إبراهيم الحجري
بعد مسار سردي حافل وحارق ابتدئ بـ”ظهيرة لا مشاة فيها” ثم أتبع على التوالي بـ”رجفة أثوابهم البيض”، “لا بد أن أحدا حرك الكراسة”، “لغط موتى وقصص أخرى”، “لغط موتى”، “فخاخ الرائحة”، “القارورة”، “النخيل والقرميد”، يواصل الكاتب السعودي يوسف المحيميد قصفه السردي البليغ والموحي بإصداره لمجموعة جديدة متميزة موسومة بـ”أخي يفتش عن رامبو”،
أقول مجموعة متميزة لاعتبارات متعددة، أولها كونها تتخذ طرائق جديدة في السرد ما أظن أن يوسف سبق أن اعتمدها من قبل، وثانيها أنها جاءت لتفضح المشروع الروائي المفتوح للكاتب، وذلك من خلال حضور النفس الروائي، وثالثا من خلال الموضوعات التي تتناولها مقارنة مع ما يُتناول في مجاميع أخرى سابقة لنفس الكاتب.
وإذا ما استقرأنا المتون القصصية فإننا سنلمح بشكل دقيق انصراف الكاتب إلى اعتماد أشكال ومواد جديدة كدعائم للسرد ومصوغات للحكي، فعلى مستوى السيولة الحكائية نلفي أن الموضوعات المتناولة تمتح من معين الفنطاستيك والحلم والذاكرة والسيرة والأشياء الحميمية المرتبطة بالذات الإنسانية والملازمة لها، أضف إلى ذلك السرائر والأعماق والاعترافات دون أن نعدم توفر المؤشرات المضمونية التي تنشد التفاصيل اليومية المشتتة في واقعنا المعقد، والاشتغال على الأحلام والقضايا الإنسانية المهمشة والمسكوت عنها والمحرمة، وهذه الموضوعات ليست في حد ذاتها موضوعات جديدة على القص العربي، فقد سبق أن تناولها كتاب آخرون، غير أن يوسف المحيميد يجردها من لا وعيها ويلبسها ثوب الاستمرار في الواقع كشيء موفور سابقا بشكل يجعلها تنحشر في بوثقة السؤال اليومي الذي لا يُخجل من طرحه بقوة وأمام الملأ؛ مما جعل القص في هذه المجموعة يتخذ أبعادا سيكولوجية تحفر في اللاواعي والمنسي والمقموع في الذات التي قد لا تكون ذات الكاتب بالضرورة، إنما هو توجه في السرد له ما يبرره في هذه السياقات من التناول للحدث والشخصية؛ بما هما عنصران مهمان في البناء القصصي وفي تشكيل منظور فلسفي جوهري ورؤيا واضحة تحكم كون المنجز وعوالمه القصية، فالاهتمام بموضوع الفن بصفة عامة وقضاياه الكبرى، عبر الحلم، لدى السارد الشخصية في أول نص قصصي لا يوحي بكون الأمر مجرد كابوس أو ضرب من الخبل النعاسي الذي تثيره أضغاث أحلام، بل إنه إيحاء عميق بأهمية تناول أسئلة الخلق البشري وتعميق النقاش فيها لأنها من الأبعاد الإنسانية المكثفة التي تحتكر جزءاً كبيرا من ملامح النفس البشرية في تشكلاتها المعقدة وطابعها السيكولوجي المركب، وهو في الآن نفسه يسخط على إقصاء هذا المكون والإجهاز على استحقاقاته في تعميق فهم جوهر الذات، واعتباره شيئا زائدا غير ذي أهمية، بل هناك نداءات، أكثر من هذا، تدعو إلى محاكمة الفنان وتشديد الخناق عليه وإلجامه وتكميم أفواهه المتعددة أو قطع لسانه أصلا. إن الحلم هنا ليس كابوسا هجاسيا بل إنه استمرار لبناء وظيفي وسؤال جوهري مؤرق، وامتلاء نفسي استعاضي. ولعل ما يعزز مسألة الحفر الباراسيكولوجي في الذات البشرية متمثلة في العامل-الذات للقصة أو شخصيتها الرئيسية، هو كون الراوي يتخذ دور البطولة في كثير من الحالات القصصية؛ على اعتبار أن هذه الوسيلة الفنية تسهل على المحكي أمر الانطلاق من الذات كوسيط بين الأنا والآخر والهو والراوي المتنصل عن الذات الكاتبة الفعلية، كما أنها تيسر الاقتراب من السرائر والدواخل وتموِّه المتلقي وتجعله يؤمن بإمكانية التحقق الواقعي للمسرود وتُحكم فخ اللعبة القصصية، وفي نفس الآن يوسع دائرة المحكي على عوالم الذات الأخرى كالذاكرة والشهادات والاعترافات والمذكرات، وهذه أمور تغني الحكي وتثريه وتجعل نوافذه مشرعة على اللامحدود واللانهائي، وتمد عالم الكتابة بروافد متجددة للحكي وتفتح للكاتب مسارب أرحب على عوالمه المتخفية. لذلك لا حظنا أن خيوط الكتابة غالبا ما تنساق إلى اقتفاء أثر السيري والذاتي المصرور في عوالم الذاكرة الرحبة، والمقفلة عبر انفلاتات تعمق البوح وتحكي عن الذات وتعري جروحها الباطنية الملفوفة بالصمت والقمع والخوف وقيود التحريم، غير أن السرد بضمير “أنا” خول للكاتب أن يبوح ويشارك في الأحداث، يبتعد أو يقترب من ذاته، يكون محايدا في السرد أو مواربا أو متعاطفا، وقد كانت من حين لآخر، عبر النصوص تبرز هذه اللحظات الإشراقية مع الذات، فينزلق الحكي بواسطة تقنية الاسترجاع (flash-back) إلى ماضي الشخصية يحفر فيه عن نقط التماع تحتفظ بها الذاكرة “كان صوت أمي وراء البحار يقول لي: من يسكب اللبن على السجاد يصير قردا، كانت ملامح أمي جادة وصارمة، كنت أنصت إليها، في هذه اللحظة، في “نورج”، كما لو كنت في السادسة، كما لو كنت أعود متأرجحا ومرهقا بحقيبة المدرسة الضخمة” , ولعل ما يعزز طرحنا لإمكان هذا التداخل بين السيري والقصصي هو ورود بعض المؤشرات التي تدعم السمات التيماتيكية للكاتب الفعلي” فطارت بي الذاكرة إلى نهاية يناير للعام الرابع والستين بعد تسعمائة وألف للميلاد, حيث استردت أمي لونها في غرفة علوية من بيتنا الطيني في الشميسي القديم, وقد صرختُ هازئا بالعالم حولي, فرقصتْ جدتي وهي تعلن “ولد” .
وتستفيد التجربة هذه, من المحكيات التراثية القديمة, خاصة ألف ليلة وليلة, على مستوى تقنية التضمين, حيث يتضمن النص الواحد على مستوى مادة المتن القصصي, محكيات متعددة تتناوب بشكل متوازٍ دون أن تحدث خللا على مستوى البناء الدلالي, بل إن كل نص متضمن يضيء الآخر ويقويه, ولإن كان خط السرد يتوقف ليفسح المجال لخط سردي قصير, فإن المتن سرعان ما يعود إلى سيرورته بشكل منسجم ومتناغم بعد أن قواه ذاك التداخل وأثراه التضمين.
ومن جهة أخرى, نجدنا مضطرين إلى تسجيل ملاحظة أساسية, وهي كون النفس الروائي أيضا يحضر بقوة, وذلك أن القصة, أية قصة في المجموعة تأبى أن تنتهي, بل تظل مستمرة كما لو كانت الحياة ذاتها, تؤرق القارئ وتستفزه بأسئلتها المرتبطة بالذات وبالعالم وتدعوه إلى خلق وعي نقدي كفيل بصنع ما يشتهي من الحيوات وجدير بتأسيس قدرة على خلق حمية ضد ما ينجرف من العوالم الخارجية المقيتة, وعلى تسطير حدود مطامحه خارج خريطة الاستهلاك الاستسلامي, وتلك رسالة المنجز المضمرة, والتي تتخفى خلف منظور انتقادي لأحوال المجتمع العربي وذم الحياة المترفة التي تتسع معها الفوارق والتفاوتات وتكثر معها إمكانيات التجاوز للإنساني والانتهاك القاسي لحقوق الآخرين وكرامتهم “هؤلاء المهملون في خدمتي يتقاضون أموالا طائلة, لذا يحق لي أن أفعل بهم ما أشاء حين يبدر منهم إهمال” , وهكذا تتولد لذا الشخوص رغبة ملحة في كره العالم وهجره ولو عبر رحلة الكتابة التي تعدو تعويضا نفسيا وامتلاءا روحيا مما يحيق بهذه الشخوص داخل أفق العوالم المعتمة المتربصة بها من كل المناحي ” اللعنة على العالم كله” “لا شيء يحرضني على الكلام في هذا العالم كله, لا الشوارع ولا العمارات ولا الأشجار ولا عيادات الأطباء, لا الوجوه العابرة, ولا المألوفة المتكررة, حتى الأشجار التي كنت أحكي معها قبل سنوات لم أعد أجد ما يبرر صداقتي الطويلة لها!” , ولعل ما حفز هذه المشاعر الناقمة داخل الشخصيات هو سيادة قيم احتقار الإنسان وامتهان إحساسه بالحياة والحرية ونزع بواطن الانطلاق فيه بتشديد الحصار على الرغائب والأحلام والمطامح وقمع مبادرات الإبداع وتكبيله بالقيود والتحريم والإقصاء والمتابعة والتجسس والإزعاج, وهذه قيم بمجرد ما تطال مجتمعا إلا وأضحت كل فضاءاته جحيما لا يطاق, وتحولت كل كائناته الحية إلى جماد, ويكفي أن تنتقل المدرسة من فضاء للتربية والتحرر وتنمية القيم والمدارك والانفتاح على رحابة العالم, إلى فضاء خانق لاغتيال التوثب والفضيلة” وبعد أن مررنا بغرفة المدرسات لمحنا نورا القنفذ, وهي توشوش في أذن مدرسة التوحيد) , (وهذا النهار ضبطناها تفضي همسا بمعلومات عن الصف, وعن الطالبات, وتخبر عن كل ما نسر به داخل أسوار المدرسة العالية) , إن نقد المجتمع بهذه الطريقة جعل السرد يتعمد مرغما الاستئناس بالفانطاستيك, حيث يتهيأ له الانتقال بالشخصية القصصية من حالة إلى حالة على مستوى السمات التيماتيكية داخل أفق النص الواحد, مما يجعلها تتحول لتؤدي أدوارا متعددة وتلبس قِناعات مختلفة, كانتقال الرجل إلى كلب وتحول التلميذة من حالة متعلمة بريئة إلى حالة مخبرة مخادعة وتحول المرأة كاترين إلى قردة بمجرد اغتسالها بالحليب ، وهذا ما منح هذه الشخوص/العلامات صفات النبذ والمسخ والرفض والإقصاء كصفات ألصقت بها كرها لتعيش خارج نطاق المألوف صانعة بذلك عوالمها الخاصة رغما عن الآخرين؛ فاضحة بذلك نوع العلاقات الإنسانية السائدة داخل المجتمع, والتي يطبعها التناقض والزيف والقيود الواهية والتي, في نفس الآن, تكشف عن غياب الاعتبار للآدمية وتعري ورطة البشر داخل النفق الذي صنعه بيده.
وبتأملنا لطبيعة الشكل القصصي الذي يسِم هذه المجموعة نلفي أنها جزءٌ لا يتجزأ من مشروع سردي ضخم يهيئ له الكاتب بشكل بنيوي متراصٍّ لا يمكن للمتلقي أن يتهجى شكل ملامحه إلا باطلاعه العام على التجارب السابقة لنفس الكاتب رواية وقصا, وبوضعها في الإطار النقدي العام الذي يؤمن به يوسف المحيميد ويحيك به كتاباته, وهكذا يمكن أن نسجل بعض الملاحظات الشكلية بخصوص القوالب الفنية والصورة التي تمظهرت عليها داخل هذا المنجز السردي:
أولا: انفتاح الوضعيتين البدئية والختامية، مما يجعل القارئ يتورط مباشرة في النص ويخرج منه دون أن يحس بذلك، فيظل داخلا فيه بعد فعل التلقي.
ثانيا: كون النفس الروائي حاضرا، حتى أنه يخيل إلينا أن كل قصة من هذه المجموعة هي غروغيه صغير لرواية ضخمة لم تكتب بعد، حيث يظل النص يكبر في ذهن المتلقي متجاوزا بذلك حدود اللغة والأشكال والبياض معلنة المطلق.
ثالثا: تداخل المحكيات، وامتزاج العجائبي بالمتخيل بالواقعي في لوحة غريبة الأطوار تتوحد لتفترق وتفترق لتتوحد راسمة بذلك ملامح كتابة مفتوحة وداهشة.
رابعا: اعتماد تقنيتيْ الاسترجاع والتضمين لتخصيب مراتع إغناء التجربة وفتح آفاقها على المطلق، على الذاتي والمتخيل، العجائبي والمقروء، الملاحظ والمتوهم، المنصرم والآتي.
خامسا: الاستعانة بضمير “الأنا” أثناء الحكي في محاولة للاقتراب الحميمي من الذات اللاواعية المتخفية خلف ركامات الخطوط الحمراء (وما أكثرها!)؛ وفي سعي دؤوب للقبض على إشراقة البوح المشعة الهاربة أبدا.
سادسا: حضور التناص بشكل أو بآخر عبر المتون ليعمق الرؤيا ويشد تلابيب النصوص, ونذكر هنا بعض المناسبات التي يبرز فيها استلهام الكتاب لأشكال أو خطابات مغايرة قصد الاستعانة بها: “وأدرت المحرك فشهقتْ فيروز وهي تلون واجهات محلات الدهانات والسباكة والسيراميك بصوتها: “أسامينا.. شو تعبوا أهالينا!” “أنت ما تفرق بين الجمر والتمر” ؛ وهذا قول مأثور يقصد به الطفل أو من يجاريه في سذاجته وبراءته وقد استلهم السارد، في بعض الأحيان أيضا، أقوالا مستعادة منسوبة إلى الأب أو الأم ليفتح شهية الكتابة لاستثمار تداعيات الطفولة والمراحل العمرية المنفرطة.
إن هذه العناصر الشكلية التي تثري جماليات الحكي في هذه التجربة وتميزها عن باقي التجارب, تكون في نفس الوقت مفتتحا لتناولها بالقراءة والتشريح لأنها تشكل مداخل عمل متكامل ومشروع سردي يراهن على الجدة ويتأسس على المغايرة المستمرة لأسلوب الحكي وقوالبه ولغته, ناهيك عن منظوره الرؤيوي الذي يؤثث المنجز القصصي, وهو لا يخرج في عمومه عن المنظور الذي يحكم التجارب السابقة.
0 تعليق