الكويت- البصرة
1980م
يا إلهي!! ما الذي يجعلني أتذكر الآن شط العرب في البصرة وقد جلست على الكورنيش هناك عام 1980م، أي قبل أن تندلع الحرب العراقية الإيرانية بشهر واحد فقط، ما الذي أحضر البصرة والشط، والمراكب التي تتأرجح بسلاسة وفتنة في ليل الشط، ما الذي
أحضر إلى ذاكرتي البط وهو يعوم على الأطراف، ثم يقفز نافضاً أجنحته بفرح وخيلاء لحظة أن يلتقط الفتات، والعشاق الذين يخاصرون حبيباتهم ويرمون ببقايا الخبز!! كيف جاءت البصرة بخيولها التي تجرّ العربات، ودراجاتها الهوائية، وباعة الشط وغاسلو السيارات والقوادين والبنات الجميلات والنوتيين العجائز والأمهات والعمال العائدين بعد نهار طويل والصيادين والأسماك المنشورة على حبال!! كيف حضر فجأة الطفل فاضل بسنواته الإحدى عشر، وهو يعرض خدماته لنا، بدءاً من غسل وتنظيف السيارة، وانتهاءً بجلب العاهرات: “بنات نظاف.. أحضرهم من الجامعة!!”
كنت أتساءل لحظة الكتابة كيف جاءت البصرة، تحديداً، هذا اليوم العشرين من آذار 2003م، لحظة قصفها بصواريخ كروز وتوماهوك الأمريكية، وهي تغمض عينيها سخطاً مذعنة للضربة الثالثة خلال عقدين فقط من الزمن!! بعد أن سحقتها الطائرات الإيرانية المغيرة عام 86م، ثم قصفتها قوات التحالف عام 91م، وهاهي تتلقى ضربات موجعة في صدرها من القوات الأنكلو- أمريكية!!
في الخامسة عشرة كانت رحلتي الأولى خارج البلاد، إذ انطلقت بنا سيارة مرسيدس برتقالية موديل 78م، مع أبي ورجلين آخرين، عبدالعزيز ومحمد، ونحن خارجين من القصيم صوب حدود الرقعي. الطريق الأسود يستلقي مثل زنجي عجوز غافٍ، والسيارة الفارهة تلتهم حبيبات الإسفلت، بينما تمتد على الجانبين صحراء رملية غامضة. عند اقترابنا من منطقة تدعى أم الجماجم كانت عاصفة رملية تهبّ بشراسة وكأنما كانت تتهيأ لتبتلع سيارتنا التي بدأت تهتزّ بخذلان، وقد وجد قائدها عبدالعزيز صعوبة في مواجهة طوفان الرمل المذهل. قال أبي أن هذه المنطقة تسكنها العواصف منذ أن عرفنا الدنيا!! كنت أفكر آنذاك لم لا تفارقها العاصفة طوال الدهر؟ نطق محمد أن منطقة أم الجماجم منطقة مسكونة!! كان يعني أنها مسكونة بالجن، وأن هؤلاء الجنّ لا يكفون عن العبث بالرمل وهم يسوقونه إلى طريق الإسفلت الذي يشقها من المنتصف!! ثم شرح عبدالعزيز وهو لم يزل يقود السيارة بصعوبة أن الجنّ يتشكلون أحياناً في شكل عواصف دائرية، ويدورون بجنون حتى تصل رؤوسهم إلى السماء!! تساءلت آنذاك ولكن لم تدعى أم الجماجم؟ كانت أصواتهم متضاربة، بينما عيناي تحدّقان من زجاج نافذة السيارة المغلق إلى الهواء الأصفر الساخط، وهما تفتشان عن الجماجم مرمية في الصحراء الرملية، وعلى شجيرات الرمث ذات الأعواد الشوكية، وجوار العثامير حيث الجماجم لا تكف عن فتح فكوكها كي تلتهم وريقات الربلة!! كنت أتخيّل – آنذاك – أن مجزرة ظالمة وقعت هنا، حيث مات خلق كثير، وهم يفتحون أفواههم في صرخات مخنوقة في صحراء رملية ذات أفق شاسع!! من هنا تعرضت هذه الجماجم إلى شمس حارقة، ثم إلى مطر وفير، فريح صيفية لاهبة، حتى تفسخت الجماجم بفعل الطقس والسنوات، وبدأت تثير الأتربة من فكوكها العظمية الساخطة، تنفخ في الريح حتى تقتلع بدورها الرمل، وتطوف به في السماء حتى تصبح الدنيا صفراء متربة!! كنت اطمأننت إلى هذا التفسير المؤقت قبل أن تطوي عجلات السيارة صفحة منطقة أم الجماجم بعواصفها وأتربتها، وهي تقترب من الحدود في منطقة الرقعي.
نساء الكويت
في الكويت صيفاً كان الهدوء يعمّ الشوارع المتسعة. سيارات قليلة وفارهة تتجمّع عند إشارات المرور. امرأة كويتية تقف بسيارتها الألمانية بجوارنا. يغمز عبدالعزيز تجاه محمد وهو يطالعه عبر مرآة السائق، ويغمغمان تجاه بعضهما بطريقة غير مفهومة. كنت قرويّاً أفتح فمي دهشة وذهولا وأنا أرى- للمرة الأولى- امرأة تقود سيارة. المرأة التي أعرف لا يمكن أن تغادر المطبخ والبيت، ولو ركبت السيارة كأمي ونساء أعمامي مثلا، فهنّ يركبن في الصندوق الخلفي للسيارة مخفورات بالعباءات السوداء التي يطرقها الهواء وغناء أعمامي في مقصورة القيادة وهم يغنون هجينية قديمة:
” يا راكب اللي تخرّ الزيت
من الرعوجي شريناها
بعنا الغنم ثم بعنا البيت
حتى الحمارة رهنّاها”
كيف إذن يمكن لفتى الخامسة عشرة أن يرى امرأة بشعر مقصوص تقود سيارة بنفسها؟ بل حتى لو كانت محجبة، كيف يجوز ذلك؟! هذا سؤال الطفولة آنذاك. كان الرجلان وأبي قد استدارت أبصارهم نحوها، قبل أن تنطلق أبواق السيارات الخلفية مشيرة إلى ضوء العبور الأخضر.
في بهو الفندق كان رجال ونساء من جنسيات متعدّدة منتشرون في الأنحاء. لم يكن فندق ماريوت الباخرة فندقاً عادياً، بل كان فندقاً فارهاً في شكل باخرة ضخمة جداً ترقد في الخليج. كانت نافذة غرفتي وأبي تطل على الخليج حيث النوارس تحلق عالياً قبل أن تهوي كأحجار نحو صفحة الماء، فتلتقط سمكاً صغيراً راعشاً. نام أبي ظهراً متعباً مكدوداً بفعل الطريق، فخرجت في الممرّ محاولا أن أتمشّى قليلا، وأنا أتأمل اللوحات الزيتية على الجدران، فسمعت صوت عبدالعزيز ومحمد وهما قادمان نحو غرفتنا. أخبرتهما أن أبي نائم الآن، فذهبت معهما إلى غرفتهما، وما أن دخلت وطالعت من النافذة الصغيرة، حتى شاهدت منظراً مذهلا، إذ كانت غرفتهما تطلّ على حوض السباحة، وقد تمدّد الرجال والنساء معاً حول الحوض. هنا امرأة تستلقي وعلى صدرها منشفة صوفية ضخمة. هناك امرأة تنبطح على بطنها وهي بلباس البحر العاري. وعلى حافة الحوض تتقافز ثلاث نساء ينكسر الضوء على أجسادهن، وهنّ يعمنّ في صفاء الماء البلّوري، كأنهن دلافين صغيرة. كانت غرفتهما أكبر وأجمل، إذ لم تكن مجرّد غرفة، بل جناحاً فاخراً.
لم يكن يعتذر بلباقة موظف الاستقبال اللبناني وهو يخبر محمداً أن ليس ثمّة غرفة شاغرة!! مما جعل محمد يعود تجاهنا ونحن نجلس في الردهة بحقائب سفرنا، ويطلب من عبدالعزيز بطاقته الشخصية. ثم يقدّمها إلى موظف الاستقبال الذي فزع من وراء منضدة الاستقبال، ورحب بنا كثيراً وهو يعتذر عن التأخير، حيث سيجهّز لنا جناحاً يليق بالأمير!! كان موظفو إمارات القرى والهجر يكتب لهم في بطاقات عملهم أمام خانة الوظيفة: أمير!! مما جعل موظف الاستقبال اللبناني يصدّق المسألة، وكذلك محمد، الذي أتقن الدور بأن حمل حقيبة عبدالعزيز وأشار له بيده: تفضل!! ونحن نتجه نحو المصعد. وما أن اصطفق باب المصعد مغلقاً علينا حتى رمى محمد بالحقيبة تجاه عبدالعزيز وهما يضحكان بنشوة وسخرية. لذا حصلا على جناح فاخر في فندق ماريوت الباخرة في الكويت.
صفوان والبصرة
في اليوم الثاني أو الثالث تحرّكت السيارة بنا صوب صفوان، حيث الحدود الكويتية العراقية. كان الحرّ شديداً والرطوبة خانقة ونحن نغادر الكويت، وننطلق في صحراء ممتدة وقصيرة، حتى توقفنا في طابور طويل جداً في الجمارك. كانت محركات السيارات تهدر لدقائق وهي تتحرّك في الطابور، ثم تخمد ثانية، وينزل المسافرون بحثاً عن نسمة هواء نادرة. أطال أبي الحديث مع امرأة أربعينية ممتلئة وهي تخمد محرّك سيارتها البيجو خشية أن ترتفع حرارته، بينما أخذ محمد جوازاتنا تجاه غرفة ضابط الجوازت العراقي. بعد منطقة الحدود امتدت صحراء رملية بين الحدود ومدينة البصرة، وكانت الشمس بدأت تصفع الجانب الأيسر من السيارة، ولم يدر بخلدي أبداً آنذاك أن الدبابات العراقية قد تنطلق مسرعة وخاطفة في هذا الطريق وهي تصوّب مدافعها تجاه بيوت الكويت!!
سوق الهنود
ما أن دخلنا منطقة البصرة، ومن ثم باب الزبير، حتى رأيت سجن البصرة يميناً، وفي الناحية اليسرى كان مبنى مستشفى البصرة، وبعد مسافة قليلة في هواء رطب وخانق ظهرت مقبرة اليهود جهة اليمين، بينما امتدّ إلى اليسار شارع بشار والحكّاكة، أولئك الصنّاع الذي يحكّون الذهب. وقبل أن نتوقف على الكورنيش بأشجاره الضخمة، كنا قد تجولنا في المدينة القديمة، ومررنا بمتحف الآثار ومنارة الجامع وشركة نفط البصرة، ودخلنا شارع الشهداء، وقبل أن نصل ساحة أم البروم مررنا بنهر العشّار المتفرع من شط العرب، حيث تجرى عربات الخيول المسقوفة على الطريق، وهي تطربني بإيقاع حوافرها الرتيب. بعد أن انعطفنا ناحية اليسار توقفنا في سوق الهنود المسقوف، حيث باعة البزار والمكسرات والبهارات الحارّة، وبعض تجّار هنود يتخذون أماكن جانبية، وكأنما وصلوا للتوّ من الميناء قادمين من الهند. خرجنا ومشينا قليلا حتى صرنا في ساحة أم البروم. تجوّلنا في الساحة قليلا، حيث الباعة المتجولين ولغط أصواتهم يتقاطع بحماس بالغ. كان الصبية يتجوّلون ببضائعهم، وجرسونات المقاهي والمطاعم الشعبية ينظفون الطاولات من بقايا الأكل، ويدعون بابتساماتهم الزوّار والمشترين والمتنزّهين إلى الدخول. استأجرنا فندقاً في ساحة أم البروم، وتركنا أغراضنا فيه، ثم تجوّلنا في المناطق الشعبية مثل القبلة والتميمية والحيانية. كنت مذهولا بالأبنية القديمة ذات المشربيات الخشبية التي تفيض من الأدوار العلوية للمباني القديمة. كانوا يسمّونها بـ “الشناشيل”، وهي تشبه إلى حد بعيد “الرواشن” في الحجاز. كانت شناشيل البصرة لافتة، وتجلب الرغبة بالتأمل مليّاً في هندسة خشبها الرائعة.
على كورنيش شط العرب كانت السماء صافية تماماً، قبل أن تلوّثها الطائرات الإيرانية بعد شهر فقط من رحلتي تلك. كان رصيف الكورنيش واسعاً، وقد فرشنا على بلاطاته بساطاً مقلماً. ثم نثرنا عدّة الشاي والقهوة، وبجوارها موقد النار الصغير. كانت تظللنا شجرة ضخمة، والهواء اللطيف يدفع غصونها برفق، بينما المراكب الشراعية والزوارق تتهادى بنعومة فوق صفحة النهر. العشاق يتناجون بهيام وهم يتكئون على الحواجز ويتأملون النهر. كنت لحظة ذاك شعرت أنني في عالم سحري، وأن البساط المقلم تحتي سيتحوّل إلى بساط سحري، وأنني سأطير عمّا قليل مثل سندباد، وسأرى النهر تحتي يتلوى مثل أفعى، وأنني سأتجه نحو بغداد، يرافقني طائر المينا الأسود المخلص!! لقد شعرت برغبة شديدة في أن ألفّ شماغي كعمامة فوق رأسي، ولأنتظر لوهلة كيف يتحرّك البساط السحري تحتي، ومن ثمّ أطير!!
لم يكن حيّانا أو رحّب بنا ذاك الطفل المدعو فاضل، كأنما كان يعرفنا منذ سنوات بعيدة، وقد عرض علينا مسح السيارة حتى (تشوف نجوم السما تلمع فيها)!! وبعد أن فرغ من ذلك قام بعرض فتيات يعرفهن، وفي حال وافقنا على أيّ منهن، فسيوفرها خلال دقائق معدودة. كان يتسلى بقذف حجارة صغيرة تجاه العربات التي تسحبها الخيول أو الحمير. كلما مرت بجوارنا فتاة يخبرنا عمّا إذا كانت شريفة أم عاهرة. هل كان يعرف كل نساء البصرة؟ هل طفولته وسنواته الإحدى عشر تسمح له بمعرفة ما لا يعرفه الكبار؟ أم كان يطيّر الأكاذيب كالإوز والنوارس على شط العرب؟ لم نتأكد من ذلك بالطبع، لكنه كسب ثلاثة دنانير عراقية من أبي. تأملها قليلا قبل أن يدسّها في جيب سترته المتسخة، ويمضي يغني ويتأمل الفتيات المتنزهات على كورنيش البصرة.
ساحة أم البروم
في الليل، وبعد أن قرّر أبي أن نذهب إلى الفندق اقترح عبدالعزيز أن نذهب في نزهة، ونبحث عن مطعم جيد يقدّم سمكاً طازجاً ونظيفاً. وافق أبي خاصة أن الوقت لم يزل باكراً، رغم أن أبي المهووس بالنخل، إذ صرف شبابه في شراء بساتين النخل في “الخرج” خلال موسم الصيف، وقطف ثمر النخل، ثم جلبه إلى سوق التمر بالرياض، كان ينوي التجوّل في بساتين النخل في البصرة، وأجمل وقت لفعل ذلك هو الصباح الباكر.
في ساحة أم البروم لم يكن هناك باعة ولا متجوّلين، لم تكن حركة النهار النشطة ذات أثر في أول الليل، ولكن ثمّة مطاعم ومقاهٍ مفتوحة، وبعض أندية ليلية تتوزّع في الدروب القريبة من الساحة. وقد أوقف سيارتنا بعيداً اقترح عبدالعزيز أن نمشي قليلا نحو المطعم. مشى أمامنا كمن يعرف المكان جيداً، وانعطف بعدما تجاوزنا الساحة إلى شارع صغير، وجدنا في أوله لافتة نادٍ ليلي، ويقف على بابه رجل ضخم الجثة، بزندين مفتولين وشوارب كثيفة، وحاجبين متشابكين، وما أن بلغنا الباب حتى فتش أوّلنا، إذ كان عبدالعزيز يرفع يديه قليلا، كي يفتشه الحارس براحة ويسر، وهكذا حتى وصل دوري، وهو يبحث عن أسلحة نارية أو سلاح أبيض كسكين أو نحو ذلك.
في الداخل كانت العتمة تنتشر في صالة النادي المفتوحة، إذ تنتشر في الأنحاء الطاولات المستديرة، والمحفوفة بكراسٍ يجلس عليها رجال يدخنون ويشربون، ونساء يشربن أيضاً بملابس سهرة تظهر مفاتنهن عند منطقة الصدر أو الساقين والفخذين. كنت مأخوذاً بالمكان الغريب، والنساء اللاتي يسبلن أعينهن، ويكشفن أجسادهن أمام الرجال الغرباء دون أن يخجلن، بل لا تكفّ أيّ منهن عن المشي بغنج وليونة، وهي تتنقل مثل فراشة زاهية الألوان بين الطاولات. في عمق الصالة كان مكاناً مرتفعاً قليلا، تتوزع على جانبيه فرقة موسيقية، وفي وسطه تقف الراقصة بملابسها اللامعة، وهي عبارة عن شرائح قماش ساتان لامع تنزل من وسطها، وكلما اهتزّ جسدها برقصة شرقية فاض من خلال شرائح الساتان المضطربة فخذها المصطبغ بحمرة الأنوار العلوية. في وسط الصالة تظهر كوّة تكشف الممر الدائري في الدور العلوي، والذي تتوزع عليه أبواب غرف موصدة، تنفتح كل فينة لرجل وامرأة يدخلان لزمن قليل، ثم يخرجان ويهبطان من سلم الدرج الجانبي، ويفترقان إلى طاولتين متباعدتين. كان أبي متردّدا وخائفاً وحانقاً، بينما اتجه عبدالعزيز يقودنا وهي يتبع المسئول اللبناني، الذي يلبس بذلة أنيقة، وربطة عنق حمراء مبرقشة بالأسود. جلسنا ونحن نحفّ الطاولة، ثم غاب المسئول اللبناني قبل أن يعود ممسكاً بيديه فتاتين، إحداهما عربية ذات قامة فارعة وعينين واسعتين، والأخرى فتاة فلبينية صغيرة الجسد. كنت أرى قلقاً في عينيّ أبي، وهو لا يعرف ما الذي أوقعه في مكان كهذا، وهو يحلم طويلا بنخل البصرة، وفلاحيها وشطها وكرم ناسها. كان نهار ذلك اليوم يتأمل النخل في الضفة الأخرى من الشط، وكأن قلبه يخفق مثل عصفور في قلب نخلة.
معركة سكارى
بعد أن جلست الفتاتان بيننا، صار فضاء الطاولة مأزوماً ومضطرباً، خاصة وأن أبي لزم الصمت وواصل تأمل المكان بريبة قروي قلق، بينما راح عبدالعزيز ومحمد يطالعان في الفتاتين ويبتسمان نحوهما بتآمر خفي. بدأت ضحكات المخمورين في النادي تلفت نظر أبي وتوجسه، قبل أن ينتفض لحظة أن وضع المسؤول اللبناني قارورتين داكنتين تنضح على سطحهما قطرات ندى، وهو يؤكد له أننا لا نريد ذلك. لكن اللبناني قال أنها ليست لنا: “هيدول للبنات!!”. صمت أبي على مضض، وقد تدخل عبدالعزيز لحسم الموقف بأن ذلك الشيء لا يعنينا أبداً، وهو للفتاتين اللتين تشاركاننا الطاولة المستديرة. كنت أتسلى بأهداب الدانتيل على طرف قماش الطاولة حين علت الأصوات، وانطلقت معركة كراسي بين مخمورين، ففزع أبي عندها وكأنما كانت تلك لحظة حسم بالنسبة له: “قم يا أبوي” قال لي أبي وهو يمسك بكفي ويخترق الزحام والجلبة متجهاً نحو الباب الخارجي.
في الخارج كانت ساحة أم البروم تخلو من المارة، رغم مرور رجال ونساء مخمورين، يطلقون الضحكات والنكات البذيئة تجاه بعضهم. وقفت مع أبي في الجهة المقابلة من الساحة ونحن ننتظر صاحبينا، وبعد أن طفح بنا الملل والسأم أخذني أبي إلى حيث موقف السيارة، وافترشنا الرصيف ننتظرهما هناك، دون أن نملك أن نركب والمفتاح في حوزة عبدالعزيز، الذي جاء بعد نصف ساعة من الانتظار.
لا يمكن أن أنسى ذاك الفجر، في اليوم التالي، وقد خرجتُ أنا وأبي، في سيارة أجرة، ذاهبين حيث بساتين النخل في البصرة تستيقظ مثل عرائس. كانت النخلة وهي تطوّح بأعسبها الخضراء إثر نسمة هواء فجرية باردة تشبه عروساً تصحو بعد ليلتها الأولى، مليئة بالسعادة، مشبعة الرغبة، وهي تنسف شعرها طرباً أمام المرآة، كذلك النخلات يموّجن سعفهن الأخضر أمام مرآة وجوهنا الذاهلة، حيث رجل نجدي خمسيني يقف بجواره صبي دائخ بنشوة الفجر الضاجّ بالعصافير وهي لا تكفّ تراود قلب نخلة. فجأة ظهر رجل عجوز وهو يرحب بنا بحفاوة بالغة، وأقسم ألا نغادر قبل أن نشاركه قهوة الصبح. نادي بصوت عالٍ على “موفق”، ذاك الصبي الصغير الذي جاء يتمايل بين أحواض النخل حاملا القهوة والشاي، وبدأ يحدثنا ويسأل عن بلدنا، وبعد أن عرف أننا من نجد، صار يسأل عن عائلات معروفة في القصيم، بعضها هاجرت مع أوائل القرن إلى الزبير، وبقيت هناك بعد أن نجحت تجارتها، وبعضها الآخر عادت إلى نجد. كان أيضاً يسأل أبي عن رجال مشهورين من العقيلات، هؤلاء الذين توقف نشاط رحلاتهم من القصيم إلى العراق والشام وفلسطين. كان يسأل ويتذكر وتغرغر عيناه بالدمع المالح، وهو يستجلب مواقف رجال نبلاء، ويقصّ حكاياتهم بحرقة دون أن يتوقف عن رشف القهوة في ظل نخلة شامخة، وهي تترك جدائلها بلذة لنسمات هواء صباحية باردة.
نهر العشّار
بعد أن قرّرنا العودة، وغادرنا الفندق مارّين بسوق الهنود، استلمنا الطريق الرئيسي، متجهين نحو الجنوب حيث منطقة البصرة، فمررنا بنهر العشّار وقت الظهيرة، حيث عربات الخيول ذات الأعراف الباهرة تعبر وهي تهزّ رؤوسها في إيقاع الخطوة الرتيبة. في عمق النهر الصغير كانت طيور بيضاء رائعة تحلق فوق النهر، ثم تهوي وكأنما خاطفةً تقبّل صفحة النهر الذهبية، قبل أن تعلو بغرور ذات الجناحين إلى لبّ السماء. كنت أراها دون أن أدرك أنني سأرى البصرة للمرة الأخيرة. كنت أرى النهر والخيول والنوتيين والبيوت القديمة بمعمارها اللافت وباعة النهر والشط والنخل الشاهق للمرة الأخيرة. لم أكن أظنّ، لو ظنّاً، أن الطائرات الإيرانية ستقصف مدينة ختمت طفولتي بدهشة الصبا، وأن منطقتي بحيرة الأسماك والكشك البصري ستحضن أعنف معركة طاحنة بين الجيشين العراقي والإيراني. لم يدر بخلدي أن النخل على ضفتي الأنهر سيبقى مقطوع الجدائل، وسينحني حزيناً بجذوعه المحروقة بعد قصف قوات التحالف في حرب الخليج الثانية عام 1991م. بل حتى بعد اثني عشرة سنة من هذه الحرب، لم أتوقع أن تهبّ القوات الأمريكية والبريطانية لتقصف البصرة، بصرة قلبي وطفولتي، لم أعرف سببا واحداً مقنعاً في الألفية الثالثة، وفي القرن الواحد والعشرين، لأن تدكّ الهجمات الأنكلو-أمريكية سماء البصرة، وشطها، وبيوتها القديمة وبطها الذي هاجر شمالا، والفلاح الذي سكب لنا بكرم من قهوة صباحه، والصغير فاضل البائع الجوّال على الشط، الذي لا أعرف في أيّ الحروب الثلاثة مات، أم أنه لم يزل حيّاً وشاهداً، إن لم يكن اليورانيوم المنضّب قد أكل أعضائه وقلبه الرفراف.
كل العالم قال لا. مجلس الأمن قال لا. الفاتيكان قال لا. فرنسا قالت لا. المانيا وروسيا وقمة العرب والقمة الإسلامية وشط البصرة وبطها وأم البروم وأمي وفاضل والفلاحون والنوتيون العجائز والديوك الصائحة في فجر البساتين، والنوادي الليلية والجسور الخشبية والأنهار المحفوفة بقامات النخل وصيادو السمك والسفن المطلية بـ”القار” وخطى الحمّالين الثقيلة ومنارات المساجد والكنائس والأضرحة والقبور والموتى والزبير بن العوّام وطلحة بن عبيدالله والحسن البصري ورابعة العدوية والخليل بن أحمد الفراهيدي وسيبوية وابن الهيثم والتماثيل في الميادين والسيّاب وسعدي يوسف ومحمود البريكان.. كلهم قالوا لا. كانت لاءاتهم عالية وطويلة ضجّت في سماء البصرة مثل صفارة إنذار تنطلق من الجوامع والساحات والميادين والإذاعات. لكن أمريكا وحدها قالت نعم. ثم هزّت رأسها ومضت تزيّت القاذفات، وهزّ ظلها البريطاني رأسه، ومضى يحمل لها المظلة حامياً له من شمس البصرة المحرقة.
كان التصويت هذه المرة جاء لصالح ديمقراطية التوماهوك والكروز، ولم يأت لصالح ملايين النخل المسالم. كانت التصويت هذه المرة جاء لصالح حرّية أم القنابل، والقنابل العنقودية، ولم يأت لصالح عناقيد النخل وأعذاقها الملوّنة. كانت الديمقراطية أن يطير البط هارباً شمالا أو جنوباً، وأن تبقى عجائز البصرة وأطفالها فوق الأرض أو تحتها!! أو حتى تحت ركام المباني والمنازل المنسوفة!! كانت الحرية التي لم أعرفها عام 1980م في البصرة، أن يحمل الطفل فاضل سطل الماء البلاستيكي والمنشفة المتسخة، أو يحمل روحه الفائضة، بعد أن صار جسده مجرّد أشلاء متطايرة، وهي تلوّث ديمقراطية شط العرب المزعومة!!
كانت الديمقراطية والتحرّر في مفهوم حضارة صواريخ التوماهوك وكروز أن تطير شظايا تمثال السيّاب في أنحاء الميدان، وقد ظل واقفاً وخانعاً وصامتاً في الميدان لسنوات دون أن يتحرّك!! الحريّة أن ينهال تمثاله في خمسة عشر شظية، تماماً كما تلقى جسد محمود البريكان خمسة عشر طعنة في جسده، رغم أنه ظل ساكناً وصامتاً ومسالماً في منزله بالبصرة. فالصمت أيضاً موقف وخلاص.
في الجانب الآخر لم تكن حرّية أيضاً أن يهاجر سعدي مرغماً عن أبي الخصيب والبصرة، وأن يعيش جبار ياسين في الريف الفرنسي، وخالد المعالي وحسين الموزاني في المانيا، وهاشم شفيق في لندن، وسركون بولص في أمريكا، وغيرهم ممن يبحثون عن أمن وسلام وكلمة لا تختنق في السراديب والخنادق.
لتذهب بعيداً ديمقراطية التوماهوك، وحرّية القاذفات والقنابل العنقودية، وجنود الكمّامات والسترات الواقية ومقاتلات بي 52 وإف 17 ومقاتلات الشبح المصفحة بالألمنيوم، ولتبقَ حرية الماء وحده، منساباً في شط العرب بالبصرة.
لتذهب بعيداً عزيزي السيّد خورخي لويس بورخيس وأنت تصف حرباً في أمريكا اللاتينية بأنها تشبه حرب عجوزين أصلعين من أجل مشط!! وكأنك تقول لي أن الحروب هي عبث بشري دائم، رغم أنني لا أجد فرقاً بيّناً بين المشط والنفط، إذ كلاهما يؤديان إلى الحرب والقتل!! دعك من التشابه اللفظي بينهما، لأن كلاهما يحقق مجداً لحائزه. النفط أصبح أسطورة المدن وثروتها ونقمتها وهلاكها أيضا، وكذا المشط صار مهماً للمظهر، ولكنه- كما تظن- غير مهم للأصلع العجوز، رغم أنه قد يكون مهم للعجوز أمريكا وهي تسرّح به بعض شعيرات شقر خلف رأسها وعلى صدغيها!! ولربما باعت المشط أو النفط في سوق الخردة والنفايات الرخيصة، أو في سوق النخاسة مثل عبد أو زنجي كلف جلبه الكثير من المال. اللعنة على هذا المشط والنفط، لو نملك أن ننزعه من المتمترسين خلف أسلحة الدمار، ونطوّح به بعيداً عالياً في مياه المحيط ، حتى يندفع خلفه العجوزان الأصلعان لاهثين وهما يغوصان بحثاً عن المشط أو النفط، وليغرقا بعد ذلك، أو ليتصارعا تحت الماء. لا فرق!!
0 تعليق