قيس قاسم – ستوكهولم
..لا، أحد يدرك كم صعب أن أكشف أسرار وكنوز الذين يمرون خفافا في الذاكرة، ليس لأني مثالي جدا، أخبيء ما أعرفه، لا أسر به لأحد، حتى تغص ذاكرتي وتفيض، فيتسرب لغطها كخيط سري داخل صدري، وأنا أواسي كفني في رقدتي الهانئة. ولست أرى الأشياء والأشخاص كما هي، فأنقل تجاربهم، ووقائعهم كما أعرفها تماما، فأكون ناقلا ساذجا للواقع ـ ما الذي أتى بكلمة الواقع هنا ـ لايهم “؛
من الذي أتى بكلمة الواقع، أليس الكاتب نفسه؟ لايهم! هكذا هي الحال طيلة الوقت مع المحيميد في روايته ” لغط موتى”، تسطر الكلمات والجمل وكأن شخصا ثالثا يتدخل في كتابتها، ليحولها عبر تدخله اللامنطقي من طابعها الحكائي الى طابع مشاركة جماعية، يشترك فيها أصدقاؤه وأبطال روايته، الأموات منهم والأحياء. والكاتب، يظل في حياد، يعلن عجزه عن كتابة رواية، مقدما العذر تلو الآخر، متذرعا من خشيته في غبن أبطاله ومن لا عدالته في منحهم حقا متساويا في أرض روايته ” المؤجلة”، مفضلا العمل الصحفي اليومي الممل،على الدخول في مشاكل وخصومات مع أبطال يصنعهم بارادته ثم يعجز بعد ذاك عن التخلص منهم، فيحولون حياته الى جحيم، وبالأخص الموتى منهم، سيزرعون الرعب في كل زاويا بيته، ناشرين لغطهم دون توقف في هوائه، لايكلون ملامته على ما كتبه، عنهم وعن غيرهم. والطامة الأكبر، هم الأصدقاء، الغافلون عن عذابه، ومطالبوه الأبديون بكتابة رواية، أي رواية كانت! من هذة العقدة سيصنع المحيميد سلسلة حكايته العجيبة.
يبدأ الروائي بطرق، أولى حلقاتها بعنوان فرعي يشبه التمهيد (رسائل لن تصل الى عبد الله السفر) رسائل كتبها في غرفته، في حضرة كائنات بشرية، وحيوانات، تكلمت معه ووصفت له أحوالها ومشاعرها، سطرت حياتها وأملتها عليه لكتابتها. ولكن أين ذهبت تلك الرسائل، ومن استلمها؟ من هذا السؤال ستتجلى أهم ميزات أسلوب الرواية، وأقصد هنا “الدعابة”! قد يبدو هذا الوصف غريبا على رواية أغلب شخوصها موتى, شبعوا في حياتهم قهرا وأسى. ولكن من يعبأ بمصائرهم؟ شأنهم شأن ملايين البشر في كل مكان! بكل سهولة سيجيب الراوي على هذا السؤال: هذة الكائنات، في النهاية، ليست سوى صنيعة راوٍ ماهر يملك موهبة الحكي! وقد نضيف من عندنا.. ويريد أن يلعب. أن يصنع فيلمه الخاص، جمهوره القراء وأبطاله أناس عاديون، عاشوا في السعودية أو في أي مكان أخر ـ لايهم! ـ مرة أخرى نحن أما تجريد زماني ومكاني. تعمّد الروائي في محو الملامح المكانية والزمانية، أكسب روايته بعدا كونيا، فالموتى لا ينتمون بعد موتهم الى عالم محدد الأبعاد والملامح، وليس سوانا نحن الأحياء من يعيدهم الى الحياة عبر تذكرهم الدائم، وهذا ما أرادت “لغط موتى” تأكيده. فجل أبطالها، هم ضيوف من عوالم أخرى وأزمنة غابرة، أعيد تكوينهم روائيا من جديد، فدبت الحياة بين أسطرها حين رتب تسلسل حياتهم بفضل عملية مونتاج (قطع وربط)، وفّر الراوي صورها وترك الباقي علينا، لنركب ما نشاء منها وفق تصوراتنا ورغباتنا. بمعنى أخر، منحنا حق مشاركته الكتابة والتصور، كما منح أبطاله حق الاعتراض والشكوى على ما كتبه عنهم، ومن بعد اجباره عنوة على اضافة تفاصيل من عندهم ليكملوا الصورة والوقائع المتشظية التي أحاطت بهم! سيعترض مسعود مثلا على الايجاز الذي قدمه به الراوي، وتركيز الأخير على شهادة تقدير مختومة من الوزارة دون سواها، سيقول له: “.. لماذا لم تذكر أنني عملت هنا سائقا، وأنني أنتظر صاحب المنزل في السيارة مع الكلاب الضالة، حتى يعرك نعاسي بياض الفجر، وقهقهاته مع أصدقائه المخمورين، وهم ينزلونني من السيارة، آمرين أن أخلع، وأقعي لأبول مثل كلب..، وسترفض “موضي” إبنة مسعود، التي أودعت في مصح خارج المدينة المقطبة، اكتفاؤه بألحديث عن اهتمامها بالكلب الضال ورعايته، ستسأل “.. لماذا لم أذكر بالأقل، خيباتها وهزائمها الكبيرة، كأن يلفظها الموظف الحكومي بلحيته المشذبة بعناية، في بيت الأهل الحجري، مردداً، وهو يدير مسبحته كمروحة، في مدخل البيت: بنتكم ورجعناها لكم. ورعبي لحظتها، إذ لم يقل لي أبدا، ماذا كان ينوي أن يفعل طول الطريق.” سيعترف له جدها، الذي كشط عظام موضي ذات يوم وأمر بعزلها: “..المخبولة موضي، العائشة في سعد الآن، مع صغارها أشباه القطط، لم تعرف أنني خطفت صغيرها من سنتين فائتتين.”؛ وستترى الاعتراضات وتزداد صفحات الرواية باضافات أبطالها، فيدخل عبرها آخرون جدد وينسحبون، ستختلط الادعاءات وتقوى الحجج فتغرق حياتهم و”أبديتهم” في الأقاويل. فتسأل نفسك مرة أخرى.. هل هناك حقا غير “الدعابة” وسيلة أنجع لتقبل كل هذة “الفوضى”؟ تحت ظل هذين المفردتين، الدعابة والفوضى، تخبىء الرواية معظم مستورها السردي وتجلياته النفسية والاجتماعية. تحت حجاب الأولى يلبد الخوف، خوف الكاتب من الموتى والكتابة. وبحذاقة سينقل عدواه الى القاريء، لتصيب بها شغاف قلبه دون أعراض هلع، كمن يشاهد حواة يلاعب حية سامة، يخاف ويستمر في المراقبة، وهو ما يمكن تسميته “تعذيب الذات”، فشخصيات المحيميد تمارس هذا النوع من العذاب وتستمريه، تتسابق فيما بينها على كشف شدته وقساوته، إنه تعذيب ذات جماعي، يعكس الى درجة عالية الرغبة في استدرار العطف المرضي. يبدأ من إصرار الكاتب على فعل الكتابة رغم خشيته منها ومن نتائجها وينتهي بقبول أبطالها بمصائرهم المفجوعة: “.. هكذا كنت أحس بفزعي إذ أنصت للموتى، ساعة ينفضون مكتبي، ويلبسون نعلي، ويرتشفون من كأس الشاي قبلي. فكيف إذا سأحضرهم معي على طاولتي وبمشيئتي.”؛ وسيظل يحضرهم وسيتبارون بدورهم لأخذ أكبر قسط من الحكاية! أما الفوضى فستلعب دور المنظم والدافع لتطوير الشخوص أنفسهم، دور بوتقة مختبر كيميائي تخلط فيها خامات متفرقة لينتج منها مواد محددة الخواص والصفات. فأبطال “لغط موتى” يتجسدون ويكتملون من فوضى الاضافات الحكائية ومن تبادل الأزمنة. مهارة الروائي تتجلى في مقدرته على تفكيك زمن الرواية وتجميعه، بأزمنة الشخوص أنفسهم. فالموتى عندما يحضرون ويتجادلون معه، فهم بطريقة ما يعيدون ويساهمون في رسم الشخوص الباقية، إنه يمنحهم دور فرشاة أم فراشات نشطة تكمل صورة الآخر، ولكن بطريقة غير مباشرة، وذلك هو التمييز الأهم في عمل المحيميد، الذي يختبر، بحرية تدعو للتأمل، وسائل سرد روائية مبتكرة! وحتى لا نغالي، يمكننا وصفها بالتجريبية، رغم أن الخصوصية لا تخفى على المتلقي. بتعبير آخر إنه يتظاهر باللامبالاة، والعدمية لكن كتابته تشي بتعمديته في كل ضربة فرشاة وموضع، تماماً مثل تناوله للمشكلات والظواهر الاجتماعية، فعلى الرغم من الانطباع الذي تولده الرواية من أن كاتبها غير معني بها، فان ظلالها لا تفارق أبطالها، بل وقد تكون السبب في الكثير من الحيف الذي أصابهم، سنجد كثافة الظل عالية في.. سيادة المجتمع الذكوري، ثانوية المرأة، الشعوذة والجهل وغيرها.
إن العوالم الغرائبية في الرواية، ولدت مناخا قابلا لكل أنواع الخيال والفنتازيا، مثل، تحول إبن مسعود الى بقة ضخمة، إحضار أرواح الموتى في حشرات طائرة، الرجل المتبوع بالحمائم أنى، حل، وبررت هذة الفانتازيا بوجودها الشكل الذي اكتسبته الحكاية، ولذا فان نهايتها شابها شيء من المباشرة المتناقضة مع السياق العام لها، فعندما يذهب الرواي لملاقاة صديقه واعطائه باليد مسودات رسائله التي كتبها له، مخافة وقوعها في أيدي الموتى والغياب، يسمع هناك من بعض زوار المقهى الذين جاوروه أثناء انتظار صديقه، نفس الكلام الذي كتبه، فيصاب بالذعر ويهرب، هذا المقطع أوقع الروائي في مطب تفسيري غير مبرر، فغموضها كان يضفي عليها طابعا اندهاشيا مفتوحاً، يترك لخيال القاريء وحده مهمة استكماله وتفسيره، وهو المسار الذي حرص الروائي على التشبث به طيلة العمل! هذة الاشارة، لن تقلل أبدا من جودة الرواية وتميزها، والتي تلزمنا بالتنبيه لها.
موقع إيلاف- السبت 14 فبراير 2004
0 تعليق