بقلم: أحمد فضل شبلول
تأخذ رواية “لغْطُ موتى” القصيرة (نوفيلا) للكاتب السعودي يوسف المحيميد، تيمة السارد أو الروائي الذي يريد أن يكتب رواية، ويحشد لها كل طاقاته الثقافية والإبداعية والنفسية، خوفا من الفشل في الكتابة مثلما حدث في مرات سابقة، فينجح في هذه المرة في الكتابة من خلال الرسائل التي يرسلها لصديقه، وتحمل أجواء العمل الروائي الذي يريد أن يشيده، ومن أهم هذه الأجواء خوف الروائي من شخصياته
التي يبتدعها خياله، والتي ربما تطالبه بمنحها أدوارا أخرى غير الأدوار التي رسمها لها المؤلف، أو اعتراضها على بعض الصفات التي خلعها عليها المؤلف، وما إلى ذلك.
من خلال تقنية الرسائل ـ التي قد تضل الطريق أحيانا إلى صديقه، وتصل إلى آخرين ـ وطريقة صياغتها، واختيار الصديق قناعا يختفي وراءه السارد، نتذكر رواية “أديب” لطه حسين، ومن خلال رغبة شخص أو سارد رواية يوسف المحيميد في كتابة رواية، يظل محتشدا لها طوال الوقت، نتذكر رواية “المصري” للكاتب المغربي محمد أنقار، حيث يوهمنا السارد أو أحمد الساحلي أنه لم يستطع كتابة رواية عن “تطوان”، مثلما كتب نجيب محفوظ عن القاهرة، في حين أنه انتهى من كتابة رواية عن تطوان بالفعل.
هنا أيضا يحدث الشيء نفسه، لنفاجأ أن كل محاولات السارد في كتابة روايته، تنتهي بالفعل بكتابة رواية حقيقية.
ومن خلال تلك المحاولات نكتشف أيضا معاناة الكاتب أو السارد، والمحطات التي يتوقف عندها، ما بين إقدام على الكتابة، أو إحجام عنها.
يقول على سبيل المثال في حديثه لصديقه: “هل تعرف أن قرف كتابة رواية يأتي من شغف الشخوص في الحكي، كل منهم يرى أن لحظة الوقيعة الآتية، له وحده، رغم أن أي وقيعة لن تكون كذلك، إلا بوجود الآخرين”. نكتشف هنا أيضا أن شخوص الرواية أنانيون بطبيعتهم، وأنهم لا يريدون سواهم يحيا في العمل الروائي، أو لا يريدون سواهم يأخذ حيزا أكبر من الحياة في الرواية.
أحيانا يجسِّد لنا الكاتب العلاقة المتداخلة والشفيفة بين الشخصية في الرواية، والشخصية كوجود حقيقي خارج العمل الروائي الذي يكتبه، مثال على ذلك “مزنة” التي خرجت من العمل وجلست فوق المكتب، وسالت ابتسامتها على أدراج الطاولة، أثناء محو كلمة “البنت الصغرى” واستبدالها باسم جميل، في الرسالة التي يريد السارد إيصالها لصديقه، ليتشكل أثناء الجلو بالممحاة فوق الورق، كائن في حجم نملة صغيرة وكسولة، يكبر في صورة امرأة صغيرة ليست سمراء، لكنها محروقة، لتقول للسارد إنها مزنة، في أجواء أشبه بأجواء ألف ليلة وليلة، عندما يخرج عفريت المصباح أثناء جلو علاء الدين لمصباحه السحري.
وتأخذ مزنة دورها في الحكي، والسارد غير مصدق لما يحدث، بل أنها تشترك معه في إضافة وقائع للرواية التي ينوى كتابتها، فيبلغ صديقه بما يحدث، ليكون على بينة بأجواء الرواية أولا بأول.
وتكون المفاجأة للسارد والقارئ معا، عندما يتصل شخص ما بالتليفون طالبا الحديث مع مزنة، ومن هول المفاجأة ينكر السارد وجود هذا الاسم، ثم يندم على هذا التصرف، فكان من المفروض أن يجاري هذا الشخص ليتأكد من بعض الحقائق، وهو أسلوب مشوق للقارئ أيضا، الذي ربما تتوه منه بعض خيوط الرواية، لكثرة النقلات، وتغيير ضمائر المتكلم، أكثر من مرة، وإذا كان القارئ على غير دربة بقراءة هذه النوعية من الأعمال المكثفة التي تتنوع فيها الضمائر، دون نقلات تنبيهية، لفقد اتصاله بالعمل، ولما استطاع فك شفراته الإبداعية، أو مفاتيحه الفنية، واتهمه بأنه عمل مضبَّب، أو ملغز، أو معمَّى.
لذا فإن مثل هذه الرواية لا بد أن تُقرأ بتركيز عال، وأكثر من مرة، ليستمتع بها قارئها، ويكتشف جمالياتها، خاصة وأنها تقع في 86 صفحة فقط.
الرواية تؤكد حضور البيئة السعودية من خلال وجود شخوصها في بعض الأماكن والشوارع التي تحمل عبق هذه البيئة المتميزة الغنية بمفرداتها التراثية وفولكلورها الحي مثل عادات شرب القهوة العربية (الهيل) وانتشار رائحة دهن العود، على سبيل المثال، فضلا عن أسماء الشخوص أنفسهم مثل: موضي، ومزنة، وغيرهما، والحديث عن الصحراء الشاسعة المترامية الأطراف، وما إلى ذلك من تشكيلات جمالية تتصف بها البيئة السعودية.
حقيقة، قد شممتُ تلك البيئة التي عشتُ فيها من قبل (أثناء عملي بمدينة الرياض)، من خلال سطور رواية يوسف المحيميد، وكأنني أحد الشاهدين على الأجواء التي يتحدث عنها السارد، وأحد الذين شاهدوا موضي وهي تدق المسمار بحائط المقبرة، فتدق معه طرف عباءتها السوداء، وعندما تهم بالجري، تشعر أن هناك قوة تجذب عباءتها فتظنها العفاريت أو الجن أو الموتى، وقد خرجوا من قبورهم، فتصاب باللوثة العقلية، ويقتنع أهلها أن الموتى يخرجون من قبورهم بالفعل، وعندما يذهب مسعود في الصباح ويحضر لهم العباءة بعد نزعها من المسمار، يكونون أكثر اقتناعا بأن هذه العباءة لا تهم الموتى في شيء، لذا فقد تركوها ممزقة على أرضية المقبرة.
هذه إحدى التيمات الشعبية التي وظفها الكاتب بنجاح في روايته على لسان السارد، الذي يفاجأ بشبيهه في بهو فندق صلاح الدين (إنه ليس غريبا عني. أتذكر ملامحه جيدا، والندبة فوق الحاجب الأيسر على شكل هلال، والكية الصغيرة في طرف شاربه الخفيف ..). وكان هذا الشبيه يتحدث لأصدقائه عن أسرار الرواية التي يكتبها السارد، قائلا لهم: “أفكر أكتب رواية عن روائي”، لنكتشف أن هذا الشبيه ما هو إلا السارد نفسه. ولكن في الوقت نفسه يحاول أن يقنعنا أنه يشاهد ويتنصت على الأصدقاء الثلاثة في بهو الفندق.
لنرى في النهاية ذاتا متشظية، أنتجها لنا الفن الروائي، أو الجنون الروائي، أو التجريب الروائي، الذي سمع لَغط الموتى (أي أصواتهم المختلطة المبهمة التي لا تفهم)، وشاهد غرغراتهم من خلال شرب الرائحة، والنوم الذي يدلِّي رجليه من على الجفنين، وارتعاشة الشمع السائل أسفل العرف المتذبذب، وعراك النمل، وغيرها من العبارات التي أضفت على الرواية جوا من السحر والغرابة والفانتازيا، مع واقعيتها في بعض المناطق والتخوم، الأمر الذي يشي في النهاية أننا أمام رواية ذات خصوصية، تسبح في عالم من الواقعية السحرية.
أحمد فضل شبلول ـ الإسكندرية
موقع ميدل إيست أون لاين- 7/1/2005م.
0 تعليق