سيمون نصار
إن من يتجول من رواية إلى رواية “خليجية” في سعيه إلى الاستطلاع، كسائح حيادي يريد إشباع فضوله ومعرفته عن فن الرواية وما وصلت إليه في هذه المنطقة، يكاد في الحقيقة لا يجد في كثير من الروايات التي تنشر ما يستحق القراءة، أي تلك الأعمال التي لا تؤمن متعة القراءة ولذتها الشريرة، إذ نادرا ما نقع على عمل روائي آتٍ من هذه المنطقة – معظم دول الخليج ضمن هذا السياق – يكون جيدا
وجديا ومحترفا في الآن نفسه إلا بعض الأعمال التي أخضع أصحابها أنفسهم إلى دراسات طويلة في فن الرواية وإلى محاولات كبيرة في كتابتها، ويوجد عدة كتاب لا يصلحون لمثل هذه المهنة الإبداعية أو أنهم عمليا يمارسونها كعمل إضافي أو كهواية لا لزوم لها إلا لأنها تؤمن لهم “شهرة” ما وحضوراً مميزا ًمن خلال النمط الرومانسي الأقرب إلى ذائقة المـــراهقين منه إلى العمل الروائي الكامل، وعلى هذا فقد انتبه كورنيلوس كاستورياديس منذ وقت غير بعيد إلى هشاشة هذه الفئة من الناس بالقول “لا نفوز لأن لنا قيمة بل نكتسب قيمة لأننا نفوز” وحتى لو اعتبرنا أن الرواية هي عمل يبقى غير كامل بالمعنى العام لأن الحياة لا تكون كاملة والرواية في جانب منها سيرة حياة أبطالها، حتى لو كانت تؤدي وظيفة الحياة ولو كانت في مكان آخر بحسب ميلان كونديرا.
عكس هذا السياق تدخل رواية “فخاخ الرائحة” ليوسف المحيميد إلى الذاكرة فهي رواية يمكن اعتبارها محاولة جيدة في الكتابة الروائية، فالكاتب يعتمد الفنتازيا السحرية إلى جانب أنه يتمتع بأنه من الروائيين القلائل الذين يمتلكون أسلوبا روائيا بانوراميا رغم أن النص الذي يكتبه بحاجة إلى مزيد من السرد حيث يبدو ناقصا في بعض المواضع حتى لو كانت روايته تمتاز بضربات روائية جميلة ومتمردة على الواقع الاجتماعي الذي تعيش فيه وتحكي عنه وهو يريد الإيماء إلى تفاصيل لا يجرؤ على الخوض فيها بدقة ووصف متناه ومباشر.
والرواية حكاية هجرة في العمق أو في المخطط الأساسي لها لكنها تتحول إلى رواية المهاجر نفسه الذي يسرد تفاصيل حياته منذ سيق في مركب ذاهب إلى الحج وحتى وصوله إلى نقطة اللاعودة لحياة يتمناها ولكنه غير قادر على تحقيق العيش فيها، ومن الواضح جدا أن هذه الرواية وبعض الأدب الذي يكتبه سكان الخليج يتجه نحو تفكيك الحقائق الاجتماعية العقيمة التي لا بد لها في النهاية من التطور والبناء الجدي، وهنا فإني أعتقد أن وظيفة الرواية الأساسية هي ألا تسعى إلى تكريس منطق العماء عن الظواهر العامة بل في تحويلها نفسها إلى ثقب في جدار اللامبالاة لرؤية داخله والتمعن مليا في عالمه الداخلي الفاحش وهي رواية المكان والزمان وعصب الحياة الأصلي.
ننتقل في رواية المحيميد إلى ما يشبه الدراسة النفسية لأشخاص فقدوا الكثير من مقومات التعايش مع واقعهم بسبب ظروف خاصة جدا، فأحدهم قطعت أذنه وشوه تشويها خلقيا بليغا رغم أنه يقدر على مداراته عن العيون “ولكن مم فقدت أذنك يا طراد”. ولكن بما أن طراد هو الشخصية الأساسية فإن العمل عليه غير كامل لأسباب أوقع الكاتب نصه فيها، فمنذ أن فقد طراد أذنه أصبح رمزاً لسخرية القبائل من منظره القبيح وهذا أفقده الإحساس بالانتماء إلى مجتمع قبلي متخلف لا يفقه كثيرا بجوانية الفرد وشعوره القوي بأنه ضمن جماعة من الناس ينتمي لها ويعيش واقعها، والحق هنا، أن طراد لم يفقد الانتماء بسبب عوامل إبداعية ونفسية خاصة اعترته أثناء تغطيسه في الرمال، ولا بسبب الشكل الظاهر لعدم انتمائه الحقيقي جراء تشوهه “غير العادي” بل إن هذا الأمر مرده إلى تلك السخرية المجازية اللاذعة المرّة، ولكن لذنب لم يقترفه ولا ذنب واضحاً له فيه، وعلى هذا فإن طرح المحيميد الذي يبدو بعيدا في ظاهره وعميقا في مستوى فهمه لتشريح مجتمع “متخلف” لا يكتمل سرديا لقصر نفس الكاتب الذي يكشف نصه عن ضعف قوي وواضح في الإحاطة بتفاصيل حياة طراد وغيره من شخصيات الرواية التي كان لها أن تكون أكثر كلاما وبوحا مما هي عليه في النص. فتماهي شخصية طراد مع شخصية فان غوغ الذي فقد بإرادته أذنه اليسرى غير موجودة في الرواية ضمن سياقها الصحيح، فالفنان الهولندي قطع أذنه بنفسه وهو في حالة هلوسة كاملة بعد شجاره مع الرسام الفرنسي غوغان ووضعها في علبة كبريت فارغة وأهداها إلى إحدى فتيات المبغى الكبير في منطقة إلى جنوب باريس، أما ما ينطبق عمليا فهو حالة اللاانتماء التي عانى منها فان غوغ في حياته وحالة اللاانتماء التي عانى منها طراد، ولكن الكاتب ولا أدري السبب لم ينتبه إلى عمق هذه الحالة ربما لتقصيره في البحث عن تاريخ شخصية بنى عليها الرواية، وذلك يمكن ملاحظته في النهاية، بحيث إن شخصيات الرواية بقوا على حياتهم، ولم يعانوا من نوبات اللامنتمي رغم أنهم لا منتمون فعليا، في حين أن فان غوغ (هو الشخصية اللامنتمية التي ذكرت في الرواية) عانى من نوبات عصبية كانت توصله إلى الجنون المطبق، ولم يحوله هذا إلى شخص عادي كما شخصيات الرواية بل زاد من موهبته لأنه لم ينقطع عن الرسم وزاد من حدة أسلوبه في التعامل مع اللوحة والتعامل مع الحياة بكل تجلياتها، في حين أن شخصيات الرواية تحولت في النهاية إلى كائنات مستكينة لا شأن لها بشيء عدا كونها داخل الرواية بقيت شخصيات هامشية لا دور لها ولا طعم ولا رائحة. لذا فإن المقدرة التي تحلى بها بطل الرواية في احتمال الألم الجسدي بفقدان أذنه ورجولته تعتبر الأساس الذي يجب أن نفهمه بموجبه، بيد أن عقليته الصافية والبيضاء لم تستطع إدراك معنى الحرية الأخلاقية بدون حرية الجسد في تقرير مصيره وكأنه يتحول إلى كائن، بلا غد أو بحسب ستيفن وولف لا طريق إلى الخلف وإنما إلى الأمام، أبعد في الخطيئة، أعمق في الحياة الإنسانية. ورغم التخلي في الرواية عن الدين الذي هو أعمق جذورا في النفس البشرية من أي شيء آخر، إلا أن رتابة الحياة في الرواية وفي سلوك أبطالها تؤكد أنهم كائنات غير متمردة على شيء. وعلى خلاف ما يطرحه المحيميد فإن الأساليب التقويمية لعلم النفس القديم والحديث فضلاً عن كمٍ هائل من الدراسات حول شخصية اللامنتمي تدل على أن صاحب هذه الشخصية لا يمكنه الاطمئنان للآخر كقوله على لسان أحدهم “لا أبحث عن الجنة” وهو على النقيض تماماً من شخصية طراد الذي دوماً كان يبحث عن الآخر الذي وجده في ناصر الابن غير الشرعي لامرأة كانت ضحية تقاليد سخيفة حيث لا يوجد للحب مكان إلى جانب هذه التقاليد المأساوية التي تضحي برجولة الرجل. فالرجل يخاف في رواية المحيميد وهو إلى ذلك جبان وقذر.غير ذلك، فإن الرواية لا تعيش ضمن سياق زمني محدد وواضح، بل إن الزمن على ما يبدو – على الرغم من التفاصيل في تحديد عمر المولود – غير مهم جدا في حساب الكاتب. لذلك نجد أنه في كثير من الأحيان ينقل إلينا أسماء الأماكن بالزمن الحاضر أو القريب، وأحيانا كثيرة نجد أن السرد يذهب به إلى زمن بعيد جدا لا يمكن التكهن به ومعرفته بدقة وهذا داخل الرواية يتم بشكل غير محترف وهذا سببه النفس القصير جدا في السرد الذي حول الرواية إلى مجموعة قصص قصيرة مربوطة بحبل سري يتوه عنه القارئ في كثير من الأحيان لا بالمعنى الإيجابي بل بالمعنى السلبي، إذ عند حصول ذلك لا يتوه القارئ فقط وإنما يتوه النص.
وعلى هذا، وبرغم كل الملاحظات، فإن هذه الرواية جيدة وتريد أن تقول شيئاً ولكن بخوف من الظواهر التي ذكرها المحيميد التي تجعل من الصحراء طيف الموت ومن العبث جمالية مفرطة ومن الاستكانة والقبول شيئا مضحكاً.
* كاتب فلسطيني مقيم في بيروت
جريدة الوطن- العدد 1083 في 17ديسمبر2003م.
0 تعليق