عبده وازن
تتأرجح قصص يوسف المحيميد في مجموعته الجديدة «أخي يفتش عن رامبو» (المركز الثقافي العربي، 2005) بين الواقعية والفانتازيا اللتين تضمران أبعاداً مأسوية وعبثية، ناهيك بالإيهام والسخرية والتهتك. وقد تقترب قصص عدة من الفانتازيا «البورخسية»
(خورخي لويس بورخيس) ولكن من دون الغوص في العمق الفلسفي والميتافيزيقي، مثلما تداني قصص أخرى العبثية «الفرنسية» (أوجين يونسكو، صموئيل بيكيت) التي لا تخلو من السخرية المرة والهزء اللذين يشملان الراوي والشخصيات. لكن هذه «الظلال» التي تتراءى في القصص لا تعني ان القاص يتكئ على أعمال هؤلاء الكتّاب العالميين، مقدار ما تؤكد انتماءه الطليعي وبحثه عن قصة جديدة تنطلق من البيئة التي يحيا فيها وتنفتح في الحين عينه على الهم الإنساني.
والملاحظ أن المحيميد يسعى إلى لون «فانتازي» خاص جداً، مشبع بالإحساس التراجيدي وبعيد عن المجانية. أما عبثيته المرة فتخفي في باطنها الكثير من الألم واليأس وتسعى أحياناً إلى فعل «الفضح» الذي يعرّي الواقع من قشوره ويسقط القناع عن الوجه.
ليس غريباً أن تلتقي معظم قصص المجموعة حول البعد التوهيميّ الذي لا يتخلل السرد فحسب وإنما يكتنف الشخصيات و «أفعالها» ومواقفها. والتوهيم غالباً ما يأتي في ختام القصص وكأنه حلٍّ للمأزق الوجودي الذي لا حلّ آخر له أو ذي الحل المؤجل دوماً. وينجح المحيميد في الدمج بين الجو الواقعي (السلبي غالباً) والجو الفانتازي الذي يبدو كأنه يحلّ حلولاً صدفوياً ومفاجئاً فيما يعمد الكاتب إلى التهيئة له لئلا يغدو مفتعلاً أو مصطنعاً. فالشخصيات المهزومة والمضطربة والتي تقع دوماً في خانة «الضحية» تعجز أولاً عن مواجهة أقدارها وثانياً عن تغيير واقعها البائس مما يدفعها إلى الوقوع في وهم الخلاص ووهم الحياة والديمومة.
في القصة الأولى «أحلام ثقيلة» يستعير الكاتب من «الخطاب» الصوفي مفهوم «رؤية اللامرئي» ولكن لا ليكتب نصاً صوفياً بل ليؤكد الطبيعة المهلوسة والحلمية للراوي الذي يتكلم. فالراوي رأى أباه (الراحل حتماً) يتحدث مع غرباء عن الموسيقى وعن الموسيقي عابد عازريه المقيم في باريس – يا للغرابة. ثم يؤكد الراوي: «كان هو ذاته أبي، بجبهته المتغضنة». وهذا ما يحصل مع أمه أيضاً التي «رآها» ترسم بورتريه للرسام العالمي كليمت… لكن الراوي يستدرك الأمر، حين يصحو، مدركاً انه كان يرى أحلاماً ويقصّ على أمه – في الواقع – ما رآه، فتؤكد له أنها «كوابيس» وليست أحلاماً، فالحلم في عرفها «خفيف كالفراشة». وتنصحه بأن ينفض الشرشف قبل النوم وبعد الصحو فتتبخر الكوابيس. إلا انه ينفض الشرشف ذات يوم فتتطاير منه حشرات تخرج من النافذة. وعندما يخرج يجد أنها تحولت حجارة. هذه اللقطة الأخيرة يدعها الكاتب ملتبسة بين أن تكون حلماً يحلمه الراوي أو وهماً يضفيه عليه ويجعله يعيشه وكأنه فاقد للذاكرة على غرار شخصيات أوجين يونسكو مثلاً.
هذا الالتباس الحلمي – الوهمي ستعرفه شخصيات أخرى في القصص. الراوي في قصة «وشوشة جدران ناعمة» يدخل في علاقة خاصة مع الجدار الذي من المفترض أن تكون له أذن تسترق السمع (كما تقول أمه) أو الذي كان يلجأ والده إليه خوفاً من العالم. يفاجئ الراوي القارئ بأنه قارئ بدوره، وكانت بين يديه رواية «مدار الجدي» لهنري ميلر حين سمع الجدار ينطق طرقة تلو طرقة وكانت الطرقة بمثابة الحرف. ويقول: «صرت ألمس الحروف» على خلاف الشاعر رامبو التي كان يراها بألوان متعددة. ورامبو يحضر حضوراً حلمياً بل كابوسياً في قصة «أخي يفتش عن رامبو» التي حملها الكتاب عنواناً. فالقصة هي قصة أخي الراوي الذي لا اسم له، والأخ كان يدمن الكتابة أو «اصطياد الأفكار الطائشة» كما كان يقول لأخيه. وكان يلصق على جدران غرفته صوراً لكتاب وشعراء وفنانين يعتبر إنهم «سيغيرون العالم». إلا أن الراوي يكتشف أن أخاه الذي كان يعشق «الجارة» سراً لم يعد أخاه فهو «يحدق النهار كله ولا يرمش ولا يمل ولا يتحرك». ويسرد الراوي من ثم كيف «أخذوا» أخاه ليلاً ببيجامته، ولا يحدد من هم هؤلاء. وعندما يعود ذات ليلة يغدو شخصاً مختلفاً، يهذي ويصرخ ويعوي وينشج، ومرة هجم على والده وكاد يخنقه. ويكرر الراوي: «أخي لم يعد أخي منذ أن أعادوه إلينا»، فهو لم يعد مكترثاً بأوراقه ولا بصور الكتاب والفنانين في غرفته. وفي إحدى الليالي شاهد الراوي فوكنر وماركيز (الروائيين الكبيرين) يفرغان غرفة أخيه وشاهد أيضاً رامبو يخرج من الباب «لاعناً كل شيء». لعل الالتباس في هذه القصة الطريفة يقع حول شخصية «الأخ»: هل هو مريض نفسياً في الأساس أم ان الذين أوقفوه هم الذين جعلوه مريضاً؟
ومن القصص التي يغلب فيها الوهم قصة «القابض على جمرة» وفيها يعيش الراوي (البطل) كابوس «الدود» الذي يبصره يحتل الطاولة والآلة الكاتبة التي كان يطبع عليها خلال وظيفته وهو سرعان ما طرد منها. ويعقب هذا الكابوس كابوس «الجمر» وكان والده سأله مرة: «لو عرض عليك أحد جمرة في يد وثمرة في الأخرى فماذا تختار؟»، فأجاب: «الجمرة». وكان هذا الجواب سبب صفعات أرسلها والده إليه. واختيار «الجمرة» يؤكد الطابع السلبي لهذا «الراوي – الفتى» الذي فشل في المدرسة تبعاً لشروده الدائم وفي الوظيفة تبعاً لتوهمه انه يرى الدود يسرح على الطاولة.
هذا «البطل» يشبه في بعض ملامحه شخصية غريغوار سامثا في رواية فرانز كافكا «المسخ». فهذا «البطل» الكافكاوي يجد نفسه قد تحول حشرة وكأنه في هذا الانمساخ يعترض على العالم أقصى ما يمكن الاعتراض عليه. والحالة الحيوانية هذه يعيشها أيضاً بطل قصة «منشورات غير سرية» عندما ينظر في مرآة الزجاج الأمامي في سيارته ويجد نفسه كلباً ويقول: «رأيت أذنيّ تتدليان طويلتين ولساني مسدولاً ويقطر لعاباً كما يليق بكلب بلدي». وهذا الراوي لم «ينمسخ» كلباً إلا عقب الذل الذي أوصله إليه الموظف الرسمي ذو «الأسنان الذهبية» والذي صاح به: «منشورات يا كلب». أما المنشورات فلم تكن سوى أسئلة كتبها الراوي الذي يعمل صحافياً من أجل تحقيق يجريه حول الفئة الشعبية الفقيرة. وهي المرة الأولى يعمل على تحقيق صحافي بعدما كان بائعاً للصحف. وعلى رغم كابوس «الكلبية» كان همّ الراوي أن يستعيد هويته التي صودرت منـــــه فهو بلا هوية لا يكون مواطناً ولا إنساناً. لا تخلو هذه القصة – مثل قصص أخرى – من السخرية المرة التي تفضح «الجلاد» عبر فضحها الضحية نفسها: «كان الرجل ذو الأسنان الذهبية يمشي مسرعاً وأنا أنبح متوسلاً وراءه، وحين يتوقف أتراجع إلى الوراء خشية أن يقذفني بحجر». ومن الواضح أن هذه القصة تذكر بمسرحية «الرجل الذي صار كلباً» للكاتب الارجنتيني ازفالدو دراغون.
واقعية جديدة
ثمة قصص في المجموعة تنحو منحى واقعياً – لأقل واقعياً جديداً – لا يخلو من السخرية «الصفراء» التي لا تهدف إلى الاعتراض «الوجودي» بقدر ما تشهد على «المأساة» القائمة أو المقدر لها أن تقوم. وذروة هذا المنحى تتجلى في قصة بديعة عنوانها «مجرد علبة ليست رخيصة»، وهي تدور حول «جثة» رجل يرقد في ثلاجة المستشفى منذ أيام وابنه (الراوي) عاجز عن دفع تكاليف الاستشفاء أولاً ثم عن دفن الجثة في التراب. الجميل في القصة المقارنة بين الجثة الباردة والمشروب الغازي البارد (سفن أب) الذي كان يثلج صدر هذا الابن الفقير. وقول أمه: «إكرام الميت دفنه» يرن في أذنيه، مثيراً فيه الحزن والاضطراب. ومن شدة ما عانى من هذا الأمر، بات يحسد الآخرين على دفنهم أهلهم أو أقاربهم معتبراً أن عليهم ألا يبكوا بل أن يكونوا سعداء بعدما أوجدوا لموتاهم «فسحة دافئة من الأرض المتجهمة». وفي لقطة طريفة جداً وأليمة، يسأل الفتى (الراوي) مدير المستشفى حين قابله إن كان ثمة تيار كهربائي احتياطي فيما لو انقطعت الكهرباء عن الثلاجة فيذوب الثلج وتتعفن الجثة. يجيبه المدير بالإيجاب ويطلب منه أن يكتب رسائل استعطاف لبعض الوجهاء أو أن يعلم إحدى الصحف بشأنه المأسوي فتكتب الصحيفة عنه مثيرة ما يشبه الفضيحة. يظل الأب سجين الثلاجة ولا يملك الابن إلا أن يدمع. الأب راقد وسط الثلج والابن يتنقل في الحرّ لاجئاً إلى برودة المشروب الغازي والى ماء السبيل البارد في الشوارع.
في قصة «رفرفة طير حب» يعجز البائع الجوال عن بيع القفص الذي يحوي «طيور حب»، لكن المصادفة تحمل إليه رجلاً ثرياً يوقف سيارته أمامه ويطلب منه أن يسلّم رسالة إلى سيدة في سيارة توقفت قريباً منه، وناوله ورقة مالية من فئة الخمس مئة ريال. وعندما اقترب من زجاج السيارة لم يلمح سوى أصابع طويلة وناعمة. كان هذا البائع قال للتو: «كثيرة هي الأشياء التي لا أفهمها في هذه المدينة». وفي قصة «الرجل الذي أكله الحزن» يبرز نموذج آخر من «البطل السلبي» يتمثل في الشاب المريض الذي يزور طبيباً نفسياً – على الأرجح – لكنه لا يجيب على أسئلة الطبيب على رغم إلحاحه واعترافه له بأن المعلومات ستبقى سرية وهو يسجلها لأغراض طبية. وعندما يهمس له الطبيب: «لمّ أنت كتوم؟» يكون جوابه: «لا شيء يحرّضني على الكلام في هذا العالم كله».
تعيش شخصيات يوسف المحيميد القصصية أزمات عدة، اجتماعية ونفسية ووجودية وتعجز دوماً عن مواجهة العالم الذي هو بمثابة «العدو» أو «الجزار»، ولا تتمكن من تغيير واقعها لأنها أصلاً شخصيات سلبية، منبوذة وغريبة، تحيا على هامش المجتمع وفي زواياه القاتمة. وهي إذ تجد نفسها إزاء هذا العجز والشلل تلجأ إلى التوهم والحلم هرباً من أزمتها أو أنها ترتمي في صمتها العميق أو تعمد إلى تدمير نفسها بالسخرية التي لا توفر الذات مذ تسخر من العالم. شخصيات قائمة على الحد الفاصل بين الواقع واللاواقع، أقدامها متجذرة في الأرض لكنها مهددة دائماً بما يشبه الهاوية الممتدة أمامها. شخصيات من لحم ودم لكنّ مصائرها تتأرجح على شفا الألم واليأس والخيبة.
إلا أن ثمة ملاحظتين لا بد من سوقهما ختاماً: الأولى تتعلق بما يمكن تسميته بـ «الأسلوب» القصصي الذي بدا يميل إلى «النصية» أكثر من ميله إلى «التقنية» القصصية. فالقصة لدى المحيميد لا تلتزم كثيراً معايير القصة القصيرة أو شروطها وهي معروفة، بل تتخطاها لتغرق في الكتابة النصية أو الأدبية إن جاز التعبير. ولعل استخدام ضمير المتكلم (الأنا) يغري الكاتب كثيراً ويدفعه إلى الاستطراد والقول. هذا على رغم أن قصص المحيميد هي قصيرة في معظمها، لكنها ذات نَفَس «نصيّ» أو أدبي واضح.
أما الملاحظة الثانية فهي تتناول اللغة التي اعتمدها المحيميد وهي لغة سهلة ومبسطة وتكاد تقترب في أحيان من العامية الفصحى. فهو في بعض المقاطع يبدو كأنه يكتب بالعامية ولكن في إطار اللغة الفصحى. ولذلك ربما سمح لنفسه بعدم المبالاة بالأخطاء، صرفاً ونحواً، وكأن هدف الكتابة هو كسر مهابة اللغة وتحويلها لغة حياة في ما تعني من هشاشة وبساطة. مثلاً في مطلع قصة «حالة تفتيش» تستهل الفتاة – الراوية القصة قائلة: «كنا ثلاث، في الصف الأول ثانوي…» والصحيح «كنا ثلاثاً»، لكن الصيغة الخطأ أقرب إلى التعبير اليومي والعامي. وفي مطلع قصة «أحلام ثقيلة» يصرف الكاتب الممنوع من الصرف قائلاً: «أرى في النوم قناديلاً…». وهكذا دواليك.
قصص يوسف المحيميد في مجموعته هي بديعة في معظمها، وتنمّ عن مدى ارتباط هذا الكاتب الشاب بما يعاني الإنسان، فرداً من أزمات ذاتية ووجودية واجتماعية، وبما تعاني الجماعة من أحوال استلاب واغتراب وانسلاخ. الإنسان هنا يسعى إلى البحث المستميت عن هويته كإنسان والجماعة تحاول بدورها أن تحدد هويتها الجماعية، لكن الهوية في كلتا الحالتين تظل معلقة، مثل الأمل والسعادة وسواهما.
جريدة الحياة- بتاريخ 24/10/2005م
0 تعليق