فخاخ الرائحة والمهمشون في الأرض

28 مايو، 2012 | فخاخ الرائحة | 0 تعليقات

أمل زاهد
يستدرجك يوسف المحيميد عبر اسم روايته (فخاخ الرائحة) إلى حيث ينصب لك بادئ ذي بدء فخاخ العنوان، فذلك العنوان -الموضوع بحرفية عالية- يوقظ حاسة الاكتشاف لديك عبر الرائحة وسحرها النفاذ، فتمشي مسحورا وراء عنوانه المحمل بالرموز والإيحاءات والدلالات ليقودك كالأعمى إلى عوالمه الغامضة. لتجد هناك الصحراء بسحرها وجلالها تمتد أمامك بلا مدى ولا حدود،

إلى حيثيتقزم الإنسان ويتضاءل أمام جبروتها وفضاءات وهادها وسطوة كائناتها! يتقزم الإنسان ليتحول إلى ذرة في بحر أمواجها الذهبية المتلاطمة، إلى قطعة من كثبانها.. وتلة ناتئة في وجهها المنبسط الذي يخفي أعماقا غائرة البعد، وخطوطا تضرب بعيدا داخل بطنها المضطرب والمتأجج دوما بأسرارها!.
تتوحد شخوص يوسف المحيميد مع الطبيعة وتتسربل بوحشيتها وقسوتها، وكما يغير الحيوان جلده فيتحول إلى اللون الرملي المائل إلى الاصفرار ليتماهى مع مكونات الصحراء في صراعه على البقاء، يغير طراد ونهار لونيهما ويكشران عن أنيابهما ليشاركا الذئاب في نهش الفريسة، ولتتصادق معهما أشجار الطلح والعوشز والسدر فتظللهما بفيئها. ولكن أليست الصحارى بزوابعها ودواماتها وحيوانها أرحم بالإنسان من أخيه الإنسان؟ وهل قسوة الذئب الذي نهش أذن طراد أشد ضراوة من قسوة من كان يلوكه بسخريته ويمتهن إنسانيته من بني الإنسان آناء الليل وأطراف النهار؟! وهاهو طراد بعد أن يكشف لك الورقة الأخيرة في آخر فصول الرواية، يشكو لعنة المدن ومناصبتها العداء للمهمشين والطرداء فيترحم على الصحراء (الصحراء تجعلك ترى عدوك أمامك، وتستطيع أن تنازله في عراك متكافئ، لكن لعنة المدينة التي لا تختلف عن الجحيم، أنك تكافح ضد أعداء لا مرئيين، أعداء لا يمكن أن نراهم بالعين المجردة، فهل يمكن أن نكافح ضد حطب جهنم التي تأكل أخضرنا ويابسنا؟ لا أظن).
قد تشعر للوهلة الأولى أن صحراء إبراهيم الكوني قريبة من صحراء المحيميد، ولكن صحراء يوسف تأتيك محملة برياح النفوذ وسماتها الخاصة جدا، وعوالمها المدموغة بلون رمل شبه الجزيرة الذهبي، والمصنوعة على يدي المحيميد وبأدواته المتميزة في مقاربة الصحراء وألغازها. فالمحيميد لا يشبه إلا نفسه وهو يتعاطى مع الصحراء ورموزها وحيوانها، وإن كان الكوني يتكئ على العزلة والنبوءة والأسطورة والرؤيا، فإن المحيميد يعتمد على الرائحة وشراكها، وخيوطها اللامرئية الملتفة على أعناق الإنسان والحيوان.. (هل الرائحة الزكية النبيلة الفاتنة، ذات الخيوط الطويلة المتشابكة الدائرية، الشبيهة بخيوط العناكب، هي التي أوقعت هؤلاء كما الذباب؟ هل الرائحة ذاتها التي تشبه طفلا يقود هؤلاء كالعميان في ظلام الدروب، هي التي قادت الذئاب العمياء في صمت الصحراء، وهي تقطع درب الشلفح تهرول صوب رائحة العرق والخوف؟). وبينما تكاد تختفي المرأة تماما من عوالم الكوني أو تظهر كرسول الشر وسفير المصائب، إلا أنها عند المحيميد إنسان تتنازعه قوى الخير والشر، فتستلم حبيبة طراد لنداء الحب والجسد وتدفع الثمن غاليا جدا عندما ترفضها أعراف القبيلة وترمي بها إلى أقدارها.
داخل فخاخ يوسف المحيميد السردية المحكمة النسيج تنسى أن قانون المصادفة ليس إلا نبتا من تهويمات كاتب، وخيال مجنح ساحر لا يتحقق على أرض الواقع ولا يمكن أن تحتمله إلا دفتي رواية! لتبتلع ما يريدك قلم يوسف الميكرسكوبي الحاذق أن تبتلعه، فتصدق أكاذيب الفن الجميلة وتمتصها لآخر رشفة، لتجمع الأقدار الابن المنبوذ مع الأب الطريد في مصادفة تحدث فقط في الأحلام.. ولكن براعة يوسف تجعلك تتماهى معها حتى الثمالة. ولكم وددت لو استفاض يوسف في الحديث عن معاناة (ناصر) وأزمة الهوية التي تلاحق اللقطاء وسياط الرجم التي لا تفتأ تتعقبهم أينما حلوا على خطيئة لم يرتكبوها. وهي قضية شائكة جدا لم يسبق للأدب السعودي مقاربتها، وهي تقود بدورها لأسئلة وجودية أكثر تعقيدا كان من الممكن أن تضيف للرواية بعدا أعمق، فيوسف يلامسها ولكنه لا يغوص في تشابك إشكالاتها.
يطّبق يوسف المحيميد على أدواته بحرفية عالية، فهو لا يشعرك بحجم النقلة وهو يأرجحك ما بين ضمير الغائب (رواي القصة) وهو يتحدث عن طراد، ثم ينقلك فجأة ودون سابق إنذار إلى منولوجه الداخلي بضمير المتكلم، ثم تهطل عليك تداعياته وحديث نفسه بسلاسة وتلقائية! فلا ترى أمامك إلا مهارة الحاوي السردية والتي تنقل الكرات من اليد اليمني إلى اليسرى بسهولة ويسر، فتدهشك وتبهرك ولكنها لا تزعجك أو تقلقك! وكذلك يفعل مع توفيق وناصر طريدي الحظ العاثر والقدر المحتوم حينما ينقلك من صوت الراوي إلى صوت الشخصية وهي تتحدث عن نفسها.
دون شك تعدد الأصوات في الرواية واللعب على أوتار المخفي والمجهول يضفي ثراء على رواية تبدو صغيرة حجما – 119 صفحة من القطع المتوسط – ولكنها تحتشد بشخوصها القابعين على هامش الحياة والباحثين عن مكان لهم تحت الشمس، وتزدحم برؤاها الفلسفية وصورها العميقة والدقيقة، وتجاربها المسافرة في عوالم الدهشة والجدة والإبهار. لتعايش تجربة توفيق القادم من وسط السودان، ومجاديف الحياة وقسوتها تنقله من بلاده البعيدة لتحط به في أرض الجزيرة، ولعل المشهد الدامي الذي تقتلع فيه رجولته يظل يرافقك أمدا بعيدا. بينما تحبس أنفاسك خلال مشهد افتراس نهار وجز أذن طراد.. فتنهمر فيه عليك الصور الدامية والأخيلة البارعة فتراه متدفقا بالحياة أمام ناظريك، وكأن كاميرا تطلعك على أدق التفاصيل المفجعة، ولكنها في ذات الوقت لا تفقدك عنصر التشويق رغم وضوح رؤاها لتظل مسكونا بذلك المشهد، خائفا من مرافقته لك في فراشك ومن امتداد أياديه الأخطبوطية على عنقك بكوابيسها.
لعل أجمل ما يفعله المحيميد أنه يعرض ولا يدين، ويلمح ولا يصرح، ويكشف ولا يفضح، ويحلق بك دون أن يضع لك الأطر، ويفتح لك الآفاق ويزيل من أمامك الحواجز والسدود، لتمارس فعل القراءة بحرية وانطلاق. ولا شك أنه حقق في روايته (فخاخ الرائحة) ما يريد من الرواية، فهو القائل في برنامج إضاءات: إن الرواية يجب أن تراهن على المخفي وتكتبه ولكن بطريقة جمالية.
* جريدة الوطن- عدد 2903 بتاريخ 10رمضان1429 الموافق 10سبتمبر2008

رجل تتعقبه الغربان: ملخص الرواية

رجل تتعقبه الغربان: ملخص الرواية

يظهر خيط السرد بطريقة جديدة، لا تبدأ بالحاضر، وحظر التجول في مدينة الرياض، أو أربعينات القرن الماضي، ورصد المدينة المحصَّنة بأسوارها الطينية فحسب، وإنما القفز بالزمن في مغامرة مختلفة نحو المستقبل، من خلال منظار روسي...

أكمل القراءة

تلك اليد المحتالة – مختارات

تلك اليد المحتالة – مختارات

لبس ما ظنه الرجل الجالس أمام النافذة حمامة بيضاء بأربعة مناقير وعُرف… كان قفازًا منفوخًا ليد هاربة من وباء، دفعها الهواء بخفَّة. هكذا اكتشف الرجل الوحيد في عزلته. طائرات كلما انفتح باب السوبرماركت الكهربائي عن...

أكمل القراءة

في مديح القاهرة

في مديح القاهرة

ذاكرة الدهشة الأولىقبل ثلاثين عاما تقريبًا، تحديدًا في يناير من العام ١٩٩٢ زرت القاهرة لأول مرة في حياتي وأنا في منتصف العشرينات. جئت لوحدي لأكتشف معرض القاهرة الدولي للكتاب في مقره القديم بشارع صلاح سالم. لا أعرف...

أكمل القراءة

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *