عبدالله السفر
إذا كان محمود تراوري في روايته “ميمونة” يتطرق إلى موضوعة العبودية في المجتمع والسعي لنيل الحرية عبر سيرة عائلة يبرز منها عمر المسك كبؤرة يتمثّل فيها مختبر الألم والسعي؛ فإن يوسف المحيميد في فخاخ الرائحة، الصادرة توا عن دار رياض الريس
البيروتية، يعاود الانخراط في ذات المجموعة ولكن بتأمل آخر للجرح الناغل المخبوء منذ عقود في جسد المجتمع وها هو يظهر في حبر فاضح وبوحٍ يرتفع سقفه يعاين حيواتٍ مطعونة في دور الحضانة الاجتماعية وفي ممرات الوزارات وعلى أعتاب المنازل العالية.
تنتظم في فخاخ الرائحة ثلاث بقعٌ سيرية، تسير بتوازٍ وبتقاطع، يوحّد بينها جذر الألم والمهانة وإهدار الكينونة الإنسانية في فعلٍ فظٍّ ووحشي؛ يفاقم من فظاظته ووحشيته أنه متكرر ومستمر وبأكثر من صيغة يترك أثر المهانة وسْمَاً يجلّل الجسد، تتعاون في ترسيمه بضراوة وعدائية يدُ “الإنسان” ومخلب “الوحش” في الصحراء وفي المدينة. حيث تطالعنا كل شخصيّة بعاهتها:طْرَاد(الهارب من الصحراء) مصلوم الأذن/ توفيق ( العبد ) مجبوب الرجولة/ ناصر( اللقيط ) مفقوء العين.
حواس نعمة الحياة مبتورة ومشوّهة، تحيل إلى خراب لا سبيل إلى البرء منه أو ترميمه، مصحوبة بأزمات وصدوع في الهويّة تنزّ بقلق الشخصية على جوهر وجودها. كل هذا يصبح شواهد على الإقامة في جحيمٍ لا نجاة منه ولا مهرب، وإنْ تعدّدتْ المحاولات واختلفتْ الخُطَى في التنقّل من رمضاء إلى نار. كلّهم في مقام العبد الموطوء يناله العسفُ والطرد، تقلّبه الرائحة من فخٍ إلى فخ؛ تنصبه الغابة أو الصحراء أو المدينة.
حياةٌ متجهمة. بشر لهم ضراوة الوحش وإنْ تقنّعوا بأسماء لا تنزع سواد الأرواح (جمالات.. أم الخير.. مضاوي) حين تُفرَدُ مظلّة السُّخرة و السخرية والتسلية في وسط لا يقيم اعتبارا لآدمية الإنسان ولفرديته، ولضعفه الذي وضعه بين أيديهم ليزيدوه ضعفا واتّضاعا وإذلالاً. باب المهانة الدوار يخرجون منه ليعودوا إليه، لا يسعفهم حلم الريش ولا الأجنحة المكسورة؛ مقذوفين بين الأقدام وعتمة ليلٍ لا ينجابُ سوادُه أبدا. بلا حولٍ ولا قوّة، يتكالب عليهم النهش من كل جانب. ولعلّ أفضل ما يجسّد هذه الحالة من الترك والنبذ إلى قسوة المصير واقعة قافلة الحجاج وأميرها مع طراد ورفيقه ” نهار ” حين وقعا بين أيدي القافلة إثر فشل محاولة السرقة لكسب قوتهما في صحراء لا ترحم ولا تقدّم اللقمة، حيث قُيّدا ودُفنا إلى رأسيهما في الرمل، وغُودرا وحيدين مهملين لقدرهما؛ للذئب يقضم أذن طراد، وينهش رأس نهار ليقضي عليه، فيما الروح تلوب.. تبكي: (طارتْ تولول في ليل الصحراء، تضرب الشجر والرمال والصخور وتبكي. تطير روحه عاليا تجاه السموات البعيدة، وتصرخ في النجوم الباسمات النائمات، ثم بيديها تطفئ وهجها. لم تعد النجوم مصابيح تزيّن السماء بعد أن انطفأت بفعل يدَيْ روح نهار الفارّة في أنحاء البراري والسموات العارية ـ ص 114). مناحة كونية تقيمها الروح على ظلمٍ فادح لا يتوقف عند حدٍّ.. يتمدّدُ معه سقف الرعب والعنت، تعوم فيه فرائس مفضـوحة، مرة، بعرقها، ومرة برائحة الفخاخ المبذورة؛ تقـودها إلى “رحلة العذاب الأبدي”. هذه الرؤية التي يشفّ عنها متن فخاخ الرائحة، كيف تأدّى إليها فنيا يوسف المحيميد؟.. مدوّنة المحيميد الإبداعية تكشف لنا أن اللغة تحتلّ مركزا باذخا وأنيقا في هذه المدوّنة بخاصة في عمليه الأخيرين: نصوص ( لا بد أن أحدا حرك الكراسة ) ورواية (لغط موتى). وفي هذا العمل يدخل الكاتب برهانا يتلخّص في خفض ضوء شاشـة اللغة لصالح ضـوء الحدث/ الحكاية. ولأن المسألة رهان، كما أحسب، فقد غصّت الرواية على صغر حجمها بكم من الأحداث ينوء به جسدها. فلم تكن هناك فسحة كافية ومساحة واسعة، تهيّئ للحفر في الأبعاد النفسية والاستغوار في مكامن شخصياته بأزماتها وندوبها العميقة، والتي يمكن أن تنفرد كل واحدة بعمل روائي قائم برأسه. رغم أن الكاتب راوحَ في سرده بين الراوي الشاهد بضمير الغياب والراوي بضمير المتكلم “أنا”. لكن هذه المراوحة ظلّت محض تقنية لم تُوظّف بتمامها حيث كانت السمة الطاغية في الحالين هي لصالح الحدث وحده، دون إحالة وافية إلى ما يمور داخل الشخصية منشبكاً بما يجري في الخارج. ذلك أن من حسنات استخدام ضمير المتكلم هو الإحالة (على الذات بينما ضمير الغياب يحيل على الموضوع. فـ “الأنا” مرجعية جوانية، على حين أن “الهو” مرجعية برّانية ـ عبد المـلك مرتاض، في نظـرية الرواية، ص 185).. ومن ذلك، مثلا، فصل بطولة الذئب. كانت الكاميرا الخارجية/ الراوي الشاهد تتابع رعب طراد محجوزا مطمورا في الحفرة ينتظر، بجواره الذئب، مصيرَ رفيقه نهار، وتلك الدمعة التي لم يستطع حبسها تفرّ من عينه، متهادية على خده، هاوية على وجه الذئب النائم؛ فيفزّ بأنيابه اللامعة قاطفا أذن طراد. وحين تتوقف الكاميرا الخارجية لينهض ـ في مقطعٍ تالٍ ـ ضمير المتكلم فإن الكاميرا ذاتها تستمر، وإنْ بضمير المتكلم، في متابعة طراد يتحلحل من قيوده شيئا فشيئا، ليخرج من حفرة الرمل. بمعنى أن السيادة ظلّت للمتابعة الخارجية والوصف الحدثي دون إيغال وتشعّب في باطن الشخصية. ولعل مردّ هذا أن العين المسيطرة في بناء الرواية تقوم، في المجمل، على الرصد الخارجي لمواكبة الأحداث بطريقة الاسترجاع/ الفلاش باك وبطريقة تقطيع المشاهد وتركيبها في عملية مونتاج تجعل السرد ينمو خارج البناء التعاقبي الخيطي. وهذا هو مفهوم الراوي الشاهد كما توضحه يمنى العيد في كتابها تقنية السرد الروائي، حيث تقنية (الراوي الشاهد في السرد الروائي تعادل تقنية آلة التصوير في العمل السينمائي، ص 90).. فكان ذلك الانشغال الذي أدّى إلى اختزال الشخصيات في إطارها ومحيطها الخارجيين، واستهلاك طاقة الكتابة بلا إفساح المجال الكافي للشخصيات لتقول ذاتها.. شروخها.. تصدعاتها.. أزماتها. ولو أن المحيميد حافظَ على رهانه متوازنا بين طاقة الحكي، وبين طاقته اللغوية اللازمة لاستكناه أبعاد شخصياته؛ لحقّقَ نجاحا أبعد لروايته. لكنه الرهان المحفوف بجاذبية الإغراء لهدف محدّد يتجاوز ويختزل ما عداه، فيصيبه بالضمور.
* كاتب سعودي.
جريدة الوطن-العدد1026 في 22يوليو2003م.
0 تعليق