كنت دائماً أرى ما لا يُرى، أرى في النوم قناديل تضحك، وعيونا تلتمع، وأرى أبي يتحدث مع غرباء عن الموسيقى، تحفهم السمفونية التاسعة لبتهوفن. كان أبي يتحدث إليهم منتشياً عن سوريٍّ مقيم في فرنسا، يدعى عابد عازريه، يتحدث عن نهجه الموسيقي، والآلات التي يستخدمها! كان وجه أبي تماماً، بتجاعيده وانفعالاته، بلحيته المصبوغة، وهو يتنقل من موزارت إلى بتهوفن إلىتشايكوفسكي إلى آخره، كان هو ذاته أبي، بجبهته المتغضنة وشاربه الحليق. كنت أرى ما لا يُرى، أرى أبواب كثيرة، تنفتح على أبواب أخرى، أرى أمي تنظّف اللوحات الزائدة في المخزن، تمسح غبارها، وتقول لي: أنا أحب بول كلي، إنه فنان عظيم! كانت هي أمي السمراء، بوجهها المجدور، أمي التي لم تعد تلحّ بأن أكف عن رسم ذوات الأرواح، كنت أرى أمي تجلس على طاولة المطبخ، ترسم بورتريها لا أعرف لمن، قالت هذا (كليمنت)، هل تعرفه؟ قلت: لا. أشارت إليّ أن اتبعها، وهي تقول: سأطلعك على لوحاته!
كنت أرى دائماً ما لا يراه أحد، أرى المستشفى الذي أعالج به لوثة الدوار خالياً من المراجعين، ممراته لامعة، لا ألمح عليها سوى ظلي، ولا يقابلني أثناء مروري سوى الممرضات ببياض ملائكي، يبتسمن بوجوه شرق آسيوية، وتقودني إحداهن. كان الطبيب يبتسم لي، ويعتذر عن تأخره، رغم أنه لم يتأخر إطلاقاً! كنت أرى ما لا يُرى، من النافذة أرى أسلاك الكهرباء خالية من الغربان، والسماء لا تحوم فيها العقبان والنسور، كنت لا أرى الذباب يطنّ، ولا أسراب البعوض تتنقل فوق البرك والمستنقعات، حيث لا مستنقع قرب البيت أصلاً! كنت أرى الشوارع خالية، والناس يتحركون بدقة ونظام، كل واحد يؤثر الآخر، كنت أرى البلاد لا سادة فيها ولا عبيد، لا حكاماً ولا محكومين، كنت أرى مالا يُرى، كنت أسمع ما لا يسمع!
في آخر الليل، كنت أتنبّه فجأة، وأمشي وأنا شبه نائم نحو الثلاجة في طرف الغرفة، أسكب ماءً وأشرب، دون أن ينقطع ما أراه وأسمعه!
في الصباح أصحو، وأقص على أمي ما رأيت، كانت تقول هذه كوابيس، يا ولدي الحلم خفيف كالفراشة، لكن أحلامك ثقيلة مثل الحجارة! قبل أن أنام تنصحني دوماً: سمّ باسم الله، وانفض شرشفك قبل النوم، وبعدما تصحا!
صباح اليوم، فتحت عينيّ المرهقتين، وقد رأيت البارحة أشياء كثيرة لا تُرى ولا تحكى. شعرتُ بصداع رهيب في مقدمة رأسي. حين لمست جبيني صعقتني حرارة طاغية: لابد أنها الحمى! رأيت في الغرفة أشياء صغيرة تطير، تشبه البعوض: اللعنة، هل كانت طوال الليل تغرز خراطيمها الواهنة في وجهي، لتقتلني بالحمى، بينما أنا منهمك في رؤية مالا يراه أحد!
نهضتُ بتثاقل، وتذكرت وصية أمي، فأمسكت بالشرشف الأزرق من أطرافه، ثم نفضته بقوة مفاجئة، فتطاير من أنحائه ما يشبه الحشرات المضيئة، ارتبكتُ وأنا أفكر برؤياي الليلية المستمرة، هل هذه الأحلام التي قالت عنها أمي: إنها ثقيلة مثل حجارة! نفضتُ الشرشف ثانية فاصطخبَتْ حشراتٌ مضيئة تكاد تتصادم في فضاء الغرفة. أسرعت نحو النافذة وجذبتها، لتنفتح عن آخرها، وهالني منظر الحشرات المضيئة اللامعة مثل جواهر وهي تتدافع نحو ضوء الخارج، وتنساب من النافذة، وحين ابتعدت عن النافذة لأسمح لها بالمرور دون أن تتصادم ببعضها، سمعتُ على الفور تحطم أشياء في الأسفل، انطلقت عبر السلالم الحديدية إلى الحوش، لأرى أسفل نافذتي شظايا أحجار، وقد تفتت إلى أجزاء صغيرة جداً، ولم يكن هناك أي أثر للحشرات المضيئة، ولا لسخونة الحمى.
اكتوبر 2000م
الرياض
لا مكان لعاشق في هذه المدينة
أعرف جيداً أن خدمات البريد تشبه حائط جدّي الطيني المهترىء، لكنني لم أتوقع أن تكون بهذه الدرجة من التأخر، كأن تصلني رسالة بعد سنة وأربعة أشهر. في أي دِرْج تاهت هذه الرسالة كل هذا الزمن؟ أي أصابع شيطانية خنقت هذا الحب والوله كل هذه الأيام؟ لا أعرف.
فتحت المظروف الوردي الصغير للمرة العشرين، وتأملت كلمات تشبه قلائد فضّة، صغيرة ومنمنمة، ومرتبكة بعض الشيء. قرأت آخر كلمة: لا تنسى أرجوك حبيبي!
منذ أن وطأت قدماي هذه المدينة للدراسة، لم يكن لي عنوان واضح. كل غرفة استأجرها لأشهر لا يزيّن صمتها ضجيج هاتف. وإن كنت محظوظا في غرفة ما بهذا الجهاز الذي يربطني بالعالم والأنفاس والحزن الطويل، فلا ألبث أن يطردني المالك لأسباب كثيرة، أشدّها تأخري عن سداد الأقساط الشهرية للإيجار، وأبسطها دعوى الجار أنني عازب ومثير للشك، ولا أصلي مع جماعة المسجد، حتى لو كنت أول من يدلف وآخر من يتوقف لسانه عن اللهج بالدعاء والاستغفار.
هكذا كدتُ أصطدم بسيارة نقل ضخمة، بعد أن دفعت ثلاثمائة ريال رسوم امتلاك صندوق بريد خاص، كنت فرحا حتى كادت سيارتي الكورولا طراز 88 أن تغفو تحت عجلات الناقلة الضخمة، وأغفو أنا كحشرة طائرة تتشرنق بغباء في شبك الراديتر في مقدّمة الناقلة المسرعة.
كنت أقول لأصدقائي في الجامعة: الآن أصبح لي عنوان ثابت في ضياع هذه المدينة الضالة. الآن يمكنني التواصل مع العالم عبر هذا الصندوق السحري: البريد، ولا يملك أحد في الدنيا أن يسلبه منّي. فتحت الرسالة وتأملت أسطرها الثلاثة، والتوقيع، والقلوب المشروخة في الزوايا، والتاريخ الهجري واليوم.
قرأت الأسطر سريعا: أنتظرك الجمعة القادمة، السادسة مساء، عند سوق الزهرة، على المقاعد الحجرية. إذا ما وصلتك الرسالة قبل الموعد، يكون الجمعة بعد القادم. أمانة.. ضروري أشوفك.. مسألة مصير.
يا إلهي.. كم جمعة مرّت! حاولت أن أعدّها، لكنني توقّفت، هل كانت الجمع مثل أسراب الحمائم، التي تمرّ سربا سربا فوق رأسي قبيل يقظة الشمس، فلا أسمع سوى حفيف أجنحتها المتدافعة. ثم لا تترك أثرا. كان اليوم أربعاء، طالعت حائط الغرفة، حيث ينظر تقويم أيام السنة نحوي بسخرية، كأنما يقول لي: كم أهدرت من جمعة أيها العاشق التائه! كنّا فقدنا الاتصال تماماً،لم يعد رقمها يجيب لأيام، ثم صار يردّد نغمة: فضلا تأكد من الرقم الصحيح! بينما لا أملك في غرفتي المتواضعة هاتفا يربطني بصوت يشتّت الليل، ويطرد برنينه الصراصير التي لا تكفّ عن الشقلبة داخل حذائي، وهي تقاسمني الغرفة.
قرّرت أن أزور السوق، وأتفحّصه قبل أول جمعة. زرت المكان مرارا، تأملته من كل الزوايا، جلست على المصطبة الحجرية المسودّة. مساء الجمعة، وقبل السادسة بساعة كاملة لبست ثوبي وشماغي، ورششت عطرا رخيصا جعلني أسعل طوال الطريق. كنت أعرف أنه مضى أكثر من ستة عشر شهرا، أي ما يقارب ستين أسبوعا أو جمعة: يا للجنون، أتظن أنها تنتظرك كل جمعة، طوال هذا الزمن؟. همست لنفسي. هل أنا فعلا مجنون؟. تلمّست ظهر عنقي الموسوم بكي نار قديم، أيام الطفولة. كنت أجمع الأحجار آنذاك، في السابعة بدأت أخفيها في بيت الدرج، وبعد عام تكوّمت لديّ أحجار متنوعة، قضيت معها ليال رائعة، كنت أعشقها، أهيم بها، أحادثها، أقسم أنني كنت أسمع أصواتها المخنوقة، ووسوساتها. أقبّلها وأعتب على بعضها. أصفّها بنظام دقيق، وأرتب مخدع كل منها! كنت مبتهجا ومتفاعلا جدا مع الأحجار، ألوانها أشكالها أرواحها. إلى حدّ أني عرّفت كلا منها باسم وعمر وملامح. كانت أحجاري قبائل وعائلات. لا أعرف، ربما كانت القبائل والعائلات مجرّد أحجار.
بعد أن اكتشفت أمي مخبأي تحت الدرج، لم تقل لي شيئا، ولم تعتب عليَّ. بل لم أعرف أنها وقعت بالصدفة على عالم أحجاري المعشوقة، إلا بعد أن عدت ذات ظهيرة من المدرسة، وخلعت ثوبي بسرعة، وانسللت إلى صحرائي، فلم أجد غير الفراغ، بعد أن حملها أبي ورمى بها في مكان بعيد. أخذتُ أصرخ بلا شعور، أضرب الجدران بجنون، خفَّت أمي نحوي، وبسملت كثيرا، واحتضنتني، وهرع أبي على صراخي، وما أن عرف سبب لغطي هذا، حتى انهال عليَّ ضرباً وركلا. ظللت مريضا لأيام وليال. لم أعد استطع الرؤية، كنت أستند على الجدران وأتحسّس الدرج والباب، وانقطعت عن الدراسة، حتى زارنا عمّي، ليقنع أبي أنني ممسوس، ولا بد لي من قراءة عند إمام المسجد. بعد أن عرف الإمام حكايتي أكد لأبي أن جنِّياً مشركاً يعبد الأصنام قد تملّكني، وهو ما جعلني عاشقاً ومهووساً بالأحجار. أشار بعد زيارات قراءة ونفث لم تنفع، أن أُعرَض على طبيب شعبي في منفوحة يستخدم الكي بالنار علاجا. كان يسخّن أنبوباً حديدياً فوق النار، ثم لسعني بخفّة على ظهر رقبتي، حتى ضجَّت غرفته بزعقة صغيرة مصحوبة برائحة شواء ودخان أبيض.
تحسست مؤخرة رقبتي وأنا أدلف سوق الزهرة التجاري. كان عقربا الساعة يشيران إلى السادسة إلا عشر دقائق. حركة المتجوّلين داخل السوق كانت خفيفة. ثمّة نساء يحملن أكياساً ويجررن أطفالهن، وأطفال آخرون يمسكون بعباءات أمهاتهم ويبكون. جامعو التبرعات يصوّتون: تبرعوا لإخوانكم في الشيشان.. ما نقص مالٌ من صدقة. بعض الباعة يقفون على أبواب متاجرهم منتظرين المشترين، وينسل نفر منهم داخل متاجرهم حين يلمحون رجل الهيئة بمشلحه الوبري ولحيته الكثة يتبعه كظله جنديان. أنا أيضا ارتبكت لرؤيته، وقررت أن احتمي مثل فأر بمحل ملابس رجالي، لأخرج بكيس بلاستيكي أحمله كي يشفع لي بالتجول. لحظتُ بطرف عيني المصاطب الحجرية. كانت امرأة تجلس وبحضنها رضيع. نظرتُ الساعة، كانت السادسة تماما، ارتبكت وتسارعت خفقات قلبي، حتى كاد يقفز من أضلعي ويرتمي على بلاط الرصيف. اقتربت منها، ومررت بجوارها ببطء. عيناها الظاهرتان خلف نقابها تحدّقان. تجاوزتها ثم التفتُ، فضبطتها وهي تلاحقني بنظراتها. يا إلهي هل كانت هي؟. بعد ستين جمعة، وقد أدمنت الانتظار كل سادسة؟. قرّرت أن أعود مرّة ثانية، لكن هل أمرّ بجوارها؟. أم أكون شجاعا أو وقحا فأجلس بجوارها، أليس المقعد الحجري يتسع لثلاثة أشخاص؟. وليس هناك سواها تجلس على طرفه؟. هذا صحيح، ولكن لا مكان لعاشق في هذه المدينة!
بعد أن اقتربت منها تبادر إلى ذهني مظروفها الوردي الصغير. سأخرجه وأمسك به في يدي اليسرى التي ستكون بموازاتها. ربما تتذكّر مظروفها، فستين جمعة ليست كثيرة لدرجة نسيان رسالة تحدّد مصير. لكن من هذا الرضيع في حضنها؟. هل تزوّجت وأنجبت خلال سنة وأربعة أشهر؟. هل كان الموعد مصيريا لها؟. لحظة مررتُ أمامها بخطابي الوردي في يدي، لمحتُ عينيها تضجّان بالارتباك، وهي تفزّ فجأة كأنما ستتبعني. أسرعتُ مهرولا، وأحسستُ بوقع حذائها يلاحقني، التفتُّ بغتة، فوجدتها تتبعني! انعطفتُ نحو مواقف السيارات، فانعطفتْ معي، لكنها توقفت، فالتفتُ خلفي حيث كانت تركب سيارة فارهة وجديدة. تسمّرتُ قرب سيارتي. وما أن مرّت السيارة، حتى لمحتُ عينيها تنظران نحوي، لدرجة أنها أدارت رأسها إلى الخلف بعد أن تجاوزتني السيارة. رفعتُ يدي ولوّحت لها، ثم لمحت فجأة رجل الهيئة والجنديين يركبون سيارة جي إم سي، ويغادرون السوق.
عدت إلى المقعد الحجري، لربما تركت شيئا هناك. جلست مكانها بالضبط. تفحصت المقعد والبلاط تحته. لمحت رباط شعر وردي أيضا. رفعته وشممته. نظرت يمينا نحو جذع شجرة بنسيان ضخمة تكاتف المقعد. تذكّرت حكاية عجيبة تقصّها جدّتي لي قبل النوم، عن رجل يسير في الصحراء، فيسمع أنينا خافتا وحزينا، وبعد أن يبحث عن الصوت، يدرك أنه إنما كان صوت شجرة عوسج كبيرة، فيقترب منها، ويسمعها تردّد: خلّصني.. خلّصني! يسألها: كيف؟. لكنها كانت تردّد كلمتها: خلّصني.. خلّصني! يخرج سكيّنه ويرسم على جذعها، فتتحول فجأة إلى امرأة طاغية الجمال، لتقول له أنا الآن ملكك! ثم تضيف: لقد مسختني جنِّيةٌ حقود إلى شجرة.. وقالت لن يخلّصك إلا فنّان أو شاعر!
أخرجتُ مفاتيحي من جيبي، ورحت أرسم قلباً وعينين، وما أن مشيت حتى سمعتُ حفيف امرأة طاغية الجمال تتبعني وتهمس في أذني: سأعيش معك، حتى لو في بيت درج! كنت أسمعها وأحاورها، لكن كثيرين لا يرونها معي. شبكت أصابعها بأصابعي ومشينا معا.
فبراير 2002م
كأنما أخي يفتش عن رامبو
باب الجارة كان مواربا، آن لمحت أخي يخرج منه متسللا فجرا، وقبل أن يسلّ مفاتيحه من جيبه انتبه إلى أن بابنا كان مفتوحا، وأنني بالكاد وضعت كيس القمامة الأسود في الجهة الأخرى من الشارع، واستدرت فاصطدمت أعيننا قبل أن ينكسر ويدلف عجلاً مرتبكاً.
غرس ذات ليل في يدي رسالة صغيرة لها، لم أفهمها في ربيعي السادس، ووعدني أن يبتاع لي زجاجة (فيمتو) كاملة، ليصنع لي منها(آيس كريم) داخل أكياس نايلون شفّاف. بعد أن وصلتُ غرفتها اقتنصتْ في عينيّ شيئا مبهما لامعا، فجذبتني، وناولتُها الورقة، فقبّلتني على فمي ووهبتني إصبع (شيكولاته).
منذ سنوات لم يعد أخي يقظا وحيويا، يصطاد الأفكار الطائشة في البيوت ذات الأسوار العالية، كما كان يقول لي، حين أسأله بسنواتي العشر: ماذا تكتب؟.
كان يلصق على جدران غرفته صوراً لكتَّاب وفنانين وشعراء، وصورته بعد الثانوية بينهم، بشعر شاربه الخفيف المحفوف بعناية، فأسأله: من هؤلاء؟ يتوقف عن الكتابة، وينظر نحوي ساهياً قبل أن يقول: هؤلاء الذين سيغيرون العالم! ما أن يلمح حيرتي وعينيَّ الضَّالتين المتسائلتين حتى يضيف: سيجعلونك قادراً على أن تشتري دراجة جديدة!
أخي لم يعد أخي، صار شيئا مثل الأشياء في البيت. يجلس على كرسي مخمل أخضر في الغرفة، فلا أعرف أيهما أخي؟ يحدّق بعينين جامدتين عبر زجاج نافذة غرفته في الدور العلوي في رؤوس الأشجار في الشارع، وهي تتمايل مثل جنيّات يتقنَّ الرقص. يحدّق النهار كله، لا يرمش ولا يملّ ولا يتحرك.
ذات صباح استيقظتُ فلم أجد أبي، ولا أخي أيضا، وكانت أمي وحدها تبكي بصمت وكبرياء، وإذ أقف أمامها، لأرى وجهها، كانت تشيح به. عرفت حين كبرت، أنهم أخذوا أخي ليلاً ببيجامته السكَّرية المقلَّمة بالبنِّي، ولحق بهم أبي، ثم عاد بعد أن انقصف النهار وحيداً وحزيناً وغريبا.
ليلة أن عاد أخي، فرحتْ أمي كثيرا، ومسحت على رأسه، وضمَّته نحو صدرها، وقبّلت شرخا على خدّه الأيسر، ونمنا سويا في غرفتها، أنا وهو وهي وأبي، كان طوال الليل يهذي، ويصارع بيديه هواء الغرفة، حتى انه في الليلة التالية، الليلة المشؤومة، فزع صارخا وثبّت يداه على عنق أبي ليخنقه، وما أن خلصنا أبي من قبضته حتى ركض نحو الحمّام يعوي وينشج ويرتعش، تبعته أمي، فرأته يشير مرتعشا إلى حنفية الماء وهي تقطّر، قطرة قطرة، فوق سطح الماء في الإناء البلاستيكي. أحكمت أمي إغلاق صنبور الحنفية، حتى كفّ عن إرسال القطرات البليدة.
وضعته أمي ذات عصر فوق جريدة مفروشة على عتبة باب البيت، ليتسلى برؤية الشارع، ووقفتُ بجواره لأحرسه. فجأة هبّت نسمة هواء خفيفة، فدفعت صفحات جرائد مهملة في الشارع، فقفز مثل ذئب دون أن انتبه، وراح يهرول ويصرخ، يلمُّ الجرائد الزاحفة في الشارع الترابي، ويبكي. ساعدته وجمعناها معا، وعدت به وأنا أمسك بذراعه، وقد لمحت جارتنا الصغيرة بشعرها المقصوص تبكي في النافذة.
أخي لم يعد أخي، وعيناه لم تعودا تصطادان الأفكار الطائشة في البيوت ذات الأسوار العالية، وقلبه لم يعد يرفرف قلقاً كجناحي طير، صار بليداً وخاملاً، ويحدّق في الفراغ.
أخي لم يعد أخي، وأذناه لم تعودا وردتين تتفتَّحان مع الموسيقى، يهتاج كلما سمع قطرة ماء، أو خشخشة ورقة جريدة ترتفع وتهوي في الشارع الترابي، أو انفراط تغريد طير الكناري الأصفر في قفصه المعلق في المطبخ.
أخي لم يعد أخي، منذ أن أعادوه إلينا، لم يعد يكترث بأوراقه وغرفته وطاولة الكتابة، حتى صور الكتّاب والفنانين الملصقة على جدران غرفته تحررت وهبطت من جدرانها ومضت. ذات ليل، شاهدت فوكنر يصطحب ماركيز، وهما يُخرجان القرى والمدن من غرفة أخي، وبعد ساعات قليلة كان آرثر رامبو أيضا بشعره المصفوف بعناية يخرج من الباب لاعنا كل شيء.
عند الفجر، أيضا رأيت أخي، كما هو في صورته أيام الثانوية، خارجاً من غرفته صامتاً، حاملاً أوراقاً صفراء قديمة، كأنما خرج يفتش عن رامبو.
مارس 2002م
0 تعليق