عراك طويل
أمي خزنة كانت تخصّني برعاية أكثر من أخويّ، كانوا يرونني فارساً شجاعاً، لا أهاب شيئاً، أحب ليل الصحراء وأصادق الذئاب، كنت أمشي على حواف عرق رملي، بينما الذئب يهرول في الجانب البعيد، يلحظني بعينه الذئبية دون أن يفكّر أن يهاجمني، ألحظه بعيني الذئبية دون أن أفكّر أن أقتله أو أؤذيه، لا أملك سلاحاً ولا أحبّ أن أحمله أبداً، سلاحي كان آنذاك قلبي الشجاع، ونظراتي الحادّة مثل صقر يقيس الفرائس، ويديّ اللتين أجندل بهما ما أصيده أو أسرقه في الليل! لم أكن أسرق ليلاً، ليس لأنني أخاف من الفرسان المسافرين والقوافل، أبداً والله، لكنني لا أحب أن أضطر إلى أن أقتل أحداً دفاعاً عن نفسي أو عن غنيمتي أو كسبي! نعم إنها كسبي، لأنني كسبتها بذكائي وحيلتي وشجاعتي، وتفوقت على الآخرين الذين يملكونها وهم لا يستحقونها.
في صغري كنت اصطاد أرنباً برّياً أو أكسب بهيمة، ثم أمزع أعضاءها كما تفعل الذئاب، وأشعل ناراً في سواد الليل الحالك، أشوي ما يسدّ جوعي، وأنهشه بأنيابي الحادّة، بينما أرى في البعد ذئبة تقود أولادها، تروح وتعود، وتراقبني دون أن تقترب منّي، حتى إذا فرغت من عشائي، قمت ومضيت، ودون أن ألتفت أشعر بالذئبة تهرول صوب مكاني، وهي تعوي وخلفها أولادها الأربعة.
تفتقدني أمي خزنة ليوم أو يومين، وحالما تراني تعاتبني على غيابي وحدي في الصحراء، وتعتب عليّ كيف لا أجلب لهم مما أكسبه في البراري، وأبي شيخ كبير، طاعن في السن، شحيح النظر، ولم يعد هناك سوى سيّاف أخي، بعد أن فقدنا أخي الأكبر سيف، الذي خطفته ذات ليلة جنّية لها شعر طويل، ومدعوجة العينين، يقولون أنه خرج ليقضي حاجته في الجوار، ثم عشقته الجنّية وطارت به فوق جناحها، وهناك من قال أن أخي سيف صار من أهل الأرض، حتى انهم أكدوا أنه صار ملكاً عظيماً في إحدى ممالك الجن. آه ياأخي، ألا ترسل لي من قبائل الجنّ، أو من بنات حرسك امرأة تعشقني وتهيم بي، وتنقلني من هذا الجحيم إلى ملكوت الأرض. قد لا تسمعني يا أخي لكنني أقسم لك أنني أبقى وحيداً في الصحراء، في آخر الليل، أقضي حاجتي أكثر من مرّة في الليلة، وأتلفت حولي باحثاً عن جنّية تعشقني وتطير بي، لكنني لا أرى سوى الذئاب وهي ترعاني في البعد، وتحذرني في نفس الوقت.
ذات ليل، بينما كنت أجثو على ركبتيّ كي أقضي حاجتي، تحرّكت أغصان شجرة طلح قريبة دفعها الهواء، فارتبكت وقمت فزعاً، هل تصدّق أنني الشجاع الذي لا يهاب الموت ولا الرجال، وقف شعر رأسي واهتز جوفي؟ أحسست وقتها أنها ليست شجرة طلح، ولا امرأة شعرها طويل ومدعوجة العينين وضّاحة الخدّ، أبداً كانت أغصان الطلحة مثل شعر جنّية عجوز نهضت من نومها حالاً، وهي تنظر صوبي غاضبة من إنسي تبوّل على رجليها.
بعد أن كبرتُ عرفت أن أخي سيف لم تخطفه جنية فعلاً، بل كانت امرأة جميلة جداً، نسميها ذبّاحة، لأن من يقع تحت نظراتها لا بد أن تسلب عقله وتذبحه، كانت من بنات الصلب الجوّالين، الذين يمرّون بمساكن البدو يرقعون البيوت والملابس، ويجلون دلال القهوة، ويسوفون أباريق الشاي، ويبيعون المخدات والفرش وغيرها. منذ أن نام سيفٌ أخي على مخدّة من صوف ملوّن نطتها احدى بناتهم، حتى مرض ثلاثة أيام، وفي صباح اليوم الرابع لم نجد سيفاً ولا المخدّة التي ينام عليها، انتظره أبي شهوراً، وضعف بصره، لكن سيفاً لم يعد.
ذات ليلة صيف، كنت اتخذت من شجرة عوشز ملاذاً بعد أن مللت انتظار أن ترد قافلة مسافرين أو حجاج، وبعد ليال ثلاث من الترصد، لمحت عن بعد رجلاً يقود بكرة حمراء تتبعها ثلاث شياه، فخفضت رأسي حتى لامست الأرض كمثل حيوان البرّ حين يلمح فريسته، أردت أن أحبو لأكمن على طريق عبوره، لكنني تمهّلت بعد أن رأيته ينعطف بالبكرة صوب العوشزة، وما أن تجاوز مكمني بعدّة خطوات حتى تبعته بخّفة، وباغته من الخلف وقد أحكمت ذراعي حول عنقة، محاولاً أن أطرحه، لكنه أمسك بمعصمي بكلتا يديه وجذبني من فوق ظهره، حتى انقلبت عدة مرات أمامه، ثم فززت واقفاً على قدميّ، متّخذاً هيئة المستعد للإنقضاض، التقط الرجل عجراه المجدولة وهي تشبه حيّة أو رمحاً، أشهرها نحوي وهزّها طالباً مني أن أبتعد عن طريقه قبل أن يفجّر رأسي بها. رفضت وأنا أطلب منه أن يترك لي البكرة والشياه، فاندفع بعجراه نحو رأسي بضربة سريعة استطعت أن أروغ برأسي عنها، وقد سمعت صوتها يئز فوق رأسي مباشرة. في المرة التالية رفع العجراء إلى الأعلى وهوى بها على رأسي، فأمسكت بها في اللحظة المناسبة، حاول أن ينتزعها من يديّ، وحاولت أن أجذبها منه، لكنه كان قويّاً وصلباً، حاول أن يدفعني بها على صدري، وفعلت مثله، أدارها من الأعلى إلى الأسفل، وقاومته بأن أدرتها تجاه الأعلى، ضربته فجأة بقدمي عند عرقوبه، فسقط وأنا فوقه بعد أن طارت عجراه الطويلة، لكنه استطاع أن يقذفني بقدمية القويتين، فنهضت والتحمت به محاولاً طرحه أرضاً، لكن ساقيه المفتوحتين قد تمكّنتا من الأرض وقد غرس قدميه في التراب، أعدت محاولة أن أحكم ذراعي على عنقه، لكنه خلّص يدي بقوة نادرة. كان قويّاً وصلباً ومحارباً جيداً، لم أقابل أحداً بقوته ومراسه. رغم أن معركتنا استمرت قرابة ساعتين إلا أنه لم يتعب ولم يسأم، حتى أنني شعرت أن قواي وهنت وهو يزداد قوة. لم أكن أرى وجهه جيداً في الظلام، لكن عينيه لامعتان تشبهان عيني ضبع، وشعره طويل ومربوط، وشارباه لم يحفّهما منذ زمن حتى صار فمه مثلثا مثل نمر برّي. بعد هذا العراك الطويل، وفي إحدى لحظات الانفصال القليلة، سألته أن نستريح، فأجابني إلى ذلك. قلت له: هل تصالح؟ أجاب: أصالح، وعليك أمان الله! سألته وأنا أضع يدي في يده: هل تثق بقاطع طريق؟ ضحك وأنفاسه لاهثة: أنا أيضاً قاطع طريق! هذي البكرة والشياه كسبي اليوم! عانقني وهو يقول: أنت ستكون أخي! وقال لي أيضاً بأنه لم ينازل أحداً بقوتي ومراسي في القتال! وقال أيضاً بأننا سنكون معاً قوة لا تقهر، وسنكسب الكثير من الغنائم! في تلك الليلة أكرمني مثل رفيق قديم بأن ذبحنا إحدى الشياه وأشعلنا من حطب الغضا ناراً، بعد أن أوقدها بأعواد رمث قليلة كانت فوق بكرته الحمراء! قال إن اسمه نهاراً! أذكر أنني ضحكت وأضحكته حين قلت له أنه نهار لا يسلب ولا يعترض طريق إلا في الليل.
صرنا أنا ونهار معا كل الأيام، لقد آنسني وآنسته، وتخفّفنا من صحبة الذئاب، فلم تعد الذئاب تترصدنا من بعيد، بل أنها ما أن ترانا حتى تهرول مبتعدة، ولم نعد نترك لها شيئاً لتأكله، كنت آخذ ما أكسبه إلى أمي وأبي وأخي، بعد أن أقتسم الكسب مع رفيقي نهار.
بعد أن عدت من جولات طويلة مع نهار في الأودية والشعاب، وجدت أمي خزنة تندب وتلطم، وتنكش شعرها الأبيض، وتشقّ جيبها، وما أن رأتني مقبلاً أقود فاطراً بيضاء في الظلام، حتى اندفعت نحوي تركض، تضمّني وتبكي. قالت لي أن أخي سيّافاً حمل أبي في الليل في خرج صوف، وغدا فيه صوب الجبال، وتركه هناك للسباع والذياب.
لم يكن سهلاً أن يحمل أباه ويتركه للسباع تمزّق جسده وهو لايستطيع أن يدافع ولا أن يدفع أذاها ولا أن يهرب لسقمه وضعف بصره. كان سياف يضحك من عجوز مجنونة، أبدل اسمها تهكماً من خزنة إلى خرفة، فهي الآن في عمر الخرف، وأبي– يقول سيّاف– خرج ليلاً بعد أن تمكن منه الحزن والهم، ليبحث عن أخي سيف، يقول أنه سيجده وسيعيده سواء كان عند الجن أو كان ملكاً في مملكتهم، أو مسحوراً بعشق امرأة شعرها طويل ومدعوجة العينين. سمعته في آخر الليل يقول لنفسه: سأجزّ شعرها وأفتل منه قيدا أربط فيه الخبل سيفاً قبل أن أوثقه على ظهر الهرش.
لم يكن طراد لحظة ذاك متأكداً من رواية أخيه سيّاف، ولم يكن أيضاً واثقاً من كلام خزنة أمه! يمكن أن يفعلها سيّاف وهو الذي يعرف عنه حدّة المزاج والعصبية، وهو الذي يشعر بالضياع والإهمال، بعد أن أصبح سيف أخوه زاد أمه وأبيه وهاجسهم في الليل والنهار! لا يكفّان عن اللهج باسمه، إن تعرضوا إلى مجاعة أو قلة زاد أو سطو بكيا من الجزع: أين أنت ياسيف؟ كما أن طراد هو أملهما في العيش، إذ يعرف عنه الشجاعة والكرم والقوة حتى وان كان قاطع طريق!.
بقيت العجوز البدوية خزنة تخزن أسرار البرّ والقبائل، وتبكي ابنها الذي سرقته الجنّية ونصّبته ملكاً للجن، وزوجها الذي تآمر ابنها عليه ووضعه زاداً لسباع البرّ، وصغيرها الذي لا يكف عن مهاجمة القوافل والمسافرين وعابري طرق الصحراء، يسلب ويقطع الطريق ويلهو مع رفيق عمره نهاراً، ثم يعود إلى العجوز التي تنتظره وحيدة ومتآكلة الجذع فوق تلة، وكأنها ذئبة أخرجها الجوع، أو خلوج تنظر في الأفق بحثاً عن صغيرها الشارد أو المسروق.
كانت لا تكفّ عن حفر الرمل، تنكش الرمل ليالي طويلة، وهي تعوي وتدمدم غاضبة، تحفر في الرمل بحثاً عن سيف الذي اختفى في مملكة تحت الأرض، تحفر علّها تجد عظام الأب الزوج الذي انهالت عليه كواسر وسباع البرّ. كانت منذ خيط الفجر الأول تحفر الأرض دونما كلل، وكلّما تحسست أصابعها الجافّة جذع شجيرة الغضا المدفون بالرمل أو عرق شجيرة الإرطى قالت لنفسها هذا عظم ساقك يا بو سيف! لكنها ما أن تخرج الجذع أو العرق حتى تدخل في نوبة حزن وضيق وصمت.
أكثر مرة طاش صوابها بعد أن حفرت ليلتين كاملتين حتى عثرت على عظمة ساق متآكلة لحيوان افترسته ذئاب البرّ منذ سنوات بعيدة، وانطمرت أشلاء عظامه تحت الرمل. التقطت العظمة وصارت تركض في الأنحاء بحثاً عن طراد، تركض وتولول وهي تقبض على فعلة سيّاف القذرة. كانت تركض في كل الاتجاهات، تركض حتى تسقط من التعب والإنهاك، ثم تتحامل على ضعفها وتركض في ناحية أخرى.
جسد ناضج كثمرة
لم تكن لديه سوى سيارته التويوتا كريسيدا، موديل 76م التي يقتحم بها الشوارع المضاءة والمحفوفة بالأشجار، كان لونها أبيض قبل أن يدهنها بالأصفر، ويثبّت فوق مقصورتها علامة الأجرة، ويرتاد بها الأسواق ومواقف صالة المطار القديم، ينقل بها الغرباء والنساء والأطفال والشباب في كل وقت، منذ الصباح الباكر حتى منتصف الليل، ويمتد به التجوال إلى خيوط الفجر الأولى أيام العطل الإسبوعية.
سيارته بمصابيحها الدائرية المدبّبة، وهي تجوس في طرقات الحارات القديمة تشبه خفّاشاً يتلمّس طريقه ويصطدم بالجدران. يحب سيارته كثيراً، يرعاها ويجمّلها ويحنو عليها، على التابلوه الخلفي وضع مخدّتين مطرّزتين بمرايا دائرية صغيرة جداً، كأنها أقمار صغيرة تكسر ضوء شمس الظهيرات العمودي. على التابلوه الأمامي ثبّت قماشاً زيتياً تتدلى من أطرافه أهداب خيوط من اللون ذاته. ومن مرآة السائق المثبّتة على الزجاج الأمامي تتدلّى كرة تنس طاولة مغطاة بأقراص التنتر الملوّنة المثبّتة بدبابيس، حتى أن التماعاتها تبرق كلما تهادت أو تهزهزت سيارة الكريسيدا. على باب السائق الجانبي من الداخل ألصق صورة الفنانة سعاد حسني في لقطة مغرية، بشفتين مفتوحتين، وبشعر معقوص على شكل ذيل فرس، وهي ترفعه بيد وتنظر نحو الكاميرا بدلال، وكلّما نظر إليها لحظات انتظار الراكبين والعابرين شعر أنها تنظر نحوه، ثم تأوه طويلاً وصمت ونظر إلى النساء العابرات في الشارع.
ركبت معه نساء كثيرات، ونقلهن في شوارع المدينة المزدحمة، واختصر الطريق بالدخول إلى طرقات ودهاليز ضيّقة وخالية في الحارات، ولم يفكّر فيهن، رغم أن رائحة عطور بعضهن تدوّخ رأسه، رغم أن بعضهن يتكلّمن بغنج، ويقمن بحركات موحية ولافتة، لكنه حسم الأمر بأنه يبحث عن المال لا عن اهداره.
ذات مغرب صيفي حارّ ودبق، بينما يقف بسيارته الكريسيدا الصفراء في طابور سيارات الأجرة، المقابل لمبنى المحكمة وسط البلد، ركبت امرأة في المقعد الخلفي، قبل أن يصل دوره، إذ بقي أمامه ثلاث سيارات أجرة، التفت نحوها: لم يصل دوري ياخالة! قالت له بلهجة نزقة، وصوت دقيق وناحل جداً: أنا لست خالة، ثم انني ركبت ولن أنزل! قال لها باستحياء: ما كنت اقصد، لكن لا أستطيع أن أتحرك إلا بعد أن تتحرك سيارات التاكسي الثلاث! على اليمين رصيف، ويسار فيه الحاجز! كان يشير وهو يشرح لها، لكنها باغتته بلهجة هادئة، وصوت يشبه قطرات مطر ناعمة: ما يهم، سأنتظر معك! ثم فتحت نصف زجاج النافذة اليدوية، وهي تتأفف من سطوة الحرّ الشديدة.
بعد أن تهادت سيارته في الشارع خارجاً من ازدحام السوق التجاري، وحدّدت له المكان المقصود، طفرت من روحه أسئلة بدأت تؤرجح بعنف كرة التنس المزيّنة بالتنتر، ما الذي جعلها تتجاوز السيارت الثلاث، وتنتقي سيارتي تحديداً، رغم أن إحدى السيارات أمامي من نوع الكابريس الجديدة، وهي أكثر فخامة من سيارتي الرخيصة، بل يكفي منها مكيّف الهواء الذي يساوي وحده سيارة أخرى في قيظ هذا البلد.
قاطعته وقد تزحزحت إلى المقعد خلفه مباشرة: أوووه.. والله حرّ! ثم طلبت منه أن يتخذ طريقاً أخف ازدحاماً، فالتقط طريقاً جانبياً في أحد الأحياء الجديدة، متجهاً ناحية الغرب، حيث ضوء الشمس الأصفر ينكسر على زجاج السيارة الأمامي، ثم شعر فجأة بحركة خلفه ضاعفتها ارتطام ركبتها في ظهر مقعده، نظر في المرآة، فلمح عينيها المرسومتين بعناية، وقد أزاحت غطايتها السوداء عن وجهها لتمسح بمنديل ورقي أبيض قطرات عرق تجمّعت فوق جبينها. نظرت نحو عينيه في المرآة ولم تنكسر عينيها أبداً، سألته عن اسمه ووظيفته وأشياء سريعة، استجاب لها كما لو كان مخدَّراً أو مسحوراً. وقبل أن تغادر سيارته دفعت له بيد بيضاء وبضّة ورقة من فئة الخمسين ريالاً، لكنه أقسم أن لا يأخذ منها شيئاً، أصرّت هي، لكنه امتنع، لتلقي بالورقة في المقعد الجانبي، وتغادر.
نظر إليها وهي تمضي جهة باب منزل حديث، لم يكن منزلاً طينياً أو شعبياً، بل كان منزلاً حديثاً تفيض من وراء سوره شجرة الجهنميّة بزهرها الناري، كان جسدها فارعاً، وهي ترفع عباءتها إلى منتصفه، لتضيء من تحته تنّورة صفراء بورود سوداء وعسلية، وقبل أن تغلق الباب وراءها نظرت نحوه وقد نزعت غطاء رأسها وهي تهزّ بشعرها الأسود الداكن على الجانبين مثل فرس محموم. ابتسم وتنهّد قبل أن يضع ناقل السرعة على الرقم واحد، ويدوس على كابح البنزين ببطء، وهو يتأمل المنزل ونافذتيه الأماميتين وأشجاره وأسلاك الكهرباء التي توازي سوره، وما أن انعطف تجاه الشارع العام حتى مدّ يده إلى المقعد الأمامي متحسّساً ورقة الخمسين ريالاً، قرّبها من أنفه ليشمَها، وقد سقطت من وسطها وعلى حضنه ورقة علامة تجارية لأحد الملابس، قلبها إلى ظهرها فهاله أن رأى رقماً هاتفياً، وأسفل منه رقم 12ماء .. قرأها أولاً: ماء، ثم قال لنفسه ربما مساء، وليست ماء، فقد أهملت كتابة سنن السين، لم يكن في المنزل المتواضع الذي يعيش فيه مع زميل عمل خط هاتفي، وأين يجد هاتفاً بعد منتصف الليل، قرّر أن يزور صديقاً قديماً، لديه شقة في وسط البلد وبها هاتف، كان صوتها ليلاً هائلاً وأكثر دفئاً وحناناً، كانت صغيرة ومطلّقة، تعيش مع أبوين عجوزين، أحدهما مقعد فتتولى العناية به. قالت أنها أحبته منذ الوهلة الأولى، وقالت له كلاماً كثيراً:
ما أنهيت مشترياتي ذاك اليوم، كنت متجهة بسرعة إلى محل بيع ملابس جاهزة أريد استبدال بلوزة حمراء فضفاضة، ما صارت على مقاسي، كنت أنوي أرجّعها قبل آذان المغرب، وقبل ما تقفل المحلات، لكنني مررت بمواقف التكاسي، ولمحتك تلعب بشاربك، فأحسست بشيء داخلي، شيء تكهرب، ثم رجعت بعد ما تجاوزت سيارتك بخطوات وركبت.. يمكن تقول إني جريئة، لكن والله أول مرة تصير لي، شيء غصب عنّي رجّعني.. ما صرت أتحكّم بتصرفاتي.
قالت له كلاماً ليلياً ساخناً وجامحاً، انساق معها دون أن يشعر بما حوله، تحوّل إلى شقة زميله، وصار يسهر حتى وجه الفجر، أحبّها كثيراً وأحبته بجنون، لم يعد يهتم بسيارته ولا يجمّلها، صار يجمّل وجهه ويعتني بملابسه، ويسهر على صوتها المنخفض الذي يغسل به وحدته وكآبة الليل. أول مرّة قابلها بعد اتفاق هاتفي، ركبت من أمام مكتبة الفرزدق في الشارع العمومي القريب من منزلها، واتخذت مكانها في المقعد الخلفي كما لو كانت مع سائق أجرة، بعد أن تحركت سيارته في الشارع قليلاً طلبت أن ينعطف داخل شارع فرعي، وما أن لاذت سيارته الصغيرة حتى أشارت له بأن يقف. توقّف، فنزلت وركبت بجواره وهي تمدّ يدها البيضاء الرقيقة لتصافحة، غاصت يدها داخل ضخامة يده، ودارى ارتباكه بأن سألها كيف يملك أن يمشي في الشوارع وهي بجواره؟ قالت له إنني زوجتك، هل يمكن أن تركب زوجة صاحب الأجرة في الخلف كأنها امرأة أجنبية؟ أعجبه كلامها ومنطقها وليونة يدها الممتلئة وهي تنام بوداعة داخل يده، ثم تتشابك أصابعها الرفيعة ذات الأظافر المصبوغة بالأحمر بأصابعه.. حتى يتذكّر الشارع الفرعي الخالي الذي رفع فيه يدها إلى شفتيه وقبّلها، يتذكّر المنازل التي تحفّه من جهة، وسور المدرسة الذي يحفّه من الجهة الأخرى.
يتذكّر أغنية “يا صاح أنا قلبي من الحب مجروح” التي غنّاها محمد عبده وهي تناوله أول قبلة في حياته، بعدها أحس أن البلد اختلف، بدأ يرى أشياء كثيرة في طريقه، يرى البنات في الشوارع، ويطالع في الأشجار، ويتأمل لوحات النيون، ويمازح باعة المحلات التجارية، ويقرأ الجرائد، ويشتري المجلات الملونة، ويبحث عن كتب الشعر الشعبي، ويتابع جديد الأغنيات، ويتفهّم كلماتها، دون أن يتمايل مع ألحانها فحسب كما كان سابقاً.
بعد أن غرقا معا في بحر غرام لا قاع له، وبعد أن تجوّلا في الشوارع والطرقات والحارات، وهي تضع طرحتها وغطايتها السوداء على رأسها ووجهها في الشوارع العامة، وتزيحها إذا دلفا مثل لصّين أو خفّاشين ليليين في دروب فرعية خالية، لتنهب منه قبلة، رغم أنها حاولت أن تفعلها في شارع عام ومملوء بالمحلات التجارية، بحجّة أنه “فاضي ونحن في آخر الليل”، لكنه صدّها بحذر، رغم أن يدها اليسرى لا تكفّ عن الذهاب إلى مكانها المعتاد.
بعد أن ضجّ جسدها ونضج مثل ثمرة ذات ليل، قادته إلى مكان مهجور على أطراف البلد، وما أن استوت سيارته الأجرة في نهاية طريق ترابي مهجور في أحد الأحياء الجديدة، وأطفأ نور سيارته، حتى اندفعت نحوه وطوّقته، ثم جذبته نحوها في مقعدها، وجعلته يقيس حزنها ووحدتها ووحشتها، كان مثل حيوان برّي صغير، لا يعرف كيف يدلف أبواب الغابة، كان يجرّب بحذر وفضول ورغبة، وهي تفعل معه بصبر وبحنان، تقوده من يده مثل جاهل، وتساعده حتى أدرك غايته، وبلغ المتعة كلها. قالت له ستتزوجني، قال لها سأتزوجك، أحبّها كثيراً، وأدمنت حبّه، واستمتعا مراراً، حتى بكت ذات يوم معه وهي مثل عصفور ذبيح. قالت أن ثمرة حبنا تكبر في رحمي، فاضطرب ووعدها أن يحسمان الأمر سريعاً، بعد أن يشرح لأهله رغبته بالزواج، ذكر لهم اسم عائلتها، فضحكوا طويلاً، وأكدت له أمه في قريتها أنها ستبحث له عن عروس مناسبة، لكنه اعترض، قالوا له أنت ابن القبائل، أنت الحرّ ابن الأحرار، تتزوج ممن لا أصل ولا فصل لها، وحين لاحظوا اصراره هدّده أخوه بالقتل، وشهر في وجهه بندقية صيد ان فكّر، مجرد تفكير، في هذه المرأة الوضيعة.
لم يكن الأب المقعد ينتبه للبطن الذي تكوّر، ولم تكن الأم ببصرها الشحيح تلتفت أو تملك أن ترى البطن الذي كبر، مخفوراً بالقمصان البيتية الواسعة، كان الجنين يرجف بنزق، وقلبها يرجف برعب، كانت تبقى الليل كلّه تنتظر الهاتف اللعين، الذي أدمن الصمت الأبدي، حاولت أن تبحث عن طريق يوصلها إليه، كي يساعدها في هذه الورطة، كي يدفنا هذا السرّ معاً إلى الأبد، لكنه لم يترك أي شيء، لم يترك أثراً، كانت تبكي الليل كله، تلعن التلفون والقبائل وسيارات الأجرة والشوارع والشهوة والحب والسوق والدكاكين والبلوزة الحمراء الفضفاضة وأغنية “يا صاح” والأغاني كلها والقصائد الشعبية.
بعد أن تكوّر بطنها قررت أن تبحث عن صديقة الطفولة، أيام الابتدائي والمتوسط، أن تتصل بها وتبحث معها على حل سريع وعاجل لهذه الورطة والفضيحة، حتى لو كان هذا الحل هلاكها، وبقاء والديها دونما عائل، كم فكّرت بأن تعبر طريقاً سريعاً كي تدهسها سيارة مسرعة، لا يهم حتى لو كانت سيارة أجرة، تتدلّى من مرآة سائقها كرة تنس مزركشة بأقراص التنتر الصغيرة الملوّنة، “المهم أن أضع حدّاً لهذا الكابوس الطويل”.
ذهبت مع صديقتها في لحظة المخاض إلى امرأة عجوز في حي العدول، الحي الشعبي الفقير، كان سائق العجوز وشريكها في العمليات تلك قد نقلهما من مكان محايد، حدّدتاه له هاتفياً، بعد أن وضعت صبيّاً قمحي البشرة، وضعته العجوز بمشيمته والدم المصاحب داخل كرتون موز معدّ لهذا الغرض، وبداخله كيس نايلون ممزَق، حمله السائق باعتياد بعد أن غطّى الكرتون بقماش ضاف، ومضى بعد منتصف الليل، مخترقاً الشوارع والحارات، حتى إذا دخل حي السدّ الغربي، متجاوزاً مغسلة الملابس المطفأة اللوحة، وتموينات السدّ المركزية، ليصل إلى الساحة المجاورة لمسجد ابن الزبير، أوقف سيارته الماركتو البيضاء في صمت الليل، ونزل منها متلفّتاً في المخارج التي تفضي إلى الساحة، ليفتح الباب الخلفي ساحباً كرتون الموز بغطاء القماش المشجّر، ليضعه لصق جدار المسجد، قريباً من الباب الرئيسي للمسجد، ثم يفرّ بسيارته إلى الطرقات الواسعة الخالية قرابة الفجر.
لم يكن طراد يقرأ تلك التفاصيل في الملف الأخضر العلاّقي، وهو في محطة حافلات السفر، كان يقرأ مستندات رسمية، قبل أن يغرق في تخيّلات طويلة متشعبة، انتهى منها بآهة طويلة وعميقة، وهو يهمس في داخله: مسكين أنت أيها الحبيب اللقيط ناصر، هل كان اسم أبوك صاحب سيارة التويوتا الكرسيدا الأجرة عبدالإله، وهل كانت أمك ذات البلوزة الحمراء الواسعة، والتنورة الصفراء ذات الورود السوداء والعسليّة اسمها صالحة؟ هل كان عليك أن تنام يومك الأول في الشارع، وأن تفقد عينك بهجوم قطط متوحّشة في الليل، وهى تراك مجرّد لحمة حمراء رجراجة؟ لماذا لم تكن داخل بيت حديث تفيض من سوره شجرة جهنّمية بزهر ناري؟ لماذا لم تتجوّل في سنواتك الأولى داخل سيارة أجرة تناغي داخلها أباك وأمك؟ اللعنة على آفات القبائل وأعرافها، ماذا وجدت أنا يا صاحبي ناصر من القبيلة؟ لاشيء، كانوا يصفونني بالمخروم، وهم يصفونني بأنني بلا أذن، بعد أن كانت سمعتي وشجاعتي تسبقني في البراري الموحشة! هذا أبوك يا لقيطي تركك، وفرّ من حياة أمك لأجل القبيلة، لم يهتز قلبه المحبّ لبكاء أمك التى لم تتبع القبائل، ولم يصغ لانتفاض جسدها الصغير الذي علّمه الحب، وأراه الحياة الجديدة، بعد أن كان فظّاً جلفاً، لا يعرف من العالم غير ابتسامة سعاد حسني وعينيها وشعرها المرفوع كذيل فرس.
0 تعليق