د. عبدالله أبو هيف
حفلت تجربة الكاتب السعودي يوسف المحيميد القصصية بالاشتغال السردي الجمالي في مجموعاته القصصية العديدة: “ظهيرة لا مشاة لها” (1989)، “رجفة أثوابهم البيض” (1993)، “لغط موتى وقصص أخرى” (2000)، وآخرها “أخي يفتش عن رامبو” (2005)، واقترب السرد من النصية في مجموعته “لابد ان أحدا حرك الكراسة” (1996)، واستند الاشتغال السردي الجمالي على المبنى الإشاري الحافل بالدلالات، وعلى إثراء العتبات النصية، ولا سيما العنوانات الدالة المدغمة بالإحالات المرجعية داخل النص السردي. تكاثرت هناك عمليات التكثيف السردي، وقوامها المشاعر النفسية والتعبيرات الوجدانية، وأحلل مجموعته الأخيرة “أخي يفتش عن رامبو” أنموذجا.
بنيت قصص يوسف المحيميد على التحفيز الجمالي بالدرجة الأولى، والتحفيز هو تنامي الفعلية عند ضبط الحوافز (الوحدات القصصية) بالتخييل من جهة، وبالمدلولات الكامنة ثم الكاشفة عن المعنى ومعنى المعنى من جهة أخرى، لأن القاص لا يباشر الأهداف والمقاصد والقيم، بل يوحي بها في منظوراته القصصية، ويستغرق في النجوى (الحوار مع الذات)، ثم في الحوار الأعم الخاص مع الإشكاليات والمشكلات الضاغطة على الوجدان والنفس. افترق التحفيز الجمالي القائم على المتواليات السردية عن التحفيز الواقعي القائم على متتاليات السرد، بما يجعل التجربة القصصية عند المحيميد متأملة في الوجود من خلال الإشارات الى معطيات الواقع ومتشظياته، وصيغت غالبية القصص بالضمير المتكلم وأحاسيسه الضاغطة على الذات، وثمة إيجاز للتحفيز، غير انه مشدود بالمجازية الباعثة للمعتقدات والأفكار والرؤى من داخل السرد الموجز، ففي قصة “أحلام ثقيلة” على سبيل المثال، يروي الضمير المتكلم تشابك الأحلام مع الكوابيس والأحاسيس الموجع بالوجود، ودوام القلق وحمى الأوقات، وتكررت عبارة التحفيز الجمالي عن التأمل في الواقع بقوله: “كنت دائما أرى ما لا يرى..”، وارتبطت العبارة مع التأملات والاسترجاعات، والاستشرافات الواقعية في الوجدان:
“أرى في النوم قناديلا تضحك، وعيونا تلتمع، وأرى أبي يتحدث مع غرباء عن الموسيقى..”.
“أرى أبوابا كثيرة، تنفتح على أبواب أخرى، أرى أمي تنظف اللوحات الزائدة في المخزن..”.
“أرى المستشفى الذي أعالج به لوثة الدوار خاليا من المراجعين، ممراته لامعة، لا ألمح عليها سوى ظلي” (ص 6- 7).
“صباح اليوم، فتحت عيني المرهقتين، وقد رأيت البارحة أشياء كثيرة لا ترى ولا تحكى” (ص8).
ثم ختم التحفيز الجمالي بوطأة الأحلام الثقيلة على النفس: “بينما أنا منهمك في رؤية ما لا يراه أحدا، ارتبكت وأنا أفكر برؤيا الليلية المستمرة، هل هذه الأحلام التي قالت عنها أمي: إنها ثقيلة مثل حجارة!” (ص9)، غير ان هذا التحفيز تعمق مع المتناصات العالية التي لا تعني التضمين المباشر، بل تستحضر المؤثرات الخارجية وصراعاتها على النفس، كالإشارات الى الغرباء، والغرابة مع الموسيقى، فذكر عابد عازاريه السوري المقيم في سورية ونهجه الموسيقي، ومدى الحفاوة بالسمفونية التاسعة لبيتهوفن، والانتقال من موزارت الى بيتهوفن وتشايكوفسكي، الى آخره، وازدادت أحوال الغرباء والغرابة مع الفنون التشكيلية، ومكانتها في رسم ذوات الأرواح “فقد قالت أمه: أنا أحب بول كلي، إنه فنان عظيم!”.
إن القصة بتوكيدها على ان الضمير المتكلم يرى ما يرى، تعبر في المتواليات السردية عن ضغوط الأوهام والأوضاع العامة المتشظية مع طغيان الواقع، بنيت قصة “لامكان لعاشق في هذه المدينة” على الضمير المتكلم ايضا، حيث المشاعر النفسية هي الأساس في رصد القضايا الاجتماعية، اذ تواصل العشق، وتعذر تطبيقه، والمرأة تخاطبه، وينتظرها، ثم امتنع تحقق العلاقة العاطفية والإنسانية، لدى تفاقم العلاقات الغادرة بين الرجل والمرأة، واندراجها في متاعب الوالد والأسرة والصراع الاجتماعي، وكان الحل هو الخصوصية والتخفي وعدم الإعلان او الإشهار عن علاقة ما: “كنت اسمعها وأحاورها، لكن كثيرين لا يرونها معي. شبكت اصابعها بأصابعي، ومشينا معا” (ص18).
عاود المحيميد في كتابة قصة “وشوشة جدران ناعمة” استخدام الضمير المتكلم مدعوما بتداولية اللغة، من خلال التعمق في وظيفية الحوافز وفاعليتها، وتفعيل التناص والمتعاليات النصية، والقصة تتناول المواقف من الأب والأم ومواقفهما من الأبناء ومن آفات الواقع، وتركز التناص على رواية “مدار الجدي” لهنري ميللر، وهي مبنية على السياقات الاجتماعية والنفسية عند الكثير من الرجال والنساء من الممارسات الجنسية والعاطفية، ولو على سبيل العلاقات العابرة، وكان التوصيف حافلا بالتداولية عن المصادفات غالبا في العلاقة بين الرجال والنساء، مما يفيد ان طبيعة هذه العلاقة مؤذية كلما دخلت في الاعتمال، وكان الترائي هو الأكثر راحة وهدوءا وخلاصا من العلاقة القاهرة او المقهورة: “كانت دقات الجدار رسائل لا يفهمها أحد سوانا، عرفت ان الجدران دافئة وحميمية، وأنها تنطلق وتحكي، تهمهم وتبوح وتبكي، تعتب وتحن، تشفق وتئن وتهجر وتغدر وتغامر، الجدران تغامر وتخطىء أحيانا، لتضعنا في مهب الخطر!” (ص23). إن القصة تعبير وجداني عن وطأة العيش بعامة والعلاقات مع المرأة بخاصة، روى الضمير المتكلم في قصة “رفرفة طير حب” محاولات التخلص من الانزعاجات ومسعى الخلاص من قلق العشوائيات نحو تأمل الأمان والسلام: “وضعت القفص على الرصيف، وخلعت بابه، وهششت بيدي طير الحب لأطيره، ثم اجتزت، خفيفا، الشارع الخالي، دون ان اقرأ شروخ الإسفلت، حتى لا تذكرني تلك الشروخ بخطوط خريطة العالم التي لم أتقن رسمها أبدا” (ص29). وتلازم صوت الضمير والمتكلم في قصة “الرجل الذي أكله الحزن” مع المخاطبة والحوار والنجوى، فهناك هيمنة الحزن على الذات باستمرار، وإن لم يصرح بالإرهاق واليأس والحزن، مكتفيا بالإلماح الى تمثلات الأشياء على النفس المغيبة من حين لآخر: “في الشارع تركض حولي صناديق أحزاني المغلقة، كأنما هم اطفالي المخلصين الأشقياء، هذا صندوق الحنين الى ما لست اعرف، وهذا صندوق الألم، وذاك البعيد الذي يجرجر أقدامه صندوق الذكريات، وأما ذلك الصندوق الطويل الذي يشبه النفس فقد كان صندوق البكاء! كنت ابكي بحرقة، وجهي تضربه شمس يونيو اللاهبة دون ان تجفف دمعه!” (ص 34- 35).
انتقل التحفيز الجمالي من مجرد النجوى الى الخطاب الشامل عن عمليات هدر الذات من خلال تسميتها بالصناديق، وأبرزها صندوق البكاء، فالمرء وحيد مثل “جنازة أكلها الحزن!” (ص36)، وها هو ذا يجهش بالبكاء على الدوام كامنا او صريحا أزاء أحوال المرارة والعذاب.
تكاثرت العتبات النصية في قصة “الجرادة” والضمير المتكلم فيها يخاطب الذات والآخر، والمرء يعاني على الدوام من عذاب الحياة التعيسة، على انه متهم مثل الجرادة: “تأكل الأخضر واليابس، ولا تبين عليك النعمة!” (ص44)، وهو حالم استيقظ من نومه مرتجفا من الحمى بالرعب مما استبدل خلالها حياته السابقة، تأملا ونشدانا للخلاص من شهقة الموت في كل حين، وأدغم التحفيز الجمالي في دلالات العنوان والتناص والإشارات الى جموع المعاني الناجمة عن المنظورات القصصية.
ازداد التخييل في قصة “كأنما أخي يفتش عن رامبو” عندما روى الضمير المتكلم اشكاليات ضنك الواقع، فقد نفى ان يكون اخوه اخاه، لأنه تخلى عن ذاته، واستغرق في الوهن والمساوىء، وخرج يفتش عن رامبو للنظر في ممارسته للأفعال غير الإنسانية، وهناك مقاربة من بول فيرلين الذي مارس الشذوذ مع رامبو مما أضاء التحفيز الجمالي بوصف الأشياء والأسماء، وتأثير المفاسد على النفس والعلاقات الإنسانية بعامة.
رويت قصة “حالة تفتيش” بضمير الأنثى المتكلم مدعومة بالإشارات الى الرسائل الصغيرة والصور الملونة وقصائد الحب و”روايات عبير” الشهيرة عن علاقات المرأة والرجل، وثمة تخييل مطلق في التحفيز الجمالي الذي يصف مدرسة التوحيد، والمدرسة التي تشبه مدينة صغيرة، وخروج نزار قباني من صدر ليلى، وعودة عمرو بن كلثوم حزينا من صراعات مجتمعه، ولقب المرأة بالقنفذ، بسبب انطوائها وخجلها.. الخ. وقد أفضى التخييل المطلق الى مجاوزة الأحوال القاهرة.
أما الضمير المتكلم في قصة “منشورات غير سرية” فقد أمعن في التوصيف الوجداني عن مداهمات موت الحياة في الفتن الداخلية والمؤثرات الأجنبية، بينما أضاءت قصة “لا تقلب نعلك حتى في نورج” المرض بين الوهم والواقع، وأعلنت قصة “مجرد علبة ليست رخيصة” عن ضرورة الخلاص من الإفساد والمفاسد في العلاقات النفسية والاجتماعية والإنسانية.
تميز شغل يوسف المحيميد في كتابة القصة القصيرة بالتحفيز الجمالي، من ثراء الإشارات والإحالات المرجعية والتناصات الى غنى التكثيف السردي المعني بعمق المشاعر النفسية والتعبيرات الوجدانية والمشكلات الاجتماعية.
يوسف المحيميد: أخي يفتش عن رامبو، المركز الثقافي العربي – بيروت، الدار البيضاء،
* جريدة الرياض- الخميس 3شعبان 1428هـ – 16أغسطس 2007م – العدد 14297
بنيت قصص يوسف المحيميد على التحفيز الجمالي بالدرجة الأولى، والتحفيز هو تنامي الفعلية عند ضبط الحوافز (الوحدات القصصية) بالتخييل من جهة، وبالمدلولات الكامنة ثم الكاشفة عن المعنى ومعنى المعنى من جهة أخرى، لأن القاص لا يباشر الأهداف والمقاصد والقيم، بل يوحي بها في منظوراته القصصية، ويستغرق في النجوى (الحوار مع الذات)، ثم في الحوار الأعم الخاص مع الإشكاليات والمشكلات الضاغطة على الوجدان والنفس. افترق التحفيز الجمالي القائم على المتواليات السردية عن التحفيز الواقعي القائم على متتاليات السرد، بما يجعل التجربة القصصية عند المحيميد متأملة في الوجود من خلال الإشارات الى معطيات الواقع ومتشظياته، وصيغت غالبية القصص بالضمير المتكلم وأحاسيسه الضاغطة على الذات، وثمة إيجاز للتحفيز، غير انه مشدود بالمجازية الباعثة للمعتقدات والأفكار والرؤى من داخل السرد الموجز، ففي قصة “أحلام ثقيلة” على سبيل المثال، يروي الضمير المتكلم تشابك الأحلام مع الكوابيس والأحاسيس الموجع بالوجود، ودوام القلق وحمى الأوقات، وتكررت عبارة التحفيز الجمالي عن التأمل في الواقع بقوله: “كنت دائما أرى ما لا يرى..”، وارتبطت العبارة مع التأملات والاسترجاعات، والاستشرافات الواقعية في الوجدان:
“أرى في النوم قناديلا تضحك، وعيونا تلتمع، وأرى أبي يتحدث مع غرباء عن الموسيقى..”.
“أرى أبوابا كثيرة، تنفتح على أبواب أخرى، أرى أمي تنظف اللوحات الزائدة في المخزن..”.
“أرى المستشفى الذي أعالج به لوثة الدوار خاليا من المراجعين، ممراته لامعة، لا ألمح عليها سوى ظلي” (ص 6- 7).
“صباح اليوم، فتحت عيني المرهقتين، وقد رأيت البارحة أشياء كثيرة لا ترى ولا تحكى” (ص8).
ثم ختم التحفيز الجمالي بوطأة الأحلام الثقيلة على النفس: “بينما أنا منهمك في رؤية ما لا يراه أحدا، ارتبكت وأنا أفكر برؤيا الليلية المستمرة، هل هذه الأحلام التي قالت عنها أمي: إنها ثقيلة مثل حجارة!” (ص9)، غير ان هذا التحفيز تعمق مع المتناصات العالية التي لا تعني التضمين المباشر، بل تستحضر المؤثرات الخارجية وصراعاتها على النفس، كالإشارات الى الغرباء، والغرابة مع الموسيقى، فذكر عابد عازاريه السوري المقيم في سورية ونهجه الموسيقي، ومدى الحفاوة بالسمفونية التاسعة لبيتهوفن، والانتقال من موزارت الى بيتهوفن وتشايكوفسكي، الى آخره، وازدادت أحوال الغرباء والغرابة مع الفنون التشكيلية، ومكانتها في رسم ذوات الأرواح “فقد قالت أمه: أنا أحب بول كلي، إنه فنان عظيم!”.
إن القصة بتوكيدها على ان الضمير المتكلم يرى ما يرى، تعبر في المتواليات السردية عن ضغوط الأوهام والأوضاع العامة المتشظية مع طغيان الواقع، بنيت قصة “لامكان لعاشق في هذه المدينة” على الضمير المتكلم ايضا، حيث المشاعر النفسية هي الأساس في رصد القضايا الاجتماعية، اذ تواصل العشق، وتعذر تطبيقه، والمرأة تخاطبه، وينتظرها، ثم امتنع تحقق العلاقة العاطفية والإنسانية، لدى تفاقم العلاقات الغادرة بين الرجل والمرأة، واندراجها في متاعب الوالد والأسرة والصراع الاجتماعي، وكان الحل هو الخصوصية والتخفي وعدم الإعلان او الإشهار عن علاقة ما: “كنت اسمعها وأحاورها، لكن كثيرين لا يرونها معي. شبكت اصابعها بأصابعي، ومشينا معا” (ص18).
عاود المحيميد في كتابة قصة “وشوشة جدران ناعمة” استخدام الضمير المتكلم مدعوما بتداولية اللغة، من خلال التعمق في وظيفية الحوافز وفاعليتها، وتفعيل التناص والمتعاليات النصية، والقصة تتناول المواقف من الأب والأم ومواقفهما من الأبناء ومن آفات الواقع، وتركز التناص على رواية “مدار الجدي” لهنري ميللر، وهي مبنية على السياقات الاجتماعية والنفسية عند الكثير من الرجال والنساء من الممارسات الجنسية والعاطفية، ولو على سبيل العلاقات العابرة، وكان التوصيف حافلا بالتداولية عن المصادفات غالبا في العلاقة بين الرجال والنساء، مما يفيد ان طبيعة هذه العلاقة مؤذية كلما دخلت في الاعتمال، وكان الترائي هو الأكثر راحة وهدوءا وخلاصا من العلاقة القاهرة او المقهورة: “كانت دقات الجدار رسائل لا يفهمها أحد سوانا، عرفت ان الجدران دافئة وحميمية، وأنها تنطلق وتحكي، تهمهم وتبوح وتبكي، تعتب وتحن، تشفق وتئن وتهجر وتغدر وتغامر، الجدران تغامر وتخطىء أحيانا، لتضعنا في مهب الخطر!” (ص23). إن القصة تعبير وجداني عن وطأة العيش بعامة والعلاقات مع المرأة بخاصة، روى الضمير المتكلم في قصة “رفرفة طير حب” محاولات التخلص من الانزعاجات ومسعى الخلاص من قلق العشوائيات نحو تأمل الأمان والسلام: “وضعت القفص على الرصيف، وخلعت بابه، وهششت بيدي طير الحب لأطيره، ثم اجتزت، خفيفا، الشارع الخالي، دون ان اقرأ شروخ الإسفلت، حتى لا تذكرني تلك الشروخ بخطوط خريطة العالم التي لم أتقن رسمها أبدا” (ص29). وتلازم صوت الضمير والمتكلم في قصة “الرجل الذي أكله الحزن” مع المخاطبة والحوار والنجوى، فهناك هيمنة الحزن على الذات باستمرار، وإن لم يصرح بالإرهاق واليأس والحزن، مكتفيا بالإلماح الى تمثلات الأشياء على النفس المغيبة من حين لآخر: “في الشارع تركض حولي صناديق أحزاني المغلقة، كأنما هم اطفالي المخلصين الأشقياء، هذا صندوق الحنين الى ما لست اعرف، وهذا صندوق الألم، وذاك البعيد الذي يجرجر أقدامه صندوق الذكريات، وأما ذلك الصندوق الطويل الذي يشبه النفس فقد كان صندوق البكاء! كنت ابكي بحرقة، وجهي تضربه شمس يونيو اللاهبة دون ان تجفف دمعه!” (ص 34- 35).
انتقل التحفيز الجمالي من مجرد النجوى الى الخطاب الشامل عن عمليات هدر الذات من خلال تسميتها بالصناديق، وأبرزها صندوق البكاء، فالمرء وحيد مثل “جنازة أكلها الحزن!” (ص36)، وها هو ذا يجهش بالبكاء على الدوام كامنا او صريحا أزاء أحوال المرارة والعذاب.
تكاثرت العتبات النصية في قصة “الجرادة” والضمير المتكلم فيها يخاطب الذات والآخر، والمرء يعاني على الدوام من عذاب الحياة التعيسة، على انه متهم مثل الجرادة: “تأكل الأخضر واليابس، ولا تبين عليك النعمة!” (ص44)، وهو حالم استيقظ من نومه مرتجفا من الحمى بالرعب مما استبدل خلالها حياته السابقة، تأملا ونشدانا للخلاص من شهقة الموت في كل حين، وأدغم التحفيز الجمالي في دلالات العنوان والتناص والإشارات الى جموع المعاني الناجمة عن المنظورات القصصية.
ازداد التخييل في قصة “كأنما أخي يفتش عن رامبو” عندما روى الضمير المتكلم اشكاليات ضنك الواقع، فقد نفى ان يكون اخوه اخاه، لأنه تخلى عن ذاته، واستغرق في الوهن والمساوىء، وخرج يفتش عن رامبو للنظر في ممارسته للأفعال غير الإنسانية، وهناك مقاربة من بول فيرلين الذي مارس الشذوذ مع رامبو مما أضاء التحفيز الجمالي بوصف الأشياء والأسماء، وتأثير المفاسد على النفس والعلاقات الإنسانية بعامة.
رويت قصة “حالة تفتيش” بضمير الأنثى المتكلم مدعومة بالإشارات الى الرسائل الصغيرة والصور الملونة وقصائد الحب و”روايات عبير” الشهيرة عن علاقات المرأة والرجل، وثمة تخييل مطلق في التحفيز الجمالي الذي يصف مدرسة التوحيد، والمدرسة التي تشبه مدينة صغيرة، وخروج نزار قباني من صدر ليلى، وعودة عمرو بن كلثوم حزينا من صراعات مجتمعه، ولقب المرأة بالقنفذ، بسبب انطوائها وخجلها.. الخ. وقد أفضى التخييل المطلق الى مجاوزة الأحوال القاهرة.
أما الضمير المتكلم في قصة “منشورات غير سرية” فقد أمعن في التوصيف الوجداني عن مداهمات موت الحياة في الفتن الداخلية والمؤثرات الأجنبية، بينما أضاءت قصة “لا تقلب نعلك حتى في نورج” المرض بين الوهم والواقع، وأعلنت قصة “مجرد علبة ليست رخيصة” عن ضرورة الخلاص من الإفساد والمفاسد في العلاقات النفسية والاجتماعية والإنسانية.
تميز شغل يوسف المحيميد في كتابة القصة القصيرة بالتحفيز الجمالي، من ثراء الإشارات والإحالات المرجعية والتناصات الى غنى التكثيف السردي المعني بعمق المشاعر النفسية والتعبيرات الوجدانية والمشكلات الاجتماعية.
يوسف المحيميد: أخي يفتش عن رامبو، المركز الثقافي العربي – بيروت، الدار البيضاء،
* جريدة الرياض- الخميس 3شعبان 1428هـ – 16أغسطس 2007م – العدد 14297
0 تعليق