كوليت مرشليان
يعود الكاتب السعودي يوسف المحيميد الى كتابة القصة القصيرة بعد تقديمة روايات ثلاثاً في السنوات الأخيرة وكأن القصة تعود هي إليه في فضائها ومناخها المختلف لتشير الى أمكنة جديدة ربما افتقدها أو أهملها أو نسيها سابقاً حين كتب القصة لفترة طويلة
ومنذ نهاية الثمانينات، وبداية “مع “ظهيرة لا مشاة لها” و”رجفة أثوابهم البيض” و”لغط موتى وقصص أخرى” و”لا بد أن أحداً حرّك الكراسة” حيث قدّم قصصه النابعة من ترحال فكتب من الرياض ونشر في الرياض والقاهرة وبيروت ودمشق، ثم روايته الأولى من ألمانيا عام 2002 وكان عنوانها أيضاً “لغط موتى” تبعها من بيروت “فخاخ الرائحة” و”القارورة” وكانت الرواية في كل مرة تنضج أكثر وتتأصل في كتابته المفعمة برائحة التغيير التي تضرب دوماً في أسلوبه المتحرك.
العودة اليوم الى القصة مع مجموعة “أخي يفتش عن رامبو” الصادرة عن “المركز الثقافي العربي” في بيروت فيها ما يشبه الدخول في زواريب رواياته والعثور على شخصيات منسية من هنا وهناك يقدمها الى القارئ وهي طالعة من بئر الرواية العميقة من دون أن يخفف هذا من وهجها أو من أهميتها، اذ على ما يبدو انها بالغة العمق الى درجة استدراجها من “هناك” لعرضها في قالب قصصي وفي أسلوب يخفف من وطأة أو من حضور اللغة القوي لصالح الأشخاص والأحداث. لكن القصة مع المحيميد ليست مجرد احداث متلاحقة يسودها الضجيج والفوضى بل على عكس ذلك، فإنها هادئة، بطيئة الايقاع في عرض لأحداث قليلة لشخصيات أبرزها وأكثرها مسحوب من المجتمع أو مهمش الى درجة أن القارئ يحسب هذا الصنف من الشخصيات غير مرئي أو غير منظور. شخصيات عيش حالات قصوى من القلق والتساؤل والخوف والانكسار الى درجة مرورها بخفر أمام الكاتب كذلك أمام القارئ ولا يبقى من مرورها سوى الظل أو العطر أو ذكرى من مرورها أو غرض من أغراضها: رسالة هنا، ورقة هناك، القليل الى حدّ الذخيرة التي يحملها الكاتب معه لينطلق منها ويشرع في الكتابة تماماً كما يوضع مركّز العطر القليل في السائل لكثير ليفوح العطر من كل حدب وصوب. والجهة الأشد تميزاً في مجموعة “أخي يفتش عن رامبو” هي تداخل الشخصيات الى حدّ كبير. بمعنى أن القارئ يقع في كل قصة على شخصية مختلفة ومع هذا فثمة شعور انها شخصية واحدة تتبدل هنا وهناك تصير ولداً صغيراً هنا، شيخنا فقيراً هناك، أو امرأة ناضجة أو طفلة. كل هذا غير مهم لأنهم جميعه يتشابهون في الأحاسيس وفي ظروف الحياة: انه دائماً الخوف والقلق والفقر والتشرد بمعنى التجوال وعدم الثبات وفي الرؤوس والمخيلات والقلوب دائماً المشاعر عينها والمخاوف عينها، والماضي الذي يستفيق وجعبة الذكريات التي ما ان تصادف
حافزاً معيناً حتى تستفيق وتبرز إلى العلن.
كأنما “أخي يفتش عن رامبو” واحدة من القصص الكثيرة التي يغلّفها الحزن في الغالب: قصة الأخ المغرم والملهم في الشعر الذي يفقد صوابه ويشيع الحزن من حوله في العائلة، وذات ليلة يهجره أصدقاؤه، فيرى الكاتب فوكنر يصطحب ماركيز، يغادران وقبل ذلك “يخرجان القرى والمدن من غرفة أخي، وبعد ساعات قيلة كان آرثر رامبو أيضاً بشعره المصفوف بعناية يخرج من الباب لاعناً كل شيء”. وتختلط الأدوار والشخصيات في المجموعة الى درجة يمكن أن يصير الأخ هو الكاتب والكاتب هو نفسه الذي يُعنى “بالمنشورات غير السرية” أو ذاك المغترب الذي يتنقل بين “نورج” ومدن أخرى أو الفقير المعدم الذي لا يملك المال الكافي لإخراج جثة الوالد من “براد” المستشفى حيث يقبع منذ أسبوع “مثله مثل علبة سفن أب” في براد السوبر ماركت.
مجموعة قصصية منوعة حيث تتنوع الأمكنة ما بين الرياض والغرب وتتنوع الأحداث التي ليست كثيرة اذ يمكن الحديث هنا عن حالات تعيشها الشخصيات أكثر منها احداث عادية. فالكاتب هنا دوماً في صدد الوصف لحالات نفسية معظمها متأزمة وتعيش شخصياته على هامش تلك الحالات المسيطرة عليها اذ في غالبيتها تصل الى حدّ التطرّف في كل شيء: فالعاشق يصل الى حدّ الجنون، والفقير الى حدّ القهر والبائس المرصّد الهلوسة.
وغالباً ما تنتهي قصص المجموعة بما يشبه الكوابيس أو الواقع الغرائبي اذ يُظهر ببساطة تحولات غرائبية عند شخصياته لا يمكن أن يتقبلها المنطق انما ترسو بسهولة في خانة الفانتازيا الأدبية. في قصة “الجرادة” يتحول البطل في نهاية القصة الى جرادة في حلم كابوسي يرى فيه انه: “بخمس عيون مثل عيون المرسيدس القديمة والبس مشلحي البني الثمين، أطير كجرادة كبيرة وأحلّق في المدينة آكل الزرع في الحدائق العامة، أخنق رقصة الأشجار… ألتهم سعف النخل، ثم أهاجم الأطفال اللاهين… حتى انهال عليّ فجأة نعل زبيري متيبّس فشهقت شهقة الموت… واستيقظت من نومي أرتجف من الحمى…” أو في مكان آخر في قصة “الرجل الذي أكله الحزن” حيث تنتهي مغامرة تجوال هذا الخائف في الشوارع بالتالي: “… وحين أردت أن أجذب قفل الباب، ارتعبت بغتة، لم يكن في كفيّ أصابع، متآكلة كانت، كأنما شيء حارق وقاس جزّها أثناء غيبوبتي، فرفعت رأسي صوب الكينا، وأجهشت بالبكاء”. كل تلك الكوابيس الواقعية هي بمثابة ردّ من القاصي على الواقع الهش والفارغ الذي يبحث فيه عن التغيير وبالتالي عن السعادة المفقودة ليقول، بئس الحال الذي يصفه، كذلك صعوبة العثور على بذور السعادة الصعبة المنال أو المستحيلة، ربما.
ومن دون شك ان العنوان المؤثر الذي اختاره المحيميد للمجموعة ليس بعيداً عن واقع القصص وتفاصيلها. وكأنه يشير في كل كلمة من العنوان الى عالم من عوالم قصصه: فهناك الأخ أو بكل بساطة الوجه الآخر للمؤلف أو لكل شخصية من شخصياته وهناك التفتيش بل التنقيب الذي تجريه كل الشخصيات في المجموعة ببال طويل وبصعوبة وبشراسة واصرار وتكرار… وهناك “رامبو” العنصر المفقود في واقع القصص وفضائحها: انه الشاعر الملهم، رامبو الجرأة والتحرر، رامبو الشعر المضاء والمشعّ في فضاء التجربة الشعيرة، رامبو الجمالية المطلقة والشعر المفتوح على كل الاحتمالات والجسد المرصود للترحال والمغامرة. كل اسطورة رامبو أو حياته التى صارت اسطورة هي محط اعجاب القاص أو أخيه المهلوس، وهي رمز لحلقة مفقودة تبحث عنها كل شخصيات المجموعة وفي كل القصص حيث ليس الشعر مذكوراً انما هو أسلوب عيش واحساس فائض ومثال تسعى الشخصيات للوصول اليه.
في المجموعة 13قصة منها أحلام ثقيلة”، و”لا مكان لعاشق في هذه المدينة” و”القابض على جمرة” و”وشوشة جدران ناعمة” و”مجرد علبة ليست رخيصة” وغيرها، لكن تبقى قصة الأخ المجنون الذي يبحث عن رامبو هي الصورة النهائية لمناخ المجموعة التائهة في بحر من الأسئلة وسط خراب الأمكنة المصبوغة بسوداوية تكبر وتتأهل كلما اقتربت الشخصيات من الواقع وتخف كلما انتصرت زاوية للشعر ولأحلامه الممكنة.
ــــــــــــــــــــ
جريدة المستقبل اللبنانية- الخميس 27 تشرين الأول 2005 – العدد 2082 – ثقافة و فنون – صفحة 20
0 تعليق