في الأحداث والسرد معا. شخصية تتحقق فيها تمثلات الذات والسرد والرؤيا الفكرية والشخصية العربية « وإذا كانت هذه المواقع الطبولوجية تتخذ عنصرا بنيويا شكليا، فإنها تكون محايثة، نظرا لأهمية الموقع في طبولوجيا الخطاب، بمقومات دلالية: وهي مقومات تسهم في تحديد المسار العام للممثلين في قدرتهم على إنجاز الأدوار التيماتيكية والعاملية، مما يمكن أيضا من إبراز الدلالة المتعالقة بهذه العناصر التركيبية والخطابية »5 .
طــراد: شخص بدوي بدأ حياته في البيد وخبر الصحراء وتفنن على مقارعة صعاب الحياة هناك كما تمرس على عراك معيقاتها وهُيوشها وُوحوشها الفتاكة، احترف اللُّصوصية وقطع السُّبل لاختلاس القوافل العابرة قصد الاسترزاق، وازدادت براعته في اعتراض وعورة الصحراء وانتزاع نصيبه عنوة من جحافل القوافل المارقة ليلا بالصحراء، حينما التقى صديقه نهار، إذ كان ساعده القوي وسيفه البتار قبل أن يسقطا معا في فخ عسس القوافل فيكبلونهما ويدفنونهما أحياء في رمال الصحراء الموحشة حيث يصبحا فريسة طازجة وباردة لوحش البر ( الذئب )، الذي افترس ” نهار” وقطف أذن ” طراد ” .. وبعد أن ينجو هذا الأخير من ميتة محققة يجد نفسه أمام ميتة أقسى وأمرّ حيث سخرية الناس وتهكمهم اللاذعين وليل بدوي سرمدي .. يهرب طراد من البادية قاصدا المدينة عله يستريح من سخرية العالم، غير أنه ما وجد غير ذئاب بشرية أشد شراسة من الذئب سرحان الذي بتر أذنه اليسرى، تنقَّلَ في نهارات المدينة ولياليها عبر وظائف متعددة من عامل يومية إلى فرَّاش، من جندي حارس في بنك، ثم حارس بوابة قصر، إلى مراسل في وزارة6 ، وبعد أن ملَّ حياة الحضر المليئة بالغدر والخديعة، واستفرغ قدراته ومعنوياته في العمل الدؤوب الصادق قرر أن يرحل إلى أي عالم آخر يقيه حرّ الواقع ولفح قيلولته.
توفيق: زنجي تم اختطافه صغيرا من قريته ” أم هباب ” وسط السودان، حيث لم يكن يعرف أباه الحقيقي، وحيث أحرق الجلابة القطاطي كلها بهذه القرية، وفي رحلة الهرب من هؤلاء وقع في الفخ، حيث اقتيد رفقة جماعة إلى أماكن مجهولة إذ تم اغتصابه وبعدها انتزعت فحولته بالرياض من طرف مهربي بني آدم، اسمه الأصلي حسن، أمتُهِنَتْ كرامته صغيرا وكبيرا، ومع ذلك تعلم التحمل، عمل خادما لدى أكابر القوم وفي القصر ثم قهوجي في الوزارة.
ناصر: طفل لقيط رمته أمه في كيس بلاستيكي بعدما تنكر له أبوه تحت ضغط القبيلة وأعراف القوم، سرقت القطط عينه اليمنى في ليل المدينة المخادع المتواطئ، تربى في دار الحضانة ثم ابتسم له حظٌّ صغيرٌ ليكون ابن القصر لكن سرعان ما أعاده النحس إلى زمرة أصدقائه بدار الحضانة، تعرض هو الآخر لمحن الاغتصاب وهدر الكرامة وقتل الأحلام واغتيال المطامح.
لكل من هذه الشخوص حالة نقص تؤزم مساره السردي، وقد جمعتهم الصدفة في علاقات عابرة أو حميمية، وصنعتْ لهم حبكة الحكي شبكة من التقاطعات حتى أن سِيَرَها أضحت بؤرة النص الروائي، هذه السير التي يطبعها الألم وتسمها الخسارات، الواحدة تلو الأخرى، هذه الخسارات التي تحولت إلى مركبات نقص أثرت على الشخصية طيلة حياتها النصية، وأخذت تتقارب وتتشابك لتصبح أقرب إلى التوحد والتماثل بفعل حصار بؤر التصدع هاته التي اتخذت أشكالا متعددة لتفرز لدى الشخصية ( سواء كانت طرادا أو توفيقا أو ناصرا ) ما يمكن أن نسميه عقدة النقص أو عقدة الكمال لأنها شكلت لحمة اهتماماتها ونقطة المركز التي تشد إليها كل الخيوط العلائقية الأخرى، ويمكن القول إن كل من شخصيتي توفيق وناصر تشكلان وجوهاً متعددة لشخص واحدٍ ومرايا مختلفة لوضعيات غالباً ما تكون متشابهة، صحيح أنها تأتي من مشارب متعددة وسياقات اجتماعية متنوعة وتكابد محنها بطرق متغيرة، لكن قاسمها المشترك أنها كلها تمثل حالات مرضية عاجزة ومستهلكة ومحبطة أو لنقل ميتة لا فعل لها في الواقع، إنها تعيش كما يشتهي الآخرون دون أن يكون لصوتها صدى فعليا في المعيش، تنتظر أن يقرر الآخر مصيرها، بل تنتظر الموت الفزيقي ليخلصها من حياة الذل والاستغلال والاحتقار. إن ” طراد” كشخصية رئيسية يتهجَّى ملامح سير كل من “توفيق” و ” ناصر” ليعزي نفسه ويستقل مأساته الشخصية أو ليرى نفسه متكررة في مرايا هزائم أخرى ومطبات متوهمة ” لو تعرف يا ناصر ماذا فقد العم أو العبد توفيق، أنا وأنت، أذن وعين، أما هو ..7 ( مشيرا إلى افتقاد فحولته ورجولته ) يقول الراوي على لسان العم توفيق ( لكنني لم أصبح ثريا فضلاً عن أنني لم أعد رجلا !! ). إن التداخل بين سير هذه الشخوص الثلاث يمنحنا حق إدماجهم في فاعل موحد على مستوى السرد تحركه حوافز مشتركة هي الهروب من جحيم الناس الذين يطاردونهم لينكأوا جروحهم الغائرة ويضحكوا على ذقونهم ويكشفوا سوءاتهم، وتتجه مطامحهم صوب أهداف معينة هي ستر نواقصهم والعثور على قوم يقبل التعايش معهم كما هم دون سخرية أو تهكم والبحث عن عالم يضمن الطمأنينة والسلام، ويمكننا رصد مظاهر تأزم العامل – الذات عبر المتن الروائي انطلاقا من تفتيت سيرة الضنك والعذاب إلى مراحل وسياقات متعددة:
السياق الاجتماعي: من أهم المآزق التي عرفتها مسارات الشخوص الأساسية داخل الرواية نجد السياق الاجتماعي المزري الذي أطر سيرهما منذ الصغر، بل لعله العامل الأساس الذي سبب مأساتهم، فلو كان هناك استقرار اجتماعي في حياة طراد لما اضطر إلى احتراف اللصوصية وقطع الطرق التجارية للقوافل بالصحراء قصد الاسترزاق، ولما وضع في الأسر الذي جعله يفقد أذنه اليسرى، « صحيح أننا نقطع الطريق على الآمنين، صحيح أننا لصان، لكن صدقني يا خوي، إننا لا نقتل أحدا، دون أن نكون أصلا في خطر، فندافع عن أنفسنا »9 . ونفس الأمر ينطبق على شخصية توفيق الذي دفعته وضعية اللااستقرار إلى الهرب من طاحونة الجلابة المحرقة ليجد فخهم منصوبا أمامه من جديد، أيضا لا ننس دور الجوع كظاهرة اجتماعية ناتجة عن التشرد، في الإيقاع به وزملاءه في قبضة القتلة « كنا مثل البهائم نعيش على عشب الأرض وخشاشها، كان الجوع يقطعنا، إلى أن وقعنا في الفخ !! »10 . لولا هذان الاعتباران لما وقع توفيق في قبضة آكلي لحوم البشر الذين باعوه في سوق النخاسة وقطفوا رجولته. ويتفاقم العامل الاجتماعي أكثر حينما يتعلق الأمر بشخصية ” ناصر” الذي أدى به تخلي الوالدين عنه وإهمالهما له إلى أن يعيش لقيطا بعدما رمته أمه للقطط الضالة كي تقطف عينه اليمنى فلم يجد أمامه سوى دار الحضانة وحياة البؤس والذل « هناك من يتآمر ضدنا يا ناصر اللقيط إلى يوم الدين، أنت سرقوا عينك كي لا ترى، وتبقى طول عمرك لا تسأل ولا تفكر إلا بعينك كيف تواريها عن الناس، وأنا قطفوا أذني كي لا أسمع، ولأبقى كل العمر ذليلا مهانا أواري سوأة أذني »11.
الوضعية الفزيولوجية: يبدو واضحا من خلال رصدنا لتطور أحداث المحكي الروائي أن الشخوص الثلاث المشكلة لعناصر العامل – الذات تعاني وضعية محرجة من حيث الحالة الفزيولوجية والجسدية، إذ أن كلا من (طراد– توفيق – ناصر ) يعانون من حالة نقص على مستوى الجسد، الأول افتقد أذنه والثاني افتقد فحولته والثالث قطفت عينه، مما ولد لدى العامل – الذات حالة مرضية تشعر بالنقص أو ما يدعى في علم النفس بعقدة ” الكمال “، وللإشارة فالعامل – الذات داخل الرواية تعرض لفعل البتر قسريا ولم تخلق معه معايبه، أي أن حالات التشوه هاته والتي شكلت عقداً نفسية بليغة للممثلين ( طراد – توفيق – ناصر ) ليست طبيعية وإنما نتجت عن فعل إنساني عدواني / انتقامي لكن بصيغ مختلفة:
طراد  فقدان الأذن  من طرف الذئب ( سرحان )
توفيق  فقدان الرجولة  من طرف الحجاج ( السماسرة البشرية )
ناصر  فقدان العين  من طرف القطط
حالات النقص هذه، والتي تكاد تكون متماثلة، على الأقل داخل المتن الروائي، تعد من الأدوار التيماتيكية الأشد دينامية في النص لأن تركيزها السردي بؤري في العالم الروائي، وهو المحرك الأساسي للفعل السردي داخل المسار الذي سطره الروائي قبلاً، سواء من حيث تفعيل البرنامج السردي أو من حيث تحفيز الممثلين على البحث عن التوازن أو الحل، وعليه يمكن تجسيد المسار السردي أو بنية الحالات والتحولات كالتالي:
حالـة النقـص  محاولـة إعـادة التـوازن  العجز أو الفشل
الإحساس بالعيب  محاولة خلق انسجام مع الآخر  هروب من الواقع
إن تركيز الروائي على موضوعة النقص في تركيبه لعوامل الفضاء الروائي لها دلالات وإيحاءات عميقة تشير إلى ما يعتور الذات العربية من عجز في تشكيلها النفسي وتكوينها الفزيولوجي، فالمعايب متعددة لكن الأساس واحد هو التوغل في العجز والانهيار التام وعدم القدرة على خلق التواصل مع المحيط أو بالأحرى إقناعه بالقبول، فكل الشخصيات الأساسية في هذا العمل الروائي هي شخصيات عاجزة لا يعول عليها في وضع أي قرار يهم المجتمع لأنها ليست متصالحة مع ذواتها فبالأحرى التفكير في الهموم الجمعية، فهم منشغلون بمعايبهم الذاتية ومرهونون بعوالمهم الشخصية القاسية.
الوضعية الاجتماعية: تشكل مأزقا أخر من المآزق التي عايشها العامل – الذات خلال المتن الروائي، إذ أن حالة كل من توفيق وطراد وناصر الاجتماعية تبدو متخلخلة ومضطربة وغير قارة بفعل المتطلبات الكثيرة التي اعترضت مسارهم السردي العام، حيث لا مأوى قار ولا أهل ولا سبيل في الحياة ولا حتى مجرد هوية « حتى الاسم لم يكن مثل أسماء الناس في هذه المدينة الجحيم، يتمدد اسمي مثل طريق موحش لا آخر له، مثل دهليز مظلم لا ترى فيه شيئا، حتى ولا يدك، اسم لا يحمل في نهايته ألف لام التعريف اللعينة، مثل العائلات المعروفة في هذي البلاد … لكنك نكرة لا أب ولا أم معروفان، فكيف يتم تعريفك أيها الحبيب ناصر، وأنت نكرة ؟ »12. وحتى علاقاتهم مع بعضهم كانت عابرة وبالصدفة وقد حاول السارد أن يخلق بينهم حميمية التلاحم إذ كانت لهم هموما مشتركة ومعاناة موحدة وهي عدم التواصل مع الآخرين ورفضهم من طرف المحيط الذي ينتمون إليه لا لشيء إلا لأنهم افتقدوا في ظروف خاصة جدا أجزاء من أجسادهم، فكثيرا ما كان طراد وهو يسرد معاناته ويقرأ يوميات ناصر، من حين لحين يتضامن مع توفيق أو ناصر ويقترح لهم حلولاً وإن كانت واهية، ففاقد الشيء لا يعطيه « اللعنة يا ناصر بن عبد الإله، أليس هناك من يخلصك ويقطف الثمرة من بين فخذيك ويرميهما في صندوق نفايات في محلة المظلوم أو الظالم أوحي السد الغربي أو الشرقي، حتى تتخلص ممن يتحرش بك وبطفولتك الغضة المستباحة ؟ّ! »13، إضافة إلى حالة العزلة والتهميش التي طالتهم من لدن المجتمع الذي لا يرحم، مجتمع صورته الرواية في أشد ملامحه شراسة وعفوية وعنفا، مجتمع يسوق المحرومين والمظلومين بقسوة الحيوان المفترس صوب الجحيم. ويمكن تحديد هذه القسوة فيما يلي:
– حالة العزلة والتشرد.
– حالة اليأس من الحياة.
– التفكير في الهروب من الواقع.
– سخرية الناس من العامل – الذات.
– كثرة المطبات وتوالي النكبات.
– الوضع النفسي المنهار.
– عدم استقرار الوضع الاجتماعي.
– الإحساس بالغبن والظلم.
لنتصور أن العامل – الذات افتراضيا وجد ضالته في محيطه فتبناه ووثق به وانسجم مع عناصره الأخرى، فهل سيفكر في الهروب من واقعه ؟ أتصور العكس، أتصور أن طراد وتوفيق وناصر سوف يتناسون – كممثلين داخل المتن الروائي – حالات النقص التي كتبها عليهم قدر الرواة ( أحيانا يصبح العامل – الذات نفسه راويا )، لكن هذا لم يتوفر وذلك بفعل غلبة العامل – المعرقل على العامل – المساعد، حيث يشتد الصراع في محور السلطة داخل النص، وتكون بذلك قد حددت الكتابة غائيتها بتحقيق نكوص العامل – الذات اجتماعيا ونجاحها في إبراز تمظهره الهامشي كعنصر لقيط غير مرغوب فيه اجتماعيا من طرف محيطه الذي يعيش فيه.
– التخلص من الابن ناصر برميه في الخلاء.
– طرد ناصر من القصر بعد تحقيق فعل الحاجة.
– دفن طراد حيا تحت الرمال, وعدم تحقيق رغبة القتل.
– نظرة الازدراء إلى شخص توفيق بعد اكتشاف النساء لفقدانه فحولته.
– طرد طراد من العمل مرات.
– عدم وجود مسكن قار وقد تجلى ذلك من خلال مبيت طراد في المحطة قبل أن يقصد منزل العم توفيق.

الوضعية النفسية: يعيش العامل – الذات مضايق سيكولوجية عسيرة نتيجة الإحساس بالنقص والعيب، فالممثل الأول وهو طراد يعاني من بتر الأذن من طرف الذئب سرحان الذي قتل صديقه نهارا أيضا، والممثل الثاني توفيق يعيش تحت ضغط فقدان الرجولة، حيث بتر السماسرة جهازه التناسلي وتركوه في حياة الضنك بلا عزة ولا كرامة ولا شخصية خصوصا أمام النساء، أما الممثل الثالث وهو ناصر فقد عاش حياته النصية وحيد العين ضعيف الرؤية، ولو أن ظهور هذا الممثل ظل خافتا كما ظل فعله في الأحداث غير مرئي وعكس الممثلين السابقين لم يحضر صوته السردي إلا من خلال مذكراته التي عثر عليها طراد، فتكلمت عوضه بلسان حاله وأفصحت عما مر به من أحزان ومتاعب ومشاعر .. إنه لم يظهر إلا مرة واحدة حينما سحب الملف من يد طراد وانسحب دون أن ينبس ببنت شفة فيكون بذلك قد أوقف فعل البوح الذي كانت تقوم به مذكراته من خلال وساطة طراد، ويمكن القول إن المعاناة النفسية للممثلين الأخيرين ( توفيق وناصر ) كانت حاضرة في ذهن الممثل الأول ” طراد” أكثر مما كانت واردة لديهما، وكأنما تعنيه حالتهما أكثر مما تعنيهما ليعزز ذلك ذهابنا إلى القول بأن ناصر وتوفيق ما هما إلا صورتان أخريتان بتمظهر تيمة الفقد التي تجلت بشكل مكشوف داخل المتن الروائي، هل نقول إن رواية ( فخاخ الرائحة ) كشف لضعف الشخصية العربية المهمشة وتعرية لواقع العنف الرمزي السيكولوجي الذي تحياه نتيجة الإخفاقات المتوالية والفشل الذريع اللذين يلاحقانها باستمرار وسرمدية حتى وهي ترحل صوب الجحيم.
والحاصل أن الشخصية الروائية لم ترض بواقعها التيماتيكي الذي أسبغه عليها الكاتب وسخرت حياتها النصية والسردية بحثا عن المستحيل وتفانيا في مواراة وإخفاء النقص الذي لن يتخفى وكأنما الرواية تقتدي يقول الشاعر:
ومهما يكن عند امرئ من خليقة وإن خالها تخفى على الناس تعلم14
لقد حاولت الرواية أن تبرز المعايب التي تطال الشخصية العربية من خلال الغوص في تركيبتها النفسية العميقة وإطلاق العنان لخواطرها ومنغصاتها دون أن تتدخل بكبح جماح بوحها العاري أو تقطيعه، بل إنها تعمدت أن تجعل العامل – الذات راويا وقائما بالأحداث في آن واحد. وقد بدا أن الشخوص تعاني من عقدة الكمال من خلال الانصراف إلى الانشغال بالتوافه وتناسي الاهتمامات الكبرى الجمعية والأسئلة الفضفاضة والمقلقة التي تطوف عنق الأمة والتحديات العالقة التي تنتظر الإنسان العربي، انشغال بالذات عوض الهم العام وانصراف إلى الجزئيات والقشور عوض الاهتمام بالصميمي ما دام أن الجسد شكل قشري والروح مضمون جوهري، كان على الشخوص الرئيسية الثلاث ( طراد، توفيق، ناصر ) أن تفرض ذاتها على المحيط الرافض لها بطرق أخرى عملية وبتحقيق وظائف مميزة لإثارة الاهتمام عوض الهروب الزائف والتخفي المستمر. ونلاحظ أن ” تميز الشخصية الروائية هنا على وجه العموم بكونها ذات محتوى سيكولوجي خصب ومعقد معا، فهي تحبل بالتوترات والانفعالات النفسية التي تغذيها دوافع داخلية نلمس أثرها فيما تمارسه من سلوك وما تقوم به من أفعال، ومن جانب آخر فهي تعاني من تناقضات في تركيبها النفسي تؤدي بها إلى الاستسلام للنزوات والانقياد للرغبات الدفينة وتجعلها، نتيجة لذلك، تفتقد إلى التناسق الضروري لكل شخصية سوية، ويترتب عن هذا كله تلك الصعوبة التي تصادفها في إقامة علاقات سليمة وصحية مع الآخرين، بل إننا لا نكشف خاصية ” الكثافة السيكولوجية ” إلا من خلال علاقتها المتوترة بمن يحيطون بها أو يقعون تحت تأثيرها “15.
عموما يمكن القول إن العامل – الذات كائن نصي محيط متذمر نفسيا بعيد عن واقعه الحقيقي يعيش على الهامش متخفيا خلف ظلاله المشوهة، مما انعكس على برنامجه السردي الذي بدا تعويضيا ينطلق من الذات ليعود إليها بعد الفشل في اختراق الجماعة أو المحيط وخلق تصاهر يضمن له إيجابيته، ويشعره بالترقي والدينامية والتوثب.
البعد الفكري: إن هذا العمل الروائي الممتع ” فخاخ الرائحة ” لم يكتب عبثا، واختيار تيماته وشخوصه بهذه الطريقة ليس عملا تلقائيا صدفويا، بل هو عمل مفكر فيه ومصنوع بعناية، لذلك فانهزامية الشخوص واضمحلال رؤاها وسلبية تفكيرها ومتاهية السبل التي اتخذتها في حياتها النصية تعكس وضعا معينا في تصميم الواقع والنظر إليه كمحيط متخلف لا يصنع سوى القيم الرديئة والأوضاع المزرية، ويمكن أن نبرز تمظهر البعد الفكري من خلال النقاط التالية:
غياب رؤية واضحة للعالم: حيث اختزلت حيوات الشخوص كلها في عمل واحد وهمّ مقيم هو فقدان بعض الأعضاء وهذا يعكس غياب توجه فكري حقيقي ينصرف إلى عمق الروح الإنسانية وينشغل بالأسئلة العميقة للفرد وإكراهاته ومتطلباته، وهكذا يبدو أن أغلب الوظائف الأخرى التي يقوم بها العامل – الذات في الرواية هي مجرد وظائف وهمية لسد الرمق لا غير، « أريد فقط مكانا يحترمني، لا يذلني ولا يعاملني كالكلاب، هربت من ديرتي بسبب القبلية ومن القصر ومن المواقف، ومن الوزارة، وأخيرا أحاول أن أهرب من الجحيم … »16.
الشعور بالسلبية: كثيرا ما كان العامل – الذات يدخل في حوار مع الذات عبر مونولوغات عميقة ينتقد ذاته ويعيد النظر في السبل التي قطعها مبرزا أخطاءه متمنيا لو كان اتخذ طرقا أخرى غيرها، وذلك بعد فوات الأوان، وهذا يكشف قيمة الشعور بالذنب عند العامل – الذات وإحساسه بأن حياته كان يجب أن تستثمر في مناح أخرى بدل أن تهدر في سبيل البحث عن قيم مستحيلة لن تجيء ولو على سبيل الكناية، وقد عبرت الشخوص في أكثر من مرة عن استيائها من وضعها السلبي وتمنت لو كانت افتقدت هذه الأعضاء في حرب شريفة « آه، لو أنني فقدت عيني في الحرب »17.
غموض المسارات: بعد أن سعت الشخوص / الممثلون الذين يشكلون العامل – الذات إلى لَمِّ تفاصيل حكاية الجسد في محاولة لطي المأساة وستر الجرح، لكن الخيبة والفشل لم يتركا لهم أية فرصة للإمساك بهذه الغاية، فتمكن الزمن السردي من العامل – الذات وأصبح يتحكم فيه عوض أن يكون العكس، لذاك فقد تاهت خطواته خلف مسارات ملتوية غائمة وسرابيَّة ولم تعد له أية وجهات محددة يسير نحوها برنامجه السردي، كأنما لا فعل له في السياق الذي يجري في العالم الروائي، يقول السارد على لسان ( طراد ): « وتحولت إلى أضحوكة وتسلية لهم، مما اضطرني إلى الفرار، نعم، إنه فرار وهزيمة!! »18.
فشل البرنامج السردي: داخل كل عمل سردي لا بد من عمل وظيفي داخلي للشخوص يستطيع تحفيز الحدث وصنع الحبكة وتعقيد المسارات وتشابك العلائق، هذا العمل الوظيفي الذي يعني بالخصوص العامل – الذات يدعي في عالم السرديات بالبرنامج السردي وهو سلسلة من المتتاليات والحالات والتحولات التي تعرفها تحركات العامل الذات في مساره السردي العام. وفي راوية ” فخاخ الرائحة ” حيث يمتد العامل – الذات ليشمل ثلاث شخوص، يمكن رصد هذه الخطاطة التي توضح التحولات العميقة التي طرأت على العامل – الذات:

وبين هذه الحالات والتحولات تتوزَّعُ مأساة العامل – الذات المتعددة والمتمظهرة نصيا حسب تعدد الممثلين (طراد – توفيق – ناصر ) وتبعا لتغير المسارات السردية في هذه ” الفخاخ ” : فالحالة الأولى تمثل التوازن الحاصل في القوى بين ممثلي العامل – الذات وعوائق الحبكة السردية، حيث كانت كل الحوافز والقيم إلى جانبهم، أما الحالة الثانية فقد شلت حركة التوازن وفقد المسار استقراره نتيجة وقوع الممثلين في المصيدة مما كلفهم فقدان القدرة على مواصلة نفس المسار، إذ فقد ( طراد ) أذنه وقُطفت عين ( ناصر ) وبُتِرَتْ فحولة ( توفيق )، حالة النقص هذه أدخلت العامل – الذات في دوامة البحث دون جدوى عن سبل متاهية للخلاص المستحيل وعليه يمكننا تفصيل المتاهة السردية التي انتهى إليها العامل – الذات كالتالي:

وقد تفرع عن فشل هذا البرنامج السردي برنامج سردي آخر يعوضه ويكمل متاهة السرد التي صنعتها الحبكة، حيث يصبح همُّ العامل – الذات كموضوع : الهروب من جحيم الإحساس بالعزلة والضيم والتشفي والنبذ من طرف المحيط. ويضحي الواقع مرسلا ونفسية العامل الذات مرسلا إليه، وهذا البرنامج السردي وإن كان ترقيعيا فإنه هو الآخر يفشل بسبب عدم تحديد طراد وكواحد من ممثلي العامل – الذات وجهة سفره وهروبه ثم عدوله عنه في آخر لحظة، ويمكننا رسمه كما يلي:

ويتبين من خلال الخطاطتين معا انتصار محور السلطة على محور الرغبة في البرنامج السردي وغلبة المثبطات مما ساهم في اندحار العامل – الذات وفشله، إن تيمة الفشل تتمظهر نصيا عبر التراكم الحشوي لمجموعة من المقولات الدلالية والسياقية المتضامة معنويا وتشاكليا، مما يساعد على بناء نواة تصنيفية ضدية تعكس قوة الصراع بين مقولتي النجاح والفشل، وإن كانت المقولة الأولى لا تتمظهر إلا ضمنيا.

تضـــاد الفشل

لعل هذا السفر القرائي يقودنا إلى القول بأن الرواية برمتها تسعى إلى إبراز الصورة القاتمة للشخصية العربية واختزال الخطابات الأزموية التي تكبل قفزها نحو ممرات التحدي وتعرقل خطوها نحو القبض على الأسئلة الحقيقية والرهانات الهامة وتصرفها عن الانشغالات اليومية الجوهرية، كما أنها ( أي الرواية ) تحرص على كشف التمثل الذاتي للشخصية للقضايا التي تقض مضجعها، وبنفس الحجم تبث أسئلة محورية لدى المتلقي وتستفز فضوله، وتشخص بطريقة مؤلمة محنة الذات وصراع الشخصية وهي في طريقها الوعر نحو ستر المكشوف من المعايب وإبرام المصالحات مع الذات ومع الآخر ومع المحيط الاجتماعي، وهي فوق كل هذا فخ للقراءة واستدراج قاس نحو جحيم الكتابة والتلقي. هذه الوضعية تجعل القارئ بالضرورة يقوم بعملية رجوع دائمة إلى الخلف ليعيد النظر فيما قرأه سابقا، معتمدا في ذلك بالطبع على ما احتفظت به ذاكرته من عناصر نصية سابقة، ولذلك فهذا الرجوع إلى الخلف لا يكون رجوعا فعليا في قراءة النص، بل رجوعا استذكاريا، ويمثل هذا التدخل الذي يقوم به القارئ يتبدَّى النص في شكل يتخطى حالته الفزيائية باعتباره تركيبا له بداية ووسط ونهاية، إلى جانب حالة فزيائية / ذهنية جانبها الأول يمثل القراءة الخطية والجانب الثاني يقوم بقراءة عكسية إلى الوراء في تبادل تأثير بينهما مستمر19. إن النص الروائي هنا كائن حالم رغم ألمه يتمدد ويتقلص تبعا لما يرتج في الذاكرة والروح من أراجيح فعل التلقي وأسرار طوقه، إننا في هذا العمل أمام الإنسان في قلقه الدائم وحاجته إلى فعل الحكي من أجل الخروج من مأزق التفرد، وتأكيد النزعة الاجتماعية للإنسان20.

الحواشي:

1 المحيميد يوسف: ” فخاخ الرائحة” رياض الريس للكتب والنشر الطبعة الأولى 2003

2 لحميداني حميد : ” عتبات النص الأدبي ” في علامات ج 46 المجلد 12 ص 35.
3 انظر ديوان الإمام الشافعي رضي الله عنه.
4 اعتمدنا هذا المصطلح الذي وضعه جيرار جبيت بدل مصطلح ” وجهة النظر ” أو ” الرؤية السردية ” نظرا لشموليته.
5 نوسي عبد المجيد : ” التحليل السيميائي للخطاب الروائي” شركة النشر والتوزيع المدارس، 16، البيضاء 2002 ص 166
6 انظر ” فخاخ الرائحة” ص 10.
7 نفسه ص 39.
9 نفسه ص 67
10 نفسه ص 26
11 نفسه ص 39
12 نفسه ص 36
13 نفسه ص 77
14 أنظر معلقة زهير بن أبي سلمى.
15 بحراوي حسن: ” بنية الشكل الروائي – المركز الثقافي العربي—ط 1 البيضاء 1990 ص 302
16 ” فخاخ الرائحة” ص 34.
17 ” فخاخ الرائحة ” ص 99.
18 نفسه ص 24.
19 لحميداني حميد: ” عتبات النص الأدبي ” مرجع مذكور ص 27.
20 النعمي حسن: ” قراءة في روايات عبد العزيز مشري ” مجلة علامات ج 47 مج 12 مارس 2003، ص 87.

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *