الصراع بين عقدة النقص والبحث عن الاكتمال

28 مايو، 2012 | فخاخ الرائحة | 0 تعليقات

نورة القحطاني
 رواية (فخاخ الرائحة) هي الرواية الثانية للكاتب يوسف المحيميد، وقد ترجمت إلى اللغتين الفرنسية والإنجليزية، اختارتها جماعة حوار ضمن محورها لهذا الموسم للوقوف على شخصية الآخر، ورصد طبيعة نظرة الذات إليه، وهي النظرة التي ينظر وفقها مجتمع إلى مجتمع آخر، ويحسن بنا في البداية أن نضع حدودًا لهذه الورقة، فهي لا تطمح إلى تقصي الظواهر الفنية في الرواية؛

لأن ذلك مبحثآخر لا ندعيه هنا وإن كنا سنشير إلى بعض جوانبه باقتضاب، إنما ينحصر جهدنا -هنا- في تحسس صورة الآخر كما قدمتها الرواية، وسنحاول أن نبحث في علاقة الذات بالآخر لكشف طبيعة الطرح الفكري والفني لقضية الصراع داخل بنية الرواية.?تطالعنا الرواية بسؤال: إلى أين؟ فيحضر المكان منذ البداية، كجحيم مرفوض من بطل الرواية (طراد) ابن الصحراء التي اختارها الكاتب لترمز إلى تاريخ ثقافي وديني لأبناء المنطقة، يسرد لنا حكايته بتقنية الاسترجاع، فتبدأ الرواية من النهاية باستخدام منولوج داخلي يعتمد الوصف لنبش خبايا الذاكرة التي تسرد تفاصيل حياة البطل، الذي كان قاطع طريق أو كما يسميه الكاتب باللهجة المحلية (الحنشل)، وهو فارس شجاع لا يهاب شيئًا حتى الذئاب لم تفكر أن تهاجمه فتظل تحرسه حتى ينتهي من طعامه ليغادر تاركًا لها وليمة دسمة، كانت الصحراء مصدر رزقه فصادقها بكل ما فيها من كائنات حية ورمل وأشجار طلح وعوشز وسدر، وفجأة تحولت هذه الصحراء إلى مصدر خوف وقلق بعد أن قبض عليه رجال قافلة الحج ليأمر أميرها بدفنه وصاحبه في الرمل ما عدا رأسيهما، وهنا تبدأ المأساة ويتوحش المكان من حوله ليصف لنا لحظات الموت القاسية التي عاشها وهو يرى الذئب يلتهم وجه صديقه (نهار) وكيف تفنن في قتله ببطء شديد حتى اختطف أذنه فينجو من الموت، ولكن بأذن مقطوعة سببت له التعاسة بقية حياته، فلم يعد قادرًا على العيش في الصحراء بعد أن «صارت أذنه المقطوفة أضحوكة القبائل وسخريتهم» ص117 فقرر الهرب من الصحراء كلها إلى مدينة (الرياض) حيث عمل عاملاً وبنّاءً في قصور المربع، ثم تحول إلى عسكري في حراسة بنك، ثم حراسة بوابة قصر قبل أن يطرد منه، حاول أن يمسح السيارات في مواقف السوق كالهنود والبنغاليين، لكنه خجل من ذلك زاجرًا نفسه: «يا ابن القبائل الحرة، يا ابن البراري والوهاد الفسيحة، كيف تقبل أن تصير خادمًا أو ماسحًا أو عبدًا!!» ص12 وانتهى به المطاف إلى العمل (قهوجي) في إحدى الوزارات، لكن عقدة أذنه المقطوعة ظلت تلازمه فيحرص على لف الشماغ جيدًا على وجهه حتى لا ينكشف سر الأذن «لو رأيت أذني اليسرى التي أخفيها بطرف شماغي عن الناس لغيرت رأيك، وشتمتني أمام الناس جميعًا، ربما صرخت في وجهي: اغرب من هنا أيها الشحاذ!!» ص10. إنها عقدة النقص التي جعلته ينظر للآخرين من خلالها، وحددت علاقته معهم، فمشاعر الحسرة ومرارة الفقد جعلته يكره الاكتمال عند غيره من الشخصيات التي يقابلها، وعندما يرى الآخر التركي (معلم الشاورما): «ظل طراد يحدق في أذنه النظيفة، المرسومة بعناية، والحمراء بفعل الضوء وحرارة النار، كان المعلم التركي يتمايل مزهوًا بأذنه الجميلة» ص19، وعندما يسمع التركي يغني غناءً حزينًا يستغرب ويتساءل «عن سر هذا الغناء الحزين، هل يمكن لمن لديه مثل هذه الأذن الكاملة والرائعة أن يحزن؟ لماذا؟ ألا يكفيه أن يمشي مرفوعًا ومحسور الرأس، دون الحاجة لأن يخفي وجهه بشماغ أو غترة أو كوفية؟» ص19، نلمس في تلك المقارنة بين النقص الذي يشعر به البطل والاكتمال عند الآخر مشاعر الكراهية للآخر الذي يراه متغطرسًا بأذنه فيحدّث نفسه: «يفكر لو التقط هذه السكين وجزّ بها أذن التركي المتغطرس، ولكن ماذا سأفعل بها؟ هل سأزرعها مكان أذني المقطوعة، سيكون لدي ساعتها أذنان، إحداهما سمراء والأخرى حمراء» ص20، لكن ذلك لن يحل أزمته فيقرر «سأرميها للكلاب أو للذئاب» ص21. ولكن إلى متى ستلازمه عقدته؟ يتساءل: «هل ستبقى مطاردًا أينما كنت؟» ص17. وحتى لو نسي هو هل سيتركه الناس؟ هاهو يحضر الشاي لأحد الموظفين في الوزارة فيهاجمه آخر ويسقطه أرضًا، وينزع عنه شماغه الملفوف على وجهه بإتقان وعندها صرخ أحدهم: «أذنه مقطوعة يا شباب» وانخرطوا في الضحك. ص15 يقرر (طراد) بعدها الهرب مرة أخرى ومغادرة المدينة «بعد أن كره هذه المدينة تمامًا، وكره أهلها جميعًا» ص9، إنه الشعور بالانكسار والهزيمة والغربة في مكان تحوّل في نظره إلى جحيم «أريد فقط مكانًا يحترمني، لا يذلني ولا يعاملني كالكلاب، هربت من ديرتي بسبب القبيلة، ومن القصر ومن المواقف، ومن الوزارة، وأخيرًا أحاول أن أهرب من الجحيم!!» ص34 تلك الغربة المكانية انعكست على نفسية البطل الذي أصبحت كل الوجوه لديه متشابهة ومكررة، «لقد تحول إلى نبتة برية وحيدة، تصارع الريح والجفاف والوحدة والوحشة» ص39 إنها لعنة المدينة التي لا يعرف فيها عدوه بخلاف الصحراء التي كانت «تجعلك ترى عدوّك أمامك، وتستطيع أن تنازله في عراك متكافئ، لكن لعنة المدينة التي لا تختلف عن الجحيم، أنك تكافح ضد أعداء لا مرئيين، أعداء لا يمكن أن نراهم بالعين المجردة» ص112، لقد فقد المكان الجديد (الرياض) قدرته على إعطاء الأمان لأفراده، فتصبح صورة المكان -هنا- مرآة لباطن الشخصية، وما تنطوي عليه من مشاعر الإحباط الاجتماعي الناشئ عن مناخ القمع والسلطة القهر المؤسس على قوانين قبلية وعشائرية ظالمة.?ويلتقي (طراد) في هذه المدينة بصديقه الوحيد الذي أحبه وقاسمه نفس الظروف القاسية التي جعلتهما يتخذان من الحكي تسلية لهما في غربتهما الداخلية والخارجية «لنضئ ليل الرياض، النائمة كعجوز بدينة، بالحكايات والحزن الطويل» ص110، وسمحت تقنية التقطيع السردي بمراوحة السرد بين الذات (طراد) والآخر (العم توفيق) فيظل القارئ مشدودًا ومتشوقًا لمعرفة سر كل منهما، فنسمع صوت العجوز (توفيق) الذي كان طفلاً صغيرًا لم يتجاوز الثامنة من عمره عندما اختطفه تجار الرقيق (الجلّابة) من حضن أمه في قريته وسط السودان، حيث هرب مع مجموعة من الأطفال إلى الشمال وظلوا يعانون من الجوع والبرد حتى خدعتهم رائحة الشحمة المشوية فوقعوا في فخ الجلّابة الذين حملوهم عبر البحر وألبسوهم لباس الإحرام حتى يظن أنهم قادمون للحج فلا ينكشف أمر تجارتهم بالرقيق، تلك الرحلة التي تعرض فيها الطفل (حسن) أو (توفيق) كما سيغير اسمه لاحقًا للاعتداء الجنسي من الإرتيري المتوحش الذي استغل ضعف الصغير ووحدته، لتكون بداية الإهانة لإنسان بائس وصل ميناء جدة ليركب شاحنة مع شخص لا يعرف من هو أدخله إلى منزله، وبعد أيام أحضر له رجلاً قام بخصائه بعد أن غرز في أنفه قطنة المخدر ليصحو بعد أن فقد رجولته إلى الأبد، فيبرروا له ذلك: «ستجد عملاً ممتازًا، ستتمكن من أن تعمل في القصور، ستعرف العز، وسترى النعمة، وستكون رجلاً ثريًا!! لكنني لم أصبح ثريًا، فضلاً عن أنني لم أعد رجلاً!!» ص66، فيعمل عند العطار فترة من الزمن، يغادر بعدها إلى مدينة (الرياض) ويستقر الحال به في قصر فخم عمل به خادمًا قبل أن يتحول إلى سائق خاص (للعمة مضاوي) ثم بستانيًا في حدائق القصر، وبعد سنوات «صدر الأمر الملكي بعتق العبيد، فلم أمت تحت ظل شجرة كما فعل البستاني العجوز مرزوق، بل كان لابد أن أخرج من بوابة القصر، حاملاً ورقة حريتي» ص106. لم يفرح بالحرية أو يحس بطعمها بعد أن راح عمره دون عمل أو زوجة أو طفل، قضى حياته أسير ذكرياته: «لم أكن أحفظ في ذاكرتي الهرمة غير ليالي طفولة بعيدة ومنسية، لم أكن أرى الشوارع غير ضفاف نهر النيل، ولم تكن رائحة عوادم السيارات غير رائحة طيور النهر» ص107. كان يهرب من الجحيم بالحلم فيتخيل «النيل والأحراش والقطاطي وأم درمان وبور سودان وسواكن» ص 65، إنها مشاعر الاستلاب التي سيطرت عليه بعد أن سلبوا منه كل شيء ?فيتمنى أن يغرز ريشًا في ذراعيه ويطير فوق النيل، إنه حلم الحرية الذي طالما حلم به وعندما تحقق كان قد نسي الفرح، حمل حزنه معه باحثًا عن عمل يعيش منه، فعمل حارس عمارة لسنة ونصف قبل «أن يبيع المالك عمارته ويطردني، عفوًا أقصد يستغني عني المالك الجديد، الذي يحضر بدلاً عني عاملا بنغاليًا رخيصًا» ص108.?ليستقر بعدها في إحدى الوزارات كمراسل ثم عامل قهوة، يتنقل بين المكاتب بجسد ثقيل، ووجهٍ هرم «لم يعد هناك دموع في بحيرة مآقيه، أو لم يعد ثمة زمن كافٍ لأن يبكي» ص 60، يسير بصمت يحمل سرًا كبيرًا لم يبح به إلا لصديقه (طراد) الذي قابله في الوزارة، فارتبط كلاً منهما بالآخر تجمع بينهما عقدة (الفقد والنقص) وهي التيمة المتكررة في الرواية.?تختلف هنا نظرة الذات (طراد) إلى الآخر (توفيق) عن نظرته السابقة التي تحمل مشاعر الكراهية للآخر الكامل، فهو يحب (العم توفيق) كما يناديه دائمًا مما ينبئ عن نظرة احترام ومودة له، ولكن لماذا؟ أليس (توفيق) هو وجه آخر لـ(طراد) فظروفهما متقاربة حيث تعرّض كلاهما لفقد جزء منه جعله يشعر بعقدة نقص تطارده وتنغّص عليه حياته، كذلك فقد كلٌ منهما لموطنه الأصلي والعيش في المكان البديل (الرياض) الذي هو جحيم بالنسبة لهما، يعيشان مستوى اجتماعيًا واحدًا تسحقهم فيه نار العنصرية والقبلية البغيضة وسلطة القوة التي قتلت أحلامهما، وخدعتهما الرائحة التي أوقعت (توفيق) في فخ تجار الرقيق، ثم أفقدته رجولته فيما بعد، وجعلت (طراد) يفقد صاحبه أمام عينيه ثم أذنه اليسرى، كل هذا التشابه بينهما حدّ التوافق حمل البطل على تقبّل الآخر والتعايش معه، وكأنه مرآة للذات تجسّد مشاعر الفقد والاغتراب الداخلي والخارجي في عالم لا يعرف إلا لغة (البقاء للأقوى)، هذه المشاعر المتوحدة بينهما هي نفسها التي جعلت (طراد) يلغي فكرة الهرب الثانية ليعود إلى صاحبه بأمل جديد في محاولة التعايش مع عقدته وتجاوز أزمته في مدينة يرى فجرها أحلى الأوقات، ذلك الأمل جعله يرى المدينة «مثل وجه شابة تطرد النعاس عن عينيها» ص119 بعد أن كانت في نظره مجرد عجوز بدينة.?ومن ثم نخلص إلى تصور طبيعة النظرة إلى الآخر في هذه الرواية، فهي نظرة حب وتوحّد وتقبّل للآخر الذي يعيش نفس ظروفه المحيطة به والذي يعاني من عقدته ومأساته كما رأينا في علاقة (طراد بالعم توفيق)، فأضحى الآخر السبيل الوحيد لتحقيق ذاتيته في محيط غريب يشعره بالتيه والضياع. بينما كانت مشاعر الكراهية وعدم التقبّل للآخر الذي يتفوق عليه في أمور يفتقدها كما هو موقف (طراد) من (معلم الشاورما التركي)، إلا أن الراوي رصد بخفاء نظرة استعلاء نحو الآخر ظهرت في معاملة أصحاب القصور الفارهة للعبيد والخدم، كما كان موقف (العمة مضاوي) من السائق المصري (أنور عبدالنبي) الذي طُرد من عمله بسبب تأخره عن فتح الباب للعمة وركوبه متأخرًا عنها، فجاءت الأوامر بسحب المفاتيح منه وطرده، من دون التماس عذر لظروف قاهرة جعلته يترك السيارة ويتأخر عنها لقضاء حاجته. كما سحبت هذه المفاتيح أيضًا من (توفيق) الذي عبّر عن حياته في القصر بأنها نمطية مملة: «هكذا هي الحياة هنا، كل كائن له دور محدد في حياة القصور، بعد أن ينتهي تنتهي معه حياته هنا، كم كان دوري كئيبًا هنا» ص106. لمسنا تلك النظرة الاستعلائية أيضًا في موقف البطل (طراد) من العامل البنغالي في صالة السفر الذي «طلب منه أن يرفع قدميه، فرفع قدميه وهو يشعر بالاعتزاز لحظة أن مرّر العامل حبال ممسحته من تحت قدميه كي يمسح البلاط» ص13.?ولكن هل هذا هو ما يشي به خطاب الرواية فعلاً؟ وإن كان كذلك فلماذا إذن أحب (توفيق) وصادقه؟ هل لأنه مثلاً يعيش ظروفًا أسوأ من ظروفه فهو في الأصل (عبد) أما (طراد) ابن القبائل الحرة، وحتى عقدة النقص التي توحّد بينهما ليست بدرجة واحدة ففقد الأذن ليس كفقد الرجولة، ثم لماذا لم يظهر الآخر في الرواية إلا في صورة الأجير أو العبد، والسائق، والمربية، والخادمة، وعامل النظافة؟ لماذا ظهر لنا دومًا في صورة سلبية ضعيفة، مستسلمًا لظروفه؟ فنلمس حينها نظرة نرجسية للذات، استعلائية على الآخر الذي لا نقترب منه إلا بمقدار تحقيقه للذات المأزومة بالبحث عن الكمال.

جريدة المدينة- ملحق الأربعاء- العدد 16415- 25ربيع الأول 1429- الموافق 2 إبريل 2008م

رجل تتعقبه الغربان: ملخص الرواية

رجل تتعقبه الغربان: ملخص الرواية

يظهر خيط السرد بطريقة جديدة، لا تبدأ بالحاضر، وحظر التجول في مدينة الرياض، أو أربعينات القرن الماضي، ورصد المدينة المحصَّنة بأسوارها الطينية فحسب، وإنما القفز بالزمن في مغامرة مختلفة نحو المستقبل، من خلال منظار روسي...

أكمل القراءة

تلك اليد المحتالة – مختارات

تلك اليد المحتالة – مختارات

لبس ما ظنه الرجل الجالس أمام النافذة حمامة بيضاء بأربعة مناقير وعُرف… كان قفازًا منفوخًا ليد هاربة من وباء، دفعها الهواء بخفَّة. هكذا اكتشف الرجل الوحيد في عزلته. طائرات كلما انفتح باب السوبرماركت الكهربائي عن...

أكمل القراءة

في مديح القاهرة

في مديح القاهرة

ذاكرة الدهشة الأولىقبل ثلاثين عاما تقريبًا، تحديدًا في يناير من العام ١٩٩٢ زرت القاهرة لأول مرة في حياتي وأنا في منتصف العشرينات. جئت لوحدي لأكتشف معرض القاهرة الدولي للكتاب في مقره القديم بشارع صلاح سالم. لا أعرف...

أكمل القراءة

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *