كنت قد عرفت يوسف المحيميد شاعرا عصيا على الكتابة والتلقي من خلال مجموعته النثرية، “لابد أن أحدا حرك الكراسة”، وهي المجموعة التي احتفينا بها في ملتقى الثلاثاء الأدبي أواسط التسعينات من القرن المنصرم، وقمنا بتصوير النسخة الوحيدة المتوفرة آنذاك، لتوزيعها على الأصدقاء، وقد كان لاحتفائنا بهذه المجموعة مبرراتها فقد رأينا فيها فتحا جديدا وبداية انطلاق لقصيدة النثر في المملكة العربية السعودية،
ومما زاد من حدة تفاؤلنا أن المحيميد لم يكن وحده يتبع هذا النهج من الكتابة فقد تزامن مع مجموعته إصدارات نثرية لشعراء آخرين لا يقلون عنه أهمية، ويمكن أن نذكر منهم حمد الفقيه، أحمد الملا، وأحمد كتوعة•
هكذا هي الصورة الأولية في مخيلتي، المحيميد شاعر يكتب قصيدة نثر عصية وصعبة المراس، ولكن الحقيقة الأخرى أن شاعرنا هجر الشعر وهجر كراسته المتحركة، وألقى عصاه في صحراء الرواية والقصة•
لم يختلف كثيرا في لغته، ولا نهجه أو صوره الذهنية، وهذا ما يجعلنا نقول إن قصيدة النثر نوع آخر من القصة، والقصة الجديدة في بعض تقنياتها قصيدة منثورة•
أخي يفتش رامبو
حين وقع بصري لأول مرة على المجموعة القصصية (أخي يفتش عن رامبو 2005) لم أتردد في اقتنائها، فالمحيميد شاعر مثير للجدل، وهو أيضا قاص بدرجة عالية من الحرفية والتقنية القصصية، ففي مجموعته القصصية هذه يستلهم المحيميد البيئة السعودية بجميع جوانبها، ضجيجها وصخبها، عاداتها وتقاليدها، وأساطير ناسها البسطاء، فعلى مدار المجموعة البالغ عددها ثلاث عشرة قصة لا تكاد تخلو قصة من إشارات أو تلميحات وإسقاطات على العادات الشعبية المتوارثة وأثرها على الإنسان السعودي•
كل ذلك بلغة أدبية بالغة الرقي والرفعة، ونستطيع أن نقول إن المحيميد يستغل الجانب القصصي لكتابة قصيدة، وتصويرات اجتماعية من الحياة المعاشة•
لذا فإنه يصعب عليك أن تدخل هذه المجموعة بمصطلحات وأفكار نقدية مسبقة وجاهزة، بل إن الحالة القصصية التي تعيشها مع المجموعة هي التي تفرض عليك لون الكتابة•
إثارة الضحك
من الناحية الجمالية، لا يمكن أن تتمالك نفسك من الضحك وأنت تقرأ هذه المجموعة بكل قصصها فالمحيميد يصور جوانب متعددة من الحدث بدقة متناهية وكأنك تعيش الواقع، وتنتقل مع مجريات الحديث، ويمكن أن نسوق دليلا لذلك قصة “منشورات غير سرية” وهي القصة التي يتناول فيها مسألة الصحافة وقضية الرأي في بلده المملكة العربية السعودية، ولكنه لا يعرض القضية في قالب وعظي ساذج ومباشر، بل هو يسوق القصة في إطار تفصيلي ولغة شعرية راقية، تتحدث القصة باختصار عن شاب يوزع الجرائد ويهوى ممارسة العمل الصحافي، وحين أتيحت له الفرصة الوحيدة لإجراء تحقيق صحافي في (الحراج) أو سوق الجمعة، تعتقله الدولة بتهمة توزيع منشورات سرية•
يقول في بعض جوانب القصة: لم يكد يمضي على عملي أكثر من شهر، كنت مهووسا بالصحافة، تحولت من مجرد بائع صحف عند إشارة المرور، إلى صحفي مبتدىء، كم حسدت الصحفيين، وهم يتباهون بآلات التسجيل في أيديهم، ويعلق بعضهم الكاميرا على صدره، والناس يتوددون لهم، كم حلمت أن أنجز تحقيقات صحفية جريئة، وحوارات صاعقة، حتى اقترح علي أحدهم أن أقوم بتحقيق صحفي مع ناس بسيطين في سوق الحراج، ففرحت بالفكرة، ورحت أضع أسئلتي بذكاء وحماس•
“هذا لا يجوز”!
قلت، لكنه لم يكترث بي، ولم يتوقف، بل ظل يمشي بثوبه الأصفر المثني، وشماغه الملفوف حول رأسه، أسرعت حتى جاورته، واستوقفه:
“ممكن أفهم؟”
تقنية العمل القصصي
من حيث التقنية القصصية يتبع المحيميد عنصر الإثارة من خلال قلب عنصر الزمن القصصي، بحيث تبدأ القصة في الغالب من ذروة الحدث التي هي في منتصف الزمن السردي ثم تنتقل إلى البداية، والتدرج الطبيعي لتوالي الحدث، وإذا شئنا أن نتحدث بلغة أهل الفلسفة فإنه يبدأ بالنتائج ثم يذكر ألاسباب أو المسببات، يمكن ملاحظة ذلك في أغلب قصص المجموعة إن لم يكن جميعها، وعلى سبيل المثال يمكن أن نلاحظ ذلك في قصة “فضلة الديك” التي تبدأ بذروة الحدث، فهناك أطفال يهتفون ويركضون وراء هذا الإنسان غريب الشكل الذي يمكن أن يسمى فضلة الديك، وبعد وصول الحديث إلى ذروته بشرح لنا السارد من هو فضلة الديك، ولماذا سمي بهذا الاسم•
ونسوق من المجموعة المقطع التالي: متبوعا بالضحكات أحيانا، وبحجارة الصغار أحايين أخرى، وهم يرقصون خلفه ويرددون: فضلة الديك• ويلك لا يجيك! لحيته الهائشة مجزورة في بعض أجزاء ذقنه، ووجهه يشبه أرضا مهملة• لا أحد يهتم به، رغم أنه يحاور الآخرين بوعي شديد في السياسة، لكن هؤلاء الآخرون يعتبرون إجاباته وأفكاره إنما هي أفكار مخبولين، وشطح مجانين•
عاد ذات نهار من المدينة بذقن حليق، ظهر تحته جلد خشن، لم يخل من أخاديد ونتوءات، وشاربه مقصوص ومشذب بعناية، وقد لبس ثوبا نظيفا، وبدأ يمشي في الطرقات بهدوء ورزانة، دون أن يكترث بمن سخر منه، ولا يلفت نحوه، ويحمل معها أحيانا جريدة أو كتابا، بعضهم لم يتعرف إليه من أول وهله، وآخرون أشاعوا أن امرأة تعيش في المدينة أحبته، فغيرت هيئته، وجعلت منه رجلا أنيقا، وقد بالغ أحدهم بأن قال إن جنيّة اختطفته وفرت به في الجبال وجملته ثم ضاجعته مرارا، وعلمته كيف يحب، والدليل أنه بدأ يخجل من النساء ولم يعد يعمل إلى جوارهن كما كان• ما أدهشهم أكثر أنه لم يعد يجيب على أسئلتهم ولا يلتفت إلى سخريتهم، لكنه بعد أيام سأله شباب صغار السن: لماذا حلقت؟
ويمكن أن نلاحظ هذه التقنية أيضا في قصة “لا تقلب نعلك حتى في نورج”• وهي القصة التي تبدأ بإنسان مريض ممدد على ظهر سرير في المستشفى، ثم بعدها يذكر تفاصيل المكان وطريقة الانتقال إليه• وقد نجح المحيميد في هذه القصة بتصوير الأساطير والأمثال الشعبية والدينية السعودية وأثرها على الإنسان حتى ولو انتقل إلى مدينة عصرية وحديثة مثل لندن•
ومن أجواء القصة نختار: فتحت باب غرفتي، فازدادت دقدقة آلة السمسمية يخالطها صوت محمد عبده، حتى كأنما صرت أراه بغترته البيضاء، يتقدم الفرقة الموسيقية على شاشة تلفزيون بالأسود والأبيض، ما الذي جاء بك هنا، في صباح بارد وملون كهذا الصباح؟ قلت: ربما أدار الطالب الإماراتي محمد شريطا قديما في المسجل، لكنني تذكرت أنه غادر إلى بلده منذ أكثر من شهر• نزلت من الدرج الذي يشبه درج أقبية مساجين، كنت تعلمت مثلهم أن أنزل من الجانب، لا من الأمام، حتى لا أنكفىء وأتدحرج• ربما أكثر من يؤرقني أن أنزل ليلا للحمام الوحيد في المنزل، وما يمكن أن يسببه الدرج الخشبي من أزيز كما بكاء أشجار مقطوعة• يحدث أن أنسى غسل أسناني بالمعجون، فأشعل مصباح الدرج بهدوء وحذر، ثم أخطو بقدمين طائرتين وخفيفتين، حتى لا أحدث ضجة، وقد ظننت أنني أثير حرجا للسيدة كاترين، والسيدة جوناثان، وهما يثيران لغطا وتأوهات في الغرفة المجاورة، قبيل أن ألمحهما من فرجة الباب الموارب، مثل دبين متعانقين، دون أن يكترثا بوجودي•
وقت الظهيرة
بقيت مسألة أخيرة لابد من الإشارة إليها وهي أن المحيميد من حيث الزمن الروائي، وربما الحقيقي مأخوذ بوقت الظهيرة، وهو الوقت الذي يشكل مرتكزا لأكثر من قصة في المجموعة، هذا إذا تجاهلنا أن له مجموعة قصصية بعنوان “ظهيرة لا مشاة لها” ومعلوم أن زمنا محددا باعتباره علامة دالة يمكن أن يؤثر على مبدع ما، ويأخذ بتلابيب الحدث لديه، وهناك دراسات حديثة تولي هذا الجانب كثيرا من الاهتمام•
بقي أن أقول إن مجموعة يوسف المحيميد “أخي يفتش عن رامبو” هي مجموعة غير تقليدية، وإذا قرأتها فإنك لن تتمالك نفسك من الضحك•
أ•ي
جريدة الطليعة الكويتية
الأربعاء 21 مارس 2007
العدد 1766
0 تعليق