حسين المناصرة
وتبدو هذه الرواية ايضا من جهة اخرى، حكاية حكايات افراد اسرة واحدة في الاساس، تتعدد فيها الاجيال، او على وجه التحديد الاجيال الثلاثة: الاجداد، والآباء، والابناء. فتظهر الشخصيات المتعددة في هذه الاسرة وهي تعلن رغباتها في الحكي، وسطوتها في الاصرار على ان تمنح في السرد دورا خاصا وكافيا لتحكي عن نفسها، فهي تطمح الى ان تحظى بأدوار فاعلة تناسب اهميتها كما
تراها لذاتها، وهنا تظهر ازمة الشخصيات في التعبير عن نفسها، وفي صراعها بعضها مع بعض من منظور الصراع بين الأجيال.
وفي هذا السياق نجد محاصرة الشخصيات للسارد، على نحو حصار «موضي» التي تطالبه ان يكتب عن خيباتها وهزائمها الكبيرة، وحصار البنت الصغيرة «مزنة» التي تطلب منه الا يغفل بطولاتها، ألا يتعامل معها على أساس انها بنت قاصر أو طفلة ساذجة بعد أن صارت في العاشرة من عمرها! وتبدو الرواية من جهة ثالثة سيرة ذاتية للبطل السارد الذي يكشف كثيرا عن التماس بالمؤلف يوسف المحيميد نفسه، حيث تتضح معالم الذات في مواقع كثيرة، تجعل الرواية جزءا من الحديث عن علاقة المحيميد بكتابة الرواية، وخاصة في مجال تشكل قلق الكتابة وسطوة الشخصيات، وهذا يتضح تحديدا في الاهداء الخاص الذي كتبه المحيميد: «بين يديك قلق الكاتب وسطوة الشخوص»، حيث اختزلت هذه العبارة ابعاد الذاكرة السردية التي نشأت من خلالها بنية الرواية وتطورت فيها لغتها السردية، بمعنى انه كشف عن قلق كبير يعتري الكاتب عندما يكتب رواية، وخاصة قلق التعامل مع سطوة الشخوص هذه السطوة التي ترهب الكاتب فيشعر ازاءها بأنه محكوم بسلطات عديدة اجتماعية ودينية وثقافية وسياسية واخلاقية، تحاصره وتمنعه من التداعي الحر في انسياب شخصياته على الورق، من هنا تصبح الممحاة رمزا محوريا في التعبير عن هذا القلق الرقابي، كما يصبح حصار الشخوص في دائرة الكلام الضيقة، والميل بهم الى الخرافي رمزا لحضور الرقابة، وخاصة الرقابة الاجتماعية في سياقها الاسري، حيث تفسر الاعمال الروائية في احيان كثيرة على انها نوع من «الرواية السيرية» وانها بالتالي تكشف اسرار المؤلف وعلاقاته الحميمة بأناس عاش بينهم، ثم غدوا جزءا من المقبرة التي تمتلىء بها لغة الرواية ابتداء من عنوانها وانتهاء بآخر جمل متنها!! لذلك تبدو شخصية يوسف المحيميد طاغية من بداية الرواية الى نهايتها، وهذا بكل تأكيد ليس عيبا، اذ القصد ان يكشف عن رؤية الفشل في كتابة رواية من الناحية النظرية، مؤكدا على الاقل الاسباب التي جعلته يتأخر عن كتابة الرواية، وهي اسباب توحي من خلال عنوان الرواية بأن الكتابة السردية تجعل الأموات جزءا حيا في ذاكرة الكاتب، مما يؤزم ذاته الابداعية في مواجهة الشخوص الذين سيكتب عنهم، يقول السارد في هذا الشأن: «أرأيت يا صاحبي، وقد شرفتني بأنني امتلك اللغة، والأداة، واستحضر وحشة الطفولة، وغمغمات المرأة، أرأيت كيف يشتمني شخوص من حلمت ان يصبحوا أبطالا لروايتي أرأيت كيف يتهمونك بالغباء، ويهبونني الفشل» (ص42).
تبدو الرواية كذلك عملا دراميا، يؤكد الحوارية بين السارد وشخوصه، وبين الشخوص والسارد، وبين الشخوص بعضهم ببعض، وبين الرغبة في الكشف عن الأسرار، وتمويهات التكتم والتخفِّي خلف الغرائبية. ثم هي كتابة مقالية متأثرة كثيرا باللغة الصحفية التي يتقنها كثير من الكتاب والنقاد، بسبب انشغال معظمهم بشؤونها، وقد أشرت إلى ذلك في بداية هذه المقارنة.
ولا تخلو الرواية من شعرية، وتوترات ايقاعية ناتجة عن منولوجات داخلية توغل في السخرية والهجاء للذات، والعلاقات والاجواء التي يمكن ان تجري فيها احداث الرواية المتوقعة كما تتضح في المخطط السردي الذي يتوقع ان تشتغل عليه رواية أخرى..ألخ.
على أية حال ، تتشكل ذاكرة السارد/بطل الرواية في كتابته لروايته من ثلاثة محاور رئيسة، هي:
الأول: محورالصديق/ الاصدقاء، وهو المحور الذي يطالبه بأن يكتب رواية، ويلومه على التأخر في ذلك، فيجيب السارد عن تساؤلاتهم اللائمة بما يبرر فشله في تنفيذ ما يأملون، مركزا في هذا الجانب على صديق معين، ومصرا في النهاية على ان الاصدقاء يريدون ان يورطوه في مأساة احياء الاموات الذين سيلاحقونه الى الدرجة التي تجعله يتنفس بأنفاسهم، خاصة ان ذاكرته تمتلىء بالاموات الساخطين على الاحياء، يقول في توصيف هذا المحور: «يا للأصدقاء الذين يحرضون على جذب هؤلاء الموتى، لينفضوا حياتهم السالفة امامي كبساط تدوخ ألوانه بصري، هكذا يظن الاصدقاء، بل يوقنون ان من ينفض حيوات الآخرين على الورق، انما يتخلص من ارواحهم الحائمة حوله مثل فراش ملون، ثم ينساها تماما، كما نسي كازانتزاكي حبه الأول، بكتابة روايته «الثعبان والزنبقة»، ثم تنفس عميقا وهو ينظر من النافذة، شاعرا بالارتياح. لو تنفست الآن، لتنفس هؤلاء معي، وهم يحاصرونني بحكاياتهم الضائعة، وسخطهم على الأحياء والمتزلفين” (29).
المحور الثاني: مطاردات الشخوص للسارد وسطوتهم عليه، والغاية من هذه المطاردة كما اسلفنا ان كلا منهم يريده ان يعطيه حقه الكامل في الدور والصوت معا، وان بعضهم يحتج ويتذمر، بل يصل الامر ببعضهم ان يسعى الى الانتقام لشعوره بأن السارد يشويه في سيرته، او بحصار صوته او يغلب شخصية اخرى على شخصيته، وهذا المحور حيوي، وطريف في هذه الرواية التي تبدو من هذه الزاوية مجددة، وهي ترينا الكتابة السردية حوارا بين المؤلف وشخصيات السرد، وهذا الاسلوب السردي المهم، نجده في روايات جبرا ابراهيم جبرا، ولكن ليس بهذه الصورة الكلية، بحيث يصبح موضوع الرواية كله حوارا بين السارد وشخصياته، يستمع لهم، ويتدخلون في كتابته كما يظهر في نهاية الرواية يقول السارد: «يطاردني اناس وكائنات لا اعرفها. هل ترى الى الجد، الجدة، مسعود، وموضي، والصغرى، والجارة ذات الفراشة، والبعوضة الضخمة والرجل المتبوع بحمائم، والام بالغلالة، كيف يطاردونني، كيف يهدد كل منهم ان اغفلت ما يريده (ص 37) وعلى هذا الاساس يغدو حضور هؤلاء الشخوص الطاغي معوقا من معوقات كتابة الرواية او السبب المباشر في تأخير كتابة الرواية من وجهة نظر السارد.
المحور الثالث: قلق الكتابة: وهذا المحور تحديدا هو ما يعانيه السارد عندما تكون تجربته اساسية وعميقة، وانه بالتالي محكوم بتجربة بودها ان تأخذ حريتها الكاملة في لغة السرد، ولكن انى يتأتى هذا في ظل ظروف عديدة تقهر الكتابة، وتشلها بقيود كثيرة، حتى تغدو التجربة كيسا ثقيلا لا يمكن التخلص منه او حمله، يقول السارد: «الكتابة قلق اجره مثل كيس خلفي، ان اطلقته خففت عاليا وغائبا، وان سحبته كللت.. تركل بداخله قوائم الكلمات.. شخوص وكلس عظام وسرائر (ص 37). للحديث بقية عن الشخوص وسرائرهم من خلال هم الاعتذار عن الكتابة الروائية، وهو الهم الذي يسكن ذاكرة السارد، فتتشكل من خلاله حاسة الفشل التي تغدو في النهاية – كما أسلفنا – كتابة سردية، وتحديدا رواية تبدو جديدة في مبناها ومعناها!
جريدة الجزيرة- العدد11053 في2 يناير2003م.
0 تعليق